السهر المجهول

ملتقى الإيمان

السـهر المجهـول !!





الحمدلله وبعد،،



تتحدث كتب النفس وبرامج الاستشارات التلفزيونية والنصائح الطبية ونحوها عنمشكلة يسمونها (مشكلة السهر) .. ويطرحون لها الحلول والعلاجات ويتكلمون عن أضرارها،لكن ثمة نوع آخر من السهر لا أرى له ذكراً بينهم .. إنه سهر من نوع خاص .. سهريذكره القرآن ويتحدث عنه كثيرا .. وكلما مررت بتلك الآيات التي تتحدث عن هذا السهرشعرت بالخجل من نفسي..
في أوائل سورة الذاريات لما ذكر الله أهواليوم القيامة توقف السياق ثم بدأت الآيات تلوِّح بذكر فريقٍ حصد السعادة الأبديةواستطاع الوصول إلى (جناتٍ وعيون) .. ولكن ما السبب الذي أوصلهم إلى تلك السعادةبين مجاهل تلك الأهوال؟ إنه (السهر المجهول) .. تأمل كيف تشرح الآيات سبب وصول ذلكالفريق إلى الجنات والعيون:
)

إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ * كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ)



أرأيت .. استحوذ عليك المشهد؟ لا عليك، شعورٌ طبيعي جداً..



تأمل كيف كان سبب سعادتهم أن نومهم بالليل "قليل"! إذن أين يذهب بقيةليلهم؟ يذهب بالسهر مع الله جل وعلا .. ذلك السهر المجهول.. ذكرٌ لله، وتضرعٌوابتهالٌ بين يديه، وتعظيمٌ له سبحانه، وافتقارٌ أمام غناه المطلق سبحانه، وركوعٌوسجودٌ وقنوت .. هذا غالب الليل.. أما القليل منه فيذهب للنوم.. القليل فقط بنصالآية (كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون(..
وفي سورة الزمر لما ذكرالله عدداً من الآيات الكونية عرض هذا السهر الإيماني بصيغة أخرى، لكن فيها منالتشريف ما تتضعضع له النفوس .. لقد جعل الله هذا السهر الإيماني أحد معايير )العلم)، نعم.. قيام الليل أحد معايير العلم بنص القرآن، وهذا أمر لا تستطيع بتاتاًأن تستوعبه العقول المادية والمستغربة لأنها لم تتزكّ بعد بشكل تام وتتخلص من رواسبالجاهلية الغربية، لاحظ كيف دلت خاتمة الآية على التشريف العلمي لهذا السهرالإيماني، يقول تعالى:
)أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًاوَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِيالَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُوالْأَلْبَابِ) ]
فلاحظ في هذه الخاتمة كيف جعل الله من لميقنت آناء الليل فهذا مؤشر على جهله، ومن قنت آناء الليل فهذا مؤشر على علمه.. وقديقول قائل .. لكن كثيراً ممن لا يقنت آناء الليل نرى بالمقاييس المادية المباشرة أنلديه علماً؟ فالجواب أن القرآن اعتبر العلم بثمرته لا بآلته، وثمرة العلم العبوديةلله، فمن ضيع الثمرة لم تنفعه الآلة..
ثم لاحظ كيف وصفت الآياتتنوع العبادة (ساجداً وقائماً) .. بل وصفت الآية أحاسيس ومشاعر ذلك الساهر .. فهومن جهة قد اعتراه الوجل من يوم الآخرة ومن جهة أخرى قد دفعه رجاء رحمة الله (يحذرالآخرة ويرجوا رحمة ربه) .. تمتزج هذه المشاعر الإيمانية طوال الليل البهيم بينماالناس حوله هاجعون..
هل ترى الله تعالى بعظمته وقدسيته سبحانهيصوِّر هذا المشهد الإيماني الليلي بلا رسالة يريد تعالى إيصالها لنا؟ أليس منالواضح أن الله يريدنا كذلك؟ يريدنا أن نكون قانتين آناء الليل ساجدين وقائمين نحذرالآخرة ونرجوا رحمة ربنا..؟ وتذكّر أن الله جعل ذلك معياراً من معايير (العلم)، ألانريد أن نكون في معيار الله من (أهل العلم) ؟
وفي أواسط سورةالسجدة ذكر الله المؤشرات الظاهرة التي تدل على إيمان الباطن، حيث استفتحها بقوله (إنما يؤمن بآياتنا.. الآية) وفي ثنايا تلك المؤشرات صورت الآيات مشهد ذلك المؤمنالصادق، وهو في فراشه، تهاجمه ذكرى الآخرة فلا يستطيع جنبه أن يسترخي للنوم.. تأملقوله تعالى:



)تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَرَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا) ].
أخي الكريم .. يشهدالله وحده وأنا أعلم شدة هذا الاستشهاد- أنني مامررت بهذه الآية إلا أحسست بمقاريضالحرج تنهش أطرافي .. هاقد تصرمت ثلاثة عقود من عمري وأنا لم أتذوق هذا المقام الذيتصوره هذه الآية .. مامررت بهذه الآية إلا تخيلت أولئك القوم الذين ترسم هذه الآيةمشهدهم .. وكأني أراهم منزعجين في فرشهم تتجافى بهم يتذكرون لقاء الله، ثم لميطيقوا الأمر، وهبُّوا إلى مِيضأتهم، وتوجهوا للقبلة، وسبحوا في مناجاة مولاهم} .. تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا{ ..
صحيحٌ أن هناك آيات كثيرة صورت السهر الإيماني، لكن هذه الآيةبخصوصها لها وقعٌ خاص، مجرد تخيل أولئك القوم وهم يتقلبون في فرشهم ثم يهبّونللانطراح بين يدي الله وتضرعه وهم بين الخوف من العقوبة على خطاياهم والرجاء الذييحدوهم لبحبوحة غفران الله، ثم مقارنة ذلك بأحوالنا وليلنا البئيس يجعل الأمر فيغاية الحرج، إنهم قومٌ (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَرَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا(..
بل وتأمل في بلاغة القرآن كيف يجعلالبيات قياماً كما قال تعالى في وصف عباد الرحمن في سورة الفرقان (وَالَّذِينَيَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا)]
إنهميبيتون .. لكنهم يبيتون لربهم في سجود وقيام..
ومن ألطف مواضعالسهر الإيماني أن الله جعله من أهم عناصر التأهيل الدعوي في بداية الطريق، اللهسبحانه وتعالى لم يجعل أعظم السهر الإيماني في آخر الدعوة النبوية بعد استيفاءالتدرج، كلا، بل جعله في أولها! فقال تعالى لنبيه في آياتٍ كادت تستغرق الليل:
(

يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلا) 1-2]
لاحظ معي أن النبي صلى الله عليه وسلم- في بداية الدعوة، ومعذلك يقول له (قم الليل إلا قليلا نصفه أو انقص منه قليلا أو زد عليه)..
وهل كان فعل ذلك مختص برسول الله؟ لا، بل كان أصحابه في أيام غربةالدعوة يصلون معه تلك الصلوات التي تستغرق الليل، يقول تعالى في آخر السورة:
(

إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِوَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ)].
السابقون الأولون من أصحاب رسول الله صلى الله عليهوسلم- خلّدالله قيامهم غالب الليل في كتابه العظيم، أي شرف أعظم من هذا الشرف لأصحاب رسولالله..
أما نحن فمنا أقوامٌ ينامون الليل كله ويستثقلون دقائقمعدودة ليتهجدوا فيها بين يدي الله، ومنا أقوامٌ يسهرون الليل كله لكن في استراحاتاللهو ويستكثرون أن يتوقفوا لدقائق ليقفوا بين يدي الله، ومنا أقوامٌ يذهب ليلهم فيتصفح شبكة الانترنت ومواقع التواصل الاجتماعي ومشاهدة مقاطع اليوتيوب وتعليقاتٍتافهة لا تقرب من الله ويمن على نفسه بركيعات في آخر الليل لله جل وعلا.. بل هناكماهو أتعس من ذلك، وهو أن بعضهم ينقضي الليل ويدخل وقت الفجر وتقام صلاة الفريضةوالإمام يقرأ فوق رأسه بينما هو لازال كما قال تعالى: (وَإِذَا قَامُوا إِلَىالصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى) ].
وأتذكر مرةً أنني كنتأستمع لبعض المنتسبين للدعوة يتحدث عن النجاح والوقت وإدارة الذات الخ، ولما جاءلقضية النوم، عرض النوم كما يعرضه الإنسان الغربي تماماً، بل صار يغالي في ضرورةأخذ أكبر قدر من النوم ويتحدث بنفس المعايير الغربية.. يا ألله .. هل بلغت غربةالدين هذا المبلغ؟ فأين ذهبت حقائق القرآن (كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون) ، (أمّن هو قانت آناء الليل ساجداً وقائما) ، (تتجافى جنوبهم عن المضاجع) ، (والذينيبيتون لربهم سجداً وقياما).. صحيح أن ذلك نفلٌ ولكن لماذا صار النفل يغيب عنوصايانا؟ لماذا خضعت الشريعة للتخفيضات؟ لماذا صرنا نخجل من كتاب الله؟ لو كانالنوم بالمعايير الغربية أنفع للإنسان لما ندبنا الله لضده في كتابه في مواضعكثيرة..




والله لو تدبرنا القرآن ونحن مستحضرين هذا السؤال: كيفنصوغ حياتنا في ليلنا ونهارنا؟ لفجعنا بشدة المفارقة بين فهم المؤمن لهذه الحياةالدنيا، وفهم الإنسان الغربي المسكين لها..



وبعض الشباب يقول: إننيلم أتعود على قيام الليل، وليس لي تجربة سابقة، وأشعر أنها صعبة، الخ والجواب: ياأخي استعن بالله ولنبدأ سوياً من هذه الليلة القادمة، لا تؤجل هذا المشروع أبداً،وصدقني ستجد لذةً في البداية يهبها الله من يقبل عليه ليعينه، وهذه اللذة والسرورتحدث عنها أهل العبودية يقول ابن القيم (قال الجنيد "واشوقاه إلى أوقات البداية" يعني: لذة أوقات البداية، وجمع الهمة على الطلب والسير إلى الله) ابن القيم].
فهنيئاً لك يا أخي الكريم لذة أوقات البداية..




وهذه الآيات كلها التي صورت قيام الليل يدخل فيها مرتبتان، قيامالفرض كصلاة العشاء وقيام الكمال كالتهجد، وبعض المفسرين يخطئ في حمل بعض هذهالآيات على أحد المحملين، والصحيح أنها تشمل المرتبتين..
ولكن ماوظيفة هذا السهر الإيماني؟ الحقيقة أن وظائفه كثيرة جداً، ولكن من أعظم وظائفه أنتلك اللحظات هي لحظات (الاستمداد) .. إذا تجافى جنب المؤمن عن المضجع وتوضأ ثم وقفبين يدي ربه ثم سجد بدأت دقائق الاستمداد .. فيستمد من خزائن رحمات الله.. منأرزاقه.. من العلم.. من التوفيق.. من الهداية.. إنها لحظة الدعم المفتوح.. ورحماتالله إذا فتحت فلا تسل عن أمدائها (مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍفَلَا مُمْسِكَ لَهَا) ]
اللهم يارب الليل البهيم .. اجلعنا من تتجافى جنوبهم عن المضاجع ندعوك خوفاً وطمعا.. (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْعَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا)].
6
586

يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.

تسجيل دخول

ـ أم ريـــــم ـ
بـــــــــــارك اللـــــــــــــــه فيــــــــــك عزيـــــزتــــي
وفــــــي طــــــرحـــك الهـــــــــــادف القــــــــــــــــيم
تنبيـــــــــــــه وتـــــــــــــــذكـــــــــــ ير مهـــــــــــــــــــم
جعـــــــــــــله الله في مــــــــــوازيـــن حســـــناتــــــك
ووفـــقـــــــك لـــــــــما يحـــــــــــبه ويـــــرضــــــــــــاه

أختــــــكـــــم " أم ريـــــــــــــــــــــــــم"
عين شيهانة
عين شيهانة
منار أم جنى
منار أم جنى
جزاك الله الف خير
الاميرة الشهري
مشاركة متميزة
لك كل الشكر يا الغلا
الاناقه فن
الاناقه فن
جزااك الله خير...
ع طرح هذآ..الموضوع..القيم
..وجعل ماكتبتي في موازين حسناتك