الحدود والسلطان الحلقة (6)

ملتقى الإيمان

الحدود والسلطان (6)

الفصل الثاني في المراد بأولي الأمر

وفيه تمهيد وثلاثة مباحث:

المبحث الأول: القول بأن أولي الأمر هم الأمراء.

المبحث الثاني: القول بأن أولي الأمر هم العلماء.

المبحث الثالث: القول بأن أولي الأمر هم العلماء والأمراء

تمهيد:

يطلق "أولوا الأمر" إطلاقاً عاماً، ويراد به:
كل من ولي أمر شيءٍ ولايةً صحيحة، مثل الزوج صاحب أمر زوجته، والوالد صاحب أمر ولده، والسيد صاحب أمر عبده، والمستأجِر صاحب أمر أجيره، فيما استأجره للقيام به، وولي اليتيم صاحب أمره. وهكذا..

ومن أمثلة ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم:
( كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته، الإمام راعٍ ومسؤول عن رعيته، والرجل راعٍ في أهله ومسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها و مسؤولة عن رعيتها، والخادم راعٍ في مال سيده ومسؤول عن رعيته، وكلكم راعٍ ومسؤول عن رعيته) .

وكل راعٍ هو ولي أمر من يرعى.

وقد أشار إلى هذا العموم في معنى "أولي الأمر" أبو حيان الأندلسي في تفسيره، حيث قال:
"والظاهر أنه كل من ولي أمر شيء ولاية صحيحة". .

ويطلق "أولوا الأمر" إطلاقاً خاصاً، ويراد به:
الذي يلي أمور المسلمين العامة، التي يسمعون له فيها ويطيعون، وهذا هو المراد من هذا الفصل بمباحثه الثلاثة.

ومما لا شك فيه أن كل ولي أمر يجب أن يطاع في ولايته، في حدود طاعة الله تعالى، فالأمر بالطاعة يشمل الجميع بهذا الاعتبار.. والله أعلم..

المبحث الأول: القول بأن أولي الأمر هم الأمراء:

ذهب كثير من المفسرين، وغيرهم من فقهاء الإسلام، إلى أن المراد بأولي الأمر الذين أمر الله تعالى بطاعتهم هم الأمراء.

قال الإمام أبو جعفر محمد بن جرير الطبري ـ رحمه الله ـ في قوله تعالى: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ .. )) .

قال:
"واختلف أهل التأويل في "أولي الأمر" الذين أمر الله بطاعتهم في هذه الآية..

فقال بعضهم:
هم الأمراء.. وذكر من القائلين بهذا أبا هريرة، وابن عباس، وميمون بن مهران، وزيد بن ثابت والسدي، رحمهم الله.

وقال آخرون:
هم أهل العلم والفقه.. وذكر منهم ابن أبي نجيح، وابن عباس ومجاهداً ـ أيضاً ـ وعطاء بن السائب، والحسن، وأبا العالية.

وقال آخرون:
هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.. وذكر أنه قول لمجاهد رحمه الله.

وقال آخرون:
هم أبو بكر وعمر.. وذكر أنه قول عكرمة.

ثم ذكر ابن جرير الراجح عنده، فقال:
"وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، قول من قال: هم الأمراء والولاة، لصحة الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأمر بطاعة الأئمة والولاة، فيما كان طاعة، وللمسلمين فيه مصلحة". . وذكر بعضاً من تلك الأخبار.

وقال عماد الدين بن محمد الطبري :
يحتمل أن يراد به الفقهاء والعلماء، ويحتمل أن يراد به الأمراء وهو الأظهر، لما تقدم من ذكر العدل في قوله: (( وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْل... )) .

وقال قاضي القضاة أبو السعود بن محمد الحنفي، رحمه الله:
(( أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ .. )) : وهم أمراء الحق، وولاة العدل، كالخلفاء الراشدين، ومن يقتدي بهم من المهتدين..

وأما أمراء الجور فبمعزل عن استحقاق العطف على الله تعالى، والرسول عليه الصلاة والسلام في وجوب الطاعة لهم.

وقيل:
هم علماء الشرع، لقوله تعالى: (( ..وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ.. )) .

ويأباه قوله تعالى: (( ..فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُول.. )) .

وفي الكشاف للزمخشري المعتزلي (1/535) نحو ذلك.. والحنفيون متأثرون برأي المعتزلة في الخروج على أئمة الجور..

قلت:
إن أراد أبو السعود بقوله: "وأما أمراء الجور فبمعزل عن استحقاق العطف على الله تعالى، والرسول عليه الصلاة والسلام في وجوب الطاعة لهم"، أن أمراء الجور لا يطاعون في معصية الله، فمسلم، وإن أراد أنهم لا يستحقون الطاعة، وإن أمروا بما لا معصية فيه لله، فهو مخالف لما صح عن الرسول صلى الله عليه وسلم من أمره بطاعة أمراء الجور فيما ليس فيه معصية، ونهيه عن الخروج عليهم، ما لم يأتوا كفراً بواحاً.

فقد روى عبادة بن الصامت، رضي الله عنه، قال:
"دعانا النبي صلى الله عليه وسلم فبايعناه، فقال فيما أخذ علينا أن بايعنا ( على السمع والطاعة، في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفرا بواحا، عندكم من الله فيه برهان )".

والكفر البواح، هو الظاهر البادي الذي لا يخفى في شرع الله..

قال الحافظ ابن حجر:
"يريد ظاهراً بادياً من قولهم باح بالشيء يبوح به بوحاً و بواحاً إذا أذاعه وأظهره"..

وروت أم سلمة رضي الله عنها:
"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( ستكون أمراء، فتعرفون وتنكرون، فمن عرف برئ، ومن أنكر سلم، ولكن من رضي وتابع ) قالوا: أفلا نقاتلهم؟ قال: ( لا، ما صلوا ).

وفي حديث عوف بن مالك رضي الله عنه:
( وإذا رأيتم من ولاتكم شيئاً تكرهونه، فاكرهوا ولا تنزعوا يداً من طاعة ). .

وفي مسألة الخروج على الأئمة الجائرين، الذين لم يأتوا كفراً بواحاً، خلاف بين العلماء، والذي يظهر أن الأمر يتعلق بالمصالح والمفاسد.

فقد جوز بعض العلماء الخروج عليه، لدرء فساده..

كما في الفروع لابن مفلح في باب قتال أهل البغي..

قال:
"وَجَوَّزَ ابْنُ عَقِيلٍ وَابْنُ الْجَوْزِيِّ الْخُرُوجَ عَلَى إمَامٍ غَيْرِ عَادِلٍ، وَذَكَرَا خُرُوجَ الْحُسَيْنِ عَلَى يَزِيدَ لإِقَامَةِ الْحَقِّ وَكَذَا قَالَ الْجُوَيْنِيُّ: إذَا جَارَ وَظَهَرَ ظُلْمُهُ وَلَمْ يُزْجَرْ حِينَ زجر، فَلَهُمْ خَلْعُهُ وَلَوْ بِالْحَرْبِ وَالسِّلاحِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: خَلْعُهُ غَرِيبٌ. وَمَعَ هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَخَفْ مَفْسَدَةً أَعْظَمَ مِنْهُ".

ويبدو أن نهي الرسول صلى الله عليه وسلم عن الخروج على الحاكم المسلم، ليس نهياً تعبدياً، بل هو نهي معقول المعنى، وهو أن الخروج على الحكام تترتب عليه – غالباً - مفاسد أعظم من مفاسد بقائه في الحكم، وهي الفتن وسفك الدماء واختلال الأمن.

وقد نص على هذا المعنى المعقول جمهور العلماء، الذين حرموا الخروج على الحاكم الجائر.

فقد قال النووي رحمه الله:
"وأما الخروج عليهم وقتالهم، فحرام بإجماع المسلمين، وإن كانوا فسقة ظالمين، وقد تظاهرت الأحاديث بمعنى ما ذكرته، وأجمع أهل السنة أنه لا ينعزل السلطان بالفسق، وأما الوجه المذكور في كتب الفقه لبعض أصحابنا أنه ينعزل، وحكي عن المعتزلة أيضاً، فغلط من قائله مخالف للإجماع..

قال العلماء:
"وسبب عدم انعزاله وتحريم الخروج عليه، ما يترتب على ذلك من الفتن وإراقة الدماء وفساد ذات البين، فتكون المفسدة في عزله أكثر منها في بقائه"..

وفي كتاب الإنصاف في الفقه الحنبلي:
"وَنُصُوصِ الإِمَامِ أَحْمَدَ رحمه الله: إنَّ ذَلِكَ لا يَحِلُّ، وَأَنَّهُ بِدْعَةٌ مُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ. وَأَمَرَهُ بِالصَّبْرِ. وَأَنَّ السَّيْفَ إذَا وَقَعَ عَمَّتْ الْفِتْنَةُ، وَانْقَطَعَتْ السُّبُلُ. فَتُسْفَكُ الدِّمَاءُ، وَتُسْتَبَاحُ الأَمْوَالُ، وَتُنْتَهَكُ الْمَحَارِمُ".

وإذا كان هذا المعنى ملحوظاً في النهي، وجب تعليق الحكم به، إيجاباً وسلباً.

ويجب أن ينظر مع هذا المعنى، إلى نصوص وردت في أبواب أخرى، من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، و وقواعد الشريعة العادلة، ومقاصدها الثابتة، فلا تهدر بنصوص النهي عن الخروج على الحكام الجائرين، ما أمكن العمل بها جميعاً...

ومن تلك الأبواب: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
فإذا طغى الحاكم وعاث في الأرض فساداً، فاتخذ الأسباب المؤدية إلى إهدار ضرورات حياة الناس، وهي دينهم، ونفسهم، ونسلهم، وعقلهم ومالهم، مع ادعائه الإسلام، فإن بقاءه في الحكم، يصبح أعظم من مفسدة الخروج عليه..

والأصل في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، درء أعظم المفسدتين، وأعظمهما هنا، بقاؤه في الحكم، فيجب عزله عن الحكم بأخف الطرق وأقلها ضرراً.

ويبدأ بنصحه ودعوته إلى التوبة، من جوره وفساده، فإن أصر على ذلك، طلب منه أن يتنحى عن الحكم، فإن أبى وجب عزله عند المقدرة بأسهل الطرق، بشرط ألا يكون في عزله مفاسد أعظم من مفاسد بقائه.

وإن كان الخروج عليه، أعظم مفسدة من بقائه في الحكم، وجب درْء أعظم المفسدتين، وهي الخروج عليه، فيحرم الخروج عليه لهذا السبب، وبهذا يجمع بين النهي عن الخروج على الأمراء، وبين ما ورد في الأبواب الأخرى الموجبة لرفع الظلم وإنكار الفساد.

واستيفاء الكلام على هذه المسألة يحتاج إلى بحث مستقل.
0
370

يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.

تسجيل دخول

خليك أول من تشارك برأيها   💁🏻‍♀️