سيدة الوسط

سيدة الوسط @syd_alost

عضوة شرف في عالم حواء

الحُمية عن الناس!

الملتقى العام

أن الخلوة بالنفس وبشكل إرادي متعمد بين فترة وأخرى، تعيد التوازن النفسي، وتحقق الطمأنينة والهدوء والاسترخاء، وتوفر الجو الملائم للتأمل والتفكير، وتخلص الإنسان من الصخب والضجيج..

وهي كالحمية عن الطعام..
والإنسان يحتمي عن الطعام في عدة حالات ولعدة أسباب:
* إذا كان الطعام يضره لمرضٍ فيه، والذي يعتزل الناس قد يفعل ذلك لمرض نفسي كالاكتئاب..
* إذا كان الطعام قد أصابه بالسمنة والترهل، فهو يمارس الحمية لكي تعود له الرشاقة والحيوية والنشاط..
وكذلك الاختلاط بالناس كثيراً ما يصيب الإنسان بالترهل و"سمنة التفاهة" وانتفاخ الخواء وضياع الأوقات وتدني الإنتاج والإنجاز وفقدان حيوية التفكير ونشاط العمل الجاد..
وهذا يلجأ إلى الحمية الاجتماعية كما يلجأ السمين المترهل للحمية الغذائية، لكي يجد نفسه كما يجد الثاني نشاطه، ويحقق في خلوته بنفسه توازنه وقدرته على تعديل مسيرته، وإنجاز بعض أعماله..
* وقد يحتمي الإنسان عن كثير من أنواع الطعام بسبب إصابته بالحساسية الجديدة، وكذلك يفعل كثيرون في ممارسة الحمية عن الناس: لأن الواحد منهم حساس يصيبه الاختلاط القوي مع الناس بالبثور النفسية والحكة الوجدانية والوهن المعنوي وكل مظاهر الحساسية!
وهناك من يبعد عن الناس لأنه يستثقل الناس وشعاره قول المتنبي:
كلامُ أكثر مَنء تَلقى ومنءظَرُهُ
ممَّا يشُقُّ على الأسماعِ والحَدَقِ!
* وقد يمارس الإنسان الحمية الاجتماعية دائماً لأنه بطبعه، ومن الأساس زاهد في الاجتماع بالناس، يفضل التقليل من ذلك قدر المستطاع، وفي التعامل مع الطعام ما يشبه هذا طبيعة وخلقة، فإن هناك من تكفيه لقمة تقيم صلبه، فهو بطبعه غير أكول..
* وهناك من يمارس الحمية عن الناس بعد أن أصابته منهم التخمة والأمراض، فهو ليس مريضاً بطبعه ولكن شدة اجتماعه بالناس، والظروف التي مرت به، والنماذج البشرية التي تعامل معها، قد صدمته عدة صدمات، وزهدته في الاجتماع في الناس، وجعلته يرى الحمية الاجتماعية أسعد وأسلم وأبعد عن المشكلات والصدمات..
* ومعظم البشر، إن لم يكن كلهم، يحتمون عن الاجتماع مع بعض الناس كما يحتمون عن الطعام الضار، وأحيانا السام..
فلا أحد في هذه الدنيا يحب أن يخالط الفاسدين إلا الفاسدون مثلهم، وهؤلاء بدورهم يحتمون عن لقاء الفاضلين، والطيور على أشباهها تقع.. ولهذا تتعدد هذه الحمية الانتقائية بشكل هائل، حسب طبع الإنسان وسلوكه وميوله وأين يجد نفسه.. فتراه يتجنب مجتمعات معينة لأنه لا يلائمها ولا تلائمه، وينخرط في مجتمعات أخرى بقوة لأنه منها و هي منه..
وللعادة في هذا دور..
وقد يفيد الإنسان التفكير في محاكمة عادته إذا كانت قد حمته عن مجتمعات أفضل من التي يخالط، أو جعلته ينغمس في اجتماعات لا جدوى منها، وإذا لم يحاكم تلك العادة ويفكر فيها بموضوعية فقد تسير به مدى الحياة في حدود الدرب الذي خطته له، دون أن يستفيد من دروب أخرى قد تكون أفضل وأرقى وأجدى..
* وهناك من يمارس الحمية عن الطعام حفاظاً على صحته بشكل عام، ويشبهه الذي يمارس الحمية الاجتماعية حفاظاً على وقته، وعلى صحته الفكرية والوجدانية أيضا، وكما أنه لابد للإنسان من الطعام، فإنه لابد له من الناس أيضا، ولكن بمقدار في الحالتين، ويختلف ذلك المقدار باختلاف الظروف والأهداف قد يقل إلى درجة الضرورة التي تقيم أود الإنسان، وقد يزيد الى الدرجة التي يراها صاحبها كافية..

والعصر الحديث عجيب وجميل أيضاً..
فكما أنه قد وَفَّر وسائل وبدائل تساعد على الحمية الغذائية بدون مشقة كبيرة، كالمحليات الاصطناعية، والأغذية قليلة الدسم، والغذاء الصحي بشكل عام.. فإن هذا العصر قد وفَّر أيضاً بدائل ووسائل تساعد على تحقيق الحمية الاجتماعية بدون مشقة كبيرة، فهو يملأ وقتك بالمتعة والتسلية ولقاء الناس من طرف واحد، عبر التلفزيون والإذاعة وأفلام الفيديو والانترنت والقراءة، وتعطيك القراءة وحدها بدائل عديدة بهيجة، بين معاصرة الناس من بعيد ومن طرف واحد هو أنت عبر الصحف والمجلات والكتب الصادرة حديثاً والتي تتناول موضوعات قائمة أو معاصرة، وبين الإيغال في حياة البشر ومجتمعاتهم عبر العصور وأفكارهم عبر الزمن في أمهات الكتب القديمة..
الثقافة متاحة..
وبعد أن كانت الثقافة - في العصور القديمة - حكراً على الخاصة.. صارت الثقافة للجميع في العصر الحديث، وبأزهد الأثمان، وأحياناً بالمجان، ولم تعد الحمية الاجتماعية مزعجة، ولم تعد العزلة موحشة، فأنت لست وحدك حتى وإن لم يوجد بقربك إنسان، الناس أمامك في التلفزيون ومن كل بلد وجنس ولون، تتابع الأخبار وتسافر وأنت قاعد وتضحك مع الأعمال الكوميدية والطرائف وقد تحزن مع الأعمال التراجيدية وتجد الفوائد والمعلومات وتتأمل في وجوه مختلف الناس مع حرية الاختيار وسرعة التغيير..
وعبر الشاشة الصغيرة التي تربطك بشبكة الانترنت تندمج مع العالم كله، وتستطيع الحديث مع مختلف البشر في كل أنحاء الأرض، والحصول على أي معلومة! إنه فعلاً عصر مدهش جداً وجميل!

اعتقادي الشخصي أن الحمية عن الناس ضرورية جداً بين الحين والحين..
وأن الخلوة بالنفس وبشكل إرادي متعمد بين فترة وأخرى، تعيد التوازن النفسي، وتحقق الطمأنينة والهدوء والاسترخاء، وتوفر الجو الملائم للتأمل والتفكير، وتخلص الإنسان من الصخب والضجيج..
ولكلّ وجهة هو موليها، وكل إنسان على نفسه بصيرة، فإن لكل إنسان تجارب وطبيعة، فإن هناك - كما أسلفنا - من يحتمي عن الناس باستمرار، وهناك من ينغمس في الاختلاط بهم منذ يصحو حتى ينام، ولا يجد نفسه إلا هكذا وفي هذا التصرف..
ولكننا نتحدث عن أغلبية البشر وبشكل عام.. فإن الحمية الاجتماعية لأكثر الناس، بين حين وآخر، نافعة جداً.. إنها تحقِّق التوازن والحفاظ على الوقت وتعميق الإنجاز، وقد قيل (الأصدقاء لصوص الوقت) وهو قول صحيح ولكن ليس في كل الأحوال، فالصداقة نعمة من الله عز وجل، ولكنها كنعمة الطعام والله عز وجل يقول {وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين} سورة الأعراف: الآية
31.فالإسراف مذموم والاعتدال هو جمال الحياة..
حتى الذي يحب العزلة بطبعه ويفضل دائماً الخلوة مع نفسه وهواياته يحسن به أن يكسر هذا الطبع بين حين وآخر ويخرج إلى الناس ويجتمع معهم سوف يجني فوائد ويجد لذة في التغيير، ويعود إلى عزلته وهو أكثر نشاطاً وحيوية..
والذي يحب الاجتماع الدؤوب بالناس ولا يجد نفسه إلا بينهم ويصاب بالملل والاكتئاب إذا كان وحيداً يحسن به أيضاً أن يكسر هذه القاعدة، ويجرب الوحدة والخلوة بالنفس، والحمية عن الناس بين حين وحين، وتربية بعض الهوايات، والإحساس بشرف الوقت، وسوف يجد في تلك العزلة متعة تضاف إلى متعة الاجتماع، وسوف يفتح لنفسه أبواباً أخرى على أمور يجهلها وأشياء لا تخطر له على بال، خاصة إذا مارس القراءة الجادة في عزلته، وهي عادة تكاد تكون معدومة عند من أدمنوا لقاء الناس..

إن الحياة كالمائدة المتعددة الأطباق..
وتذوق مختلف الأطباق المفيدة فيه متعة وصحة وعافية والحصول على كل العناصر.. قدر الإمكان.. أما الاقتصار على طبق واحد.. أو أطباق محدودة جداً.. فيصيب الإنسان بانسداد الشهية عن الحياة بشكل عام، ويحرمه من كثير من العناصر، ويجعله أقل قوة وقدرة..وبما أن الحياة كالمائدة المتعددة الأطباق، فإن حرمان الإنسان نفسه من العديد من أصنافها اللذيذة - بدون سبب مجبر - سيظل موقفاً سالباً وحرماناً لا نفع فيه، بل فيه ضرر الحرمان..
إن الناس يختلفون كثيراً في جلوسهم إلى موائد الطعام..هناك من يجلس إليها مقبلاً مستمتعاً هاشاً باشاً يبدأ بحمد الله وينتهي بشكر الله..
وهناك من يجلس على المائدة ساهماً سارحاً لمجرد أنه يؤدي واجبا من الواجبات..
وهناك من يضرب في الأطباق حتى يصاب بالتخمة والسمنة والترهل والأمراض..
وآخر يتقشف جداً حتى يهزل ويضعف وتتسلل إليه العلل..
هناك من يحتفل بالحياة ويعانقها في كل اتجاه.. وهناك من ينزوي عنها ويرمقها شزراً ولا يرى إلا جانباً واحداً منها..

عبدالله الجعيثين
منتدى الكتاب
الرياض
0
523

يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.

تسجيل دخول

خليك أول من تشارك برأيها   💁🏻‍♀️