( 54 ) تابع المرحلة المكية
ويظهر لمن تتبع نصوص الكتاب – التي مضى طرف منها – والسنة، وسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم أنّ المرحلة المكيّة كانت مرحلة دعوة إلى التوحيد الخالص، ونبذ عبادة الأصنام ونَفْي الشرك أياً كان نوعه، ومرحلة صبر على الأذى والمحنة، وعدم رد الاعتداء الذي كان يقع من المشركين على المسلمين، وفي طليعتهم الرسول صلى الله عليه وسلم.
وفي صحيح البخاري عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (بينا النبي صلى الله عليه وسلم ساجد وحوله ناس من قريش جاء عقبة بن أبي معيط بسَلَى جزور فقذفه على ظهر النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يرفع رأسه، فجاءت فاطمة عليها السلام فأخذته من ظهره ودعت على من صنع، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم عليك الملأ من قريش: أبا جهل بن هشام، وعتبة بن ربيعة، وشَيْبة بن ربيعة، وأمية بن خلف … فرأيتهم قَتلوا يوم بدر، فأُلقوا في بئر غير أمية بن خَلَف … تقطعت أوصاله فلم يُلْقَ في البئر …) . وهو في صحيح مسلم أيضا.
وفي صحيح البخاري أيضاً يقول خباب: (أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بُرْدة في ظل الكعبة، وقد لقينا من المشركين شدة، فقلت: يا رسول الله ألا تدعوا الله لنا، فقعد وهو محمر وجهه فقال: لقد كان من قبلكم ليُمشط بمشاط الحديد، ما دون عظامه من لحم أو عصب، ما يصرفه ذلك عن دينه، ولَيُتِمَّنَّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ما يخاف إلا الله والذئاب على غنمه) .
وكان صلى الله عليه وسلم –لشدة ما يلقى أصحابه من أذى المشركين- يأمر من أسلم أن يكتم إسلامه خشية عليه، وكتم المسلم السر الذي قد يفتح عليه باب الأذى مطلوب، وكتم السر الذي قد يفتح لأعداء الإسلام الباب للإضرار بالدعوة فرض.
عن ابن عباس قال: (ألا أخبركم بإسلام أبي ذر؟ قال: قلنا: بلى، قال: قال أبو ذر: كنت رجلاً من غفار، فبلغنا أن رجلاً قد خرج بمكة يزعم أنه نبي فقلت لأخي: انطلق إلى هذا الرجل، كلِّمه وائتني بخبره، فانطلق فلقيه ثم رجع فقال ما عندك؟ فقال: والله لقد رأيت رجلاً يأمر بالخير وينهى عن الشرك، فقلت له: لم تشفني من الخبر، فأخذت جراباً وعصا، ثم أقبلت إلى مكة فجعلت لا أعرفه وأكره أن أسأل عنه، وأشرب من ماء زمزم وأكون في المسجد، قال فمرّ بي علي، فقال: كأن الرجل غريب؟ قال: قلت نعم، قال: فانطلق إلى المنزل، قال: فانطلقت معه لا يسألني عن شيء ولا أخبره، فلما أصبحت غدوت إلى المسجد لأسأل عنه وليس أحد يخبرني عنه بشيء، قال: فمرّ بي علي فقال: ما أنى للرجل يعرف منزله؟ قال: قلت: لا، قال: انطلق معي، قال: فقال ما أمرك؟ وما أقدمك هذه البلدة، قال: قلت له إن كتمت عليَّ أخبرتك، قال: فإني أفعل، قال: قلت له: بلغنا أنه قد خرج ههنا رجل يزعم أنه نبي فأرسلت أخي ليكلمه فرجع ولم يشفني من الخبر، فأردت أن ألقاه فقال له: أما إنك قد رَشَدت، هذا وجهي إليه فاتبعني، ادخُلُ حيث أدخُلُ فإن رأيت أحداً أخافه عليك قمت إلى الحائط كأني أصلح نعلي، وامض أنت، فمضى ومضيت معه حتى دخل ودخلت معه على النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت له: اعرض علي الإسلام فعرضه فأسلمت مكاني، فقال لي: يا أبا ذر اكتم هذا الأمر وارجع إلى بلدك، فإذا بلغك ظهورنا قأقبل، فقلت: والذي بعثك بالحق لأصرخنّ بها بين أظهرهم، فجاء إلى المسجد وقريش فيه، فقال: يا معشر قريش، إني أشهد ألا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، فقالوا: قوموا إلى هذا الصابئ، فقاموا فضربت لأموت، فأدركني العباس فأكبَّ عليَّ، ثم أقبل عليهم فقال: ويلكم تقتلون رجلاً من غفار ومتجركم وممرّكم على غفار، فأقلعوا عني، فلما أصبحت الغد رجعت فقلت مثل ما قلت بالأمس، فقالوا: قوموا إلى هذا الصابئ، فصُنع بي مثل ما صنع بي بالأمس، وأدركني العباس فأكبّ علي وقال مثل مقالته بالأمس، قال: فكان هذا أول إسلام أبي ذر رحمه الله) .
وهذا الحديث يصوِّر لنا خوف المسلمين من أذى قريش من وجوه:
الوجه الأول: مكوث أبي ذر مدة مستخفياً يخاف أن يبوح بما عنده.
الوجه الثاني: تصريحه بذلك عندما قال لعلي إن كتمت علي أخبرتك.
الوجه الثالث: كون على رضي الله عنه يرشد أبا ذر كيف يصنع إذا رآهما أحد، وكيف يعمل عليٌّ نفسه حتى يعمي على من يراهما.
الوجه الرابع: أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أبا ذر بعد أن أسلم أن يكتم هذا الأمر وما ذلك إلا خشية عليه.
الوجه الخامس: ما وقع فعلاً من أذى على أبي ذر في اليومين عندما أعلن إسلامه.
ويؤخذ من دعوة النبي – في أول الأمر – سراً، وفي نصيحته لأبي ذر أن يكتم إيمانه، ومن سيرته في الحروب، أنه يجب على الداعية المسلم والمجاهد في سبيل الله أن يحيط الأمور المهمة التي لو اطَّلع عليها أعداء الإسلام لألحقوا ضرراً بالإسلام والمسلمين؛ أن يحيطها بالكتمان، حتى لا يتيح الفرصة للكفرة والمجرمين الذين لا يألون جهداً في الصدّ عن سبيل الله ومحاولة إطفاء نوره.
والذي يظهر من صنيع أبي ذر في إعلان إسلامه بعد أن أمره الرسول صلى الله عليه وسلم بالكتمان أن إسلامه لم يكن في وقت السر بالدعوة لأمور:
الأول: أن أمر الدعوة قد انتشر بدليل أن أبا ذر بعث أخاه ليسأل عن النبي صلى الله عليه وسلم ويأتيه بخبره على أثر ما بلغهم عنه.
الأمر الثاني: أنه لو كان أمر الرسول صلى الله عليه وسلم لمصلحة الدعوة لما أصرّ أبو ذر على إظهار إسلامه، وقد أمره الرسول صلى الله عليه وسلم بكتمانه، لذلك يظهر أن أمره بكتمان إسلامه كان لمصلحة أبي ذر نفسه وللخوف عليه من أذى قريش، ففضّل أن يعلن إسلامه مضحياً بنفسه، والذي عنده مقدرة على تحمّل الأذى له أن يصدع بكلمة الحق.
قال الحافظ ابن حجر: (قوله: لأصرخنّ بها، أي بكلمة التوحيد.
والمراد أنه يرفع صوته جهاراً بين المشركين، وكأنه فهم أن أمر النبي صلى الله عليه وسلم له بالكتمان ليس على الإيجاب، بل على سبيل الشفقة عليه، فأعلمه أن به قوة على ذلك، ولهذا أقرّه النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، ويؤخذ منه جواز قول الحق عند من يخشى منه الأذية لمن قاله، وإن كان السكوت جائزاً، والتحقيق أن ذلك مختلف باختلاف الأحوال والمقاصد) .
الأمر الثالث: نبّه عليه ابن حجر أيضاً:- (وفي الحديث دلالة على تقدم إسلام أبي ذر، لكن الظاهر أن ذلك كان بعد المبعث بمدة طويلة لما فيه من الحكاية عن علي كما قدمناه) والذي قُدّمه هو: (وهذا يدل أن قصة أبي ذر وقعت بعد المبعث بأكثر من سنتين بحيث يتهيأ لعلي أن يستقل بمخاطبة الغريب ويضيفه، فإن الأصح في سن علي حين المبعث كان عشر سنين، وقيل أقل من ذلك وهذا الخبر يقوي القول الصحيح) ا هـ .
يفهم من تنبيه ابن حجر أن إسلام أبي ذر لم يكن في فترة الدعوة سرا، لأنه لو كان جهره بذلك في وقت السرية لكان كشف لقريش خطَّة لا يجوز كشفها، والمعروف أن الفترة السرية لم يكن انتشر فيها خبر الدعوة، وإنما انتشر بعد أن أمره الله بالصّدع بها كما مضى، وذلك بعد أن انتهت ثلاث سنين من البعثة العالمية الخاتمة.
هذا الموضوع مغلق.
خليك أول من تشارك برأيها 💁🏻♀️