الجهاد في سبيل الله الحلقة (52)

ملتقى الإيمان

( 52 )
==== استمرار الدعوة وعناد المدعوين وتسلية الله لنبيه ====
ومضي رسول الله صلى الله عليه وسلم في دعوته إلى الله، ومضي المشركون في رد دعوته والاستهزاء به والسخرية منه، فأخذ ربه يسليه بأنه في موكب إخوانه الأنبياء والرسل الذين استهزئ بهم قبله، ثم دارت الدائرة على المستهزئين، فليصبر فإن الدرب واحد والعاقبة له: ( ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزؤن ) ( ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزؤن ) ( وإن يكذبوك فقد كذبت رسل من قبلك وإلى الله ترجه الأمور ) ، ( يا حسرة على العباد ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزؤن ) .
واشتد حزن الرسول صلى الله عليه وسلم من تكذيب المشركين، وهو يعلم أنه صادق، وكانوا هم أنفسهم يسمُّونه الأمين، وقالوا له قبل أن يبادئهم بالدعوة ويجاهرهم بضلال معتقدهم: ( ما جربنا عليك كذباً ) فيسلِّيه ربه بأن القوم يجحدون الحق وينكرون آيات الله الواضحة وليس ذلك تكذيباً لك، وإذا كذَّبوك فلست أول من كذَّبه قومه من الرسل، بل سبقك إخوانك في نفس الطريق فكذَّبهم قومهم وصبروا حتى نصرهم الله، وعليك أن تقتدي بهم فتصبر كما صبروا، وإذا لم تصبر فماذا تستطيع أن تفعل لتأتيهم بما يطلبون من الآيات وما الآيات بجالبة لهم الهدى وإنما الله هو الهادي.
ويخبره أن القوم ليسوا بأحياء حتى يستجيبوا لدعوتك وإنما هم موتى – أموات القلوب – والموتى مرجعهم إلى الله فيجازيهم.
( قد نعلم إنه ليُحزنك الذي يقولون، فإنهم لا يكذِّبوك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون، ولقد كذبت رسلٌ مِنْ قبلك فصبروا على ما كُذِّبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا، ولا مبدل لكلمات الله، ولقد جاءك من نبأ المرسلين. وإن كان كَبُر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغي نفقاً في الأرض أو سلماً في السماء فتأتيهم بآية، ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكوننَّ من الجاهلين، إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى يبعثهم الله ثم إليه يرجعون ) .
ويُطمِع المشركون الرسولَ صلى الله عليه وسلم في إيمانهم بشرط أن يأتيهم بآية كونية، كما جاء الأنبياء قبله بآيات كونية، ويظهر أن الرسول صلى الله عليه وسلم لشدة حرصه على إيمانهم كان يتمنَّى لو أنزل الله آياتٍ كما طلبوا، فيخبره ربه أن الآيات لا تنفع هؤلاء، وأن الهدى بيد الله، ويقطع طمعه في إيمانهم إلا إذا شاء الله، وأنه ما من نبي إلا ووقف له أعداء من الإنس والجن يُملي بعضهم عل بعض زخرف القول غروراً ويأمرهم بتركهم وما يفترون
( وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنُنَّ بها، قل إنما الآيات عند الله وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون، ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة، ونذرهم في طغيانهم يعمهون، ولو أننا نزَّلنا إليهم الملائكة وكلّمهم الموتى وحَشرنا عليهم من كل شيء قُبُلاً ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله ولكن أكثرهم يجهلون، وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعضهم زخرف القول غروراً، ولو شاء ربك ما فعلوه فذَرْهم وما يفترون ) .
ويستمر في الدعوة إلى الله مقيماً على ذلك الحجج الدامغة، لكنهم يصرُّون على كفرهم وعنادهم لا ينتفعون بسمعهم ولا أبصارهم ولا عقولهم، ويأمره الله بأخذ العفو وأن يأمر بالمعروف ويعرض عن الجاهلين:
( إن الذين تدعون من دون الله عبادٌ أمثالكم، فادعوهم فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين، ألَهُم أرجلٌ يمشون بها، أم لهم أيْدٍ يبطشون بها، أم لهم أعين يبصرون بها، أم لهم آذانٌ يسمعون بها، قل ادعوا شركاءكم ثم كيدونِ فلا تُنْظرون، إن وليِّي الله الذي نزَّل الكتاب وهو يتولى الصالحين، والذين تدعون من دونه لا يستطيعون نصركم ولا أنفسهم ينصرون، خُذِ العفو وأمُرْ بالعُرْف وأعرض عن الجاهلين ) .
ويتعنَّت عليه المشركون طالبين منه أن يأتيهم بغير هذا القرآن أو أن يغيِّره، فيجيبهم بلطف أن هذا القرآن من عند الله، وأنه لا يقدر على تغييره، وأنه إنما يتبع وحي الله ويخاف على نفسه إن عصاه، وأنه لولا أن شاء الله أن يتلوه عليهم ما تلاه، ثم يذكرهم بأنه مضى عليه بينهم وقت طويل من عمره ولم يأتيهم بشيء من عند نفسه حتى أمره الله بأن يبلِّغ وحيه: ( وإذا تُتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدِّله، قل ما يكون لي أن أبدِّلَه من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يُوحى إلي، إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم، قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به، فقد لبثت فيكمم عُمُراً من قبله أفلا تعقلون ) .
ويتهمونه بأنه افترى هذا القرآن فيلزمهم الحجة، إنه بلغتكم وأنتم أفصح العرب، وإذا كنت افتريته فإنكم تقدرون أن تفتروا كما افتريت فائتوا بسورة مثله، ثم بين أنه كذبوا بما لم يحيطوا به علماً شأن الجهال الذين يعارضون العلم الحق ( أم يقولون افتراه، قل فأتوا بسورة مثله، وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين، بل كذَّبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتيهم تأويله، كذلك كذَّب الذين من قبلهم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين ) .
ويقص الله عليه نبأ نوح وقومه، ثم يعقِّب على ذلك مسلياً له صلى الله عليه وسلم بقوله: ( تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك، ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا فاصبر إن العاقبة للمتقين ) .
وهكذا يكرر الله تسلية رسوله صلى الله عليه وسلم بإخوانه المرسلين قبله الذين نالهم الأذى كما ناله، ولكن العاقبة لهم والدمار على أعدائهم: ( ولقد استهزئ برسل من قبلك، فأمليت للذين كفروا ثم أخذتهم فكيف كان عقاب ) .
وينفي الكافرون أن يكون محمد صلى الله عليه وسلم مرسلاً نفياً قاطعاً، ويأمره الله أن يخبرهم بأن الله هو الشهيد بينه وبينهم وشهادته كافية، وكذلك شهادة أهل الكتاب من الذين صدقوه، أو كذبوه مع علمهم بأنه رسول من عند الله، وقد كانوا يقرون بذلك فيما بينهم: ( ويقول الذين كفروا لست مرسلاً، قل كفى بالله شهيداً بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب ) .
ويتهمونه صلى الله عليه وسلم بالجنون، ويتهكمون به فيطلبون منه أن يأتي معه بالملائكة تشهد له على صدق دعوته، ويجيبهم الله أن الملائكة لا تنزل إلا بالحق لا للاستجابة للأهواء، وأنه تعالى قد تكفَّل بحفظ هذا الكتاب، ويسلِّي رسوله بأنه ما جاء رسول إلى قومه إلا استهزءوا به: ( وقالوا يا أيها الذي نُزِّل عليه الذكر إنك لمجنون لو ما يأتينا بالملائكة إن كنت من الصادقين ما ننزل الملائكة إلا بالحق وما كانوا إذا منظرين إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون، ولقد أرسلنا من قبلك في شِيَع الأولين، وما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزؤن ) .
ويأمره بأن يبلِّغ المشركين ما أمره به جَهْراً وأنه كافيه إياهم، ويأمره بأن يتزوَّد في طريق دعوته الشاق الذي يضيق فيه صدره من مواقف قومه بعبادة ربه: ( فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين، إنا كفيناك المستهزئين، الذين يجعلون مع الله إلهاً آخر فسوف يعلمون، ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون، فسبِّح بحمد ربك وكن من الساجدين، واعبد ربك حتى يأتيك اليقين ) .
ويدعوا الرسول صلى الله عليه وسلم ربه شاكياً قومه الذين هجروا هذا القرآن الذي لم ينزل للهجر وإنما نزل للعمل به والطاعة لله، فيسلِّيه ربه أنه قد قوبل مَنْ قبلك من الأنبياء بما قوبلت به، فدع الأمر لله: ( وقال الرسول يا رب إنَّ قومي اتخذوا هذا القرآن مهجوراً، وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً من المجرمين وكفى بربك هادياً ونصيراً ) .
وعليه صلى الله عليه وسلم أن يبلِّغ المشركين بأن مهمته فقط أن يعبد الله وأن يتلوا عليهم كتابه، فمن اهتدى بهذا الكتاب فهدايته لنفسه، ومن ضلَّ فما على الرسول إلا إنذاره، وإذ قد أقام الحجة فهو يحمد ربه الذين سيكشف للناس صدق ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وسيجازيهم على موقفهم منه:
( إنما أمرت أن أعبد ريّ هذه البلدة الذي حرَّمها وله كل شيء، وأمرت أن أكون من المسلمين، وأن أتلو القرآن، فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضلَّ فقل إنما أنا من المنذرين، وقل الحمد لله سيريكم آياته فتعرفونها وما ربك بغافل عمّا تعملون ) .
وتتطلع نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرى عمه أبا طالب الذي ربَّاه في صغره وأحاطه بحنانه، وحماه من قريش بعد البعثة ووقف بجانبه فلم يقدروا أن ينالوه بكيدهم الذي كانوا يودُّون تنفيذه، تتطلع نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن يرى عمه أبا طالب مؤمناً برسالته لينال رضا الله وجنته، ولكن الله قد كتب عليه أن يموت على ملِّة قومه فيقول لنبيه:
( إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء، وهو أعلم بالمهتدين ) .
0
366

هذا الموضوع مغلق.

خليك أول من تشارك برأيها   💁🏻‍♀️