الحدود والسلطان الحلقة (5) الجزء الثاني

ملتقى الإيمان

الحدود والسلطان (5) الجزء الثاني

مواصلة للآثار المترتبة على عدم تنفيذ الحدود.

وقد بين علماء الإسلام الأضرار المترتبة على عدم إقامة الحدود:

فقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
"وكثير مما يوجد من فساد أمور الناس إنما هو لتعطيل الحد، بمال أو جاه، وهذا من أكبر الأسباب التي هي فساد أهل البوادي والقرى والأمصار.. وهو سبب سقوط حرمة المتولي وسقوط قدره في القلوب وانحلال أمره".

ثم قال:
"وولي الأمر إنما نصب ليأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وهذا هو مقصود الولاية، فإذا كان الوالي يُمَكِّن من المنكر... كان قد أتى بضد المقصود مثل من نصبته ليعينك على عدوك فأعان عدوك عليك، وبمنزلة من أخذ مالاً يجاهد به في سبيل الله فقاتل به المسلمين". .

وقال ابن القيم رحمه الله:
"وكذلك الحدود، جعلها الله تعالى زواجر للنفوس، وعقوبة ونكالاً وتطهيراً، فشرعها من أعظم مصالح العباد في المعاش والمعاد، بل لا تتم سياسة ملك من ملوك الأرض، إلا بزواجر وعقوبات لأرباب الجرائم، ومعلوم ما في التحيل لإسقاطها من منافاة هذا الغرض وإبطاله وتسليط النفوس الشريرة على تلك الجنايات، إذا علمت أن لها طريقاً إلى إبطال عقوباتها" .

والذي يتأمل أحوال العالم الإسلامي اليوم، يجد أن الفساد بشتى أنواعه قد انتشر في أغلب شعوبه انتشاراً ينذر بمزيد من دماره وضياعه، بسبب إبعاد شريعة الله، ومنها الحدود عن حياته.

انتشر فيها الإجرام بالاعتداء على الأنفس بالقتل علناً وغيلة، وعلى الدين بارتداد كثير من أبناء المسلمين، ليس بجحد بعض شعائر الإسلام أو الاستهزاء بالرسول صلى الله عليه وسلم، أو بالقرآن فحسب، بل بجحد الخالق أيضاً..!!

كما هو حال الشيوعيين الذين أقاموا دولاً تحكم المسلمين بقانون الإلحاد بالقوة، ولا يخلوا شعب من شعوب المسلمين، من أحزاب إلحادية وعلمانية وغيرها، وأصبح وجودهم أمراً مألوفاً يخالطهم من يزعم أنه مسلم ويوادهم ويناصرهم، ويعاملهم كما يعامل المسلم، الذي يؤمن بالله واليوم الآخر..

فانهد بنيان المجتمع الإسلامي، وتخلخل بسبب خروج أبناء المسلمين عن دينهم جهراً دون أن يجدوا أي رادع يزجرهم عن الاعتداء على أعظم ضرورة من ضرورات حياتهم، وهي الدين.

وهكذا اعتُدِيَ على العقول، بإباحة طغاة الحكم في الشعوب الإسلامية شرب المسكرات، وبيعها علناً في الأسواق، وحمايتها واستيرادها، وتقديمها في المناسبات والحفلات، وأصبحت بعض البلدان الإسلامية، لا فرق بينها وبين بلدان الكفر في ذلك.

واعتدي على النسل، بإباحة الزنا في القوانين التي يحكم بها في المحاكم بين المسلمين، إلا في حالات خاصة، بعقوبات غير ذات بال، بجانب هذه الجريمة..

"فلا يقصد بالزنا في القانون إلا الوطء الذي يحصل من شخص متزوج حال قيام الزوجية فعلاً أو حكماً"

ثم: "إن زنا الزوج لا يعتبر جريمة إذا حصل في خارج منزل الزوجية" : "مواصلتها لغير قرينها.. يعد جريمة ولو حصل خارج منزل الزوجية".

وإذا ثبتت جريمة الزنا على الزوج فإن العقوبة المقررة عليه، لا تزيد على الحبس لمدة ستة شهور، أو غرامة لا تتجاوز عشرة جنيهات.. ويحتمل أن تعفو عنه الزوجة فيوقف عنه تنفيذ الحكم، أما الزوجة فتعاقب بالحبس مدة أقصاها سنتان؟‍! وللزوج أن يعفو عنها.. فيوقف التنفيذ! .

هذا في الزنا الصريح، أما ما هو وسيلة إليه من الاختلاط والمخادنة وغيرها، فهو من الأمور الشخصية التي للإنسان فيها كامل الحرية.. ولهذا أصبح كثير من الناس لا يغارون على أهليهم، لكثرة الممارسات السيئة التي أصبحت مألوفة غير منكرة.

أما الاعتداء على الأموال بالقوة كالصيالة وقطع الطريق، أو الاختفاء كالسرقة أو أو غيرها، فإنه أكثر من أن يحصر، لأن غاية ما يعاقب به السارق أو الصائل السجن مدة الزمن محددة، ثم يفرج عنه ليعود إلى مهنته. .

والذي يطلع على بعض الإحصاءات العدوانية التي يسمح لها بالظهور، أو التي تصل إلى الجهات المسؤولة، يرى ما يهوله في أي شعب من الشعوب التي حرمت من التمتع بالأمن في ظل الشريعة الإسلامية.

ولقد أبدى وأعاد من نوَّر الله بصيرتهم بهدي الإسلام، فيما تعانيه الأمة الإسلامية من ويلات، بسبب إبعاد الشريعة الإسلامية عن الحكم واستبدال القوانين الوضعية بها، ومنهم هؤلاء خبير القانون الكبير عبد القادر عودة رحمه الله، فقد بين أن التجارب أثبتت فشل أي نظام في حماية المجتمع وأمنه غير الشريعة الإسلامية.

فقال رحمه الله ـ بعد أن ذكر بعض الإحصائيات المذهلة من الجرائم ـ:
"ولقد أبرزت التجارب الحديثة أحسن الأنظمة الجنائية، وتبين أن هذا النظام المنشود هو الشريعة الإسلامية، وكانت التجارب التي امتحنت فيها عقوبات الشريعة على نوعين: كلية، وجزئية.

أما التجربة الكلية: فقد بدئ بها في مملكة الحجاز من حوالي عشرين عاماً . حيث طبقت الشريعة الإسلامية تطبيقاً تاماً، ونجحت نجاحاً منقطع النظير في القضاء على الإجرام وحفظ الأمن والنظام، ولا يزال الناس يذكرون كيف كان الأمن مختلاً في الحجاز، بل كيف كان الحجاز مضرب الأمثال في كثرة الجرائم وشناعة الإجرام.

فقد كان المسافر فيه كالمقيم، لا يأمن على ماله ولا على نفسه في بدوٍ أو حضر، في نهار أو ليل، وكانت الدول ترسل مع رعاياها الحجاج قوات مسلحة لتأمين سلامتهم، ورد الاعتداء عنهم، وما كانت هذه القوات الخاصة ولا القوات الحجازية، بقادرة على إعادة الأمن وكبح جماح العصابات، ومنعها من سلب الحجاج أو الرعايا الحجازيين وخطفهم والتمثيل بهم.

وظل حماة الأمن في الحجاز عاجزين عن حماية الجمهور، حتى طبقت الشريعة الإسلامية، فانقلبت الحال بين يوم وليلة، وساد الأمن بلاد الحجاز، وانتشرت الطمأنينة بين المقيمين والمسافرين، وانتهى عهد الخطف والنهب وقطع الطريق.

وأصبحت الجرائم القديمة أخباراً تروى فلا يكاد يصدقها من لم يعاصرها أو يشهدها، وبعد أن كان الناس يسمعون أشنع أخبار الإجرام عن الحجاز أصبحوا يسمعون أعجب الأخبار عن استتباب الأمن والنظام، فهذا يفقد كيس نقوده في الطريق العام، فلا يكاد يذهب إلى دار الشرطة، ليبلغ حتى يجد كيسه كما فقد منه معروضاً للتعرف عليه، وهذا يترك عصاه في الطريق فتنقطع حركة المرور حتى تأتي الشرطة لرفع العصا من مكانها.

وهذا يفقد أمتعته وييأس من ردها ولا يبلغ عنها، ولكنه يجد الشرطة يبحثون عنه ليردوا إليه ما فقد منه، وبعد أن كان الأمن يعجز عن حفظه قوات عسكرية عظيمة من الداخل، وقوات عسكرية كبيرة من الخارج أصبح الأمن محفوظاً بحفنة من الشرطة المحليين". .

وأخيراً فإني أحيل القارئ إلى كتاب عظيم للأستاذ محمد قطب وفقه الله، بين فيه أنواع الفساد التي حلت بالأمة الإسلامية، بسبب بعدها عن تطبيق شريعة الله: الفساد في التصور، والفساد في السلوك، والفساد في السياسة، والفساد في الاقتصاد، والفساد في الاجتماع، والفساد في الأخلاق، والفساد في علاقات الجنسين، والفساد في الفن، والفساد في كل شيء. . ولترك إقامة الحدود قسط وافر في كثير من أنواع الفساد.
0
378

يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.

تسجيل دخول

خليك أول من تشارك برأيها   💁🏻‍♀️