الصغيــــرة ... نـــــــور ...

الأدب النبطي والفصيح

الصغيـــــرة .. نـور ..

~~~~~~~ ( 1 ) ~~~~~~~


مضى الليل إلا أقله ..
ولاح في الأفق بصيص نور يصارع ظلمة الغسق كي يغمر الدنيا بضياء الفجر الوليد ..
وحتى ذلك الحين .. لم يغمض لـ ( نور ) جفن .. فقد نبا بها مضجعها .. والتمست السكون فلم تجد السبيل إليه ..
وهفت للراحة فلم يجبها ..
وما كاد صوت الحق يدوي من المسجد القريب حتى فرت الدمعة الحبيسة من مقلتها .. وانحدرت في صمت كالجمان .. فسارعت كفها الصغيرة ومسحتها ..
وقامت تستقبل يومها الجديد كدأبها بهمة ....

**********

مضت المعلمة ( أمل ) ترسم خطواتها الهادئة في فناء المدرسة الواسع .. ترقب العصافير وهي تغرد على أفنان الشجر الوارف سعيدة لا يكدر صفوها كادر ..
ابتسمت لها في رقة .. ونظرت للشمس الضاحكة في كبد السماء .. تسبغ على الكائنات دفئها ونورها كالأم الحنون ..

دلفت المعلمة إلى صفها .. وألقت السلام وعيناها تصافحان وجوه الطالبات .. وأحست بالسعادة تتبدى من ثنايا أحرفهن ..
وضعت كتبها على الطاولة أمامها .. وهمت بالكلام .. لولا أنها لمحت ( نور ) تجلس مطرقة صامتة ..
تملكتها الدهشة .. مالها الوردة الغضة لا تنشر شذى عطرها هذا الصباح في الأرجاء كما هي العادة ؟!...
ما لنضرتها اختفت .. ولاخضرارها وبهائها ولى هارباً ؟!....

لم تقل المعلمة حرفاً .. وبدأت الدرس وكأن شيئاً لم يكن ..
كانت تعلم أن الصغيرة تكابد هماً يسلب منها رونقها .. ولن تستطيع أن تفصح عن مكنون صدرها إلا وهما بعيدان عن الجمع الصغير هاهنا ..

**********


~~~~~~~ ( 2 ) ~~~~~~~

ـ أي هم تطوينه في صدرك ؟.. وأي حزن هذا الذي خطف الابتسامة من ثغرك الجميل ؟..
رفعت ( نور ) عينيها التي تتواثب فيها ألف كلمة وكلمة .. وسرى دفء كلمات معلمتها الحبيبة إلى قلبها يستحثها على البوح ..
ـ أخبريني معلمتي .. ما مصير الإنسان إن لم يُصلِّ ؟
اندهشت المعلمة من العبارة .. فليس مثل ( نور ) من يسأل سؤالاً كهذا ..
مدت يدها تمسح الدمعات في رفق .. بينما صوتها الهادئ يقول :
ـ ولماذا تسألينني هذا السؤال ؟..
وكأنما أرادت بهذه العبارة أن تطلق لسفائن فكرها الحبيس العنان .. فتحدثها بصدق غير عابئة بأمواج الهم الثائرة .. وكذا فعلت ( نور ) الصغيرة ولم تخب ظن معلمتها ...
ـ تخيلي معلمتي أن هناك من الناس من لا يصلي .. لا يستشعر تلك النعمة التي أسداها سبحانه للبشر كي يتصلوا به ويبثوا إليه مكنونات صدورهم .. بل إن هناك من لم يسجد لله سجدة واحدة طيلة حياته .. ثم يسمي نفسه مسلمًا .. هل يعقل هذا يا معلمتي ؟!!!...

قالتها في براءة .. وقد أطل من عينيها الحائرتين الرغبة الجامحة في معرفة الجواب .. فقالت المعلمة دون لأي :
ـ ( نور ) يا حبيبتي .. الناس جميعهم لا يتشابهون .. حتى وإن كانوا مسلمين .. فإن منهم الصالح ومنهم العاصي ..
هتفت ( نور ) وصوتها يحمل في طياته الألم العميق :
ـ لكن يا معلمتي .. كيف يهجرون الصلاة ؟.. إنها عمود الدين وهي أول ما يحاسب عليه العبد ..!!
ـ هذا صحيح ..ورغم ذلك فإن هناك من لا يعي هذا الأمر ولا يستشعر أهميته .. أو ربما يعي ولكن لا يبالي .. ألا ترين من من يستمع إلى الأغاني التي حرمها الله ؟ أو يشاهد ما يجب أن بغض عنه بصره أو يسرق أو .....

وراحت كلمات المعلمة ينساب كالشهد إلى قلب الصغيرة ( نور ) .. لكن لم تفلح تلك الكلمات في إزاحة الهم القابع بين جنباته .. فودعتها المعلمة وقد أزمعت أمرًا .....

**********

~~~~~~~ ( 3 ) ~~~~~~~

( نور ) .....
هي البدر الوضاء يستبيح ظلمة الدجى بسناه ..
هي الورد المتفتح يهدي لمن حوله شذاه ..
هي وهج الشمس ودفؤه في ليلة شاتية ..
هي البسمة عند تناثر الدمعات في فضاء الحزن والأسى ..

( نور ) .. طفلة لم تجاوز ربيعها الحادي عشر .. لكنها ضمت بين جوانحها روحًا شفافة محبة للخير والآخرين ..
ومنذ اللحظة الأولى التي تعرفت عليها المعلمة ( أمل ) .. أيقنت أن ( نور ) سيكون لها شأن عندما تودع دنيا الطفولة العذبة ..
وتوسمت فيها الخير دائماً .. وفي كل موقف .. ولذلك كان لحزنها بالغ الأثر على قلب معلمتها ...

لم تزل تلك الكلمات الممزوجة بندى الطفولة العطر يتردد في مسامعها وهي تجلس في غرفتها .. بينما بعض الكراسات المفتوحة تنتظر من يضفي عليها لمساته الأخيرة ...
ـ معلمتي .. لم أعلم أن هناك بيننا أناساً من هذا الصنف .. لكني عرفت اليوم أن الواقع الذي نعيشه يختلف عن العالم الذي نتمناه ونريده .....
ثم سكتت تلتقط أنفاسها وأكملت قائلة :
ـ في ذلك اليوم .. اقترحت على زميلتي أن ترافقني إلى مصلى المدرسة كي نؤدي صلاة الظهر معاً .. لكنها فاجأتني بقولها ( وما الداعي لذلك .. هذا الأمر ليس مهماً ! ) صدمت .. وبلغت مني الدهشة مبلغها .. لماذا ؟!! كيف تقولين ذلك ؟ وكانت كلمتها التي وقعت علي كالصاعقة ( حتى أمي لا تصلي .. هل في ذلك شيء ؟؟ )

إلى هنا ..
توقفت المعلمة ( أمل ) عن عرض شريط الأمس ..
كانت الفكرة التي خطر على بالها تلح عليها .. كانت تريد أن تعيد البسمة إلى شفتي ( نور ) .. وفي الوقت ذاته تدفعها خطوة للأمام ..
أخيراً قامت من مكانها .. وقد انشرح صدرها تمامًا لتلك الفكرة ..

**********

~~~~~~~ ( 4 ) ~~~~~~~

أقبلت المعلمة ( أمل ) تتهادى في مشيتها .. وكأنها نسيم عاطر في يوم خريفي يداعب الأوراق اليابسة المتعطشة للقطر .. أو أنها جدائل شمس ذهبية أرسلت وهجاً في سطوة البرد .. فأنعشت ما كان حولها يعاني من جمود ووحشة ..

دلفت للصف .. وتراءت أمام عينها جموع الطالبات .. تلك البراعم الفائرة بالحيوية والنقاء .. الباعثة دفئاً مدهشاً في الأرجاء ..
ألقت تحيتها في حب معهود .. وبدأت درس اليوم .. وما بين لحظة وأخرى كانت تختلس نظرات حانية إلى الوردة الجورية .. الصغيرة ( نور ) .. فتلمح سحاب الحزن لا يزال يحوم فوق الجبين الوضاء ..
ومرت الدقائق بسرعة .. وانتهت الحصص الثلاث الأولى ..
ثم رن الجرس ....
تصاحبه ضحكات مرحة بريئة منبعثة من حناجر الصغار .. ولم تمض بضعة دقائق أخرى حتى ضجت الساحة بصخب الطفولة وشقاوتها التي تزرع في القلوب ألف بسمة وبسمة ..

وهناك ..
وقفت المعلمة ( أمل ) تحمل بيدها بعض الوريقات .. و( نور ) بجوارها تنتظر أن تحدثها المعلمة بما عزمت عليه .. وبعد مقدمة حوت الكثير من عبارات التشجيع قالت المعلمة :
_ صغيرتي .. أريدك أن تقرئي هذه غداً في طابور الصباح .. أريد للجميع أن يسمع منك هذه الكلمات ..
نظرت الصغيرة للأوراق بيدي المعلمة .. ودهشت :
_ لكن يا معلمتي .. هذا كثير !
_ ( نور ) .. لا يكن حياؤك مانعاً لمواجهة الجميع في ساحة المدرسة .. أنا واثقة أنك عندما ستبدئين بأول كلمة ستنساب الكلمات الأخرى من تلقاء نفسها .
لم تجب ( نور ) .. بل راحت تتخيل نفسها واقفة أمام الجمع الغفير من الطالبات والمعلمات .. كي تقرأ عليهن ما تحويه تلك الأوراق … وسرت رعدة في جسدها .. لا يمكنها أن تقف مثل هذا الموقف لأنها لم تعتد عليه .. فجل مشاركاتها في الإذاعة المدرسية لا تتعدى قراءة بعض آيات القرآن .. أو حديث شريف .. لكن هذا …..
وطال صمت الصغيرة .. شهدت خلاله صراعا بين حيائها وبين واجب الأمر بالمعروف الذي يناديها ..
ثم جاءت كلمتها الأخيرة بكل ثبات :
_ بإذن الله يا معلمتي .. سأحاول …

وأشرق وجه المعلمة بابتسامة حانية ..

**********


~~~~~~~ ( 5 ) ~~~~~~~

الشمس في كبد السماء .. تبتسم في حنو للطالبات اللواتي اصطففن بنظام في ساحة المدرسة الواسعة ..
والمعلمات هنا وهناك مع طالباتهن .. يسكبن بلطف الورد العاطر من فيض حنانهن الذي لا يعرف نفاداً ..
وهناك .....
وقفت ( نور ) ....
شيء من الارتباك يعلو محياها الصبيح .. كأنها الشمس تحاول أن تتوارى خلف غيوم معتمة في يوم مطير ..
بيدها تمسك بعض الأوراق .. تلك الأوراق التي قرأتها مراراً وتكراراً ليلة البارحة .. تلك الأوراق التي أذاقتها طعم السهاد والقلق فلم تظفر بنوم تودع فيه تعب اليوم ونصبه ...
وارتجفت .. وكأن صوت المعلمة _ وهي تطلب منها أن تبدأ القراءة _ ريح هوجاء عصفت بالبقية من اتزانها .. ونثرته أشلاء كما يفعل بالورق الخريفي ..
تقدمت بخطوات وجلة .. وأمسكت بمكبر الصوت .. وكاد من ارتعاشة يدها أن يفلت ويقع ..
رفعت عينيها للجمع أمامها .. لكنها لم تنس في خضم ارتباكها أن تبحث عن نبع الحنان الدفاق .. معلمتها ( أمل ) ..
دارت عيناها في سرعة بين وجوه الحاضرات فلم تلمح ذاك الوجه الحبيب ..
عادت إلى أوراقها تدفن فيها ما اعتراها من خوف .. وبصوت خافت نوعاً ما .. بدأت تقرأ ...
_ بسم الله الرحمن الرحيم ..
لم يرضها أن يكبح الحياء اندفاع هذه الكلمات .. النابعة من قلب مشفق .. فعادت تقرأ ولكن بصوت أعلى :
_ بسم الله الرحمن الرحيم ..
عجبت من هذه النفس المتمردة .. ما أصعب أن يروضها المرء كيفما يريد .. لكن حب الخير نفخ في روحها تحدياً لهذه النفس .. فأكملت :
_ الحمد لله .. والصلاة والسلام على رسول الله ..
نظرت لوجوه معلماتها والطالبات .. فأسعدها أن رأت فيهن الترقب لما ستقوله ..
ولما نظرت للأوراق ثانية .. أحست أن صوتها يريد أن يفر .. وأن يداها بارتعاشهما تفضحان للجميع خوفها وارتباكها .. وتساءلت في سرها :
_ ترى .. أيمكنني أن أقرأ كل هذا .. أيسعفني صوتي في ذلك ؟!!

**************


~~~~~~~ ( 6 ) ~~~~~~~

لم يزل قلب الصغيرة ( نور ) ينبض بهذا السؤال .. ونبضاته تحمل وجلاً كاد يتمكن منها ..
رفعت رأسها ببطء .. علها تستطيع أن تدفن خوفها بين جموع الطالبات ..
فما أن فعلت حتى تهللت أسارير وجهها .. وبرقت عيناها كنجمة مشعة في السماء بليل مدلهم .. فهناك كانت تقف معلمتها ( أمل ) .. وقد ارتسمت على شفتيها أعذب ابتسامة .. وكأنها تقول لها :
_ هيا يا صغيرتي .. تابعي .. الجندي الشجاع لا يعود القهقرى من أرض المعركة !!

وتنفست ( نور ) .. مودعة ذاك الوجل وذاك الخوف من عدم الاستطاعة .. فالابتسامة المشجعة هي ما كانت ترجوه لتدفع سفينتها للأمام ..
وبصوت عال شرعت بالقراءة مجدداً .. هذه المرة جاء صوتها ثابتاً .. مؤثراً .. نابعاً من قلب محب ..
تحدثت عن أهمية الصلاة في حياة الناس .. ومكانتها عند الله .. وفضلها وجزاء من يحافظ عليها .. ثم تحدثت عن حكم تاركها .. وعن عقوباته التي ينالها في الدنيا قبل الآخرة ..
ومن رهبة الموقف .. دمعت بعض العيون .. وبدا التأثر على أكثر وجوه الحاضرات .. فقد خالطت الكلمات شغاف القلوب ووقعت منها موقعاً عظيماً ..
سرها أنها استطاعت أن تكمل القراءة .. وأن الجميع استوعب الكلمات وفهمها ..
_ الحمد لله .. الحمد لله ..
كذا تمتمت في سرها وهي من فرط السعادة تود لو تطير في سماء الفرحة من غير جناحين ..
وطوت الأوراق التي بين يديها في هدوء ..

بعد انتهاء الإذاعة شكرتها المديرة وأثنت عليها .. فزاد ذلك من سعادتها ..
لن يعود حياؤها ويقيدها بأغلاله .. ولن تسمح له بأن يمنعها من مواجهة الآخرين حينما تريد أن تدلهم على الخير .. الخير ولا شيء غيره ..

************

تمت بحمد الله .......




18
1K

يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.

تسجيل دخول

عصفورة الربيع
كتبتها منذ زمن طويل ...
أعادت لي بعض الذكريات الجميلة ...
وقتًا طيبًا ..
سكارلت
سكارلت
كم هو رائع أن تصبح كل منا أمل !!

تروي براعمها الصغيرة وتحسن إعدادها لرسالة عظيمة

علنا نستدرك ما فاتنا ونحقق الآمال بتلك البراعم


عصفورة الربيع
بارك الله فيك ... وفي مدادك العاطر
السديم,
السديم,
كلماتك رائعه وتصوير جميل لهذاالعصر من خلال قصه بطلتها نور الطفله الصغيره
سلمت يداك..........................
آهات الفرح
آهات الفرح
سلمتي على الأسلوب الأروع والكلمات المنسقة
ربي اغفرلي
ربي اغفرلي
والله يا اوخية كلما قرات لك موضوعا وكانك داخلة الى قلبي من خلال قلمك الرااااائع هذا
الله يزيدك من فظله من ايمان وصحة وعافية
في متابعتك
واااااااااااااااااصلي