( فرجعناك إلى أمك كي تقرّ عينها ولا تحزن )
في غمرة ذهول أم موسى وخشيتها ،
جاءتها البشرى بعودة موسى
فانحدرت من عينيها دموع الفرح الباردة،
فاستقرت بعد قلق ..
وسرت موجة السرور إلى قلبها فسكن نبضها واطمأنت .
****
تلك لمحة خاطفة من صورة بيانية رائعة يجسدها القرآن ..
تمثل ذروة الفرح بعودة الوليد لأمه ..
والسؤال الذي يتبادر إلى أذهاننا :
هل هناك قرة عين تملأ القلب بهجة دائمة أكثر من الولد ؟
والجواب : أجل ..! هي الصلاة
قرة عين المحبين الخاشعين ، وطمأنينة فؤادهم .
****
( وجعلت قرة عيني في الصلاة )
كانت الصلاة أحب الأشياء..
إلى الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم..
بها تقر عينه ، وتطيب نفسه، وتسكن جوارحه،
وفيها يرى النعيم متمثلاً ..
وكثيراً ماكان يبادر بلالاً أن هلم لإقام الصلاة قائلاً :
( أرحنا بها يابلال )!
كان شوقه عظيماً للقاء ربه والوقوف بين يديه ..
ناسياً في غمرة صلاته التي تملأ عليه وجوده
كل هموم الأرض ، وأعباء الرسالة ، ومكائد الأعداء
متنقلاً بين ركوعٍ وسجود
وقيام وقعود .. ودعاء وتضرع
وهو في حالة فريدة من التبتل والخشوع
مستغرقاً في هذه العبادة العظيمة ..
بين يدي رب كريم .. غفور رحيم..!
حيث يجد السكينة ، وتقر عينه بلقاء ربه ، ويهنأ قلبه ..
وحين يطوي الصلاة ..
يقوم وقد تقلّد طاقة ايمانية متجددة..
وعزماً متدفقاً بالقوة واليقين؛ ليستأنف رسالته الخالدة
****
في اللغة :
القُرَّةُ : ما قَرَّتْ به العَيْنُ .
ويقال : هو قُرّة العين : لما يُرضِي ويَسُرُّ .
وفلانٌ في قُرَّةٍ من العيش : في رغَدٍ وطِيب .
****
كذلك المؤمن العارف بقدر الصلاة ، وعظمتها ..
يتبع خطى الرسول الأمين صلى الله عليه وسلم ..
ويتمثل صلاته كيف كانت ..فيقتفي أثره
ويقبل على قرة العين بقلب المحب ..
ناسياً الدنيا بما فيها ، ملقياً همومها وراء ظهره ..
متوجهاً بكل أشواق الروح إليه تعالى ..
منتظراً الصلاة بعد الصلاة ..
إن صلى الفجر ناداه الضحى ..
وإن صلى الظهر اشتاقته صلاة العصر
وحين يأفل الضوء و تزحف جهمة الغروب ..
توقد صلاة المغرب في صدره مصباح السعادة والانشراح
هكذا حال المؤمن..!
يترقب الصلاة بعد الصلاة .. لايشغله شاغل عن لقاء ربه
وهل أعظم وأحب من لقاء الله ؟!
****
إن القلب الخاشع المتطلع إلى لقاء ربه
يتطلع إلى موعده مع الصلاة ..
كما ينتظر المحب لقاء الحبيب..
وما من شيء أحب للعابد من لقاء المعبود أمام قبلته ..
يقيم لوجهه الكريم مراسيم الصلاة
ويتضرعه بالدعاء .. ويبثه نجواه ..
يحدثه ، ويسبحه ، ويعظمه ، ويسأله دون وسيط
فيجيبه تعالى ، فهو منه جدّ قريب .
( وإذا سألك عبادي عني فإني قريب )
****
ومن السلف الصالح بعد رسول الله نستمد الإلهام ،
ومن نبع إخلاصهم وتفانيهم نستقي ..
ونتعلم كيف نسمو بالصلاة ..
وكيف نجاهد لترتفع قلوبنا بمنازلها..
لتجني مردود صلاتها راحة وسعادة وقرة عين ..
( لو عرفها الملوك لنافسونا بها ) كما يقول بعضهم
****
ومضة من السلف الصالح :
هذا الزاهد العابد الرباني (حاتم الأصم)
يصف حاله مع الصلاة كما لو أنه يجسد صورة
يتمثلها كل قلب خاشع ..
يحيي بها الهمم
ويبعث روح الأشواق في قلوب العابدين ، فيقول :
إذا حانت الصلاة أسبغت الوضوء،
وأتيت الموضع الذي أريد الصلاة فيه،
فأقعد فيه حتى تجتمع جوارحي،
ثم أقوم إلى صلاتي ..
وأجعل الكعبة بين حاجبي..
والصراط تحت قدمي..
والجنة عن يميني، والنار عن شمالي..
وملك الموت ورائي..
وعين الله تنظرني...!
أظنها آخر صلاتي..
ثم أقوم بين الرجاء والخوف..
وأكبِّر تكبيرًا بتحقيق..
وأقرأ قراءة بترتيل..
وأركع ركوعًا بخضوع ..
وأسجد سجودًا بخشوع ..
وأتبعها الإخلاص..!
فأين نحن من هذا التفاني والذوبان في الصلاة
ياأولي الألباب..؟!
****
يقول بعض العارفين في وصف حالهم في الصلاة:
إنه ليمر بالقلب أوقات أقول فيها :
إن كان أهل الجنة في مثل هذا الحال ..
إنهم لفي عيش طيب.
إنهم حقاً في طيب عيش !
إنهم حقاً في طيب عيش !
هم في جنة الدنيا قبل جنة الآخرة ..
وأما هناك ..
في دار الخلد ...
(فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ )
وذلك جزاء المحسنين .
