
أتزعَمُ أنّك جُرْمٌ صغيرٌ * وَفيكَ انْطوى العالمُ الأكبرُ
تعالي معي في رحلة نتسلل فيها إلى الذرة .. ثمّ نطوف بالمجرةً..
مقارنين بين كل مانراه ونلمسه في عالمنا الخارجي
وبين ماينطوي عليه العالم الأكبر في داخلنا
والذي يزخر بشتى الصور
ويتجاور فيه النور والظلمة .. والخير والشر ..
وشتى التناقضات .. التي تكابد النفس البشرية في تصادمها المستمر معها
والمجاهدة المستمرة في خوض معاركها الداخلية
والتي تخرج منها إحدى القوتين فائزة منتصرة ..
وعلى النتيجة تترتب حياة الإنسان .. ومآله ..!
قطبي الصراع قي النفس ~
في داخل كل واحد منا قوى متصارعة .. متضادة
لها قطبان أحدهما العقل والإرادة ، والآخر النفس والغريزة
وهما في تضاربٌ وتقاتلٌ مستمر ..
كلٌ منهما يسعى من أجل الغلبة ، وإنزال الهزيمة بالطرف الآخر
تلك المعركة التي تدور رحاها في أعماقنا
و تستمر على جولات .. بينهما هدنة مؤقتة
أو فترة لالتقاط الأنفاس ... ثم يحتدم الصراع مرة أخرى
فالعقل والفطرة والإرادة وجنودها تشكل جبهة الإنسانية الحقة بكل أبعادها وأعماقها
وفي المقابل يقف الشيطان وقبيله حليفاً للنفس وغرائزها.. عاقدين لواء جبهة الحيوانية
بكل نزواتها ، وشراستها ، ونزقها ..
وقد يطول الصراع ماطال عمر المرء .. فيأتيه الأجل وهو لايزال في جهاده
وربما يكون من أصحاب السعادة فتقطف آخر ثمار روحه من روض الإيمان
وقد يكون شقيّاً .. فتهوى آخر ثمرة في غيهب الضلال ..
ولكن كم من الناس من انتصر في معركة جهاده لنفسه في حياته
ورجع بالغنيمة في الجهاد الأكبر..؟!
حيث استطاع أن يتسلق سلم الوعي والإرادة ، مستعيناً بنور العقل وتوجيه الفطرة
ووصل إلى رحاب الله حيث السعادة ، والأمن والاستقرار..؟!
وكم منهم من انتصر للشيطان وسقط في الهاوية ،؟!
حيث الحرمان ، والتشرد، والقلق ، والضياع .. وخسارة الدنيا والآخرة ..؟!
وقد نتساءل .. لم ؟ ومن أجل ماذا يحدث هذا الصراع ؟!
والجواب أنه يحدث .. من أجل أن يستكمل كلّ منا رحلته في الحياة ..
أن يتكامل ، وينمو .. ولن يكون له ذلك إلا في ظل هذه المجاهدة ..
ذلك هو القانون الطبيعي الذي يسير الكون ، والحياة ، والإنسان .
( ونفسٍ وما سوٌاها فألهمها فجورها وتقواها قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها )

قانون الجذب والطرد ~
فلنتريث قليلاً ، ونلقي نظرة إلى ماحولنا .. لنرى صور التكامل في الحياة
ونقتنع أن كل شيء قائم على أسس الصراع .. والتحدّي .. والمنافسة !
من أصغر شيء في الكون .. الذرة .. إلى المجرّة ..!
الذرة تخضع لقانون الجذب والطرد ..
والسحاب يسير بالسالب والموجب ..
والنجوم في أفلاكها .. تسبح متوافقة مع قانون الجاذبية الذي تحكمه قوتان متضادتان :
قوة جاذبة ، وقوة طاردة عن المركز ..
وبهذا القانون تحلق الطيور في جو السماء..
وسفن الفضاء والأقمار تدور حول الأرض.. والمجرات الهائلة ..!(
ذلك هو قانون الأضداد الذي يسير كل مافي الحياة..
حتى الغابة تتكيف بمخلوقاتها مع هذا النظام
ويحكمها الصراع ويعد فيها منبعاً كمالٍ للوحوش
كما أن الحياة منبع الكمال للبشرية ..!
التنافس والارتقاء~
وهنا يأتي الحديث عن صراع البشرية وقانون الأضداد فيها
ويتمثل بعض ذلك في التنافس ، وتحمل المشاق ، من أجل الأرتقاء
من أسفل السلم إلى أعلاه ..
،وحصد النجاح من الفشل..
والعلم من الجهل ..
يقول المتنبي : لولا المشقة ساد الناس كلهم * الجود يفقر والإقدامُ قتّالُ
التنافس إذن هو دافع يهيب بالإنسان أن يصل للأفضل ..
وفي مساحات الحياة الواسعة نجد وجهان متضادان لكل عملة ..
يتفاوت ويختلف نصيب الناس منها ..
فهناك الصحة والمرض
والفقر والغنى
والفطنة والبلادة
وغيرها .. وكلها تطرح أمام الإنسان قضية التنافس في الوصول للأحسن
وهذا التدافع قد أشارت له الآية الكريمة ؛
( ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضلٍ على العالمين )
وعودة إلى العالم الأكبر ~
في داخل النفس صراعٌ .. وأيّ صراع ..!
بين غريزة الخير ، وغريزة الشر
ليتخلق منهما : اما قدوة حسنة ، وإما شرارة سيئة ..!
وفي طريق النفس يكون الشيطان متربصاً
يجري مجرى الدم في العروق .. ليزرع الجحيم في صدر الإنسان
وقد أخذ العهد على غواية الناس : ( فبعزتك لأغوينهم أجمعين )
أنت العزيز يارب عن الخلق .. خلقتهم أحراراً .. وكنت غنياً عن طاعة المطيع
ومعصية العاصي ..
هذا مااستغله الشيطان للدخول على الفرد وبسط سبل إغرائه ..
ولكنه في ذات الوقت أدرك أن عمله يسقط أمام إرادة المخلصين في إيمانهم
ويُهزم شر هزيمة
وقد اقرّ بعجزه "إلا عبادك منهم المخلصين "
ولكنه مع هذا كان عاقد العزم مصمماً على الانتقام من الإنسان
الذي تسبب في طرده من رحمة الله
فأين يكمن له ؟ !
لاشك أنه يختار أقصر السبل .. التي توصله بمراده
والخط المستقيم الذي يصل بين نقطتين هو أقصر السبل
( لأقعدنّ لهم صراطك المستقيم )
لأزينن لهم المنكرات ، ولأضع أمامهم المغريات ..
ولآتينهم من بين أيديهم .. ومن خلفهم .. وعن أيمانهم. . وعن شمائلهم
ولأرقبنهم بحرص ، ولأتخذن معهم كميناً مناسباً
حتى يقعوا في مصيدتي ..!
ولكن الله تعالى أكد في محكم كتابه استثناء طائفة من الناس عن غواية إبليس ،
فهؤلاء لن يصل إلى ساحتهم ، ولن يطال شأوهم:
( إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين ، وإن جهنم لموعدهم أجمعين ) الحجر/42
وجاء التحذير في القرآن ، والتأكيد على الاستعاذة بالله من شره :
( فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم ،إنه ليس له سلطان على الذين
آمنوا وعلى ربهم يتوكلون ، إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون ) النحل / 98-100
ويأتي التأكيد في آية أخرى:
( وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم ، إن الذين اتقوا إذا مسهم
طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون ) الأعراف 200-201
اللهم أحسن خاتمتنا ~
من كل ذلك نفهم أن علينا الحذر من اتباع خطوات الشيطان الذي يغري
بالزينة والجمال حتى يسقط الإنسان في منحدر الغواية
يجمل السيئات حتى تبدو حسنات عند البعض
ويحدث ذلك في غياب الإيمان ، وخور العزيمة ، وضعف النفس ..
ولكن لكي ينتصر كلاًّ منا على نوازع الشر .. ويرتقي بنفسه في سلّم التكامل
وينتصر على الجانب السلبي فيه ، عليه أن ينمّي جانبه الإيجابي ، متسلحاً بالإيمان العميق ، عاقداً النية الصادقة على ذلك ، ممتشقاً سيف الإرادة القوية ..
لينتصر في معركة الجهادمع النفس ، ويخرج منها فائزاً بإذن الله ..!!
ومن الله التوفيق~
تصوير رائع فعلاً للصراع القائم
في هذا الكون منذ الأزل
وصراع النفس البشرية أشدها
لما يوصل المرء الى مفترق
طريقين ومن تتحكم فيه العقل والارادة
يختار الصواب دائماً
بورك لك هذا الطرح المميز