نادية باكير 04/09/2002
في الصّباح الباكر وقبل موعد خروجي إلى الجامعة طرق الباب ففوجئت بزيارة غير متوقعة من صديقتي هالة الّتي اعتذرت عن الدّخول قائلة:
- أنا آسفة فهذا ليس موعد زيارة ولكنّني وعدتك البارحة أن أعمل جهدي لاختراع مزيج ما لإنهاء معاناتك مع قليل الإيمان.. وقد سهرت الّليل لأفي بوعدي لك.
أخرجت هالة زجاجة ذات بخّاخ كزجاجة العطر من حقيبتها وناولتني إيّاها قائلة:
- يوجد في هذه الزّجاجة مزيج الحياء ومن يستنشق منه كميّة قليلة يتحوّل إلى إنسان حيي طوال أربع وعشرين ساعة ، أي يوم كامل.
قلت غير مصدّقة:
- أنت تمزحين يا هالة،الحياء من الإيمان ولا يمكن إيجاده باستنشاق مزيج ما.
قالت بثقة:
- جرّبيه والتجربة خير برهان.
أخذت الزّجاجة ووضعتها في حقيبتي غير مقتنعة وشكرتها على جهدها إذ غادرت مسرعة.
وصلت إلى مجمّع الحافلات الّذي سأنطلق منه إلى جامعتي.كانت أرضيّة المجمّع نظيفة نسبيّاً كالعادة في مثل هذا الوقت من الصّباح الباكر إذ يعمل عدد كبير من عمّال النّظافة طوال الّليل.
مررت بسائق قد بدأ لتوّه بتناول الشّاي وهو يحرّك كيس الشّاي حركات متتالية في كوبه ثمّ يلقيه على الأرض الّتي أنهكت عدداً كبيراً من العمّال في تنظيفها طوال الّليل.أغضبني الموقف فأخرجت زجاجة هالة وبخخت بعض محتوياتها أملاً أن يكون لها تأثير ما.مشيت قليلاً ثمّ التفتّ لأرى السّائق صاحب الشّاي ينحني لالتقاط الكيس الّذي رماه قبل قليل وقد احمرّ خجلاً وهو يقول:
-استغفر الله .
ثمّ يمشي عدّة خطوات فيلقيه في حاوية النّفايات.
تعجّبت كثيراً ولكنّني قلت لعلّها صدفة وتابعت سيري فوصلت إلى نهاية صفّ طويل من النّاس ينتظرون الحافلة ، فوقفت لأنتظر دوري ، وكما يحدث في كلّ يوم جاء أحدهم ليسرق دور غيره ويسبق المنتظرين فتطايرت الشّتائم من الغاضبين،فأخرجت زجاجة الحياء لأعطّر بها ذلك الجوّ المشحون بالغضب فإذا بالمعتدي يحمرّ خجلاً ويعتذر عن تصرّفه غير اللائق ويعود فوراً إلى نهاية الصفّ حيث يجب أن يكون.
بعد أن ركبنا الحافلة وقطعت بنا بعض الطّريق بدأ البعض بالتّدخين غير عابئين بالأذى الّذي يلحقونه بأنفسهم وبغيرهم فلجأت إلى بخّاخ الحياء قبل أن اختنق بدخانهم ، وما هي إلا لحظات حتّى احمرّ هؤلاء خجلاً وبادروا إلى إطفاء سجائرهم في المنافض الملحقة بمقاعدهم.
بدا أنّ تأثير مزيج الحياء لم يصل إلى سائق الحافلة إذ بدأ كعادته بالتوقّف لالتقاط أعداد إضافيّة من الرّكّاب غير آبه للإزعاج الّذي تسبّبه الحمولة الزّائدة فضلاً عن المخاطر الجسيمة . استعنت بالله وهيّأت مزيج الحياء ليستنشقه هؤلاء الصّاعدون إلى الحافلة ، ولكنّ ولأوّل مرّة في تاريخ سفري في هذه الحافلات اعترض معظم الرّكّاب الموجودين على سلوك السّائق ، وافهموه بأدب ممزوج بحزم شديد أنّهم لن يسمحوا له بتحميل الحافلة فوق طاقتها ، وتعريضنا للأخطار ، استغرب السّائق وغضب فهذه المرّة الأولى الّتي لا يسكت فيها هؤلاء عن حقّهم ويرفضون استهتاره بهم ، ولكنّه رضخ لمطالبهم وتابع قيادة الحافلة فقد علم أنّهم جادّون ولن يسمحوا له بتجاوز القوانين.
شعرت بسعادة غامرة فما أجمل خلق الحياء،ليت تأثير هذا المزيج يدوم إلى الأبد.
وصلت إلى جامعتي هادئة الأعصاب لتناقص عدد المنغّصات على الطّريق وأقبلت على دراستي بحماس حيث لديّ اليوم امتحان صعب ولكن لا بأس فلقد درست جيّداً كعادتي وتوكّلت على الله.
في قاعة الامتحان آلمتني محاولات الغشّ من قبل الزّميلات ، وحتّى الملتزمات منهن بالمظهر الإسلاميّ ، لا يجدن حرجاً من الغشّ ، مع أنّ ديننا الحنيف قد نهى عنه نهياً شديداً ، فلجأت إلى بخّاخ الحياء الّذي سرعان ما ظهرت فعاليته ، فقد كففن عن محاولاتهن للغش ، وخرجن سريعاً بعد أداء الامتحان من القاعة.
دخلت مكتبة الجامعة لاستعارة بعض الكتب الّتي احتاجها وتفقّدت بعض الصّفحات المطلوبة منّي في المادّة الّتي أدرسها،فآلمني أن أجدها قد انتزعت من مكانها إذ يلجأ بعض الطّلبة إلى انتزاع الصّفحات الّتي يحتاجونها من الكتب حتّى لا يزعجوا أنفسهم بتصويرها.وللأسف يجهل البعض أو يتجاهل حرمة الاعتداء على المال العام فهذه الكتب هي من حقّ الجميع وقد ناقشت من قبل إحدى زميلاتي في الأمر إذ رأيتها تخطّ خطوطاً بالحبر على إحدى هذه الكتب بطريقة تمنع غيرها من الاستفادة من الكتاب ، وتسرّع في تلفه . قلت لها:
- ألا تعلمين أنّك ستضطّرّين إلى طلب العفو والمسامحة على عملك هذا يوم الحساب من جميع مالكي هذا الكتاب؟
سألتني مندهشة:
- ومن هم مالكو هذا الكتاب؟
أجبتها:
- كلّ الّذين أقيمت هذه المكتبة من أجلهم ، أو بالأموال الّتي يدفعونها من ضرائب وغيرها لإقامتها.
قالت:
- صدّقيني لم يخطر لي أنّني أعتدي على حقّ أحد بعملي هذا.
قلت: أرجوك فكّري بالأمر،فنحن هنا مؤتمنون على هذه الكتب وسيحاسبنا الله إن خنّا هذه الأمانة.
شكرتني تلك الزّميلة على تذكيرها وتنبيهها للأمر ، ولكنّ كثيرات غيرها لم يعجبهنّ كلامي واعتبرنه تدخّلاً في أمورهنّ الخاصّة . وتمنّيت لو أصادفهنّ الآن فأرشّهنّ بمزيج الحياء.
خرجت من المكتبة وغادرت جامعتي عائدة إلى بيتي وفي طريق العودة لجأت إلى بخّاخ الحياء كلّما صادفت المنغّصات المعتادة النّاتجة عن قلّة الإيمان.
ترجّلت من الحافلة في المجمّع ودهشت كثيراً حين وجدته نظيفاً على غير العادة وعلمت أنّ السّائق الّذي استنشق مزيج الحياء في الصّباح قد جمع حوله عدداً من السّائقين وابرموا اتّفاقاً يقضي بالمحافظة على نظافة المجمّع ، واتّخاذ إجراءات صارمة في حقّ كلّ من يخالف التّعليمات ويستهتر بالنّظافة والآداب العامّة . سررت بالنّتيجة الّتي حقّقها مزيج الحياء وفكّرت في طريقة للحصول على التّمويل اللازم لإنتاج هذا المزيج بكمّيات كبيرة ، ثمّ رشّه بطائرات رشّ المحاصيل الزّراعيّة في طول البلاد وعرضها ، ولكن من أين الحصول على التّمويل اللازم لمثل هذا المشروع الّذي لا يدرّ أرباحاً منظورة ، فلا أظنّ أنّني سأجد مموّلين يقتنعون بفائدة هذا المزيج إذ لا أرباح ماديّة ظاهرة له.
خطر لي أن أستعين بهذا المزيج لإقناع أصحاب رؤوس الأموال بمشروعي فأخرجت الزّجاجة من حقيبتي لأجدها فارغةً تماماً.ندمت كثيراً ولمت نفسي على التّفريط بمحتوياتها وصرت أردّد غاضبة:ما أغباني ما أغباني.
شعرت بيد حنونة تربت على خدّي ففتحت عينيّ لأرى أمّي تحاول إيقاظي وهي تقول:
- بسم الله الرّحمن الرّحيم ، استيقظي يا ابنتي لقد حان موعد ذهابك إلى الجامعة.
هذا الموضوع مغلق.
خليك أول من تشارك برأيها 💁🏻♀️