التوبة قبل الموت... أرجوكم اقرأوا الرسالة كاملة

ملتقى الإيمان

الحمد لله ربِّ العالمين والصَّلاة والسَّلام على سيِّد المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين:

أخي القارئ: هذه الرِّسالة الصَّغيرة الَّتي بين يديك قد اخترناها من كتاب (لطائف المعارف لما لمواسم العام من الوظائف) للإمام الحافظ ابن رجب الحنبلي -رحمه الله- وقد اختصرناها وأسميناها "الحثُّ على التَّوبة قبل الموت وختم العمر بها".

وهي رسالةٌ مفيدةٌ نافعةٌ استشهد فيها المؤلف -رحمه الله- بالآيات القرآنيَّة والأحاديث النَّبويَّة مكثرًا فيها النُّقول من أقوال السَّلف مسجلًا العبر والعظَّات من قصصهم. وقد ضمَّنها كثيرًا من الأبيات الشِّعريَّة المؤثرة في النَّفس حاثًّا فيها النَّاس بالتَّعجيل بالتَّوبة قبل الموت خاصَّةً في زمن الشَّباب. هذا وقد رأت دار ابن خزيمة أن تعتني بهذه الرِّسالة وتنشرها في رسالةٍ مستقلةٍ؛ لعظم فائدتها ونفعها ونشرها بين المسلمين.
نسأل الله العظيم أن ينفع بهذه الرِّسالة كلَّ من قرأها وساعد في نشرها وأن يهدينا ويهديه إلى صراطه المستقيم.

المعصية جهلٌ:
عن ابن عمر عنِ النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم-، قال: «إنَّ الله يقبلُ توبةَ العبد ما لم يُغرغر» ، دلَّ هذا الحديث على قبول توبة الله -عزَّ وجلَّ- لعبده ما دامت روحه في جسده لم تبلغ الحلقوم والتَّراقي. وقد دلَّ القرآن على مثل ذلك أيضًا، قال الله -عزَّ وجلَّ-: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} . وعمل السُّوء إذا أفرد دخل فيه جميع السَّيئات، صغيرها وكبيرها، والمراد بالجهالة الإقدام على عمل السُّوء، وإن علم صاحبه أنَّه سوء، فإنَّ كلَّ من عصى الله فهو جاهلٌ، وكلُّ من أطاعه فهو عالمٌ، وبيانه من وجهين:

أحدهما: أنَّ من كان عالمًا بالله -تعالى- وعظمته وكبريائه وجلاله فإنَّه يهابه ويخشاه، فلا يقع منه مع استحضار ذلك عصيانه، كما قال بعضهم : "لو تفكر النَّاس في عظمة الله تعالى ما عصوه".

والثَّاني: أن من آثر المعصية على الطَّاعة فإنَّما حمله على ذلك جهله وظنَّه أنَّها تنفعه عاجلًا باستعجال لذَّتها، وإن كان عنده إيمانٌ فهو يرجو التَّخلص من سوء عاقبتها بالتَّوبة في آخر عمره، وهذا جهل محضٌ، فإنَّه يتعجل الإثم والخزي، ويفوته عزُّ التَّقوى وثوبها ولذَّة الطَّاعة، وقد يتمكن من التَّوبة بعد ذلك، وقد يعاجله الموت بغتةً، فهو كجائعٍ أكل طعامًا مسمومًا لدفع جوعه الحاضر، ورجا أن يتخلص من ضرره بشرب الدَّرياق بعده. وهذا لا يفعله إلا جاهلٌ.

التَّوبة في الصِّحَّة أفضل من التَّوبة في حالة المرض:

رُوى عن ابن عباس في قوله -تعالى-: {ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} ، قال: قبل المرض والموت، وهذا إشارة إلى أنَّ أفضل أوقات التَّوبة، وهو أن يبادر الإنسان بالتَّوبة في صحَّته قبل نزول المرض به حتَّى يتمكن حينئذ من العمل الصَّالح، ولذلك قرن الله تعالى التَّوبة بالعمل الصَّالح في مواضعَ كثيرةٍ من القرآن.

وأيضًا فالتَّوبة في الصِّحَّة ورجاء الحياة تشبه الصَّدقة بالمال في الصِّحَّة ورجاء البقاء، والتَّوبة في المرض عند حضور إمارات الموت تشبه الصَّدقة بالمال عند الموت. فأين توبةُ هذا من توبةِ من يتوب من قريبٍ وهو صحيحٌ قويٌّ قادرٌ على عمل المعاصي، فيتركها خوفًا من الله -عزَّ وجلَّ-، ورجاء لثوابه، وإيثار لطاعته على معصيته؟

فالتَّائب في صحَّته بمنزلةِ من هو راكبٌ على متن جواده وبيده سيفٌ مشهورٌ، فهو يقدر على الكرِّ والفرِّ والقتال، وعلى الهرب من الملك وعصيانه، فإذا جاء على هذه الحال إلى بين يدي الملك؛ ذليلًا له، طالبًا لأمانه، صار بذلك من خواص الملك وأحبابه؛ لأنَّه جاءه طائعًا مختارًا له، راغبًا في قربه وخدمته.

وأمَّا من هو في أسر الملك، وفي رجله قيدٌ، وفي رقبته غلٌّ، فإنَّه إذا طلب الأمان من الملك فإنَّما طلبه خوفًا على نفسه من الهلاك، وقد لا يكون محبًّا للملك ولا مؤثرًا لرضاه، فهذا مثل من لا يتوب إلا في مرضه عند موته، لكن ملك الملوك، أكرم الأكرمين، وأرحم الرَّاحمين، وكلُّ خلقه أسيرٌ في قبضته، لا يعجزه منهم أحدٌ، لا يعجزه هاربٌ، ولا يفوته ذاهبٌ، كما قيل: لا أقدر ممَّن طلبته في يده، ولا أعجز ممن هو في يد طالبه، ومع هذا فكلُّ من طلب الأمن من عذابه من عباده أمنه على أيِّ حالٍ كان، إذا علم منه الصِّدق في طلبه.

وقوله -عزَّ وجلَّ-: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} فسوَّى بين من تاب عند الموت ومن مات من غير توبةٍ. والمراد بالتَّوبة عند الموت التَّوبة عند انكشاف الغطاء، ومعاينة المحتضر أمور الآخرة، ومشاهدة الملائكة؛ فإنَّ الإيمان والتَّوبة وسائر الأعمال إنَّما تنفع بالغيب، فإذا كشف الغطاء وصار الغيب شهادةً، لم ينفع الإيمان ولا التَّوبة في تلك الحال.

وقد قيل: إنَّه إنَّما منع من التَّوبة حينئذ؛ لأنَّه إذا انقطعت معرفته وذهب عقله، لم يتصور منه ندمٌ ولا عزمٌ؛ فإنَّ النَّدم والعزم إنَّما يصحُّ مع حضور العقل.

وقوله -صلَّى الله عليه وسلَّم- في حديث ابن عمر: «ما لم يُغرغر»، يعني إذا لم تبلغ روحه عند خروجها منه إلى حلقه، فشبه ترددها في حلق المحتضر بما يتغرغر به الإنسان من الماء وغيره، ويردده في حلقه. وإلى ذلك الإشارة في القرآن بقوله -عزَّ وجلَّ-: {فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ} ، وبقوله -عزَّ وجلَّ-: {كَلا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ} .

عشْ ما بدا لك سالمًا*** في ظلِّ شاهقةِ القصور
فإذا النُّفوس تقعقعت*** في ضيق حشرجةِ الصُّدور
فهناك تعلم موقنًا***ما كنت إلا في غرورٍ

الاستعداد للموت:

واعلم أنَّ الإنسان ما دام يؤمل الحياة فإنَّه لا يقطع أمله من الدُّنيا، وقد لا تسمح نفسه بالإقلاع عن لذَّاتها وشهواتها من المعاصي وغيرها، ويرجيه الشَّيطان التَّوبة في آخر عمره، فإذا تيقَّنَ الموت، وأيس من الحياة، أفاق من سكرته بشهوات الدُّنيا، فندم حينئذٍ على تفريطه ندامة يكاد يقتل نفسه، وطلب الرَّجعة إلى الدُّنيا؛ ليتوب ويعمل صالحًا، فلا يجاب إلى شيءٍ من ذلك، يجتمع عليه سكرة الموت مع حسرة الفوت. وقد حذَّر الله -تعالى- عباده من ذلك في كتابه؛ قال -تعالى-: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (55) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ} . سمع بعض المحتضرين عند احتضاره يلطم على وجهه، ويقول: {يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ}، وقال: آخر عند احتضاره: "سخرت بي الدُّنيا حتى ذهبت أيَّامي". وقال آخر عند موته: "لا تغرَّنَّكم الحياة الدنُّيا كما غرتني".

وقال الله -تعالى-: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا} ، وقال الله -تعالى-: {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} .

قال الفضيل: "يقول الله -عزَّ وجلَّ-: ابن آدم! اذا كنت تتقلب في نعمتي وأنت تتقلب في معصيتني، فاحذرني لا أصرعُك بين معاصيَّ".

غاية أمنية الموتى في قبورهم حياة ساعة يستدركون فيها ما فاتهم من توبةٍ وعملٍ صالحٍ، وأهل الدُّنيا يفرطون في حياتهم فتذهب أعمارهم في الغفلة ضياعًا، ومنهم من يقطعها بالمعاصي.

أقسام النَّاس من التَّوبة:

النَّاس من التَّوبة على أقسامٍ:
فمنهم: من لا يوفق لتوبةٍ نصوحٍ، بل ييسِّر له عمل السَّيِّئات من أول عمره إلى آخره حتَّى يموت مصرًّا عليها، وهذه حالة الأشقياء. وأقبح من ذلك من يسِّر له في أول عمره عمل الطَّاعات، ثمَّ ختم له بعملٍ سيءٍ حتَّى مات عليه، كما في الحديث الصَّحيح: «فإنَّ أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنَّة حتَّى لا يكون بينها وبينه إلا ذراعٌ، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النَّار فيدخل النَّار» .

ما أصعب الانتقال من البصر إلى العمى وأصعب منه الضَّلالة بعد الهدى، والمعصية بعد التُّقى، كم من وجوهٍ خاشعةٍ وِقِّعَ على قصصٍ أعمالها: {عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (3) تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً} . كم من شارف مركبه ساحل النَّجاة، فلمَّا همَّ أن يرتقي لعب به مَوجُ الهَوَى فغرق، الخلق ُكلُّهم تحت هذا الخطر. قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرَّحمن يقلبها كيف يشاء.
قال بعضهم: "ما العجب ممَّن هلك كيف هلك، إنَّما العجب ممَّن نجا كيف نجا".

وقسم: يفني عمره في الغفلة والبطالة، ثمَّ يوفق لعملٍ صالحٍ فيموت عليه، وهذه حالة من عمل بعمل أهل النَّار حتَّى ما يكون بينه وبينها إلا ذراعٌ، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنَّة فيدخلها.

الأعمال بالخواتيم، وفي الحديث: «إذا أراد الله بعبدٍ خيرًا عَسَلَه، قيل: وما عسْلُه؟ قال: يفتح له عملًا صالحًا قبل موته، ثمَّ يقبضه عليه» .

عن أبي سيعد الخدري-رضي الله عنه-، عنِ النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- قال: «إنَّ الشَّيطان قال: و عزَّتك يا ربّ لا أبرح أغوي عبادك ما دامت أرواحهم في أجسادهم، فقال الرَّبُّ: وعزَّتي وجلالي لا أزال أغفر لهم ما استغفروني» .

ورُوي أنَّ رجلًا من أشراف أهل البصرة كان مُنحدرًا إليها في سفينةٍ ومعه جاريةٌ له، فشرب يومًا، وغنَّتهُ جاريتُه بعودٍ لها، وكان معهم في السَّفينة فقيرٌ صالحٌ فقال له: يا فتى! تُحسنُ مثل هذا؟ قال: أُحسنُ ما هو أَحسنُ منه. وقرأ {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلا (77) أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} ، فرمى الرَّجل ما بيده من الشَّراب في الماء، وقال: أشهد أن هذا أَحسنُ ممَّا سمعت، فهل غير هذا؟ قال: نعم فتلا عليه: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا} ...الآية. فوقعت من قلبه موقعًا، ورمى بالشَّراب في الماء، وكسر العود، ثمَّ قال: يا فتى! هل هناك فرجٌ؟ قال: نعم، {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} .. الآية. فصاح صيحةً عظيمةً، فنظروا إليه فإذا هو قد مات -رحمه الله-.

وبقي ها هنا قسمٌ آخرٌ وهو أشرف الأقسام وأرفعها، وهو من يفني عمره في الطَّاعة، ثمَّ ينبَّه على قرب الآجال؛ ليجدَّ في التَّزود ويتهيأ للرَّحيل بعملٍ يصلحُ للقاء، ويكون خاتمة للعمل. قال ابن عباس: "لما نزلت {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ...} إلى آخر السُّورة، نعيت لرسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- نفسه حين أنزلت فأخذ في أشدِّ ما كان قط اجتهادا في أمر الآخرة".

وكان من عادته أن يعتكف في كلِّ عامٍ في رمضان عشرًا، ويعرض القرآن على جبريل مرَّةً، فاعتكف في ذلك العام عشرين يومًا، وعرض القرآن مرَّتين، وكان يقول: "ما أرى ذلك إلا لاقتراب أجلي". ثمَّ حجَّ حجَّة الوداع، وقال للنَّاس: «يا أيُّها النَّاس خُذُوا مناسككم، فإنِّي لا أدري، لعلي لا أحجُّ بعد عامي هذا» . وطفق يودع النَّاس، فقالوا: هذه حجَّة الوداع. ثمَّ رجع إلى المدينة فخطب قبل وصوله، وقال: «أيّها النَّاس! فإنَّما أنا بشرٌ يُوشك أن يأتيني رسولُ ربِّي فأجيب» . ثمَّ أمر بالتَّمسك بكتاب الله، ثمَّ توفي بعد وصوله إلى المدينة بيسيرٍ -صلَّى الله عليه وسلَّم-.

إذا كان سيِّد المحسنين يؤمر أن يختم عمره بالزَّيادة في الإحسان، فكيف يكون حال المسيء؟

خُذْ في جِدِّ فقد تولَّى العُمُرُ***كم ذا التَّفريطُ قَد تَدَانَى الأمرُ
أَقْبِل فعسى يُقبَل منك العُذْرُ***كم تبني كم تنقُضُ كم ذا الغَدرُ
تَأهَّب للَّذي لابُدَّ مِنه***من الموتِ المُوَكَّلِ بالعبادِ
أَترضَى أنْ تكُونَ رَفيقَ قومٍ*** لهُم زادٌ وأنتَ بغَيرِ زادٍ
تُب من خطَايَاك وابْكِ خشيةً*** ما أثبت منها عليك في الكُتُبِ
أيَّةُ حالٍ تكون حالُ فتًى***صار إلى ربِّه ولم يَتُبِ

وتأخير التَّوبة في حال الشَّباب قبيحٌ، ففي حال المشيب أقبح وأقبح.

الحثُّ على تجديد التَّوبة والإكثار من الاستغفار عند المرض والموت:

فإن نزل المرض بالعبد فتأخيره للتَّوبة حينئذٍ أقبح من كلِّ قبيحٍ؛ فإنَّ المرض نذير الموت.
وينبغي لمن عاد مريضًا أن يذكِّره التَّوبة والاستغفار، فلا أحسن من ختام العمل بالتَّوبة والاستغفار؛ فإن كان العمل سيئًا كان كفَّارةً له، وإن كان حسنًا كان كالطَّابع عليه.

وفي حديث سيِّد الاستغفار: «إذا قال حين يمسي فمات دخل الجنة، أو: كان من أهل الجنَّة، وإذا قال حين يصبح فمات من يومه مثله» . وليكثر في مرضه من ذكر الله -عزَّ وجلَّ-، خصوصاًا كلمة التَّوحيد؛ فإنَّه من كانت آخر كلامه دخل الجنَّة.

وكان السَّلف يرون أن من مات عقيب عملٍ صالحٍ كصيام رمضان، أو عقيب حجٍّ أو عمرةٍ أنَّه يُرجى له أن يدخل الجنَّة. وكانوا مع اجتهادهم في الصِّحَّة في الأعمال الصَّالحة يجددون التَّوبة والاستغفار عند الموت، ويختمون أعمالهم بالاستغفار وكلمة التَّوحيد.

يا غَافِلَ القَلبَ عن ذِكْرِ المَنيَّات***عمَّا قليلٍ سَتَثْوي بين أمواتِ
فاذكُر مَحَلَّك من قَبلِ الحُلُول به***وتُبْ إلى اللهِ من لهوٍ ولذَّاتٍ
إنَّ الحَمامَ له وقتٌ إلى أَجَلٍ***فاذكُر مَصائبَ أيَّامٍ وساعاتٍ
لا تطمئنَّ إلى الدُّنيا وزِينتِها*** قد حان للمَوتِ يَا ذَا اللبِّ أَنْ يَأتِي

التَّوبة التَّوبة قبل أن يصل إليكم من الموت النَّوبة، فيحصل المفرط على النَّدم والخيبة.

الإنابة الإنابة قبل غلق الإجابة. الإفاقة الإفاقة؛ فقد قرب وقت الفاقة ما أحسن قلق التَّواب! ما أحلى قدوم الغياب! ما أجمل وقوفهم بالباب!

من نزل به الشَّيب فهو بمنزلة الحامل الَّتي تمت شهور حملها، فما تنتظر إلا الولادة، كذلك صاحب الشَّيب لا ينتظر غير الموت؛ فقبيحٌ منه الإصرار على الذَّنب.

أيُّ شيءٍ تُريدُ منِّي الذُّنوبُ*** شَغَفَتْ بِي فَليسَ عنِّي تَغِيبُ
ما يَضرُّ الذُّنوبَ لو أعتقتني*** رحمةً بي فقد عَلاني المشيبُ

أيُّها العاصي، ما يقطع من صلاحك الطَّمع، ما نصبنا اليوم شرك المواعظ إلا لتقع. إذا خرجت من المجلس وأنت عازمٌ على التَّوبة، قالت لك ملائكة الرَّحمة: "مرحبًا وأهلًا"، فإن قال لك رفقاؤك في المعصية: "هلمَّ إلينا"، فقل لهُم: "كلَّا خَمرُ الهوى الَّذي عاهدتموه قد استحال خلًا".

يا من سوَّد كتابه بالسَّيِّئات قد آن لك بالتَّوبة أن تمحو. يا سكران القلب بالشَّهوات أما آن لك بالتوبة أن تمحو؟ يا سكران القلب بالشَّهوات أما آن لفؤادك أن يصحو؟

وصلَّى الله على محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وسلَّم .


ابن رجب الحنبلي
دار ابن خزيمة


بتصرف يسير-
2
453

يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.

تسجيل دخول

$$شيهانة الخير$$
اللهم تب علينا
وفرج عنا