الجهاد في سبيل الله حقيقته وغايته ( 58 )
تكوين نواة الأمة الإسلامية وأسسه
الأساس الأول: بناء المسجد:
وبدأ الرسول صلى الله عليه وسلم في تأسيس دولة الإسلام فبدأ ببناء مسجده الشريف في عاصمة الإسلام الأولى، شارك في بنائه بنفسه مع أصحابه، وفي مشاركة القائد أصحابه حافز لهم على العمل الجاد، كيف والذي يعمل هو رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يتلقّى الوحي من ربه كل يوم، والسفير بينه وبين ربه جبريل عليه السلام؟ لذلك كان الصحابة رضي الله عنهم يردّدون في سرور واعتزاز ونشاط:
لئن قعدنا والنبي يعملُ ===== لذاك منّا العمل المضلِّلُ
وكان المسجد – في مظهره – في غاية التواضع، فأعمدته من جذوع النخل، وسقفه من سَعَفه وجريده، وفرشه من الرمل والحصباء.
ولكنه كان مثابة لجبريل ينزل على الرسول صلى الله عليه وسلم فيه بالوحي، وكان محلاً لرفع كلمة التوحيد التي كان ينادي بها بلال خمس مرات في اليوم والليلة.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤم فيه أصحابه في الصلاة، ويقرئهم القرآن، ويعلمهم أحكام دينهم التي بدأت تتنزل من السماء ليطهرهم الله ويزكيهم، فيعود كل واحد منهم إلى منزله كل يوم بعلم جديد يتلقاه مباشرة من في رسول الله صلى الله عليه وسلم أو من عمله فيعلمه أهله وجيرانه، والرسول صلى الله عليه وسلم يتلقاه من جبريل، وجبريل يتلقاه من ربه.
وكان المسجد مكاناً لاجتماع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لمُدارسة القرآن الكريم والسنة النبوية وتطبيقهما.
كما كان مقراً للفتوى والسؤال عمّا يُشْكِل على الصحابة رضي الله عنهم، وكان منطلقاً لبعث الدعاة إلى الله، وساحة للتدريب على الفروسية، ومؤتمراً لمدارسة أمور الحرب والحراسة وبث السرايا وعقد الألوية للغزاة المجاهدين في سبيل الله.
وكان مأوى لمن لا منزل له من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ينامون فيه ويتناولون طعامهم، كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبض فيه الأموال من المتصدقين بها على المحتاجين، وأموال الغنيمة والفيء، ويقسمها على الناس فيه.
هكذا كان مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم مجمعاً لكل أجهزة الدولة الإسلامية الجديدة، وكل ما يفعل فيه كان يعتبر عبادة يقصد بها وجه الله. الصلاة، والتعليم، والنوم، كما قال معاذ بن جبل رضي الله عنه: (أما أنا فأنام وأقوم، وأرجو في نومتي ما أرجو في قَوْمَتي)
هذا مع صغره وتواضعه في مواد البناء، حيث كان إذا نزل المطر تقاطر على رسول الله صلى الله عليه وسلم يسجد فيه على الماء والطين. ولكنهم كانوا يتزكون فيه بالقرآن والسنة فتمتلئ قلوبهم إيماناً، ويحملون دعوة الله إلى خلقه بالتبليغ والموعظة أو بالسيف والحربة.
فأين مساجد المسلمين اليوم من ذلك المسجد؟ إن مساجد المسلمين التي أصبحوا يتباهون بتشييدها بأغلى مواد البناء، وبنقوشها وزخرفتها وفرشها وقناديل ضيائها ومراوحها ومكيفات هوائها؛ وشبابهم بل وبعض كهولهم لا يدخلها كثير منهم.
بل إنك لتجد في بعض بلدان المسلمين صفوفاً من البشر مصطفين في مساحة قد تصل ميلاً أو أكثر ينتظرون دخول دور السينما أو المسرح والمرقص، في الوقت الذي يقول فيه المؤذن حيَّ على الصلاة حيَّ على الفلاح، وتجد كثيراً من الشباب في الملاعب الرياضية يتبارون كالحُمُر في أوقات الصلاة دون حياء أو خجل، وحولهم عشرات الآلاف بل مئاتها من المتفرجين تضرب لهم الطبول وهم يرقصون ويصفقون يتمايلون هاهنا وهاهنا كأنهم سكارى.
أين المسلمون اليوم في مساجدهم من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم في مسجده ذاك؟ إن المصلين في المساجد اليوم – في الأغلب الأعم – ذو أرواح خاوية، وقلوب قاسية، ومعاملات خائبة.
قال محمد الغزالي:
(وتم محمد صلى الله عليه وسلم في حدود البساطة: فراشه الرمال، وسقفه الجريد، وأعمدته الجذوع، وربما أمطرت السماء فأوحلت أرضه، وقد تفلت الكلاب إليه فتغدوا وتروح. هذا البناء المتواضع الساذج هو الذي ربّى ملائكة البشر ومؤدبي الجبابرة، وملوك الدار الآخرة، في هذا المسجد أذن الرحمن لنبي يؤم بالقرآن خيرة من آمن به، يتعهدهم بأدب السماء من غبش الفجر إلى غسق الليل. إن مكانة المسجد في المجتمع الإسلامي تجعله مصدر التوجيه الروحي والمادي، فهو ساحة للعبادة، ومدرسة للعلم، وندوة للأدب، وقد ارتبطت بفريضة الصلاة وصفوفها أخلاق وتقاليد هي لباب الإسلام، لكن الناس لمّا أعياهم بناء النفوس على الخلائق الجليلة استعاضوا عن ذلك ببناء المساجد السامقة تضم مصلِّين أقزاماً، أما الأسلاف الكبار فقد انصرفوا عن زخرفة المساجد وتشييدها إلى تزكية أنفسهم وتقويمها فكانوا أمثلة صحيحة للإسلام) .
وبهذا تعلم أن المسجد النبوي كان مجمع الدولة الإسلامية الأول.
( للكاتب رسالة بعنوان دور المسجد في التربية، وقد طبعت أكثر من مرة )
هذا الموضوع مغلق.
خليك أول من تشارك برأيها 💁🏻♀️