كما أن للجسم آفات إن حلت به سلبته العافية ..
وربما أوردته الهلاك ،
كذلك للنفس آفات تفتك بها ..
إن لم نبادر إلى الاستقامة لله تعالى ،
وانتزاع أشواكها .. وتنقية ماعلق بالنفس من شوائب .
قيل : التواضع تاج المرء ..
فما هو التكبر ؟ وبم نعرفه ؟
الكبر ..! الزهو ... ! الخيلاء..! الغرور ...!
كلها وجوه لمسمى واحد ..!
هي صفة يشعر فيها العبد لله .. بالتعاظم ..
تتمحور فيها الأنا .. وتتسلط النرجسية ...
فيرى في نفسه الكثير من صفات الكمال والأفضلية
مايجعله يحس بارتفاع ذاته عن غيرها ..
وبالتالي قد يحتقر الناس .. لاعتقاده أنهم دونه ..!
تعالين إلى أصل هذه الرذيلة ..
إلى أول من تكبر ..وطغى ..
وعصى أمر الخالق العظيم .. فهوى ..
إنه إبليس .. استكبر ونبا .. لما أمره تعالى بالسجود لآدم .. فأ بى ..
قال تعالى :
( ولقد قال ربك للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا
إلا ابليس أبى )
وبم علل الشيطان رفضه الأمر الإلهي. :
( قال أنا خير منه خلقتني من نارٍ وخلقته من طين )
ومن هو ليعصي الحقّ .. ويأبى ؟!!
سبحان الله ماهذه الكبرياء التي ألحقت به اللعنة الأبدية
وجرت البلاء على بني الإنسان .. كل من أطاعه وتبع غوايته
واتصف بهذا الخلق الذميم ..؟ !!
خلق الكبرياء الذي نبت من بذرة عصيان الشيطان لأمر الله تعالى .؟!
ولأن ابليس طرد من الجنة ولعن بسبب تكبره ، وجُعلت عاقبته النار
كذلك يكون مصير من يتخلق بهذا الخلق ..
وكفى التفكير بذلك المصير البائس الذي ينتظر المتكبر ...
رادعاً عن التكبر والغرور ..!
عن ابن مسعود رضي الله عنه ،
عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
( لايدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر )
فقال رجل :
إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً ونعله حسنة ..
قال النبي :
( إن الله جميل يحب الجمال ..
الكبر بطر الحق ، وغمط الناس ).
ولكن .. لمن الكبرياء ؟
إنها صفة اختص بها الله تعالى وحده ..!
أما العبد فعليه أن يتصف بالتواضع لله ..
ومن تواضع لله رفعه ..
ومن نازع الله تعالى في الكبرياء أهلكه ..
وضيّق عليه .. وساءت عاقبته ..
في الحديث القدسي:
( الكبرياء ردائي ، والعزة إزاري ، فمن نازعني واحد منهما ،
ألقه في النار ).
فكل من حاول الكبر ،واستطال .. خفضه الله في الأسفلين
وجعله في الأذلين .. لأنه خالف الأصل ..
والجزاء من جنس العمل .
صور من مصير الطغاة المتكبرين ~
هذا فرعون .. طغى واستكبر ..
خاطبه موسى مراراً .. خطاباً ليناً بأمر الله :
هل لك يافرعون أن تزكى ..
وتفيء إلى ربك وتخشى ..؟
يافرعون .. قد أوحي إليّ أن العذاب
يحيق بمن لم يؤمن بربه ..
ومن يستكبر عن عبادته ويستعظم
ارجع إلى صوابك يافرعون .. تنجى ..!
انتفخت أوداج فرعون كبرياءً وغضباً ..
وأجاب بصلفٍ وعظمة وتعالي :
ألا ترى ماأنا عليه من الملك والعزة والكمال ؟!
أليس لي ملك مصر ..
وهذه الأنهار تجري من تحتي ..
ولو شئت لجعلت وزيري هامان
يبني لي صرحاً عالياً أرتقيه ..
لأصل إلى إلهك ..
وإني لأظنك ياموسى من الكاذبين ..
هكذا زين لفرعون غروره ..!!
فماذا كانت عاقبته ..؟؟
تأملن في نهايته البشعة ..
وكيف جعله الله تعالى أمثولة لكل البشر ..
فها هي جثته .. بعد أن غرق في البحر ..
منتفخة ..تفوح منها رائحة تزكم الأنوف ..
تراها عائمة في ركنٍ آسنٍ عند الشاطئ ..
وهو بكامل لباسه وأبهته وجواهره وزينته . ..
وقد حرّم الله تعالى على حيتان البحر من أن تنهش جسده ..
فبقى على هيئته .. للتذكير ..!
ينظر الناس إليه ويعجبون .. ولسان حالهم يقول :
أهذا الذي زعم أنه إله ..؟!
أهذا الذي طغى وتجبر .. وسفك وقتل ؟!
وأحاطته حاشيته وجنده ..
وتعالى عن الناس وعاش في برجه العاجي
وتصرف بلا حسيب في رقاب الناس ؟!
سبحان الله ..!!
مصير مهين .. لفرعون ولكل طاغ
وذكرى لمن يعتبر ..
ولعذاب الآخرة أشد من الأولى ..!
حال المتكبر يوم القيامة ~
إن من يتكبر على الناس في الدنيا ..
يكون بأسوأ حال يوم القيامة ..
يداس ذليلاً مهيناً .. تحت الأقدام ..!
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( خرج رجل ممن كان قبلكم في حلّة له يختال فيها ..
فأمر الله الأرض ، فأخذته ، فهو يتلجلج فيها إلى يوم القيامة ).
هذا عمن تكبر واختال في لباسه ..
فماذا عمن تكبر وتعاظم عن طاعة الله .. وفي معاملة الناس ..؟!!
مظاهر خادعة ~
بعض الناس يخدعهم ويبهرهم مايحيط بالمترف من مظاهر الغنى
وعلامات الثروة والجاه ..
من لباس ثمين .. ومجوهرات قيمة .. وجاه وسلطة ..
ومن كثرة المتوددين .. وتزلف المقربين ..
يظنون أن ذلك من علامات رضا الله على عبده إذ اختصه بكل تلك النعم ..
ويودون منه القربى. .. ويتزلفون للعطايا ..
ويتمنون لو كانوا مكانه ..
كما حدث لقارون الذي طغى في الأرض واختال ..
كان قارون ذاك ... يرفل في نعيم لم يؤتاه أحد ..
فهو يملك الجاه والقوة ..
ويحوز من المال كنوزاً ينوء عصبة من الرجال الأقوياء بحمل مفاتيحها..
لكنه كان مغروراً متكبراً صلفاً .. لايعرف حق الفقير ..
ولا يتواضع لله أويشكر نعمه .. أويقر بفضله ..
نصحه بعض الصالحين .. أن لايطغى ويتكبر حتى لايزول ملكه ..
لأن تلك عاقبة طبيعية للطغيان ..
لكنه أصمّ أذنيه عن سماع صوت الحق .. وأعقب مستنكراً:
هذا مالي أوتيته بجهدي .. ولا لأحدٍ فيه حق ..
فأتاه نداء الحق .. لاتفرح وتنسى من تفضل وأنعم عليك
إن الله لايحب الفرحين ..
ففي أحد الأيام وقد بلغ به الزهو والغرور مداه..
خرج متبختراً بكامل زينته ولباسه ..
مستعرضاً أمام الناس .. ينظر يميناً وشمالاً بزهو وتعالٍ ،
فانبهر لطلعته قوم ممن كانوا يعشقون الدنيا ومظاهرها ..
وقالوا والحسرة تملؤهم :
( ياليت لنا مثل ماأوتي قارون إنه لذو حظ عظيم )..
هكذا وقفت طائفة أمام فتنة الحياة الدنيا
وقفة المأخوذ المبهور المتهاوي المتهافت ...
ووقفت طائفة أخرى ممن تستعلي على هذا كله
بقيمة الإيمان تجاههم مذكرين بما هو خير وأبقى ..
ثواب الله .. وهو جزاء الصابرين ..!
والتقت قيمة المال وقيمة الإيمان في الميزان
فماذا كانت عاقبة خيلاء وكبر قارون ؟
لقد أمسى بغرور .. وأصبح مقبور..
خسف الله تعالى به وبداره الأرض ..
فصار عبرة وإفاقة لمن كانوا مخدوعين :
( وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ
وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ ۖ
لَوْلَا أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا ۖ وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ )
التكبر مرض ...
لابل هو من أخطر الأمراض الخلقية ..
وأشدها فتكاً بالإنسان ...
وأدعاها إلى مقت الناس للمتكبر ، ونفورهم منه ..
لذا ذمه الله تعالى في القرآن الكريم ..
فعلى لسان لقمان الحكيم وهو يعظ ابنه جاء :
( ... ولاتصعر خدك للناس ولاتمش في الأرض مرحاً
إن الله لايحب كل مختالٍ فخور )..
صور من التكبر في المجتمع :
- الاعجاب بالنفس لجمال أو حسن أو ثراء .. أو مكانة..
ومنهم من يعجب بقوته ويعتز بها فيعتدي ويبطش
ويظلم .. وفي ذلك يكون هلاكه .
- المجادلة بالباطل ، والإصرار على الرأي ، وعدم قبول الحق .
- التفاخر بالنسب والعشيرة ، وبمنزلة الآباء .. وعراقة الأصل
فيرى المرء أن الناس جميعاً أقل منه منزلة ..
كل تلك وغيرها صور من آفة التكبر..
التي تورد المرء موارد الهلاك.
فكيف يتخلص المرء من الكبر ؟
علاج التكبر ~
كما أن لكل داء دواء ... فللكبر كذلك علاج ..
يحتاج إلى تبصر وتنبه من الغفلة ومجاهدة النفس ..
- أولاً .. يجب أن نذكر دائماً أن الناس ولدوا سواسية
فكلهم سواء في مولدهم ونسبهم ومادة خلقهم :
( أيها الناس .. كلكم لآدم .. وآدم من تراب ..)
- يأتي بعد ذلك مقياس التفاضل الذي يميز بعضهم عن بعض
ألا وهو التقوى :
( إن أكرمكم عند الله أتقاكم ).
فلتستقر هذه الحقيقة في النفوس .. لتكسر شوكة التكبر .
- ليعلم من يستحوذ عليه الكبرياء .. أنه مهما بلغ فقدرته محدودة ..
فهل يستطيع أن ينافس الجبال طولاً بما لديه ؟!
وهل يستطيع أن يخرق الأرض ؟!
فلم هذا الغلو في الأنا .. وهو ليس إلا إنسان ضعيف ..
يستطيع أحقر وأصغر مخلوق أن يحيله إلى إنسان عاجز
ويسلبه عافيته وقوته .. ؟!
كم من متكبر .. نالت منه جرثومة مهينة ذات خلية واحدة ..
لاترى من ضآلتها .. فأذابت. عافيته .. وأسلمته الهلاك ؟!
- ليتعظ من يتكبر .. ويتذكر مقت الله للمتكبرين ..
ويعود إلى صوابه فيتواضع للناس ، ويحترمهم
مهما كانوا فقراء أو ضعفاء أو أقل منزلة منه ..
وليذكر أن التواضع صفة المؤمن .. أمرنا الله بالتزامها:
( واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين )
وليتذكر أن الجنة ليست من نصيب من يطغي ويتكبر :
( تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لايريدون علوّاً في الأرض
ولا فساداً والعاقبة للمتقين ).
قال أبو بكر رضي الله عنه :
( لايحقرنّ أحدٌ أحداً من المسلمين ،
فإن صغير المسلمين عند الله كبير ) .
غاليتي :
بعد هذه السطور التي أظهرت لعينيك
كم أن صفة التكبر مقيتة ومكروهة .. عند الله تعالى ، وبين الناس ...
وأنها وبالاً على صاحبها في الدنيا والآخرة ..
دعينا نكشف عن أعماقنا.. كشفاً صادقاً ..
بـ( سماعةٍ ذاتيةٍ ) مكبرة .. لأقل همس يصلها بنبرة تكبر .. أو إيحاء زهو ...
لنكبته .. لنقتلعه .. وهو لايزال شطئاً من قبل أن يستوي
على ساق الغرور ..
قد لاننتبه .. قد نخدع أنفسنا .. قد نقول لسنا على كبر
نحن لانعرف الغرور .. نحن متواضعين جداً .. نحن .. ونحن
فكأننا بذلك نضرب على وتر الغرور .. حين نتشدق
بشدة تواضعنا وتناهيه ..!!
لنفهم أن التواضع سلوك وليس قولاً نقف عنده
وأنه دعوة إلى المودة والمحبة والمساواة ..
ليكن تواضعنا صادقاً وليس تنازلاً منا ..
ليكن قولاً يقال وعملاً .. يطبق ..
لنمحو الكراهية والحسد من نفوس من هم أقل منّا حظاً في الحياة
بأن نشعرهم بصدق أن لافروق بيننا ..
فكلنا لآدم... وآدم من تراب ..
وأن أكرمنا عند الله .. أتقانا ..
وحتى لانكون من الذين يحرمون من عبق الجنة ونعيمها . .
والعاقبة للمتقين .