الحمد لله ولا إله سواه، والصلاة والسلام على نبيّه ومصطفاه، مُحمّد بن عبد الله صلّىالله عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أمّا بعد: فيقول الله جلّ ثناؤه في سورةفاطر: ﴿ثُمَّأَوْرَثْنَا الكِتَابَ الذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌلِنْفَسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُم سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذِْنِ اللهِذَلِكَ هُوَ الفَضْلُ الكَبِيرُ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَامِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهِبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ﴾فاطر: 32‑33].
بشارة وتكريم:
هذه نعمة من الله جسيمة،ساقها لأمّة محمّد صلى الله عليه وسلم في آيات عظيمة، توحي لهذه الأمّة بكرامتهاعلى الله واهب النعم، وبفضلها على من سواها من سائر الأمم، آيات حملت من الرجاء مايفرح قلوب المؤمنين، ويدفع اليأس من نفوس المسيئين المذنبين، آيات أكرم الله فيهاأمّة التوحيد بالاختيار والاصطفاء، ثمّ خصّها بفضله في الجزاء حتّى لمن أساء﴿وَرَبُّكَيَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخَيْرَةُ سُبْحَانَ اللهِوَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ القصص: 68].
وإنّ من أجلّ النعم على الإطلاق التي جميع النعم بالنسبة إليها كالعدم وراثة الكتابالجليل الذي هو القرآن لمن اصطفى الله من عباده وذلك هو الفضل الكبير.
من فضائل الآية:
هذه الآية قال عنها بعض العلماء إنّها من أعظم آي الرجاء، لما فيها من توريث هذهالأمّة لهذا الكتاب، ولما وهب من الفضل الكبير والجزاء الحسن يوم الحساب، فلا أمّةقبل هذه الأمّة خصّت بهذه المكرمات، ولا أمّة بعد هذه الأمّة تصيبها هذه الخيرات﴿ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِوَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ﴾يوسف: 38]، فقد بيّن تعالى في هذه الآياتمن سورة فاطر أنّ إيراث هذه الأمّة لهذا الكتاب دليل على أنّ الله اصطفاها واختارهاعلى من سواها، وبين أنّهم ثلاثة أصناف: ظالم لنفسه ومقتصد وسابق بالخيرات، فكلّهماصطفاه الله لوارثة هذا الكتاب وإن تفاوتت مراتبهم وتميّزت أحوالهم فلكلّ منهم قسطمن وراثته حتّى الظالم لنفسه، فإنّ معه من أصل الإيمان وعلومه وأعماله ما يدخل بهفي زمرة الوارثين المستحقّين لدخول جنّة ربّ العالمين.
والمتأمّل في ألفاظومعاني هذه الآيات يتجلّى له سرّ تفضيل هذه الأمّة على غيرها وأنّها من أعظم آياتالرجاء لبركتها وخيرها، ولما فيها من لطف الله بأمّة خاتم النبيّين وإحسانه وتفضّلهعلى المحسنين منهم والمسيئين.
قال محمّد الأمين الشنقيطيّ في "أضواء البيان" (6/165): «فوعده الصادق بجنّات عدنلجميع أقسام هذه الأمّة، وأولّهم الظالم لنفسه يدّل على أنّ هذه الآية من أرجى آياتالقرآن، ولم يبق من المسلمين أحد خارج عن الأقسام الثلاثة، فالوعد الصادق بالجنّةفي الآية شامل لجميع المسلمين ولذا قال بعدها متّصلا بها﴿وَالَذِينَكَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لاَ يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُواْ وَلاَيُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ﴾إلى قوله﴿فَماَ لِلظَالِمِينمِنْ نَصٍيرٍ﴾»
أقوال أخرى في تعيين أرجى آية في القرآن:
نقل القرطبيّ في تفسيره (2/208) أقوالا لبعض العلماء في تعيين أرجى آية في كتابالله فقال عند قوله تعالى في سورة النور: ﴿وَلاَيَأْتَلِ أُولُواْ الفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُواْ أُولِي القُرْبَىوَاَلْمَسَاكِينَ وَاَلْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلْيَعْفُواْ وَلْيَصْفَحُواْأَلاَ تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ النور: 22].
«قال بعض العلماء: هذه أرجى آية في كتاب الله تعالى، من حيث لطف الله بالقذفةالعصاة بهذا اللفظ، وقيل أرجى آية في كتاب الله قوله تعالى:﴿وَبَشِّرِ اَلْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنْ اللهِفَضْلاً كَبِيرًا﴾الأحزاب: 47]، وقد قال تعالى في آية أخرى: ﴿وَالذِينَآمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَعِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الفَضْلُ الكَبِيرُ﴾ الشورى: 22] فشرح الفضلالكبير في هذه الآية وبشّر به المؤمنين في تلك.
ومن آيات الرجاء قوله تعالى: ﴿قُلْ يَاعِبَادِي الذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِنْ رَحْمةِاللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّ اللهَ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ الزمر: 53] وقوله تعالى: ﴿اللهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ﴾الشورى: 19].
قال بعضهم: أرجى آية في كتاب الله عزّ وجلّ: ﴿وَلَسَوْفَيُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرِضَى﴾الضحى: 5]، وذلك أنّ رسول الله صلى الله عليهوسلم لا يرضى ببقاء أحد من أمّته في النار» اهـ كلام القرطبي.
ونقل الشنقيطيّ في "الأضواء" (6/163) عن بعض أهل العلم: «أرجى آية في كتاب الله عزّوجلّ آية الدين وهي أطول آية في القرآن العظيم، وقد أوضح الله تبارك وتعالى فيهاالطرق الكفيلة بصيانة الدَّيْنِ من الضياع ولو كان الدَّيْنُ حقيرا كما يدّل عليهقوله تعالى فيها﴿وَلاَتَسْأَمُواْ أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ﴾الآية: قالوا: هذا من المحافظة في آيةالدين على صيانة مال المسلم، وعدم ضياعه، ولو قليلا يدلّ على العناية التامّةبمصالح المسلم، وذلك يدلّ على أنّ اللطيف الخبير لا يضّيعه يوم القيامة عند اشتدادالهول وشدّة حاجته إلى ربّه».
وقد نقل الجلال السيوطيّ في "الإتقان" (2/161) أقوالا أخرى في تعيين أرجى آية في القرآن فقال: «وقد اختلف في أرجى آية في القرآنعلى بضعة عشر قولا» ثمّ سردها وذكر منها ما سبقت الإشارة إليه وزاد عليها الآتيذكره، منها قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَإِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَبَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي﴾البقرة: 260] ووجه الرجاء في الآيةأنّه رضي منه بقوله بلى كما ذكره السيوطيّ في مصدره المذكور منسوبا لابن عبّاس،ومنها قوله تعالى: ﴿وَآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِِهِمْخَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ التوبة: 102] وهو من قول أبي عثمان النّهديكما في كتاب التوبة لابن أبي الدنيا، ومنها قوله تعالى: ﴿فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ القَوْمُ الفَاسِقُونَ﴾الأحقاف: 35] قاله أبو جعفر النحّاس،ومنها قوله تعالى: ﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍلِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ﴾الرعد: 6] وهو منسوب لابن عبّاس، ووجه الرجاءفي الآية أنّه قال: ﴿لَذُومَغْفِرةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ﴾ولم يقل على إحسانهم، ومنها قوله تعالى: ﴿يَتِيمًاذَا مَقْرَبةٍ أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ﴾البلد: 15‑16] وهو قول الشافعيّ حكاه عنهالهرويّ في "مناقب الشافعيّ" عن ابن عبد الحكم، ومنها قوله تعالى: ﴿قُلْ كُلٌّيَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلاً﴾الإسراء: 84]، ومنها قوله تعالى:﴿وَهَلْ نُجَازِي إِلاَّ الكَفُورَ﴾سبأ: 17]، ومنها قوله تعالى: ﴿إِنَّاقَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ العَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى﴾طه: 48]، ومنها قوله تعالى: ﴿وَمَاأَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبْتَ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرِ﴾الشورى: 30]، ومنها قوله تعالى: ﴿قُلْلِلذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُواْ يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ﴾الأنفال: 38]، ومنها قوله تعالى: ﴿إِنَّالذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُواْ﴾فصلت: 30] أخرجه ابن أبي حاتم عن عكرمةعن ابن عبّاس كما في الإتقان.
تفسير وبيان:
صدّر الله جلّ وعلا الآية الكريمة بلفظة (ثمّ) إشارة لبعد رتبة هذه الأمّة عنرتبة غيرها من الأمم، وقد أعطيت من الفضائل والحسنات ما لم يعط أحد قبلها، منها هذاالقرآن المنزّل على نبيّها صلوات الله وسلامه عليه، وقد عبّر عنه بلفظ (أورثنا) أيملّكنا بفضلنا ملكا تامّا وأعطينا عطاء لا رجوع فيه، وعبّر في غير هذه الآية عناليهود الذين لم يقوموا بحقّ الكتاب بقوله: ﴿فَخَلَفَمِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ الكِتَابَ﴾الأعراف: 169] فانظر فرق ما بينالعبارتين تعرف الفرق بين المقامين.
والمراد بالتوريث هنا الإعطاء ووجه تسميته ميراثا أنّ الميراث يحصل للوارث بلا تعبولا نصب، وكذلك إعطاء الكتاب حاصل بلا تعب ولا نصب، وقد جمع الله الظالِم لنفسهوالمقتصد والسابق بالخيرات في هذه الآية وبشّرهم بالدخول إلى جنّاته بسبب توريثهمهذا الكتاب الذي يهدي للتي هي أقوم، والعاقّ والبارّ في الميراث سواء.
وهذاالكتاب الموروث يحتمل أن يكون القرآن المنَزّل على نبيّنا محمد صلى الله عليه وسلموهو الجامع لكلّ كتاب أنزله الله، ويحتمل أن يكون معناه الكتب التي أنزلت من قبلالقرآن كما رجّحه الطبريّ، والجمع بين القولين ممكن، لأنّ الله تعالى لَمّا أعطىأمّة محمد صلى الله عليه وسلم القرآن وهو قد تضمّن معاني الكتب المنَزّلة فكأنّهورثّها الكتاب الذي كان في الأمم قبلها، ولهذا قال تعالى: ﴿وَالذِيأَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِِمَا بَيْنَيَدَيْهِ﴾ فاطر: 31]، فكلّ كتاب أنزل قبل القرآن إلاّ وأمر بالعمل به عندنزوله وباتّباع من جاء به وأنزل عليه.
فيكون معنى إيراث الكتاب أنّه تعالى نزع الكتب من الأمم السالفة وأعطاها لهذهالأمّة على الوجه الذي رضيه لها، وهذا الإيراث حاصل لمجموع الأمّة وليس مختصّابالعلماء أو حفظة القرآن وإن كانوا أغبطَ الناس بهذه النعمة وأولاهم بهذه الرحمة،بل كلّ من آمن بالقرآن وبأحكامه وعمل به واهتدى بنوره ولو لم يحفظ إلاّ الفاتحة،فإنّ الصحابة لم يكن كلّ واحد منهم يحفظ جميع القرآن وهم بلا شكّ من المصطفينالأخيار.
ثمّ قال تعالى: ﴿اِصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا﴾والاصطفاء الاختيار، واشتقاقه من الصفووهو الخلوص من شوائب الكدر، وعامّة ما عليه أهل تفسير على أنّ المصطفين هم أمّةمحمّد صلى الله عليه وسلم من الصحابة والتابعين وتابعيهم إلى يوم القيامة، لأنّتوريث الكتاب لم يكن إلاّ لهذه الأمّة، وغيرها ممّن سبقها لم يرثوه.
ولَمّا اختلفت أحوال الوارثين لهذا الكتاب من هذه الأمّة لتفاضلهم في العلموالإيمان والهمم قسمهم الله تعالى إلى ثلاث مراتب مقدّما الأدنى ومنتهيا بالأعلىفبدأ بالظالم لنفسه وثنى بالمقتصد وختم بالسابق.
وقد كثرت أقوال المفسّرين وتضاربت في تحديد المراد بهذه الأقسام الثلاثة الذيناصطفاهم الله حتّى جاوزت الأربعين قولا، وهذا الاختلاف لا يؤثّر في المعنى المرادلأنّه ليس باختلاف تضادّ، وإنّما هو اختلاف تنوّع يرجع إلى أصل واحد ويسقى بماءواحد، ولذلك كان معنى الظالم لنفسه في هذه الآية من يطيع الله ولكنّه يعصيه أيضافهو الذي قال الله فيه: ﴿خَلَطُواْعَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ﴾التوبة: 102]، وهؤلاء أكثر الأمّة،والمقتصد هو الذي يطيع الله ولا يعصيه، أي المؤدّي للفرائض المجتنب للمحارم، ولكنّهلا يتقرّب إليه بالنوافل من الطاعات، والثالث السابق بالخيرات وهو الذي يأتيبالواجبات ويجتنب المحرّمات ويتقرّب إلى ربّه بنوافل الطاعات والقربات، وهذا علىأصحّ الأقوال في تفسير الظالم لنفسه والمقتصد والسابق، ثمّ إنّه تعالى بيّن أنّإيراثهم الكتاب هو الفضل الكبير منه عليهم، ثمّ وعد الجميع بجنّات عدن ‑ وهو تعالىلا يخلف الميعاد ‑ في قوله: ﴿جَنَّاتِعَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا﴾والواو في(يدخلونها)شاملةً للظالم والمقتصد والسابق علىالتحقيق، ولذا قال بعض أهل العلم حُقَّ لهذه الواو أن تكتب بماء العينين.
وفي تقديم الظالم لنفسه في الوعد بالجنّة على المقتصد والسابق إشارة بديعة ذكرهابعض أهل العلم وهي من لطائف التفسير، فقال بعضهم: قدّم الظالم لئلا ييئس من رحمةالله، وأخّر السابق لئلا يعجب بعمله فيحبط، وقيل: قدّم الظالم لنفسه لأنّ أكثر أهلالجنّة ظالمون لأنفسهم، وأنّ المقتصد قليل بالإضافة إليهم والسابقين أقلّ من القليلكما قال تعالى: ﴿إِلاَّالذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ﴾ص: 24]، وقيل قدّم الظالم لنفسه لتأكيدالرجاء في حقّه إذ ليس له شيء يتّكل عليه إلاّ رحمة ربّه واتّكل المقتصد على حسنظنّه، والسابق على طاعته، وقيل: إنّما قدّم الظالم لنفسه ليعرف أنّ ذنبه لا يبعدهمن ربّه وأخّر السابق ليكون أقرب إلى الجنّات والثواب كما قدّم الصوامع والبيع فيسورة الحجّ على المساجد، لتكون الصوامع أقرب إلى الهدم والخراب، وتكون المساجد أقربإلى ذكر الله كما قال تعالى: ﴿وَلَوْ لاَدَفْعُ الله النَّاسَ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِمْتَ صَوَامِعُ وَبَيَعٌوَصَلَوَاتٌ وَمسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيرًا﴾الحجّ: 40]، وقيل: إنّ التقديم في الذكرلا يقتضي التشريف كقوله تعالى: ﴿لاَيَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ﴾الحشر: 20].
والمقصود أنّ رحمة الله شاملة لهذه الأقسام، وذلك هو الفضل الكبير منه جلّ وعلا،ووصف فضله هنا بالكبير، لأنّه يسع المحسن والمسيء، ولأنّه وعدهم بدخول جنّته وهيغاية الغايات وأسمى السعادات.
هداية وإرشاد:
هذه الآية ممّا يستدلّ به أهل السنّة على أنّه لا يخلد في النار أحد من أهلالتوحيد، وإن دخولها، فقد تواترت السنن عن النبيّ صلى الله عليه وسلم بدخول الكثيرمن أهل الكبائر النار، كما تواترت بخروجهم منها، ودخولهم الجنّة بما عندهم من أصلالإيمان ولو كان بمثقال الحبّة من الخردل.
وقد ضلّ وزاغ في فهم هذه الآية طائفتان؛ والدين كما قال الحسن: (ضاع بين الغالي فيهوالجافي عنه).
فطائفة (وهم الخوارج) تزعم أنّ أهل الكبائر مخلّدون في النار ولا ينفعهمإيمانُهم بالله شيئا، وتأوّلوا الآية على أنّ السابقين هم الذين يدخلونها، وأنّالمقتصد أو الظالم لنفسه لا يدخلها، وأرجعوا الواو التي في قوله تعالى(يدخلونها)إلى السابقين فقط، وهو خلاف التحقيق كما ذكر آنفا، فَهُمْ بهذا الفهم قد حجّرواالواسع ومنعوا الفضل وقالوا على الله ما لم يقله.
وطائفة (وهم المرجئة) تزعم أنّه لا يدخل أحد من أهل الكبائر النار، بل كلّهم يدخلالجنّة ابتداء من غير عذاب، بناء على أصلهم الفاسد من أنّ الإيمان لا يضرّ معهمعصية ولا تنفع معه طاعة، ففتحوا بهذا الفهم المرذول باب شرّ للناس وعطّلوا بذلكشرائع الإسلام وأحكامه.
وكلا القولين مخالف للسنّةالمتواترة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ولإجماع سلفالأمّة وأئمّتها، فإنْ قال قائل: وكيف يدخل العصاة المذنبون الجنّة، ونصوص الكتابوالسنّة مجمعة على أنّ الجنّة جزاء المطيعين وثوابهم الذي ادّخره الله لهم كما قالتعالى: ﴿وَتِلْكَ الْجَنّةُ التِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَاكُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾الزخرف: 72] أي من صالح الأعمالوالأقوال، وكما قال صلى الله عليه وسلم: «كلّ أمّتي يدخلون الجنّة إلاّ من أبى،قيل: ومن يأبى؟ قال: من أطاعني دخل الجنّة ومن عصاني فقد أبي»، فدلّ على أنّالعاصيَ لا يدخل الجنّة، والجواب على وجهين:
أحدهما: أنّ العاصي من الموحّدين قد يدخل النار إذا رجحت سيّئاته على حسناته، ولكنلا يخلد فيها، والعبرة بالإقامة والخلود، فقولنا إنّه في الجنّة باعتبار النهايةوالمصير.
ثانيهما: أنّ العاصي في الدنيا إذا كان من الموحّدين، فإنّ عقوبة السيّئة تندفععنه إذا توفّرت بعض الأسباب، فلا يدخل النار البتة، بل يكون مصيره الجنّة دون رتبةالسابقين.
فقول أهل السنّة والجماعة هو العدل والوسط، وهو الفهم السليم لنصوص الكتاب والسنّة،والذي يجب أن يكون عليه كلّ مؤمن هو سعيه لطلب الدرجات في الجنّات ليكون منالسابقين، فإن عجز فلا يغلبنّ عن درجة المقتصد، فإن سفلت همّته وضعف إيمانه فلايقنط من رحمه الله، فإنّ الله قد وعده خيرا ولم يحرمه من دخول جنتّه شريطة أن يحفظإيمانه من الكفر والشرك، والمؤمن كالطائر يطير بجناحين هما الرجاء والخوف، فمن خافذنوبه وطمع في رحمة ربّه فذلك المؤمن كما قال النبيّ صلى الله عليه وسلم لشابّ وهوفي ساعة الفراق: «كيف تجدك؟» قال: والله يا رسول الله إنّي أرجو الله وإنّي أخافذنوبي فقال رسول اللهصلى الله عليه وسلم: «لا يجتمعان في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلاّ أعطاه الله ما يرجو وآمنه ممّايخاف». )]
وفّقنا الله للاهتداء بكتابه ورزقنا العمل بأحكامه إنّه وليّ ذلك والقادر عليه.
مراجع البحث الأساسيّة:
الجامع لأحكام القرآن - القرطبيّ.
تفسير القرآن العظيم - ابن كثير.
أضواء البيان - الشنقيطيّ.
جامع البيان - ابن جرير.
فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية.

حاملة هم @haml_hm
عضوة
يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.

بدايـــة
•
جزاك الله خيرا

الصفحة الأخيرة