الحدود والسلطان (7) الجزء الثاني
المبحث الثالث: القول بأن أولي الأمر هم العلماء والأمراء
وقد رأى بعض العلماء أن معنى أولي الأمر يشمل الفريقين: الأمراء والعلماء، وأنه لا يوجد دليل على تخصيصه، بفريق دون آخر.
ومن هؤلاء الأئمة:
أبو بكر أحمد بن علي الجصاص، وأبو بكر محمد بن عبد الله، الشهير بابن العربي، وشيخ الإسلام بن تيمية، وأثير الدين أبو عبد الله محمد بن يوسف، أبو حيان، وشمس الدين بن قيم الجوزية.
فقال الجصاص، رحمه الله:
"اختلف في تأويل "أولي الأمر": فروي عن جابر بن عبد الله، وابن عباس رواية، والحسن وعطاء ومجاهد أنهم أولو الفقه والعلم، وعن ابن عباس رواية، وأبي هريرة أنهم أمراء السرايا، ويجوز أن يكونوا جميعاً مرادين بالآية، لأن الاسم يتناولهم جميعاً..
لأن الأمراء يلون أمر تدبير الجيوش والسرايا وقتال العدو، والعلماء يلون حفظ الشريعة وما يجوز مما لا يجوز، فأمر الناس بطاعتهم والقبول منهم، ما عدل الأمراء والحكام، وكان العلماء عدولاً مرضيين موثوقاً بدينهم وأمانتهم فيما يؤدون، وهو نظير قوله تعالى: (( وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ )) .
ومن الناس من يقول:
"إن الأظهر من أولي الأمر ها هنا أنهم الأمراء، لأنه قدم ذكر الأمر بالعدل، وهو خطاب لمن يملك تنفيذ الأحكام، وهم الأمراء والقضاة، ثم عطف عليه الأمر بطاعة أولي الأمر، وهم ولاة الأمر الذين يحكمون عليه، ما داموا عدولاً مرضيين..
وليس يمتنع أن يكون ذلك أمراً بطاعة الفريقين من أولي الأمر، وهم أمراء السرايا والأمراء، إذ ليس في تقدم الأمر بالحكم بالعدل ما يوجب الاقتصار بالأمر بطاعة أولي الأمر على الأمراء دون غيرهم". .
وقال الإمام أبو بكر محمد بن عبد الله بن العربي ـ بعد أن ذكر اختلاف العلماء في المعنى المراد بأولي الأمر ـ:
"والصحيح عندي أنهم الأمراء والعلماء جميعاً..
أما الأمراء؛ فلأن أصل الأمر منهم، والحكم إليهم..
وأما العلماء؛ فلأن سؤالهم واجب متعين على الخلق وجوابهم لازم، وامتثال فتواهم واجب، يدخل فيه الزوج للزوجة..
ولا سيما وقد قدمنا أن كل هؤلاء حاكم، وقد سماهم الله بذلك، فقال: (( يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ )) .
فأخبر تعالى أن النبي صلى الله عليه وسلم حاكم والرباني حاكم والحبر حاكم، والأمر كله يرجع إلى العلماء، لأن الأمر قد أفضي إلى الجهال وتعين عليهم سؤال العلماء". .
وعمم ابن تيمية رحمه الله معنى أولي الأمر على أهل الحل والعقد من العلماء والأمراء وغيرهم، فقال:
" وأولو الأمر" أصحاب الأمر وذووه، وهم الذين يأمرون الناس، وذلك يشترط فيه أهل اليد والقدرة، وأهل العلم والكلام..
فلهذا كان أولوا الأمر صنفين: العلماء، والأمراء، فإذا صلحوا صلح الناس، وإذا فسدوا فسد الناس، كما قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه للأحمسية لما سألته: ما بقاءنا في هذا الأمر؟ قال: ما استقامت لكم أئمتكم..
ويدخل فيهم الملوك والمشايخ وأهل الديوان، وكل من كان متبوعاً، فإنه من أولي الأمر، وعلى كل واحد ممن عليه طاعته أن يطيعه في طاعة الله، ولا يطيعه في معصية الله..
كما قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه حين تولى أمر المسلمين وخطبهم، فقال في خطبته:
"أيها الناس القوي فيكم الضعيف عندي، حتى آخذ منه الحق، والضعيف فيكم القوي عندي، حتى آخذ له الحق، أطيعوني ما أطعت الله، فإذا عصيته فلا طاعة لي عليكم" .
وقال تلميذه شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أبي بكر المعروف بابن قيم الجوزية رحمه الله:
"والتحقيق أن الأمراء يطاعون إذا أمروا بمقتضى العلم، فطاعتهم تبع لطاعة العلماء، فإن الطاعة إنما تكون في المعروف وما أوجبه العلم..
فكما أن طاعة العلماء تبع لطاعة الرسول، فطاعة الأمراء تبع لطاعة العلماء، ولما كان قيام الإسلام بطائفتي العلماء والأمراء، وكان الناس كلهم لهم تبعاً، كان صلاح العالم بصلاح هاتين الطائفتين، وفساده بفسادهما..
كما قال عبد الله بن المبارك وغيره من السلف:
"صنفان من الناس إذا صلحا صلح الناس، وإذا فسدا فسد الناس، قيل: من هم؟ قال: الملوك والعلماء..
كما قال عبد الله بن المبارك:
رأيت الذنوب تميت القلوب
،،،،،،،،،،،،،،،،،وقد يورث الذل إدمانها
وترك الذنوب حياة القلوب
،،،،،،،،،،،،،،،،،،وخير لنفسك عصيانها
وهل أفسد الدين إلا الملوك
،،،،،،،،،،،،،،،،،،وأحبار سوء ورهبانها
.
هذه أقوال العلماء في المراد بأولي الأمر..
فهل يعد هذا اختلافاً متبايناً..؟
بين القائلين: بأن أولي الأمر هم الأمراء..
وبين القائلين: بأنهم العلماء..
وبين القائلين: بأنهم العلماء والأمراء..
الذي يبدو أنه فيما يتعلق بأقوال السلف في عهد الصحابة والتابعين ـ في الجملة ـ ليس اختلاف تبيان وتضاد، وإنما هو من التفسير بالجزء، أي: بجزء المعنى المهم..
لأن الأمراء في ذلك الوقت كانوا علماء، والعلماء كانوا مع الأمراء، وهم أهل الحل والعقد، وقد يحصل بينهم شيء من الاختلاف في بعض الأمور الاجتهادية، إما أن يتفقوا بعد المناظرة والمجادلة، وإما أن يظهر للأمير وجه الصواب فيأخذ به، لأنه أحد المجتهدين الذين لهم حق البحث والنظر والأخذ بما ظهر لهم من الحق..
وكان العلماء لا يقفون ـ بعد اتخاذ الأمير القرار على هذه الصفة ـ ضد قرار الأمراء في تلك الأمور الاجتهادية..
كما قال ابن تيمية رحمه الله:
وإن كان ـ أي التشاور ـ أمراً قد تنازع فيه المسلمون، فينبغي أن يستخرج من كل منهم رأيه ووجه رأيه، فأي الآراء كان أشبه بكتاب الله وسنة رسوله، عمل به.
كما قال تعالى: (( ..فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً )) .
فالظاهر في هذه الحالة ـ أي عندما يتولى أمر المسلمين إمام عالم عادل توافرت فيه شروط الإمامة ـ أنه لا منافاة بين الأمر بطاعة الأمير والأمر بطاعة العالم، فهو أمير عالم عادل، يستشير العلماء ويذاكرهم في الأمور الاجتهادية ويختار ما هو الأحوط لرعيته.
وإنما يحصل الخلاف بين طاعة العلماء وطاعة الأمراء، في حالتين فيما يبدو:
الحالة الأولى:
أن يكون جاهلاً غير عالم فلا يجوز له أن يأمر بشئ، إلا بعد سؤال العلماء، لأن ذلك متعين عليه كما تقدم في كلام ابن العربي رحمه الله: "والأمر كله يرجع إلى العلماء، لأن الأمر قد أفضى إلى الجهال وتعين عليهم سؤال العلماء".
الحالة الثانية:
أن يكون الأمير خارجاً عن أحكام الله، مطبقاً لما يخالف كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فإنه في هذه الحال لا يجوز للمسلمين أن يطيعوه فيما هو معصية لله وتجب عليه طاعة العلماء.
ولهذا قال شيخ الإسلام بن تيمية، رحمه الله:
"وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه الراشدون يسوسون الناس في دينهم ودنياهم، ثم بعد ذلك تفرقت الأمور..
فصار أمراء الحرب يسوسون الناس في أمر الدنيا والدين الظاهر، وشيوخ العلم والدين يسوسون الناس فيما يرجع إليهم فيه من العلم والدين، وهؤلاء أولوا الأمر تجب طاعتهم فيما يأمرونه به من طاعة الله التي هم أولوا أمرها..
وهو كذلك فسر "أولوا الأمر" في قوله تعالى: (( أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُم )) .
كما قال تعالى: (( لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ )) .
وإذا كان ولاة الحرب عاجزين ومفرطين عن تقويم المنتسبين إلى الطريق، كان تقويمهم على رؤسائهم، وكان لهم من تعزيرهم وتأديبهم ما يتمكنون منه إذا لم يقم به غيرهم..
كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:
( من رأى منكم منكراً فليغره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان ) .
والخلاصة:
أن الأمير العالم المقيم لشرع الله يكون هو وعلماء الأمة أولي الأمر..
ولكنه واجب الطاعة في الأمور الاجتهادية بعد البحث والمشورة..
وعندما يكون جاهلاً يتعين عليه سؤال أهل العلم، وهم الأصل في الطاعة..
وتجب طاعة الأمير فيما هو مستند فيه إلى فتوى من علماء الإسلام..
وأما عندما يخرج عن دين الله، وينابذه العداء، فإن علماء المسلمين العدول هم أولوا أمرهم، تجب عليهم طاعتهم، ولا يجوز أن يطيعوا من خالفهم في أمر الله كائناً من كان..
ولكن قيامهم بذلك مشروط بقدرتهم التي يتمكنون بها من تنفيذ شرع الله، بدون فتنة أعظم من الفتنة الواقعة من الأمير المذكورة صفاته.
يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.
الصفحة الأخيرة
لقد تطرقت لأمر بطريقه رااائعه كلنا يعرفه ولكن هناك من يرفضه ....
تحياتي لك وجزاك الله خير على ماكتبت
وجعلها الله في ميزان حسناتك ...