العالم ومصير الانسان00 الانسان يرجع الى الخلف؛
العولمة ومصير الإنسانية... العالم يرجع إلى الخلف!
العولمة ومصير الإنسانية
العالم من منظرو المسيحيين
يشهد العالم اليوم مرحلة من التغيير المستمر. يتطلب هذا منا أن نغير أساليب تفاعلنا وحياتنا وفهمنا فيما يتعلق بكيفية بنائنا للأسرة، وخلق أنظمة للمستقبل، وتأمين المستقبل لأولادنا. أهم تغيير يجب أن يحدث هو تغيير أسلوب التفكير. كيف نعلم أنفسنا ونرتقي بذواتنا إلى مستوى أفضل.
هذا التغيير مطلوب حدوثه على مستوى كياننا الداخلي (بيئة حياتنا الداخلية). وهو ما سيؤدي إلى تغيير واضح متميز في كل البيئة الخارجية المحيطة. (التغيير الحقيقي يبدأ من الداخل وينعكس على الخارج وليس العكس)!
<!---->
<!---->
أمثال 23 : 7 "لأنه كما شعر في نفسه هكذا هو"
As a man thinks in his heart so is he
القضية الأساسية أن البيئة الداخلية هي ما تحدد ما تكون عليه البيئة الخارجية! فالداخل هو الذي يقرر وينتج الخارج!
ثمة تغييرات جذرية حادثة في كل الكوكب. هذه التغييرات تنزع كل محدودية في أفق الخيال الإنساني والتفكير البشري بكل أنشطته، وهذا هو جوهر العولمة.
العولمة:
ما يقود ويدفع عجلة العولمة هو القوى الاقتصادية والاحتياج لاتساع الأسواق إلى ما لا نهاية.
كل النظام العالمي الجديد مبني على بؤرة مركزية وهي شهوة المال، والسيطرة على الإنسان لأجل اجتناء المزيد من المال!
يشبه الكتاب المقدس هذا النظام العالمي ببابل القديمة (أحد رموز الشر العتيدة في أدبيات الكتاب المقدس
رؤيا 18 : 9 – 13 «وَسَيَبْكِي وَيَنُوحُ عَلَيْهَا (على بابل) مُلُوكُ الأَرْضِ، الَّذِينَ زَنُوا وَتَنَعَّمُوا مَعَهَا، حِينَمَا يَنْظُرُونَ دُخَانَ حَرِيقِهَا، وَاقِفِينَ مِنْ بَعِيدٍ لأَجْلِ خَوْفِ عَذَابِهَا قَائِلِينَ: وَيْلٌ وَيْلٌ! الْمَدِينَةُ الْعَظِيمَةُ بَابِلُ! الْمَدِينَةُ الْقَوِيَّةُ! لأَنَّهُ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ جَاءَتْ دَيْنُونَتُكِ. وَيَبْكِي تُجَّارُ الأَرْضِ وَيَنُوحُونَ عَلَيْهَا، لأَنَّ بَضَائِعَهُمْ لاَ يَشْتَرِيهَا أَحَدٌ فِي مَا بَعْدُ، بَضَائِعَ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْحَجَرِ الْكَرِيمِ وَاللُّؤْلُؤِ وَالْبَزِّ وَالأُرْجُوانِ وَالْحَرِيرِ وَالْقِرْمِزِ وَكُلَّ عُودٍ ثِينِيٍّ وَكُلَّ إِنَاءٍ مِنَ الْعَاجِ وَكُلَّ إِنَاءٍ مِنْ أَثْمَنِ الْخَشَبِ وَالنُّحَاسِ وَالْحَدِيدِ وَالْمَرْمَرِ، وَقِرْفَةً وَبَخُوراً وَطِيباً وَلُبَاناً وَخَمْراً وَزَيْتاً وَسَمِيذاً وَحِنْطَةً وَبَهَائِمَ وَغَنَماً وَخَيْلاً، وَمَرْكَبَاتٍ، وَأَجْسَاداً، وَنُفُوسَ النَّاسِ.
العولمة تنتج وعيا عالميا جماعيا جديدا:
لا يمكن فهم وتوضيح التحركات والتغييرات الحادثة في العالم اليوم من خلال المبادئ الاقتصادية المجردة، أو الرسوم البيانية، أو الإحصائيات التحليلية، لكن هذه التحركات والتغييرات تظهر وتعبر عن نفسها في أشكال وأساليب وخبرات إنسانية غير مادية.
من ثم فالعولمة - والتي هي قوة ضخمة تبسط هيمنتها على أنماط التفكير والاتجاهات والمدارك البشرية - لها في واقع الأمر وفي جوهر وجودها جذورٌ روحية تؤثر بعمق على الأنظمة الفكرية والروحية في حياة البشرية.
لننظر معا إلى بعض تأثيرات العولمة على المستوى الشخصي والإنساني:
1 فقدان قيم الاستقامة والأمانة والانضباط على مستوى الجماعة (تفسخ المجتمع):
أساليب الحياة، وثقافات البشر، ومستقبل أجيال كاملة في مجتمعات بأكملها تم بيعها واستبدالها لمصلحة إله الربح الاقتصادي (إله المال) (يصير الشعار هنا هو فليحيا القوي وليمت الضعيف)!
2 دمار هوية الفرد ومحوها:
تنهار الثقافات تحت ضغط الغزو الثقافي وبفعل قوة توسيع السوق. فالهند مثلا تم غزوها ثقافيا تحت غطاء مسمى العولمة حتى نتج عن ذلك جيل جديد من الشباب ليس لديه ارتباط قوي بالعقائد والعادات والأعراف القديمة لهذا المجتمع.
فلسفة الرأسمالية capitalism هي حجر الأساس الذي تقوم عليه العولمة. ومن ثم فقد أنتجت العولمة قيما تؤدي إلى التنافسية المرضية، وتدمير الشخصية، والانعزالية ،والتمرد، والانفرادية، وغيرها من الأمور التي تشوه منظومة القيم والاتجاهات لدى الفرد والجماعة.
- القيم السابقة للمجتمعات كانت تؤكد على:
• الاكتفاء الداخلي للفرد (في مقابل الجشع والطمع)
• الدعم المتبادل ( في مقابل الأنانية والاستغلال) .
• الأهتمام بالبيئة ( في مقابل "أنا أهم ما في الكون" – الذاتية والضجر بالآخر)
• الإنتاج التشاركي ( في مقابل التنافسية المريضة والتقليل من شأن الآخرين وحب الظهور).
• الملكية الجماعية للمجتمع (في مقابل "كل المجتمع يخدم أغراضي فقط")
• ضعف الشخصية والهوية (بسبب اختراقها بالمبادئ المشوهة تلك)
<!---->
<!---->
3 دمار المستويات الأخلاقية والسلوكية الملزمة :
القيم الأخلاقية تم تشويهها في خضم الصراع على زيادة الربح الشخصي والمنفعة الفردية.
الارتباط بنظم القيم الأخلاقية التي تتطلب الانضباط الداخلي، واحترام الحدود، واحترام الأعراف والأخلاق المتوارثة عبر التاريخ أصبح وكأنه يمثل تهديداً لسعى الفرد للتعبير الحر.
حتى كل القيم الكتابية والوصايا الإلهية يتم النظر إليها واعتبارها عتيقة متخلفة رجعية غير مواكبة للإنسان في العصر الحديث الحالي وعقليته المتطورة.
4 التغيير بات هو المتطلب الملح على مستوى العالم:
العولمة تبشر بالتغيير. لكن ليس التغيير المتفق مع القيم الإلهية. بل التغيير الذي يشوه كل القيم الحميدة في تاريخ الأجيال ويدفع بالفرد إلى الجموح نحو السعي لأنانية الفردية المطلقة
بالتالي كنتيجة مباشرة لهذا التغير العالمي أدى ذلك إلى:
• دمار وحدة الأسرة.
• تشويه أخلاقي فيما يتعلق بالأمور الجنسية، لقبول ما هو غير شرعي وكأنه شرعي . كالشذوذ الجنسي، والانحرافات الجنسية، والعلاقات خارج الزواج.
• قوانين تبيح حرية استهلاك الخمور دون قيود وتشريعات تحمي تجارة بعض المخدرات كالحشيش.
كروم الأرض
يقول الكتاب المقدس في سفر الرؤيا (وهو سفر ملآن بالرموز والإشارات النبوية المختصة بآخر الأيام) في الإصحاح 14: 14 – 19 "ثُمَّ نَظَرْتُ وَإِذَا سَحَابَةٌ بَيْضَاءُ، وَعَلَى السَّحَابَةِ جَالِسٌ شِبْهُ ابْنِ إِنْسَانٍ، لَهُ عَلَى رَأْسِهِ إِكْلِيلٌ مِنْ ذَهَبٍ، وَفِي يَدِهِ مِنْجَلٌ حَادٌّ. (15) وَخَرَجَ مَلاَكٌ آخَرُ مِنَ الْهَيْكَلِ، يَصْرُخُ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ إِلَى الْجَالِسِ عَلَى السَّحَابَةِ: «أَرْسِلْ مِنْجَلَكَ وَاحْصُدْ، لأَنَّهُ قَدْ جَاءَتِ السَّاعَةُ لِلْحَصَادِ، إِذْ قَدْ يَبِسَ حَصِيدُ الأَرْضِ». (16) فَأَلْقَى الْجَالِسُ عَلَى السَّحَابَةِ مِنْجَلَهُ عَلَى الأَرْضِ، فَحُصِدَتِ الأَرْضُ. (17) ثُمَّ خَرَجَ مَلاَكٌ آخَرُ مِنَ الْهَيْكَلِ الَّذِي فِي السَّمَاءِ، مَعَهُ أَيْضاً مِنْجَلٌ حَادٌّ. (18) وَخَرَجَ مَلاَكٌ آخَرُ مِنَ الْمَذْبَحِ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى النَّارِ، وَصَرَخَ صُرَاخاً عَظِيماً إِلَى الَّذِي مَعَهُ الْمِنْجَلُ الْحَادُّ، قَائِلاً: «أَرْسِلْ مِنْجَلَكَ الْحَادَّ وَاقْطِفْ عَنَاقِيدَ كَرْمِ الأَرْضِ، لأَنَّ عِنَبَهَا قَدْ نَضَجَ». (19) فَأَلْقَى الْمَلاَكُ مِنْجَلَهُ إِلَى الأَرْضِ وَقَطَفَ كَرْمَ الأَرْضِ، فَأَلْقَاهُ إِلَى مَعْصَرَةِ غَضَبِ اللهِ الْعَظِيمَةِ."
عناقيد الكرم هنا ترمز إلى الزيادة الوافرة لثمر الشر والخطية والاعوجاج في أنظمة العالم (ترمز بابل إلى النظام العالمي الشرير). والكتاب المقدس هنا يقدم بصيرة رؤيوية عن وصول أنظمة العالم الشريرة إلى ملء نضوجها وإظهارها في الأرض قبل النهاية.
بدون هذه البصيرة الكتابية فإننا نخسر مقدرة التميز الصائب لحالة الأرض!
نضوج عناقيد الكرم في الأرض هو إشارة لاقتراب قضاء الله ودينونته. الوقت قد حان للحصاد!
توقيت الله للتدخل الإلهي مازال محددا ودقيقا بالرغم من أن الأزمنة والأوقات في الأرض تبدو وكأنها أصبحت خارج نطاق السيطرة.
إن كنا نريد أن نسلك ونعيش حسب التميز الصحيح (والدقيق) للأزمنة والأوقات، علينا أن نتحرك من مستوى فهم وبصيرة للحق بما يتواكب مع طبيعة العالم الذي نحيا فيه. ولا نتحرك بحسب المستويات المتدنية من المادية والمغالاة في العقلانية غير المتزنة.
بحسب هذا المنظور تدرك أن العولمة وكل قوة التشكيل والصياغة التي تحملها هي جزء من نمو عناقيد العنب التي تنبأ عنها سفر الرؤيا.
لكن يوجد أيضاً الكرمة الحقيقية:
يوحنا 15 : 1 – 5 " «أَنَا الْكَرْمَةُ الْحَقِيقِيَّةُ وَأَبِي الْكَرَّامُ. (2) كُلُّ غُصْنٍ فِيَّ لاَ يَأْتِي بِثَمَرٍ يَنْزِعُهُ وَكُلُّ مَا يَأْتِي بِثَمَرٍ يُنَقِّيهِ لِيَأْتِيَ بِثَمَرٍ أَكْثَرَ. (3) أَنْتُمُ الآنَ أَنْقِيَاءُ لِسَبَبِ الْكلاَمِ الَّذِي كَلَّمْتُكُمْ بِهِ. (4) اُثْبُتُوا فِيَّ وَأَنَا فِيكُمْ. كَمَا أَنَّ الْغُصْنَ لاَ يَقْدِرُ أَنْ يَأْتِيَ بِثَمَرٍ مِنْ ذَاتِهِ إِنْ لَمْ يَثْبُتْ فِي الْكَرْمَةِ كَذَلِكَ أَنْتُمْ أَيْضاً إِنْ لَمْ تَثْبُتُوا فِيَّ. (5) أَنَا الْكَرْمَةُ وَأَنْتُمُ الأَغْصَانُ. الَّذِي يَثْبُتُ فِيَّ وَأَنَا فِيهِ هَذَا يَأْتِي بِثَمَرٍ كَثِيرٍ لأَنَّكُمْ بِدُونِي لاَ تَقْدِرُونَ أَنْ تَفْعَلُوا شَيْئاً".
التعبير الواضح للكرمة الحقيقية الدقيقة في الأرض هو أسلوب حياة ملكوت الله وتجسيد المبادئ الإلهية في حياتنا على الأرض بقوة الروح التي تتدفق في المسيح الذي هو الكرمة الحقيقية.
التصاق حياتنا بالمسيح (كالتصاق الأغصان بالكرمة) يعبر عن قوة أسلوب الحياة بحسب مبادئ ملكوت الله وهو الإظهار الدقيق للكرمة الحقيقية في ملئها فهو الكرمة ونحن الأغصان.
الختام:
هذان النوعان من الكرمة يأتيان إلى ملء نموهما في الأرض بينما نقترب من أزمنة النهاية. لذلك فثمة بعدان للعولمة:
1 واحد هو المستوى الطبيعي من العولمة الذي يدركه البشر، ويفسره الاقتصاديون ويناقشه العلماء والمتخصصون لتأثير على الأنظمة الطبيعية في الأرض. هذا البعد من العولمة هو بمثابة الإعلان الكامل عن ملء فساد كرمة الأرض.
2 العولمة الثانية تؤثر في الأرض وكل أنظمتها، ولكن قوتها ليست من الاقتصاد ومؤشراته ولا من أمور اجتماعية أو سياسية. بل تكمن قوتها في المقاصد الإلهية والتي لها القوة لكسر الحواجز والأسوار، وتدمير كل المعوقات التي تسعى لإعاقة تقدم سيادة الله على القلوب الطالبة إياه في كل المسكونة.
لذلك في النهاية
علينا أن نصير جزءا من خطة الله لخير الأرض وإصلاحها. هذه البعد الكوني لإدراك مشيئة الله للأرض، ينمو في داخلنا أولاً، ويحررنا من كل معوقات داخلية لأجل إتمام الأهداف الإلهية التي يريد الله تحقيقها من خلالنا.
عندئذ تنتج حياتنا أعمالا مفعمة بالإبداع والتي تأتي بالخير لأممنا وشعوبنا. وعندما تتنامى فينا هذه الروح المنتصرة فإن النتيجة ستكون عالما أفضل بحسب مشيئة الله ومبادئ الحق.
12
1K
يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.

ويكون ذلك بما يأتي:
1- الاهتمام بتربية الأسرة المسلمة وتثقيف أفرادها وتوجيههم من خلال أجهزة الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة، ومن خلال المساجد وخطب الجمعة والدورات التربوية القرآنية المستمرة أو المؤقتة والمواعظ والمحاضرات العلمية والتوجيهية.
2- ومن خلال المناهج الرصينة في التربية الدينية، وكتب اللغة العربية، وكتب التاريخ والجغرافية والثقافة العربية والوطنية العامة، وحتى الكتب العلمية الصرفة.
3- ومن خلال الكتب والمجلات والجرائد والدوريات الخاصة والعامة.
4- ومن خلال المخيمات الشبابية الصيفية في القطر الواحد أو الأقطار العربية أو الإسلامية.
5- ومن خلال المهرجانات العامة والمؤتمرات التي يجب أن تقام بين حين وآخر في القطر الواحد أو الأقطار المتنوعة.
6- ومن خلال العروض المسرحية والأفلام في المسارح ودور العرض السينمائية.
وغلى غير ذلك من الوسائل التي تشترك جميعًا في تكوين أجيال تشعر بانتمائها الإسلامي وانتسابها الحضاري للأمة العربية والإسلامية(6).
7- ومن خلال وحدة المعرفة التي قامت عليها التربية الإسلامية التي تبغي صياغة الفرد صياغة إسلامية حضارية، وإعداد شخصيته إعدادًا كاملاً من حيث العقيدة والذوق والفكر والمادة، حتى تتكون الأمة الواحدة المتحضرة التي لا تبقى فيها ثغرة تتسلل منها الإغراءات العولمية اللادينية الجنسية الإباحية.
إننا نحتاج في بلاد الإسلام كلها إلى أن نقوم بحملة إسلامية شاملة عبر مخطط حضاري معاصر، تشترك فيها الدول والمؤسسات الرسمية والشعبية والجمعيات والأحزاب جميعاً. لأن مواجهة العولـمة من الخطورة بحيث يجب أن نتعامل معها من مواقع قوية تشهد على وحدة الأمة، وغاياتها النبيلة في هذه الحالة لخيرها ولخير البشرية جميعًا.
نحو وحـدة الأمة
إن أوضاع البلاد الإسلامية المتأخرة في القرن الأخير شجعت المستعمرين على التقدم نحو احتلال بلاد الإسلام، ولم تفد المقاومة غير الموحدة وغير الحضارية في منع وقوع ذلك الاحتلال. فبذل هؤلاء الأعداء المحتلون جهودًا ثقافية إعلامية تربوية كبيرة في سبيل نشر مبادئهم في الوسط الإسلامي. فآمن البعض بالمبادئ الرأسمالية الفردية، وآخرون آمنوا بالشيوعية، وجماعة ثالثة آمنت بالقومية ورابعة بالوطنية الديمقراطية وأخرى بالاشتراكية الثورية، وهكذا دون رجوع إلى محور إلهي ثابت يتحاكم إليه الجميع.
وتقبل الأفكار المفرقة للأمة في أسسها لم يأت فقط عن طريق الفرض الاستعماري فحسب، وإنما ظهر أيضًا نتيجة للاحتكاك الحضاري، بين أمة متأخرة جامدة غير منتجة للفكر والعلم والمدنية، وبين أمم استعمارية غربية قوية دخلت في العصر الحضاري الجديد، فأبدعت في التنظيم وبناء الحياة المادية أيما إبداع. فحصلت من هنا الكارثة الكبرى في بلاد الإسلام، حيث قانون تقليد المغلوب للغالب قد عمل عمله، وسقطت أجيالنا المتلاحقة أمام الأفكار المغرية التي أتتهم من الغرب، دون أن تكون لهم بها قوة في الوعي والتمييز والتمحيص والاختيار.
وقد ظهر ردّ الفعل الإسلامي المسالم أو العنيف على هذه الأوضاع المزرية في التشرذم والفرقة والصراع والصدام. فدعا الإسلاميون إلى الرجوع إلى كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- . ومن هنا حدث صدام فكري ودموي بينهم وبين أصحاب تلك المبادئ اللادينية المناقضة لأسس الإسلام، والذين مكنتهم القوى الاستعمارية من حكم البلاد الإسلامية. واستمر الحال قرابة قرن كامل من الزمان، بحيث ألحق ذلك الصراع أضرارًا فادحة بمجمل حركة التطور الإسلامي إلى الأمام، لأن القوميين العلمانيين والوطنيين اللادينيين، والوجوديين الملاحدة، والشيوعيين الماديين، لم يكونوا على استعداد أن يلتفتوا إلى الإسلام أي التفات، بل عدّوا الإسلام ومن يؤمنون به وينادون بالاحتكام إليه أعداء حقيقيين لهم وللبلاد؛ فالصقوا بهم التهم الباطلة، واتهموهم بإعاقة تقدم الأمة وأدخلوهم في محن طويلة من السجون والتشريد والقتل، وانفردوا هم بحكم البلاد وتدبير أمور السياسة قرابة قرن كامل من أخصب زمان الأمة.
وبدا العقلاء شيئًا فشيئًا يتساءلون: يا تُرى ماذا فعل الحكام اللادينيون الذين كانوا يحكمون بلاد الإسلام، والذين كانوا ينتمون إلى القومية والوطنية والماركسية؟
هل قدّموا المجتمع إلى الأمام؟ هل وحّدوه؟ هل بنوا مجتمعًا متماسكًا؟ هل قادوا تنمية ناجحة؟ هل أسسوا فيها قضاءً عادلاً؟ هل بنوا فيها تعليمًا منسجمًا وتربية محصنة؟ هل حافظوا على كرامة الإنسان المسلم؟ هل كانوا يحكمون بشورى حقيقية؟ هل سخّروا المنافقين من الكتاب والأدباء والشعراء وأهل الصحافة لمصالح الجماهير المخدوعة أم لمصالحهم الطاغوتية؟ هل قضوا على الفقر؟ هل أوجدوا اقتصادًا قنوعًا في العالم الإسلامي؟ أم ضيّعوا ثروات الأمة في رغبات النفس الأمارة بالسوء، وبناء القصور وتزيينها، والمحافظة على استمرارهم في الحكم والسلطان والطغيان؟!.
ألم يأن لهؤلاء أن يعترفوا أنهم مسخوا الأمة بالتقليد، وصنعوا لها الكوارث تلو الكوارث، وأوقعوها راكعة ذليلة أمام الطغيان الأمريكي والصهيونية العالمية.
ألم يأن لهم أن يلتفتوا إلى إسلامهم، فيحاسبوا أنفسهم ماذا جنوا بحقه؟ ويتساءلوا بينهم: هل فهموا حقائقه؟ ألا يجب عليهم أن يجربوه تجربة أصولية عصرية ليعلموا كيف تكون النتيجة؟
- لو ربوا الأجيال على الإيمان والإخلاص والابتعاد عن الذنوب عامة وخاصة، ماذا سيحصدون؟
- لو عادوا إلى استشارة الأمة استشارة ملزمة، ماذا ستكون العاقبة؟
- لو طبّقوا الأنظمة العامة في الشريعة الإسلامية الثابتة بالوحي الإلهي من أجل إحداث تنمية شاملة، ماذا ستنتهي إليه الأمة؟
- لو رجعوا إلى نظام التربية والتعليم نصيب كل إنسان في أسماء الله الحسنى، كيف ستنمو القيم، ويتوحد الشعور ويبدع العقل المنتج وتنطلق الحركة المغيرة؟
ثم ألم يأن للإسلاميين أيضًا أن يقوموا بمساءلة أنفسهم ماذا يجب أن يفعلوا مع أنفسهم؟ هل أفادهم خلط الوحي الإلهي بآراء رجال استنبطوا لعصرهم وفكروا من خلال واقعهم؟
ألا يجب عليهم أن يفصلوا الوحي الإلهي عن التاريخ الذي هو صنع آبائهم وأجدادهم بكل ما فيه من حلو ومر.
- ألا يجب عليهم جميعًا أن يدخلوا في العصر الحديث ليبنوا مستقبل الأمة، فيقللوا الحديث عن الماضي المفرق أحيانًا.
- هل من الإخلاص لله ولرسوله أن نرجع إلى واقعنا الجديد صراعات السلفية والصوفية والأشعرية والمعتزلة والحنبلية والجهمية، والسنة والشيعة، تلك الأفكار التي ذهبت مع صراعات عصرها، ولنا اليوم عشرات المعضلات الحضارية الحديثة التي تنتظر الجواب السديد.
هل يفيدنا في مواجهتنا الحضارية الحديثة لبناء أمتنا الحلول الجزئية المرحلية الماضية التي أكل عليها الدهر وشرب؟.
ألا يجب على الإسلاميين حتى يقنعوا أهل الأفكار الغربية الممزقة بأحقية الحل الإسلامي، أن يعودوا إلى المنهج الشمولي في فهم الإسلام عقيدة وشريعة وسلوكًا بأسلوب جديد ومنهج واع، يعتمد العلم والعقل لا غيرهما.
إن أمتنا تواجه اليوم العولـمة الطاغية الباغية، وهي ساقطة متأخرة بينها وبين أهل الحضارة المسيطرة شأو بعيد.
فهل من المعقول أن نسمح بأن يستمر الانحدار، ويتمكن التأخر، وتزداد الهوة بيننا وبين العصر الحديث.
ألا نحتاج في هذه المواجهة التاريخية الكبرى لتوحيد أمتنا وتقويتها، وبنائها على أصالتها وخصائصها الذاتية والإنسانية إلى محور ثابت أصيل متوازن، يعود الجميع إلى الاحتكام إليه وينسون صراعاتهم وخصوماتهم من أجل الانطلاق إلى بناء أمتنا المجيدة من جديد؟
وهل سنجد هذا المحور الثابت الأصيل المتوازن في غير ديننا الخالد، الإسلام الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه؟.
وهذا الإسلام يشكل المعادلة الأساسية الجوهرية في حياة الأمة، وأعداء الإسلام اليوم بوسائلهم الخبيثة كلها يريدون أن يضربوا هذا الأساس المتين، كي تضيع وحدة الأمة، فتستسلم إلى التبعية الذليلة وتتخلى عن العزة والوحدة والحقوق الأساسية(7).
إن تجربة قرن كامل في قيادة المجتمعات الإسلامية بمعزل عن النظام الإسلامي أثبتت للعلمانيين أنفسهم أنهم كانوا مخطئين في عزل الإسلام عن الحياة، فبدءوا يلتفتون شيئًا فشيئًا إلى دينهم الإسلامي بدرجات متفاوتة، ويدعون إلى عقد ندوات حوارية بينهم وبين الإسلاميين، وهذا في حدّ ذاته حالة صحية مطلوبة؛ لأن الأخطار التي تهدد الأمة من العولـمة الصهيونية في بلاد الإسلام كلها لا سيما في فلسطين تستدعي اللقاء والحوار والتقارب، حتى يصل الجميع إلى صيغة تجمع الكل على القضايا الجوهرية الواحدة في مواجهة تلك الأخطار، وإلا فالعدو بالمرصاد، ويمكن أن يسد علينا نوافذ الضياء جميعًا.
إن تعاون الجميع في إطار حكم شورى والاتفاق على قضايا مصيرية عليا سيعيد التوازن إلى كيان الأمة والأمل إلى الأجيال الجديدة، فيشعرون بلذة التعاون والوحدة، ويتحركون بمنتهى المسؤولية، وحينئذ يمكن أن يقود هذا إلى بداية قوية في أحداث تنمية حقيقية شاملة، تخرج الأمة من ظلمات القرون الأخيرة إلى نور الخطوط المخلصة من أجل القيام والنهوض والتقدم إلى الأمام.
وقد يسأل باحث: ما القضايا الجوهرية التي يمكن أن يتفق عليها الإسلاميون والقوميون والوطنيون في هذه الفترة الانتقالية التي تهدد بلادهم فيها أمريكا ومن ورائها اليهودية العالمية.

شرطة الغرب تخلت عن حقوق الإنسان الغربي
منذ أكثر من قرن ونحن نبتعد عن هذا الدين بقصد وتخطيط، سواء أكان التأثير في ذلك داخليًا أم خارجيًا، داخليًا في قابليتنا للسقوط وخارجيًا في هجمة التبشير والاستشراق والتغريب والاستعمار علينا.
عودتنا هذه المرة إلى إسلامنا، والانطلاق منه إلى عصرنا يقتضي منا إعادة النظر في الأمور الآتية:
الفكر الإسلامي:
- لا بد لنا أن نؤكد على أصول العقيدة الثابتة القاطعة في كتاب الله تعالى وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم- وفصلها من فروعها، والتأكيد على الأصول، وترك الفروع التي اختلف حولها العلماء حتى لا نتمزق من جديد.
- عد تيارات الفكر الإسلامي القديم تيارات اجتهادية جابهت الفلسفات والتيارات الفكرية في زمانها فأصابت وأخطأت، وليس من المصلحة إحياؤها اليوم وإدارة صراعات جديدة عليها.
- مواجهة الأفكار الجديدة بأسلوب جديد ومادة معرفية جديدة، منطلقين من كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- .
- تبني المنهج الشمولي في فهم الإسلام الذي يجمع بين العقيدة والشريعة والسلوك والحركة والبناء الحضاري، من خلال منهج عقلي أصولي سليم.
- الإيمان بأن الفقه الإسلامي، فقه متجدد لا يقف عند زمن معين ولا مذهب معين ومواجهة مشكلات العصر من خلال مقاصد الشريعة وقاعدة الأيسر وليس الأحوط.
- دراسة الأنظمة العامة والمبادئ الكلية في الشريعة الإسلامية بمواجهة ما عند الغرب من مبادئ ونظريات قانونية كلية.
- دراسة السنن الكونية دراسة علمية موضوعية والاستفادة منها في الدخول إلى العصر الحضاري الإسلامي الجديد.
- محاربة مظاهر البدع والخرافة والتواكلية التي أخرت تقدم الأمة وقيامها عبر العصور الأخيرة.
- الرد على الغزو الثقافي العولمي الأمريكي الصهيوني من خلال المنهج السابق في الفكر الإسلامي، بجميع الوسائل التي يعتمد عليها، سواء من خلال الأنماط الفكرية أم الفنية أم الأدبية التي يعرضونها من خلال أفكارهم المناقضة للإسلام.
الفكـر السياسـي:
لا بد من القيام بنقد تاريخي شامل لنظام الحكم في المجتمعات الإسلامية من بعد معركة صفين وإلى اليوم، وإثبات أن الاستفراد بالحكم والاستبداد فيه الذي كان سائدًا في تاريخنا، سواء أكان في الدولة الأموية أم العباسية أم العثمانية أم في دول الأندلس، وغيرها من الدول والدويلات التي حكمت العالم الإسلامي عبر القرون، وكذلك في الدول الحديثة والمعاصرة على تنوع أنظمتها العلمانية أو ادعائها تبني الإسلام والتطبيق المزيف أو المنقطع المجزأ بالكتاب والسنة منهج استبدادي مخالف لنظام الحكم الشوري في الإسلام مخالفة أكيدة، وإنه جلب على الأمة الإسلامية عبر العصور مآس جمّة وخرابًا شاملاً، وإنه من أعظم أسباب سقوط المجتمع الإسلامي وأزماته قديمًا وحديثًا.
إن نظام الشورى في الإسلام كما طبّقه الرسول -صلى الله عليه وسلم- وخلفاؤه الراشدون y ، وكما يمكن أن يلجأ اليوم إلى الآليات والأساليب المعاصرة المنسجمة مع روح الإسلام لتحقيق مقاصد الشورى، هو الذي يحقق كرامة الإنسان المسلم، ويعيد إليه حقه في المعارضة والتعبير عن آرائه بحرية أخلاقية منضبطة.
إن بقاء النظام السياسي في المجتمع الإسلامي إلى لحظة كتابة هذه الكلمات نظامًا تسلطياً فرديًا استبداديًا، لن يكون إلاّ في مصلحة قادة العولـمة، وأعداء هذه الأمة. إن الصدام بين الشعوب وحكامها لن يكون إلاّ في صالحهم. ولذلك نجد أن العولـمة تشجع بقاء الأنظمة الظالمة في بلاد الإسلام، مع أنها تدعي أنها تريد الديمقراطية والحرية في العالم.
إن العقلاء جميعًا متفقون على أنه ما من مصيبة من مصائب هذا القرن، قد حلت بالإسلام والمسلمين إلاّ كانت نتيجة مباشرة لصراعات الحكام فيما بينهم واستبدادهم بالرأي، ومحاربتهم لأهل الرأي السديد وعدم سماعهم قول الحق وعدم رجوعهم إلى موازين الإسلام عقيدة وشريعة وأخلاقًا. فضلاً عن ارتباط كثيرين منهم بأعداء الأمة والدين.
إن معظم حكام المسلمين في القرن الأخير قد أحدثوا فرقة كبيرة بين المسلمين، أو لم يهيئوا صفوف الأمة للجهاد والحركة والتغيير والبناء، وضيعوا ثروات الأمة على مباذلهم وقصورهم، وعلى حياة البذخ والفخفخة الفارغة، أو على حروب خاسرة لم يخططوا لها ولم تكن لهم فيها إرادة للقتال أصلاً.
إن نتيجة تلك السياسات هي التي أدت إلى طغيان الصهيونية واستيلائها على أرض فلسطين، وهي التي تؤدي اليوم إلى خطر طغيان العولـمة الشرسة علينا.
إنني أكاد أجزم مع الجازمين أن أي إصلاح لا يمكن أن يجري على أصوله الصحيحة في بلاد الإسلام، ما لم تتغير طبيعة النظام السياسي في بلاد الإسلام، من الاستبداد إلى الشورى، ومن مصادرة الرأي إلى الحرية في الرأي والمعارضة، ومن مصالح الأفراد والأسر إلى مصالح الأمة من حيث هي كل لا يتجزأ ومن حكم الحكام إلى حكم المؤسسات الدستورية.
وهذا هو سر حرص أمريكا واليهودية العالمية ومن شاكلهما من دول الطغيان على إبقاء الوضع السياسي في العالم الإسلامي على ما هو عليه؛ لأنه يجلب لهم الأمن والأمان والسكوت على جرائمهم بحق الإسلام والمسلمين.
الفكـر الاقتصــادي:
لقد استنبط الاقتصاديون الإسلاميون النظام الاقتصادي الإسلامي المعاصر من كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- ومن معالجات الخلفاء الراشدين واجتهادات الفقهاء المجتهدين عبر العصور. وزادوا على ذلك ما استجد من قضايا الاقتصاديات المعاصرة والتي تتلاءم مع روح الإسلام. وأستطيع أن أزعم أن التوجه الإسلامي في بناء الاقتصاد هو الذي ينقذ الأمة من التخلخل الاقتصادي، ويقضي على التفاوت الظالم في الثروات، ويعيد التوازن إلى المجتمع الإسلامي، ويحدد وظيفة الدولة الاقتصادية من خلال ذلك التوازن.
لماذا؟!!.
- لأن الاقتصاد الإسلامي اقتصاد مرن لا يعين معالجة واحدة في كل حالة زمانية أو مكانية، وإنما يقرر الأصول ويفتح حرية الحركة أمام الاقتصاديين، لحل المشكلات الاقتصادية حسب الظروف المختلفة.
- منع الاستغلال والاستلاب للقضاء على سوء توزيع الثروات والحيلولة دون قيام المجتمع الظالم.
- التملك مشروع ولكنه محاط بسياج من القيود حتى لا يؤدي إلى التعسف في استعمال حق الملكية، ويشرع الإسلام مع الملكية الفردية الملكية العامة وملكية الدولة.
- لا بد من وجود التكافل الاجتماعي في المجتمع الإسلامي؛ لأنه هو الذي ينتهي إلى التوازن.
- تكافؤ الفرص أمام الجميع وعدم تعطيل الطاقات الإنسانية.
- تغليب الاتجاه الجماعي في الاقتصاد الإسلامي لتغليب مصالح الأكثرية الكادحة.
- حرمة الكنز وحبس الثروات، وتوظيفها لأداء وظيفتها الاجتماعية.
- الدولة لها الحق في التدخل في الحياة الاقتصادية، كلما رأت الضرورة في تحقيق مصالح العباد.
- العمل هو المعيار الأساسي، وهو نابع من فكرة الاستخلاف، ويلتزم المجتمع بإيجاد عمل لكل قادر.
- المحافظة على رأس المال وإنماؤه وعدم إضاعته، ولذلك شرع الإسلام مبدأ الحجر على أموال السفهاء.
- في ظل الاقتصاد الإسلامي تكفي الموارد؛ لأنه ليس اقتصاد ترف. كل تنظيم اقتصادي معاصر، يزيد في الثروة ويحقق مقاصد الإسلام في إسعاد الناس، هو من الاقتصاد الإسلامي، من منطلق القاعدة الشرعية، حيثما كانت مصالح العباد، فثمة شرع الله.
- من الواجب أن يتعاون الجهد الإنساني في أجنحته كافة في تحقيق التنمية الاقتصادية الشاملة.
هذه هي بعض الملامح العامة لمذهبية الاقتصاد الإسلامي المتميز عن باقي الأنظمة الاقتصادية المعروفة اليوم تمام التميز، لا بد أن يؤدي عند تطبيقه إلى طريق جديد للتنمية في المجتمع الإنساني، طريق ليس آلياً يبغي الربح وحده أو الكفاية الاقتصادية وحدها، إنما هو طريق إنتاج اقتصادي أخلاقي إنساني، يفي حاجة الإنسان وضروراته وشيئًا من كمالياته، إن أمكن ذلك(1).
يقول الاقتصادي الفرنسي جاك أوستروي: "إن طريق الإنماء الاقتصادي ليس مقصورًا على المذهبين المعروفين، الرأسمالي والاشتراكي، بل هنالك مذهب اقتصادي ثالث راجح، هو المذهب الاقتصادي الإسلامي، ويقول: "إن هذا المذهب سيسود عالم المستقبل؛ لأنه أسلوب كامل للحياة"(2).
فإذا انطلق المسلمون من مذهبية الاقتصاد الإسلامي التي تتفرع من مذهبية الإسلام العامة في الكون وخالقه والمجتمع والإنسان، فاستفادوا من إمكانية المسلمين الاقتصادية الضخمة المتنوعة، وكانوا أقوياء الأداء في جانب التشييد والمعادن والزراعة(3) وقابلوا العولـمة المركزية الأمريكية الصهيونية، بعالمية عربية وإسلامية وشرقية(4)، وتعاملوا مع الاقتصاد العالمي من خلال تبادل المنافع، وخططوا للتنمية تخطيطاً ذاتيًا جيدًا، مستفيدين من خبرات وتنظيمات الحضارة الغربية وأقاموا سوقًا إسلامية مشتركة، ونقلوا أرصدتهم الضخمة إلى العالم بعد إعادة الثقة إلى وحدة الأمة وأخوة أبنائها، فإنهم يستطيعون في هذه الحالة أن يقللوا كثيرًا من أخطار العولـمة عليهم؛ لأن العولـمة كالذئب لا يأكل إلاَّ من الغنم القاصية.
الفكر الاجتماعي الإسلامي:
لا بد من التأكيد على النظام الاجتماعي الإسلامي في الأمور الآتية:
1- يقوم المجتمع الإسلامي على جهود الرجال والنساء، يكمل بعضهم بعضًا.
2- ليست هنالك مفاضلة في أصول الخلقة ولا مفاضلة لجنس على آخر في أصل الخلقة، بل كل جانب يفضل الآخر فيما كلف به من واجبات شرعية.
3- أقر الإسلام في تشريعاته بإنسانية المرأة واستقلال شخصيتها وعدها أهلاً للتدين والعبادة، وأقر حق المبايعة لها كالرجل ودعوتها إلى المشاركة في النشاط الاجتماعي المنضبط بضوابط الأخلاق، وقد سمح لها بالأعمال التي تتفق مع طبيعتها، وشرع لها نصيبها في الميراث وإشراكها في إدارة شؤون الأسرة وتربية الأولاد، وأوجب معاملتها بالمعروف واحترام آدميتها كما أنه ساوى بينها وبين الرجال في الولاية على المال والعقود، وأقر لها شخصيتها القضائية المستقلة(5).
ومن هنا فإنه لا بد أن نجتاز بالمرأة المسلمة عصور التخلف والجهالة وسوء التأويل لتشريعات الإسلام لحياة المرأة، والاعتراف الكامل بكونها نصف المجتمع، ولا بد من إعادة النظر في مشكلاتها الاجتماعية في ضوء أحكام الشريعة الإسلامية العامة ومقاصدها الحكيمة وغاياتها في الحياة لتحديد مسؤوليتها الأسرية والاجتماعية والدعوة إلى ترك الاجتهادات الماضية التي تمثل عصورها وأعرافها، والتي قيدت المرأة في التربية والتعليم، والاشتراك في مضامير الحياة المتنوعة التي تتفق مع فطرتها وتكوينها ومصلحتها ومصلحة مجتمعها، دون الانجراف وراء مغريات الحياة الإباحية التي انتهت إليها الحضارة الغربية.
4- يقوم المجتمع الإسلامي على القاعدة الإيمانية التي تجمع بين المسلمين جميعًا دون الالتفات إلى اختلافات اللغة أو اللون أو العرق.
5- أهل الأديان جميعًا لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين إلاّ فيما يخص القضايا التشريعية الخاصة بكل طرف.
6- البشر جميعهم كرامتهم مصانة في إطار المجتمع الإنساني.
7- المجتمع الإسلامي يقوم على أساس نابع من قيم الإسلام والقيم العامة التي اجتمع عليها الإسلام.
8- لا بد أن تحقق العدالة المطلقة في المجتمع الإسلامي للجميع، ولا فرق في ذلك بين المسلمين وغير المسلمين.
9- الأسرة في المجتمع الإسلامي تقوم على القواعد الإسلامية في المحافظة على العفاف والفطرة والابتعاد عن الفوضى الجنسية، وخرق نظم الأخلاق التي يقرها الإسلام.
10- تكافؤ الفرص أمام الجميع لإظهار القدرة والاستعداد لبناء المجتمع والحضارة.
الفكر التربوي الإسلامي:أمام هجمة الفضائيات العولمية وتخطيطها العلمي والفني الذكي في عرض أفكارها بطرق متنوعة مؤثرة، عبر الأنماط الفنية من المسلسلات والأفلام والتعليقات والتقارير التي تدخل يوميًا مئات الملايين من أجهزة التلفزيون والإذاعة والإنترنت على وجه الأرض، لا يمكن الحفاظ على الذات والأصالة والخصوصية الدينية والفكرية، إلاّ بتربية أبناء الأمة تربية مخططة تشعرهم بأنهم أبناء أمة التوحيد والإيمان وتنشئتهم نشأة إسلامية، وتحصنهم فكريًا وأخلاقيًا وسياسيًا واجتماعيًا واقتصاديًا، بحيث يعلمون بيقين كامل أنهم متميزون عما يشاهدون. وبذلك يستطيعون أن يكتشفوا الباطل من الأقوال والأفعال والسلوك. وإن لم نفعل ذلك ونتعاون عليه في العالم الإسلامي كله، فسنجابه فتنة كبيرة وفسادًا عظيمًا وذوبانًا تدريجيًا مؤكدًا في طغيان إعلام العولـمة الرهيب.

معارضع العولمة
الإسلامي للأسباب الآتية:- نمر بمرحلة ضعف الإيمان، ونفتقد إلى معرفة العقيدة الإسلامية الصحيحة، ونتمزق مذهبياً وطائفياً وعنصرياً، وتتمكن منا العقلية اللاسببية والنظرة التواكلية.
- غفلنا عن تسخير سنن الله في الكون والحياة، بل جهلناها، لعدم فهمنا كتاب الله وسنة رسوله(صلى الله عليه وسلم) ، الأمر الذي أدى إلى تأخرنا الحضاري الذي أخرجنا من دائرة الصراع الحضاري والحوار الحضاري في الوقت نفسه، فتقدم علينا واستعمر بلادنا وحرف أجيالنا عبر المنهج الدنلوبي (25) المعروف، ونشر فينا المبادئ اللادينية، لتحدث أزمة كبيرة بين مثقفينا تجاه الإسلام(26).
- نسينا بأن الله تعالى ربّ العالمين وليس ربّ المسلمين فحسب، فظننا أن مجرد كوننا مسلمين جغرافيين يكفى لإنجاز وعد الله لنا بالنصر، في حين أن الله سبحانه وتعالى يقول: } إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ{ (27)، فهل نحن نصرنا الله تعالى فيما أمر به ونهى عنه؟
- لم نتمسك بأعظم شريعة ارتضاها الله تعالى لنا، تنظم حياتنا، وتربي أجيالنا، وتبصرنا بحقائق الحياة، وتدخل السلام والأمن في دواخل نفوسنا وأعماق أسرنا، وجنبات مجتمعنا، وتنشئ أمة موحدة مؤمنة مجاهدة، تتحرك في اتجاهات الحياة كلها، تريد البناء والتغيير والتجديد دائماً.
- ولما ضعف إيماننا وانحسر التزامنا، انهارت أخلاقنا الفاضلة وقيمنا الرفيعة، فتخلخل سلوكنا وانتشرت بيننا السلبية والانهزامية والنفاق والأنانية.
- افتقدنا القدوات الصالحة، ونسينا أن نربي أجيالاً تقتدي برسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأهل بيته الطاهرين وصحابته الأكرمين والعلماء العاملين والدعاة الصادقين. فانحرفت أجيالنا إلى الاقتداء بصعاليك الشرق والغرب من التافهين والتافهات والساقطين والساقطات، فتخرج عليهم أجيالٌ تافهة تعبد الشهوات وتركن إلى حياة الدعة والمجالس الفارغة الخالية من الرجولة والشهامة والفضيلة والصدق.
- لم نستفد من إمكانات العالم الإسلامي المادية والمعنوية وثرواته المتنوعة الهائلة، كي نحدث تنمية حضارية واجتماعية شاملة، نستطيع أن نقاوم التآمر العالمي علينا ونحفظ شخصيتنا المعنوية وكياننا المادي.
- اعتمدنا في ضروريات حياتنا على أعدائنا، سواء في السلاح أم في التقنيات أم الغذاء، التي لا تتمشى مع خصائص عناصرنا الإنتاجية حتى نظل تابعين للغرب، وبذلك نبقى مهمشين في صناعات ناقصة غير ذات جدوى.
- لدينا فائض يتجاوز 800 مليار دولار في بنوك الغرب، ومع ذلك نقترض منهم قروضاً مجحفة تعيق التنمية؛ لأن الفوائد التي ندفعها تبلغ أضعاف أصل الدين بمرور الزمان.
- معظم حكوماتنا لمناهجها العلمانية ارتبطت بالاقتصادات الغربية، بلا ضوابط أو فهم دقيق لاتجاهاتها أو مضامينها، وبغير مطابقتها لمتطلبات التنمية الحقيقية التي تحتاج إليها مجتمعاتنا، ولما لم تصح المنطلقات كانت النتائج سيئة جداً.
- لم نستطع أن نبني المؤسسات الشورية، حتى تنتهي من حياتنا مظاهر الاستبداد، التي زرعت في أمتنا بعد معركة صفين الطغيان خلافاً لما أراده الإسلام لنا، من بناء الحُكم على أساس المشاورة، كي تبني الأمة حياتها، وتقرر القضايا الخطيرة التي تتصل بمستقبلها. ومن هنا فقد انفرد الحكام في تاريخنا دائماً ببناء حياتنا كما كانت تفرضه عليهم أهواؤهم ومصالحهم. لا سيما حكام المسلمين في العصر الحديث الذين بتفرقهم وخلافاتهم واستبدادهم بالرأي كله ضيعوا على الأمة فرصاً تاريخية كبيرة، ومكنوا الأعداء من حياة الأمة الواحدة، وأرضها وكرامتها، ولا سيما الصهاينة الطغاة الذين سلبوا أرض فلسطين مستغلين هذا الواقع الأليم.
ولذلك صدق من قال: "السياسة هي مركز العصب في الحياة الاجتماعية العربية العامة. وهي في الوقت نفسه مركز العطب في عموم الحركة الاجتماعية"(28).
- لقد سحق أمتنا الجهل والجوع والمرض، نتيجة للمخططات الظالمة التي طبقت في مجتمعاتنا الإسلامية. إن هم الإسلام الكبير كان تمكين أبناء الطبقات المسحوقة بالعيش الكريم الذي يحفظ إنسانيتهم وكرامتهم. وهذا معلوم بالضرورة لكل من يدرس تشريعات الإسلام للقضاء على الفقر والأمية والمرض.
- لم نستطع أن نقضي على البيروقراطية والروتين والاستهانة بالزمن في حياتنا. ومن هنا ارتفعت معدلات البطالة، ولم نستطع أن نطور نمو ثرواتنا فاحتجنا إلى الوقوع تحت المديونيات الثقيلة للمؤسسات المالية العولمية.
لقد كانت نتيجة العولـمة خطيرة في حياتنا الاقتصادية، فضلاً عن الجوانب الأخرى حصرها بعض الاقتصاديين العرب بالنقاط الآتية:
1- إنهاء دور القطاع العام وإبعاد الدولة عن إدارة الاقتصاد الوطني.
2- عولـمة الوحدات الاقتصادية وإلحاقها بالسوق الدولية لإدارتها مركزياً من الخارج.
3- العمل على اختراق السوق العربية من قبل السوق الأجنبي.
4- إدارة الاقتصادات الوطنية وفق اعتبارات السوق العالمية بعيداً عن متطلبات التنمية الوطنية.
5- العمل على إعادة هيكلة المنطقة العربية في ضوء التكتلات الدولية(29).
إن العولـمة ليست ظاهرة مؤقتة، ولا هي قضية محدودة، وإنما هي مؤامرة عالمية كبرى على البشرية، تقف وراءها دول قوية، وأموال جبارة وخبرة علمية تقنية عالية ومخططات ذكية للسيطرة رهيبة. فلا يمكن والحالة هذه أن نحمي أنفسنا منها ونتعامل معها بقوة واستقلالية وذكاء إلاّ إذا غيرنا حياتنا منطلقين من قوله تعالى: } إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ{ (30).
وتغيير حياتنا لا يتم إلاّ باتباع الحقائق الآتية:أولاً: نزل الإسلام دينا خاتماً كاملاً شاملاً على قلب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ، فواجه الجاهليات العالمية، ونقل العباد من عبادة الأنداد إلى عبادة الله وحده، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، وأنشأ لهم مجتمعاً إنسانياً عابداً عالماً عادلاً عاقلاً، قضى على الشرك والخرافة واللاسببية واللاعقلانية في المجتمع الإسلامي. وكان نظام المجتمع هو الشريعة الإسلامية التي أمرت بالمعروف والعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، ونهت عن الفحشاء والمنكر والبغي. وسببت قيام أعظم تنمية حضارية في المجتمع الوسيط(31)، قامت على التجربة والعلم، فأنشأت المدارس والجامعات والمستشفيات. وحكم القضاء الإسلامي بالقسطاس المستقيم بين الناس، وعرف الإنسان المسلم أن له نصيباً من كل اسم من أسماء الله الحسنى، فتمسك به، وأدب نوازع نفسه الأمارة بالسوء، فكانت حياته موازنة دقيقة بين تلك الأنصبة التي أدت إلى نشر القيم الإسلامية الرفيعة التي كانت تتحرك في دائرة الإسلام ودائرة الأديان ودائرة الإنسانية جميعاً.
ثانيًا: لقد غير الإسلام حياة الإنسان تغييراً شاملاً، فكانت سلسلة حركة وجهاد في مناحي الدنيا كلها. وانتشر الإسلام من الصين حتى الأندلس، ومن أواسط آسيا إلى مشارف جنوب أفريقيا، وهدى الله به أعيناً عميا وآذاناً صما وقلوباً غلفا. وقامت عليه مجتمعات ودول حققت انتصارات ساحقة على البغاة والطغاة والمعتدين، وتربت أجيال كانت تحب الموت في سبيل الله، كما كان المشركون يحبون الحياة في سبيل الشيطان.
وأوجد الإسلام أمة موحدة راحمة، تتكافأ دماء أبنائها ويقوم بذمتهم أدناهم وكانوا يداً على من سواهم، جنسيتهم الأولى كانت هي الإسلام. ذابت فيها فوارق القوميات واللغات والأوطان. ثم أصاب المسلمين ما أصابهم من الضعف الإيماني في القرون الأخيرة كما ذكرنا قبل صفحات.

العولمة من منظور إسلامي
معارضة العولمة
آلاف المتظاهرين الأوروبيين ضد العولمة
لن تمر العولـمة في ترتيباتها الاقتصادية وسيطرتها الثقافية على أرض موطدة، وإنما ستصطدم بفطرة تكوين المجتمع الإنساني من لغات متعددة وأديان متباينة وثقافات متنوعة. وفي هذا الاختلاف قال الله تعالى في كتابه الكريم:{ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ* إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} (1) وقال في آية أخرى: { وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ} (2).
واستقراء التاريخ الإنساني يدل دلالة قاطعة على أن محاولة إخضاع البشرية لطريق واحد وحضارة واحدة أمر مستحيل في حدّ ذاته؛ لأن تلك المحاولة ستفجر المجتمعات الإنسانيـة من الداخل، ويبدأ الصراع ثم الحرب في ظل القانون الإلهي: { وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} (3).
وعلى الرغم من أن العولـمة ظهرت منذ عهد قريب، فإن طلائع المعارضة لها بدأت تظهر في أنحاء العالم، وإن لم تكن اليوم قويةً كاسحةً؛ لأن القضية لا تزال في بدايتها.
إن طغيان الإعلام والثقافة الأمريكيتين في القنوات الفضائية دفع وزير العدل الفرنسي جاك كوبون أن يقول: "إن الإنترنت بالوضع الحالي شكل جديد من أشكال الاستعمار، وإذا لم نتحرك فأسلوب حياتنا في خطر، وهناك إجماع فرنسي على اتخاذ كل الإجراءات الكفيلة لحماية اللغة الفرنسية والثقافة الفرنسية من التأثير الأمريكي"(4).
بل إن الرئيس الفرنسي جاك شيراك عارض قيام مطعم ماكدونالدز الذي يقدم الوجبات الأمريكية، مسوغًا ذلك أن يبقى برج أيفل منفردًا بنمط العيش الفرنسي(5).
كما شن وزير الثقافة الفرنسي هجومًا قويًا على أمريكا في اجتماع اليونسكو بالمكسيك، وقال: "إني أستغرب أن تكون الدول التي علّمت الشعوب قدرًا كبيرًا من الحرية، ودعت إلى الثورة على الطغيان، هي التي تحاول أن تفرض ثقافة شمولية وحيدة على العالم أجمع. ثم قال: إن هذا شكل من أشكال الإمبريالية المالية والفكرية، لا يحتل الأراضي، ولكن يصادر الضمائر ومناهج التفكير واختلاف أنماط العيش"(6). وتبعًا لهذه السياسة قررت فرنسا أن تكون نسبة الأفلام الفرنسية المعروضة باللغة الفرنسية من التلفزيون 60%(7).
وفي المقاطعات الكندية بلغت الهيمنة الأمريكية في مجال تدفق البرامج الإعلامية والتلفاز إلى حد دعا جمعًا من الخبراء إلى التنبيه إلى أن الأطفال الكنديين، أصبحوا لا يدركون أنهم كنديون لكثرة ما يشاهدون من برامج أمريكية(.
كما أن النرويج عارضت اتفاقية ماستريخت؛ لأنها ترفض الاندماج بالهوية الأوربية، وتحفظت سنغافورة على شبكة الإنترنت خشية على القيم الكونفوشيوسية(9).
ويقول جون جراي في كتابه: الفجر الكاذب – أوهام الرأسمالية العالمية: "إن الظروف الحالية في العالم تنذر بكارثة محققة، لأن فرض السوق الحرة الأنجلوسكسونية على العالم يمكن أن يؤدي إلى انهيار شبيه بانهيار الشيوعية العالمية، وأن الاتجاه نحو فرض الأسواق الحرة سيفجر الحروب ويعمق الصراعات العرقية ويفقر الملايين. وقد تحول بالفعل الملايين من الفلاحين الصينيين إلى لاجئين. كما سيؤدي إلى استبعاد عشرات الملايين من العمل والمشاركة في المجتمع حتى في الدول المتقدمة. وقد تفاقمت الأوضاع في بعض الدول الشيوعية السابقة لتصل إلى الفوضى العامة وشيوع الجريمة المنظمة، كما أدت إلى تزايد تدمير البيئة"(10).
وكتاب فخ العولـمة السابق ذكره صرخة ألمانية ضد العولـمة.
وفي سياتل حيث عُقد المؤتمر الوزاري الثالث لمنظمة التجارة العالمية، ثار المؤتمرون ضد انفراد أمريكا بزعامة العالم، حيث أصرت الدول النامية ودول الاتحاد الأوربي واليابان وكوريا الجنوبية على رفض الخضوع لقاعدة الرضا الأمريكي باعتبارها القاعدة الحاكمة – من الناحية الفعلية - لصدور القرارات في نطاق منظمة التجارة العالمية(11).
والمظاهرات التي جرت في أثناء المؤتمر والتي هزت العالم، كان بين شعاراتها:
1 - العالم لن يتحول إلى سلعة يتداولها الأقوياء.
2 - الناس والشعوب قبل الأرباح.
3 - لا نريد تجارة حرة بل نريد تجارة عادلة(12).
وجُل المفكرين المختصين في مجالات الاقتصاد والاجتماع يعارضون بشدة طغيان العولـمة، وقد لخصت الباحثة "ثناء عبد الله" وجوه هذه المعارضة بالنقاط الآتية:
1- اعتبار ما تملكه منظمة التجارة العالمية من سلطة تفوق سلطة الدولة متناقضًا مع متطلبات السيادة الوطنية. وهو ما يؤثر في قدرة الدول على سن التشريعات والقوانين والقواعد التي تلائم خططها وتوجيهاتها.
2- اتهام الشركات المتعددة الجنسيات باستغلال العمالة في الدول النامية عن طريق تشغيلهم بأجور زهيدة.
3- معارضة فتح الأسواق الأمريكية لما يمكن أن يترتب عليه من دخول سلع دون المواصفات البيئية والصحية السليمة.
4- معارضة تشغيل الأطفال.
5- اتهمت الجماعات الداعية للحفاظ على البيئة منظمة التجارة العالمية بأنها ستدمر البيئة(13).
وهنالك حقيقة لا بد من ذكرها وهي أن الرأسمالية التي تعتمد عليها العولـمة ليست منهجًا واحدًا في كل بلد، فالرأسمالية الأمريكية والبريطانية لا ترى أي دور للدولة، بينما الرأسمالية اليابانية والآسيوية تلعب السياسة الصناعية وتوجهات الدولة دوراً كبيراً فيها، أما الرأسمالية الفرنسية فتخطيط الدولة يضع مؤشرات للقطاع الخاص، بل تدخل بنفسها منتجاً. أما رأسمالية الدول الاشتراكية السابقة، فما زالت في طور التحول. وأما الاشتراكية الديمقراطية فقد تجمع قواها وتأتي بأفكار جديدة لمحاربة الرأسمالية أو لتقليل شرورها أو مساوئها(14). ولا شك في أن السبب في ذلك أن هذه الدكتاتورية الدولية تتناقض ومصالح الأغلبية العظمى من دول العالم، بما في ذلك الدول الكبيرة والمتوسطة، وهو ما يفرض صياغة الإجراءات المضادة للخروج من هذه الدكتاتورية(15).
ومجمل القول، فإن مقاومة العولـمة بالصيغة الأمريكية الرأسمالية الصهيونية، ستقاومها البشرية شيئاً فشيئاً في ضوء قانون السيرورة الكونية: قانون التحدي والاستجابة. فروسيا ولغتها ودينها وعنجهيتها القيصرية وذكرياتها السوفيتية وقدراتها التدميرية، والصين وأعماقها الكونفوشيوسية، والهند وخلفياتها البوذية، واليابان ومصالحها الاقتصادية الهائلة وذكرياتها مع هيروشيما وناجازاكي وألمانيا وفلسفتها العرقية التي ما زالت كامنة في اللاشعور، كل هذه المقدمات ستحول دون وصول العولـمة إلى أهدافها النهائية. وهكذا شعوب العالم التي تنتمي إلى تواريخ وحضارات لا يمكن أن تتحول إلى أموات بين يدي غاسل العولـمة الأمريكية الصهيونية. فإذا كان هذا وضع العالم وشعوبه، فيا ترى.. ما هو موقفنا نحن في
العالم الإسلامي حيال العولـمة؟
هل نرفض العولـمة؟
العولـمة ليست فلسفة محدودة أو ثقافة ضيقة أو مذهباً اقتصادياً محصوراً، أو قناة تلفازية ذات اتجاه واحد. العولـمة – من خلال ما شرحنا – ظاهرة عالمية كونية شاملة، تغمر كرتنا الأرضية، وهي أكبر حقيقة واقعية في عصرنا الراهن في ظل ثورة أحالت الكرة الأرضية إلى كرة من المعلومات تدور في الاتجاهات كلها(16). إن العولـمة غزت الدنيا كلها، في السياسة والاقتصاد والاجتماع والتربية والتعليم والثقافة والإعلام والآلات العسكرية. وهنالك ما يزيد على خمسمائة قمر صناعي تدور حول الأرض مرسلة إشارات لاسلكية تكرس العولـمة، فبوساطة الصور المتحركة على شاشات أكثر من مليار جهاز تلفزيوني، تتشابه الصور وتتوحد الأفكار والأحلام والأماني والأفعال، بحيث قيل عن هذا الإعلام بأنه إعلام بلا وطن في فضاء بلا حدود(17).
إذن فلا يمكن أن يدَّعي عاقل أننا نستطيع أن نضع الأمة الإسلامية في علبة ونغلق عليها الباب(18). وحتى إذا استطعنا فإن هذا ليس في صالحنا، ولا صالح أجيالنا القادمة، ولا في صالح بناء حضارتنا الإسلامية الجديدة، ولا في صالح البشرية التائهة التي تنتظر منقذاً يقدم إليها القيم الفاضلة، والأخلاق النبيلة، والأخوة الإنسانية الحقيقية، التي تربط بين البشر جميعاً.
ولقد صدق أحد الباحثين من المسلمين عندما قال: "والخطر لا يكمن في العولـمة ذاتها بقدر ما يكمن في سلبية المتلقي، وفي التوظيف الأيديولوجي للعولمة، ونجاح العولـمة في الهيمنة والاختراق والتأثير لا يتعلق بإمكانيات وقدرات الدول المتقدمة الفاعلة المصدرة للعولمة بقدر ما يتعلق بقوة وضعف الدول الأخرى المتلقية"(19).
نعم.. فالأمم الضعيفة في مواجهة العولـمة، هي التي تخسر كل شيء. وأما الأمم القوية التي تواجه العولـمة وتندمج بها وتتفاعل معها، فهي التي
تربح معركة المنافسة الحضارية مع العولـمة.
إن التعامل مع دنيا العولـمة لا يعني أن العولـمة قدر مفروض يكسب الرهان دائماً، ولا يعني أنه استسلام ذليل، وإنما التعامل القوي يعني التعايش معها، وتوظيف بُعدها التكنولوجي والحضاري والاستفادة منه لمواجهة الهيمنة باسم العولمة.
ولا بد لنا أن نقرر هنا أنه ليست هنالك حضارة أو ثقافة أو قيم أو دين على وجه الأرض ستتأثر بالعولـمة، كما سيتأثر بها الدين الإسلامي والحضارة الإسلامية والعالم الإسلامي. وإن جاء باحث ودرس العولـمة بأبعادها كلها دراسة متفحصة وادَّعى بأن تدمير المسلمين جميعاً هو المقصود الأهم والشاغل الأكبر للعولـمة الأمريكية الرأسمالية الصهيونية، ما بالغ في رأي الكثيرين في ذلك(20).
ويتحـدث المفكر الفرنسي المسلم رجاء جارودي عن هـذه العولمة الأمريكية الصهيونية فيقول: "هــذه الوحدة التي أسسها الحكام الأمريكان، واللوبي الصهيوني "الآيباك" AIPAC، وساسة دولة إسرائيل، تقوم اليوم - أكثر من أي وقت مضى - على وحدة الهدف الذي هو محاربة الإسلام وآسيا اللذين يعدان أهم عقبتين في وجه الهيمنة العالمية الأمريكية والصهيونية"(21).
ويقول باحث آخر: "ومن المؤكد أن المستهدف بهذا الغزو الثقافي هم المسلمون. وذلك لعاملين:
أ – ما تملكه بلادهم من مواد أولية هائلة يأتي على رأسها النفط والغاز وثروات طبيعية أخرى.
ب – ما ثبت لهم عبر مراكزهم وبحوثهم وجامعاتهم ومستشرقيهم إن هذه الأمة مستعصية على الهزيمة، إذا حافظت على هويتها الإسلامية، ومن ثم فالطريق الوحيد لإخضاعها يتمثل في القضاء على تفرد شخصيتها وإلغاء دينها الذي يبعث فيها الثورة والرفض لكل أشكال الاحتلال والسيطرة(22).
وأزيد أنا على هذين العاملين مسألتين أخريين:
جـ – الحفاظ على أمن الكيان الصهيوني في قلب العالم الإسلامي، وهو من أهم أهداف العولـمة في بلاد العرب والمسلمين.
د – الحضارة الإسلامية بعقيدتها وشريعتها ونظام أخلاقها وإنجازاتها التاريخية هي النقيض الوحيد الشامل لفلسفة العولـمة ودينها وأنظمتها وقيمها الهابطة في هذه الدنيا التي نعيش فيها.
ماذا يمكن أن تفعل العولمة بالمسلمين؟
أولاً: العولـمة تستند استناداً مباشراً إلى الحضارة الغربية المعاصرة التي توجهها المبادئ اللادينية الوضعية التي لا تؤمن بوجود الله أو لا تسأل عنه أساساً؛ ولا تعترف بالعقائد الدينية الأخرى من الإيمان بالنبوات العامة وبنبوة النبي محمد ، ولا باليوم الآخر ولا بالغيبيات الثابتة في النصوص القاطعة من كتاب الله وسنة رسوله . ومن هنا تنشر الحياة المادية والإلحادية عبر شبكاتها الكونية بأساليب في غاية الإغراء والتأثير في النفس الإنسانية، فتؤثر في مئات الملايين من المسلمين مباشرة أو بصورة غير مباشرة، فتؤدي إلى الإنكار والتشكيك أو اللامبالاة بالعقيدة، أي أنها تفقد الإنسان المسلم كيانه عقلاً وقلباً وروحاً ونفساً وتفرغه من أصول الإيمان.
ثانياً: إن الأجهزة العولمية الكونية التي تلف حول العالم في كل لحظة، وتتسلل إلى البيوت على وجه الأرض كلها دون استئذان وتلعب بكيان الأفراد جميعاً، تثير في أنشطتها الشهوات الجنسية، وتزين عبادة الجسد وتشيع أنواع الشذوذ، وتحطم قيم الفطرة الإنسانية الرفيعة، فتتناقض بذلك مع النظام الإسلامي الاجتماعي والأخلاقي الذي أراد الإسلام في ظله أن يبني أُسراً مؤمنة عفيفة فاضلة ملتزمة.
ثالثاً: إن هذه الهجمة الإلحادية الإباحية الشرسة التي تلعب بالإنسانية الرفيعة وتحط بها من عليائها، وتقود أبناءها إلى الحياة البوهيمية اللامسؤولة، وتبذر في نفوسهم اليأس والحيرة، وتحدث فيها خواءً روحياً رهيباً لتلحق بالمسلمين أفدح الأضرار وتحولهم من أمة شاهدة مجاهدة حرة لا تيئس من رحمة الله إلى أمة خاوية، تكتفي بشهوات النفس في حيوانيتها الهابطة وتفتقد الأهداف النبيلة التي تسعى إليها.
رابعاً: إن نتيجة ذلك المخطط إلغاء شخصية المسلمين، وإلحاقهم بحضارة وثقافة غيرهم، وتفقدهم أصالتهم وتقعدهم عن طلب المعالي ومحاولة بناء حضارتهم الإسلامية الإنسانية المتوازنة، كي ينقذوا أنفسهم من السقوط ويرشدوا غيرهم لينتشلوهم مما هم فيه من الحياة الحيوانية.
خامساً: إن العولمة الأمريكية لا تكتفي بواقع التجزئة العربية والإسلامية الآن، بل تحاول إحداث تجزئة داخلية في كل بلد عربي أو إسلامي، حتى ينشغلوا بأنفسهم وينسوا تماماً أنهم أمة عربية واحدة، وينتمون إلى جامعة إسلامية واحدة.
سادساً: إنهم في هذه الحالة، لا يستيقظون من غفلتهم ولا يحققون مصالحهم المادية، ويتنازلون عن ثروات بلادهم لتمتصها تلك الشركات العولمية الرأسمالية الجشعة، فينتشر فيهم الفقر وتفتك بهم البطالة، لتظهر الأمراض الاجتماعية والجرائم المتنوعة التي تودي بحياتهم من حال البأس والقوة إلى حال الضعة والذلة والهوان. بينما أراد لهم الإسلام القوة والوحدة والعزة وعدم التفريط بأموال المسلمين وثرواتهم ومصالحهم.
سابعاً : إن العولـمة الأمريكية الصهيونية تخطط للتدخل العسكري وإعلان الحرب في أية بقعة من العالم، تفكر بالخروج على سيطرتها وتحكمها، لأن العالم يراد له أن يقع تحت براثن الاستبداد الأمريكي والقانون الأمريكي والقوة العسكرية الأمريكية. وهو أمر يكشفه تقريران خطيران كانا سريين للغاية، ثم نُشرا بعد ذلك، وهما تقريرا جريميا وولفوفتيز(23). ولا شك في أن نصيب العالم الإسلامي سيكون كبيراً في ضوء تلك السياسة الغاشمة.
ثامناً: في ظل العولـمة زاد التفرق بين الدول الإسلامية، وضرب العالم الإسلامي في السلع الاستراتيجية كالبترول وغيره(24)، بسبيل تكريس واقع الفقر في هذه الدول.
وأمام هذه الكارثة الكبرى، لا يمكن أن نتحرك لتقليل أضرارها أو الوقوف أمامها بأوضاعنا الحالية التي تعم العالممن
الصفحة الأخيرة
العولمة من منظور إسلامي
نحو ميثاق إسلامي لمواجهة العولمة
يمكن أن يتفق الجميع على ميثاق عام لمواجهة العولمة، وتفصيله على الوجه الآتي:
- المحافظة التامة على استقلال الأمة السياسي، وعدم السماح بتدخل القوى الأجنبية الغاشمة لإضعافه بشكل مباشر أو غير مباشر.
- المحافظة على ثروات الأمة من الضياع والهدر والسرقة، ووضع الخطوات الكفيلة بمنع ذلك.
- الوقوف الموحد أمام الحكام، ومحاولة منعهم من الانفراد والظلم والتجاوز، ونصحهم الدائم عبر الوسائل الإعلامية من دون عنف وثورة وسفك دماء؛ لأن ذلك لا يأتي بخير، ولا سيما في ظروف أمتنا الحاضرة.
إن الضغط الجماعي المستمر على الحكام من شأنه أن يعيدهم إلى صوابهم، وأن يقوي مواقفهم التفاوضية في قضايا العلاقات الخارجية.
- الوقوف مع الحكام مهما كانوا ظالمين، عندما يُداهم البلد غزو أجنبي، ونسيان كل خلاف معهم. فمصالح الأمة العليا والحفاظ على استقلالها وأرضها وشرفها مقدّم على كل اختلاف داخلي حتى لو وصل إلى درجة الصراع.
- الاتفاق على كل ما يعيد الروح في أي مظهر من مظاهر الوحدة العربية أو التضامن العربي أو التضامن الإسلامي، وعدّ ذلك من أهم الثوابت التي لا يجوز النقاش فيها.
- عدم الخروج على الثوابت القاطعة، التي ثبتت بالوحي الإلهي، والتي لا يكون المسلم مسلماً موحداً إلاّ بها، وعدم السماح بمخالفتها في الثقافة والتربية والإعلام.
- رفض مخططات الصهيونية، وعدم الاعتراف بأية تسوية معها على حساب أرض فلسطين المقدسة، واللجوء إلى إعداد الأمة للجهاد ضدها، والإيمان الكامل بأن ما أُخذ بالقوة في فلسطين بالذات، لا يمكن أن يسترد إلاّ بالقوة، ولو طال الأمر عشرات أخرى من السنين، باعتبارها قضية العرب والمسلمين الأولى.
- رفض كل جماعة أو هيئة أو حزب لا تنبع أفكارها من مقدسات الدين والوطن وأرضه وتاريخه وحضارته، وعدّ ذلك عمالة لقوى أجنبية سرية أو علنية.
- تداول السلطات سلميًّا بين التيارات السياسية المذكورة، لابد أن يكون قانوناً عاماً في المجتمع؛ حتى لا تهدم أركانه الصراعات السياسية، التي أضرت بمصالح الأمة في القرن الأخير ضرراً بالغاً، ولا سيما في النصف الأخير من القرن العشرين.
- الاتفاق على أسس عامة في إعمار البلاد عبر خطط متنوعة، يتفق عليها أهل الخبرة العلمية من الأطراف جميعاً، وهي خطط علمية محايدة.
- عدم فرض الرأي الواحد أو الاتجاه الواحد في القضايا الخطيرة التي تتعلق بها مصلحة البلاد والعباد، والإيمان بأن تنازل كل طرف عن شيء من رأيه أو خططه سيؤدي إلى وضع مشترك يريح الجميع.
- اتفاق الجميع على أن يبقى الجيش سوراً قوياً للوطن، ولا يستعمل أبداً في اللعبة السياسية، وإنما يتوجه به إلى حياة الجندية والتدريب والتسلح؛ استعداداً فورياً لقطع دابر المعتدين الباغين من الصهاينة ومَنْ وراءهم من المجرمين الاستعماريين.
- الاتفاق على قيم أخلاقية عُليا، نابعة من دين الأمة وأصالتها وحضارتها الشامخة؛ حتى تتربى الأجيال على الحد المشترك الذي يُرضي الجميع في هذه المرحلة الحرجة، التي نحتاج فيها إلى الأخلاق النبيلة لبذر بذور المحبة والتراحم والتواد بين أبناء الأمة الواحدة.
- إن هذا يستدعي الاتفاق على رفض النظام الاجتماعي الذي يبيح الشذوذ الجنسي والحرية الجنسية للرجال والنساء، وكذلك رفض الإلحاد والردة عن الدين.
- الاتفاق على وضع الخطط للقضاء على الجهل والجوع والمرض بين أبناء الأمة الواحدة، وهي خطط دنيوية عامة.
- الاتفاق على عدم اتباع اللاأخلاقيات التي يتبعها الديمقراطيون الغربيون في صراعات الأحزاب والانتخابات، وفضح بعضهم بعضا بالحق والباطل في سبيل المنافسة والتقدم في الانتخابات أو إسقاط الحكومات.
- الحوار الدائم بين الأطراف المذكورة من شأنه أن يقارب بين العقول والقلوب؛ تمهيداً لإذابة الجميع في مفهوم الأمة الواحدة، أخوة في الدين والقوم والوطن، وتأليف لجان دائمة مشتركة من الخبراء، تبحث القضايا الكبرى، وتعد الخطط والبيانات في أنشطة الحياة المتنوعة.
- زرع هذه المعاني العليا- كل من جهته- بين جماهير الأمة العربية والإسلامية؛ كي تتحول إلى اقتناع عميق لا يتزحزح، مهما تغيرت الظروف والأحوال، حتى تقوم بواجبها في الوقوف الجماعي الكاسح أمام هذه العولـمة الأمريكية اليهودية. فعزل الجماهير في العقود الماضية وعدم السماح لها بصنع حاضرها ومستقبلها من لدن الحكام المستبدين، قد ألحق بحركة الأمة ووحدتها نكسات كبيرة.
ففرض الطريق الواحد على العلماء والمثقفين والسياسيين والأدباء والإعلاميين والفنانين وغيرهم عن سبيل الإرهاب والتعذيب والسجن والاغتيال والإعدام، كان طامة كبرى في حياة هذه الأمة المظلومة، بِيَد أولياء أمورها قبل أعدائها، فقد أدى إلى هدر طاقات الأمة وحسها الفطري في الوحدة؛ لأن الشعوب إذا أخذت المبادرة فلن تختلف، بينما الحكام الذين يقوم حكمهم على غير القواعد الشعبية يختلفون، واختلافهم دائماً في صالح الأعداء- لا سيما الصهيونية- وتدمير الأمة في مجالات الحياة كافة().
إن الطريق الوحيد أمام العولـمة الأمريكية الصهيونية، مواجهتها في إضعاف الإيمان بالانطلاق من عقيدة الأمة والتضامن بين العرب والمسلمين في مجالات الحياة كافة، والوقوف وقفة موحدة أمام السياسات العولمية الغاشمة.
أما التفرق والخضوع فلن يخدم أحداً، وسيؤدي إلى مزيد من النكسات والسقوط أمام الغطرسة الأمريكية والطغيان الصهيوني.
إن العولـمة الأمريكية لن تركع إلاّ أمام إرادة أربع وخمسين دولة عربية وإسلامية، حين يتبعون سياسة واحدة في المواجهة السلمية وحتى الحربية.
إن أمريكا لها مصالحها الضخمة في العالم الإسلامي، وستضطر إلى التفاهم حين تجد نفسها أمام إرادة عربية واحدة أو إسلامية واحدة.
إن العرب والمسلمين، لابد أن يصبوا جهدهم في تحقيق الوحدة في العالم العربي والإسلامي. لا أقول وحدة الدولة، فهذا عسير جداً في عالمنا المعاصر، وإنما وحدة العقول والقلوب والمصالح والتضامن الكامل في إطار جامعة إسلامية واحدة أو في إطار المؤتمر الإسلامي الحالي، والذي تتولد منه سياسة واحدة، على أساس وحدة الأمة الواحدة.
والوحدة العاطفية لا تكفي أيضاً، إلاّ إذا عرفت هذه الوحدة: كيف تدخل في العصر الجديد، وكيف تستفيد من الفرص المتاحة، ومن خلال حسن الاختيار؛ كي تصل إلى أفضل النتائج.
إن الغرب الصليبي بدوافع الأحقاد التاريخية المتأصلة ضد الإسلام وأهله، لن يسمح بقيام المسلمين ونهضتهم ووحدتهم ودخولهم في عصر التقنيات العالية.
وإن اليهودية العالمية ستبذل المستحيل للحيلولة دون قوة ووحدة الأمة العربية خاصة والإسلامية عامة.
لكـن إذا أخلصت الأمة مع ربها، وانطلقت إلى بناء الحياة من ذاتها، فإنها- بإذن الله- ستصل إلى ما تريد، دون مساعدة الأقوياء. وأمامنا اليابان وألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، فقد رفضتا المساعدة الخارجية المقيدة المشروطة، وواجهتا قدريهما بنفسيهما، ووصلتا اليوم إلى ما وصلتا إليه من القوة والحصانة.
يقول الاقتصادي المصري "رفعت العوضي": "مسألة التكامل الإسلامي، وكيف يمكن للدول الإسلامية اليوم أن تكمل في إطار هذا التكامل في ظل الظروف الراهنة، ليس بمقدور أي دولة إسلامية أن تخرج عن الإجماع العولمي الذي تمليه الدول السبع الكبار عبر المؤسسات والمنظمات الدولية، ومن ثم فإن المتنفس أمام الدول الإسلامية يبدأ عبر الساحة الإسلامية ذات الامتداد الجغرافي والإستراتيجي والسكاني والمادي، بدءاً بالتكامل، وانتهاءً بالتوحد عبر سياسات منضبطة.
العالم الإسلامي يمتلك مخزوناً جباراً من رؤوس الأموال ومن الثروات الحيوية والمعدنية، بالإضافة إلى التلاحم الجغرافيين، والتكامل في الموارد؛ ولهذا لو قامت تجارة فعلية بين العالم الإسلامي لأمكننا الاستغناء عن العالم الخارجي- على الأقل- في الاحتياجات الإستراتيجية.
وهنا يبرز دور مؤسسات التكامل؛ سواء على مستوى الإطار الإسلامي العام كمنظمة المؤتمر الإسلامي، أو حتى على المستوى الإقليمي كالاتحاد المغربي ومجلس التعاون الخليجي، أو اتحاد جمهوريات وسط آسيا الإسلامية، أو على المستوى الوظيفي كمجموعة الدول الثمانية الإسلامية. لكن المثير للعجب أن دور هذه المؤسسات لم يزل مقصوراً على الدور الاستشاري، ولا يحمل أي صورة من الإلزام"().
إننا بحاجة إلى بناء الإنسان المسلم بناء إيمانياً قوياً راشداً، معتزاً بذاته، مغيراً لظروف حياته، عارفاً بظروف الأمم الأخرى، قادراً على نهوض حقيقي في مواجهة أخطار العولمة.
والشرط الأساس أن نعيد إليه الاعتبار، ونخلصه من الاستلاب السياسي الذي تعرض له خلال القرون الأخيرة؛ كي يخطط لمشروعه الحضاري المتكامل، ليخدم نفسه ويخدم غيره.
إن الغرب الآن ليس بحاجة إلينا في التقنيات المتقدمة، بل نحن الأحوج إلى ذلك كثيراً، ولكن الغرب يحتاج إلى قيمنا كما نحتاج إليه. ولو أخذنا بوسائل العولـمة الحديثة التي يستعملها للتدمير، ووجهناها من خلال قيمنا وأخلاقنا إلى التعمير، لخدمناه وخدمنا البشرية جميعاً، وخدمنا- قبل ذلك- أجيالنا، وحصنّاهم؛ كي لا يقعوا فريسة سهلة أمام مغريات العولـمة الأمريكية الصهيونية اللادينية الإباحية.
يقول الدكتور "عبد الحميد الغزالي": "بعد سقوط الاشتراكية وتبني جورباتشوف البيريسترويكا، التي أراد من خلالها أن يبحث عن طريق غير الرأسمالية؛ لأنه أعلم بمشاكلها- أرسل وفداً ليدرس النظام الإسلامي للاستفادة منه، وشكلت لجان في مركز الاقتصاد الإسلامي التابع لجامعة الأزهر من المتخصصين، وعكفت هذه اللجان على صياغة برنامج متكامل للنظام الإسلامي في شكل بنود وفقرات، قدمنا فيه نظاماً اقتصادياً تشغيلياً، يبدأ بفلسفة النظام والعمل والأجور، ونظام الملكية المتعددة، والاستهلاك، والاستثمار، والادخار، والشركات، وصيغ الاستثمار، والسياسة النقدية، والسياسة المالية.... إلى آخر مكونات النظام الاقتصادي الفاعل.
وعندما قدّمنا هذا النظام للوفد، تساءل رئيسه الوزير "بافلوف": "لديكم مثل هذا النظام، وأنتم على هذه المسألة من التخلف؟". وأسندت أمانة المؤتمر الردّ إليّ، فكان ردّي: "لأننا بعيدون تماماً عن هذا النظام".
ولكن توالت أحداث تفكك الاتحاد السوفيتي، ولم تُعِد القيادة الروسية الفرصة للاستفادة من هذا المشروع، الذي أصرَّ الوفد الروسي على مناقشته تفصيلاً في جولة ثانية في موسكو.. إلاّ أن الجولة المقترحة لم تتم بسبب هذه الأحداث().