الدكتورة لورا شريبمان تعتقد أن تفسير التوحد، يجب أن ينبع من العلم ، وأن الاستنتاجات حول متلازمة التوحد القائمة على غير البحث العلمي ، يجب أن تطرح جانبا، لكن القارئ لكتاب لورا شريبمان سيجث صعوبة في تقبل الكثير من أطروحاتها حول التوحد" خصوصا إن لم يكن من مؤيدي المدرسة السلوكية في علم النفس ، أو إن كان من الذين يؤمنون بالتدخل الدوائي أو البيولوجي في علاج حالات التوحد.
الدكتورة لورا شريبمان هي أستاذة متميزة في عليم النفس من جامعة كاليفورنيا في سانت دياجو، ومعروف أن لديها حسا واقعيا في معالجة الأطفال المصابين بالتوحد، والهدف من كتابها هو محاولة التوعية في متلازمة التوحد، وفي الواقع عرف عنها أنها مناضلة اجتماعية ، وتدعم الكثير من المؤسسات الأهلية التي تطالب بحقوق المصابين بالتوحد، وتدعم أسرهم في كل المجالات .
وإذا كانت هناك مثالب لكتابها هذا فإنها تظهر بسبب أنها من أتباع المدرسة السلوكية في علم النفس ، وهذه المدرسة تعتقد بأن السبيل الأمثل لعلاج التوحد يكمن في الأخذ بأساليب تعديل السلوك ، التي تعول على استخدام المكافأة لتحفيز السلوك المقبول وتوكيده عن طريق الربط بين ظهوره ومكافأته.
وأسلوب لورا شريبمان في علاج التوحد هو أقرب إلى الأخذ بأسلوب "تحليل السلوك التطبيقي"، وهذا النمط من العلاج مؤسس على النظريات السلوكية، ويتلخص بفكرة أن السلوك الجديد يصبح اكثر قابلية لأن يعلم ، إن اتبعنا التدعيم بنظام المكافأة ، فالسلوك المكافئ هو السلوك الذي سيبقى ويعزز في الطفل.
وللدكتور إيفار لوفاز الفضل في تطبيق العلاج السلوكي عام في علاج حالات التوحد، وتتلخص طرقه في العلاج حول تعليم الطفل المتوحد (حتى في حالات التوحد الشديدة ) المهارات الاجتماعية والسلوكية عن طريق التدعيم والمكافأة .
ولاقت الأساليب العلاجية للوفاز نجاحا مع الكثير من الحالات ، حتى إن النجاح في بعض الأحايين ساهم بتخلص بعض الأطفال من أعراض التوحد.
وطريقة لوفاز تتلخص في المثال التالي : يقوم بإعطاء الطفل المتوحد أمرا يحتاج منه لاستجابة ، كالتقاط ملعقة من طاولة الطعام ، فإن انصاع الطفل وقام بتنفيذ هذا الطلب ، فسيحصل مباشرة على مكافأة معنوية (كالإطراء) أو مادية كتقديم قطعة من الطوى له، فإن رفض الطفل الانصياع للأوامر فإنه لا يحصل على أي مكافأة ، ويقدم هذا الأسلوب العلاجي للطفل بشكل متكرر.
وفي حالة الأطفال دون سن الثالثة فإنه يتبع معهم أسلوب علاجي معدل ، يتمثل في تحليل السلوك التطبيقي " إذ يقوم المعالج بإجراء العلاج السلوكي في البيئة الطبيعية للطفل كالبيت أو المدرسة ، ويقدم العلاج على هيئة تشابه العلاج باللعب ، فيقوم المعالج بتعليم الطفل مهارات تساعده على التكيف مع بيئته المحيطة.
ولقد حقق العلاج السلوكي مؤخرا سمعة مرموقة في علاج حالات التوحد، بل تفوق على كثير من الأساليب العلاجية الأخرى في علم النفس ، لكن هذا النمط من العلاج يوجه إليه انتقاد" لأنه يظهر الطفل المتوحد كالإنسيالات (الإنسان الآلي )، وتجد الطفل يظهر الخضوع والطاعة للأوامر، دون أن تظهر عليه الانفعالات الطبيعية مثل تلك التي تظهر عند باقي الأطفال من غير المتوحدين.
وينتقد العلاج السلوكي على أنه علاج مكلف لموازنة الأسرة ، ولا تستطيع كل الأسر توفيره لأبنائها، فقد يصل عدد الساعات التي يحتاج إليها الطفل (كما يوصي الأب الروحي لهذا العلاج لوفاز) إلى 40 ساعة أسبوعيا؛ مما يشكل عبئا منهكا للأطفال أيضا.
الفصول والمحتوى :
الكتاب مكون من عشرة فصول ، في الفصل الأول الذي حمل عنوان " تقييم لموضوعات متعلقة بالتوحد" ، يستعرض الكتاب الأساليب والأفكار الخاطئة في تفسير ظاهرة التوحد، ومساهمة هذه الاعتقادات في إعاقة فهم التوحد، وان أفضل تفسير لهذه الظاهرة يجب أن يستند إلى العلم باستخدام :
1. الملاحظة الدقيقة 2. الاختبارات المقننة 3. تفسير تلك المعلومة بحذر ودقة.
وتورد الكاتبة أمثلة على النظريات التي تسببت في إعاقة فهم التوحد، كنظرية أن التوحد يحدث بسبب نشأة الطفل في منزل " الأم الثلاجة " التي لا توفر الدفء والعطف لطفلها" مما أدى إلى إلقاء اللوم على الآباء بأنهم السبب في اضطراب أبنائهم ، وأضاع هذا الاعتقاد جهد البحث العلمي في دراسة أمر ليس له علاقة بالتوحد.
وفي الفصل الثاني ركزت الكاتبة على سمات المتوحدين ، ولخصتها على النحو التالي:
الصعوبات في السلوك الاجتماعي والارتباط مع الآخرين.
الصعوبات في التواصل.
السلوك النمطي والمتكرر والمحدد.
الاضطرابات العاطفية.
النشاط العقلي الذي قد يظهر على شكل ذاكرة جيدة ، ولكن من دون فهم المحتوى .
السلوك المدمر.
وأضافت العالمة كانر ويوجين بلولر إلى هذه الصفات صفات أخرى مثل:
- مقاومة التغيير في البيئة المحيطة به والإصرار على بقاء الأشياء من حوله كما هي من دون تغيير.- الافتقار إلى التخيل أو القدرة على اللعب التخيلي.
أما الفصل الثالث فقد خصصت لموضوع التشخيص والتقييم لحالات التوحد،
وهنا بينت الكاتبة ضرورة الاتفاق على تشخيص موحد لأهميته في العلاج والبحث العلمي ، وناقشت الكاتبة الجثل التاريخي حول سمات التوحد التي كان التوحد يشخص من خلالها، كتصنيف كانر الذي تأثر بمفهوم الأم المتبلدة عاطفيا " الأم الثلاجة " ، وسمات كانر تفتقر إلى المعايير الموضوعية وتعتمد على ما تقدم وصفه من سمات التوحد في الفصل الثاني ، وبينت الكاتبة أن تشخيص التوحد ما زال يعتمد على السلوك الظاهري للطفل ، ويفتقر إلى الفحص البيولوجي كمحك موضوعي ، بينما يشخص متلازمة الداون مثلا عن طريق فحص شذوذ الكروموسومات .
أما حاليا فإن هناك اتفاقا حول معايير تشخيص التوحد، ظهرت في الطبعة الرابعة من الدليل الإحصائي والتشخيصي لجمعية الطب النفسي الأمريكية. وهذا الدليل يعتمد على عدة بنود في التشخيص ، إذا ظهرت على طفل ما فإنه يشخص ضمن فئات التوحد.
وفي الفصل الرابع يتطرق الكتاب إلى أسباب التوحد، ولا سيما أثر البيئة في ظهور التوحد، وكيف أن هذه النظرة الاجتماعية في فهم التوحد كانت عقيمة؛ لأنها تربط بينه وبين الانتماء العرقي لأوروبا فقط، ثم ألصقت مرض التوحد في البيئة المتبلدة وجدانيا، والعلم أظهر خطأ الكثير من النظريات الاجتماعية التي تحاول إلقاء اللوم على الآباء.
ثم تطرق الكتاب لسبب التوحد باعتباره سببا بيولوجيا، وأظهر البحث العلمي أن التوحد لا يظهر بنسبة 100 % بين التوائم المتطابقة مما يفسح المجال لوجود أسباب اجتماعية أو بيئية في ظهور مرض التوحد، ولقد أظهرت الدراسات العصبية لمرض التوحد نتائج متناقضة لدرجة الإحباط ، أما الدراسات التي أثبتت في الثمانينيات حدوث شذوذ في الناقل العصبي السيروتونين لدى المتوحدين فقد انتهت إلى نتائج علاجية استفادت منها قلة قليلة فقط من المتوحدين . وقد اتفق العلماء على أن أدمغة المتوحدين تظهر شذوذا عصبيا كصغر وزن الدماغ عند الولادة بنسبة 75 ه/ه ، وشذوذا آخر يظهر نموا اكبر في الجملة العصبية البيضاء التي تحتوي على الألياف العصبية على حساب الجملة العصبية الداكنة التي تحتوي على أجسام خلايا الأعصاب .
ثم تطرقت الكاتبة إلى النتائج العلمية الأكثر حداثة التي أظهرت أن التوحد هو تعميق للمظاهر الذكرية للدماغ.
وفي الفصل الخامس الذي حمل عنوان " هل هناك عجز جوهري في التوحد"؟ تطرقت الكاتبة إلى التوحد على أنه عجز في التواصل والعمليات المعرفية والذاكرة الميكانيكية والمهارات الاجتماعية واللعب التخيلي ، والسلوك النمطي والانفعالي، والكثير من أوجه العجز التي حملها إرث علم النفس.
أما الفصل السادس فإن الكاتبة تطرقت فيه لأهمية تطوير علاجات فعالة للتوحد، وتطرقت بإسهاب لأهمية العلاج السلوكي ، وكيفية استخدام تعديل السلوك باستخدام المكافأة والعقاب لإخراج الطفل إلى عالم التفاعل مع الآخرين.
وناقشت الكاتبة الجدل الذي يثار حول أساليب العلاج السلوكي ، وأظهرت حالات النجاح التي يعترف بها الجميع في مجال العلاج السلوكي مع حالات التوحد.
وفي الفصل السابع تعرضت الكاتبة لأساليب العلاج الأخرى مثل أسلوب التكامل السمعي والعلاج الدوائي والغذائي والعلاج بهرمون السيكرتين المستخلص من الخنزير، وبينت عدم فعالية هذا العلاج ، وبينت أيضا أن العلاج بالفيتامينات - وخصوصآ فيتامين ب 6 - له نتائج إيجابية على أطفال التوحد.
أما الفصل الثامن الذي حمل عنوان " معجزة للشفاء أم علاج كاذب" ؟ فقد خصص لذكر الكثير من الأساليب العلاجية التي ثبت أنها غير فعالة في علاج التوحد، مثل أسلوب التواصل الميسر والعلاج النفسي التحليلي فهو علاج غير مبني على مبررات علمية ، والعلاج بالاختيارات الذي يعتمد على محاولة الوالدين دخول عالم الطفل التوحدي وانسجامهما فيه.
وفي الفصل التاسع أثارت الكاتبة موضوعا حيويا ومهما، يسأل عنه الجميع، ووضعت عنوان هذا الفصل في محاولة للإجابة عن هذا التساؤل، وهو " التدخل المبكر والشفاء والعلاج الأفضل "، وأظهرت أن التدخل المبكر يحسن من فرص المريض في العلاج ، وأن الشفاء التام لن يتحقق ، ولكن العلاج الفعال للتوحد إنما يساهم بتحسن كبير لحالة المريض ، ولا يوجد أسلوب علاجي يتفوق على كل الأساليب ، ولكن العلاج السلوكي يبدو أن له بعض التفوق على باقي أساليب العلاج ، ويبدو أن الكاتبة لا تمانع من أن يلجأ المريض للاستعانة بأكثر من أسلوب علاجي.
وأفردت الكاتبة الفصل العاشر لموضوع تعليم الأطفال التوحديين ، وتذكر فيه أنه نتيجة لنقص خبرة الآباء في كيفية التعامل التوحديين وتثريبهم فإنهم يلجؤون إلى مراكز الإيواء، أو إرسالهم إلى مراكز التعليم الخاص ، وبينت أن الدمج بين أطفال التوحد والأطفال الطبيعيين يساهم بتحسين المهارات المختلفة لدى المتوحدين.
ولكن هناك من يعترض على حالة الدمج هذه؟ لأنها قد تتسبب في مشكلات نفسيةلأطفال التوحد.
الخلاصة:معظم كتب التوحد إما قصيرة وإما مقتضبة ؟ فهي أقرب إلى التعليمات الإرشادية ، أو هي كتب علمية تحتاج إلى متخصص يفك رموزها، إلا أن كتاب لورا شريبمان يمتاز بمصداقية علمية مرتفعة ، وفي الوقت نفسه هو سهل ممتنع، يستطيع المتخصص وغير المتخصص الاستفادة منه.
والدكتورة لورا شرحت في كتابها المتناقضات على الساحة العلمية والطبية في فهم متلازمة التوحد، وتطرقت لمشكلات التشخيص والعلاج ، لكنها مع كل ذلك لم تغفل أن تسلط النور على الجانب الإنساني في مشكلة التوحد.
وفي بداية الكتاب استعرضت الكاتبة النظريات القديمة والحديثة وعلاج التوحد في الماضي والحاضر، وأسدت للقارئ تعريفا للتوحد، وحاولت إعطاء تفسير لمسبباته والمحاولات القائمة لفك الغاز هذه الأحجية.
والكتاب يحفز ذهن القارئ " لأن يتعجب من ظواهر أخرى ، تتعلق بالعقل البشري ، كمشكل "الوعي" ومن أين يتركب هذا الوعي ؟ وماذا يحدث للذات الواعية في حالات التوحد؟ فمن التوحد قد نتحرى أسرار الوعي عند الإنسان .
ترى مجلة حرة الالكترونية المتخصة في المرأة والطفل ان التوحد يجب ان يخضع لمقاييس علمية فقط بعيدا عن اي خرافات من الممكن ان تؤثر على الطل
والكتاب أظهر كيف يضل الباحث الطريق في تفسيره للتوحد، وكيف نتبنى جميعا نظريات لا تتمتع بمصداقية علمية ، قد تتسبب في الضرر بعلاج التوحد.
وفي آخر الكتاب تشجع الدكتورة لورا على استخدام شكل من أشكال العقاب لتثبيط السلوك غير المقبول عند الطفل المتوحد، إلا أن هذا العقاب المقترح – على ضآلته - قد لا يعجب الكثيرين من أصحاب ، النظريات الليبرالية في التربية الحديثة، وأحد مثالب الكتاب أنه أهمل أنواعا فعالة من العلاج لحالات التوحد مثل تقنية "الاتصال الميسر في المخاطبة الجمعية للحواس".
وقد قامت الدكتورة فاطمة عياد - مترجمة الكتاب - بجهد رائع ومشكور في الترجمة والتعريف بالمصطلحات "إذ عربت الكتاب بلغة ميسرة وتسلسل خلاق ، وترجمتها تستحق الثناء؟ لأنها جعلت من هذا الكتاب القيم رائعة أخرى أصبحت في متناول القارئ العربي.
ولا شك أن الكتاب يشكل مدخلا مبسطا للفهم العلمي لمتلازمة التوحد، ويعطي الكثير من المعرفة الأساسية والمفيدة للمربين والمتخصصين حول ظاهرة التوحد. وهو يحتوي على مراجعات للدراسات العلمية المحكمة ، التي تضيف الشروحات المختلفة للتوحد، وتطرح الأساليب العلاجية المختلفة.
لكنه في الوقت نفسه ينطوي على نظرة متحيزة للمدرسة السلوكية في علم النفس ، ولا يعطي أهمية للعلاج القائم على التدخل البيولوجي والدوائي في علاج التوحد، ويزخر بالكثير من الاستنتاجات القديمة حول متلازمة التوحد، ومفاهيم قد تغيرت الآن ، وتعدلت نتيجة للبحث والعلم المعاصر.
amira24000 @amira24000
عضوة جديدة
يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.
خليك أول من تشارك برأيها 💁🏻♀️