الجَمال

الأدب النبطي والفصيح

الجَمال

نُشر في المجلة العربية حزيران 2007م العدد 364 الصفحة20

الجمالُ مَهوى الأفئدة، وَمحطُّ الأنظار، ومُتَعَلَّقُ المُتَأَمِّلين من العاشقين والشعراء، وهو أَثَرٌ رائِعٌ وماتِعٌ من أثر الخالق جَلَّ جلاله.إنَّهُ خَميلةُ الكونِ السَّاحرة، ونجومُ السماء الزَّاهرة، وأنهارُ الفيافي الزاخرة، وأغصانُ الشَّجر المُثمرة وَطُهرُ القلوب العامرة بالنَّقاء، والنُّفوس المُضَمَّخة بالصَّفاء، والأخوَّة المُكتَنَفَةِ بالوفاء.
والجمال قد لا يَتَّفِقُ مع الحُسن في كل الأحوال فَتَجِدُهُ قد تَبَدَّى في وَجه محبوبة سمراء، ولَرُبَّما سَكنَ ضفائِرَ جعداً وأجساداً نحيلة .رآهُ سُكانُ السَّواحل في وشوشات الشواطىء وزُرقَة الموج واعتدالِ الطَّقس، ورآه سكانُ الجبال في شُموخِ القمم والّسِّباحة وسط الغيوم واختفاء الشمس خلف الأكواخ، ورآه البُداةُ في طُنُبِ الخيمة وفي سنام الجمل وفي عُمق المدى وفي نبات الشيح وفي حِدَّة السيوف ومتانة التُّروس، إنَّه كالزئبق لايستقِرُّ على حال، إذ يتحَرَّك في اللحظة التي تراه فيها ساكناً ويَسكُن في اللحظة التي تظنه فيها متحركاً.
الجمالُ له خصيصةٌ رائعةٌ فهو كالنور الذي إذا ما وقع على شجرةٍ خضراء بدت أكثر اخضراراً وإذا وقع على زهرة حمراء بدت أكثر احمراراً فهو في ابتسامة الطفل الصَّغير، وفي رنَّةِ تغريد العصافير غيرُ ذاك الذي في ترقرق الماء النَّمير. فتارةً يكون أصفر كما في وجه الشمس وأخرى يكون أبيض كما في وجنتي القمر وأحياناً أحمر كَلَونِ القُرُنْفُل.
رمى الجمال بِدماه في وجنتي الجنة، وسَكَبَ نوره في وجوه الحور العين، وفَجَّرَ ينابيعه في صدر الأم كوثراً، وفي حضنها حناناً، وفي راحتيها دفئاً.حطَّ رحاله في زهر الطفولة ففاحت براءةً وأملاً ورقَّةً. أودَعَ تَموُّجه في خصلات شعر المحبوبة، وخَضَّبَ ضفائرها بِحنَّائه، ولَوَّنَ حروف كلماتها بِجاذبية عجيبة فَراحت الحروف تجري على اللسان بانسياب كما يترقرق الماء النَّمير الزلال على اللجين.
هو النُّقطة التي تلتقي فيها الابتسامة مع انشراح الصَّدر ، والتَّسامح مع صفاء السَّريرة والصِّدق مع الشَّجاعة، والقُوَّة مع الرَّحمة، والعفو مع المقدرة.هو اللحظة التي يلتقي فيها فم النحلة المكافحة مع رحيق الزَّهر، ومنقارُ العصفورة المُثقل بالطعام مع أفواه الفراخ الصغيرة في عش تتجاذبه الريح يمنةً ويسرة.هو اللَّحظة التي يَنطِقُ فيها اللسان : يا الله ! لِشدِّة الدهشة التي تَكتَنِفُ الروح .ويقول المثل التركي:" ينبغي تمجيد الخالق عند رؤية الجمال."
والجمال نوعان وكلاهما معنوي فأما الأول فذاك الذي ترى آثاره العين ويشمه الأنف ويتذوقه اللسان ويلمسه البنان. وأما الثاني والأهم فإنَّه لايُرى ولا يُلمَس وإنَّما يتَبدَّى في حياءِ العذراوات وعِفَّة القوارير وشرف الرجال وشجاعة حملة المبادئ ورعاة المثل وإخلاص المخلصين وبراءة الأطفال ورحمة العجماوات على صغارها.
الجمال في أحلى حلله يَتجلَّى في الأمان الذي يرشُفه الإنسان كأساً تنسَكِبُ في شرايينه لتتروَّى غدرانُ نفسه فَتزهرَ الأقاحي وبراعم الثمر فيها، وتنشُرَ عِطرَ الإنسانية الفواح الذي يُشذِّي الآخرين، ويَهمي عليهم سحائب نديَّةً من فيوض الأمان ،ومن طلِّ الفرح، ومن نسيم الروعة، ومن شذا عبير الورد، إنَّ الروح التي ترتوي بالأمان قادرة على إعطائه وإنَّ الأرض التي تتشَرَّب الماء تُفَجِّرُ الينابيع وتُسيلُ الجداول ، إن النَّفس كالمرآة لا تعكِسُ إلا الصورةَ التي فيها؟، فإنها إذا احتوت على الحب والعدل والأمان فإنَّها تمنح الآخرين الحب والعدل والأمان .
لو لم يكن في هذا الكون جمالٌ لعميت كثيرٌ من العيون ولانقرض آلاف الكتاب والشعراء ولما سمعتَ تغريد العصافير ولا شدو البلابل. ولولا الزهر الذي يُهدي الرحيق أنَّى للنّّحل أن يُنتجَ العسل ؟
الجمالُ كثيراً ما يُولِّده الألم والحرمان والإصرار فَنرى كثيراً من الشبان العصاميين قد نالوا أعلى الشَّهادات، وقَدَّموا أروع المخترعات ،واكتشفوا علاجَ المُستعصيَ من الأمراض، وأجرى الله على ألسنتهم أجمل الكَلم وأدقَّ التعابير.فأخبارُ هؤلاء أليست جمالاً؟ وتجدنا عندما نسمعها تُنعشنا وتَبعثُ الأمل في حنايانا وتُنَمي قيماً نبيلة في ذواتنا.
فَإنَّك لو تَأمَّلت مَنظَرَ البُلبُل الذي يشدو في سماء الخميلة الغَنَّاء تعبيراً عن سعادته بالزهور ذات الرُّواء الجميل التي تَنشُرُ العَرف الجَذَّاب المُنعِش في حنايا الأيك الرَّيان لَعَرفتَ أنَّ هذا البُلبل يَأنَسُ للجمال ويستَريحُ للمناظر الجميلة وَلو سَألت الأفنان والأقحوان والفراش والغِزلانَ عن معنى شدو البلابل وتغريد العصافير وَقُدِّرَ لها أن تُجيب لَكَشَفَت عن أسرارٍ خفيةٍ من معاني الجمال، لأَنَّ الكائن الحيَّ الذي يَسجُدُ لله وَيُسَبِّح الله لا شَكَّ وأنَّه يَتفاعَلُ مع آثارِ بَديعِ صُنعِ الله. وإنَّ الزهور التي تُفَتِّحُ وتفوح في الليل أليست تضوع لتحقيق معادلة التوازن في الكون ؟
الجمالُ الذي يدلُّ على الخير فَضيلةٌ عظيمة، شَأنه في ذلك شأنُ الرحمة والعدالة والصدق. لأنَّه سببٌ لِتعظيم الخالق وأداةٌ دالَّةٌ على عظمته وقدرته وبالتالي عبادته التي هي أسمى الفضائل، وأنضر الخمائل، وأندى الشَّمائل، لأنها تَهدي إلى سواء السبيل الذي يوصلنا إلى الجنَّة، تلكم الجائزة الثمينة التي تُداعِبُ أخيلة المؤمنين، وتُغازِل أحلام الصديقين والصالحين. الجنَّة التي قال عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم: فيها ما لا عين رأت،ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.فَأنعم بالجمال من فضيلة! وأكرم به من وسيلة! ويا حبذا مراميه الطيبة! ومغازيه المُعطَّرة النبيلة.!
ورحم الله المتنبي الذي قال:
وما الحسن في وجه الفتى شرف له = إذا لم يكن في فعله والخلائقِ
وقال عمرو بن معديكرب:
ليس الجمال بمئزر = فاعلم وإن ردّيت بردا
إنّ الجمال معادن = ومناقب أورثْ مجدا
فما أسمى الجمال الذي يتبدّى في معاملة الناس صدقاً ووفاء، ويتجلى في سلوكهم نُبلاً وروعةً.





بقلم: بــدر محمد عيد الحسـين
27 أيار 2005م
7
607

يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.

تسجيل دخول

السلطانة الأولى
دوماً تأتين .. بكل رائع
هذيان وحروف .. ببوحِ أخر ..
موضوع راقي ..
بكل طيات الجمال
التي تزركش موضوعكِ سيدتي ..
"
"
بنتظار الجديد والمزيد منكِ
"
"
تحياتي
وعذب الأماني
نسجتُ أكفاني
نسجتُ أكفاني
دوماً تأتين .. بكل رائع هذيان وحروف .. ببوحِ أخر .. موضوع راقي .. بكل طيات الجمال التي تزركش موضوعكِ سيدتي .. " " بنتظار الجديد والمزيد منكِ " " تحياتي وعذب الأماني
دوماً تأتين .. بكل رائع هذيان وحروف .. ببوحِ أخر .. موضوع راقي .. بكل طيات الجمال التي تزركش...
أختي اسراط الغربة
وسلمت يداك كذلك ، وأزال الله غربتك .

أختي السلطانة الأولى
يسعدني كثيراً أن ما أنتقيه ينال إعجابك ، وابشري بالمزيد .
cute_flower
cute_flower
يسلموووو
رائع
نسجتُ أكفاني
نسجتُ أكفاني
الله يسلمجججج
الخاضعة للرحمان
موضوع رائع وننتظر المزيد