العلاج النفسي الإيماني ..*

ملتقى الإيمان




قال تعالى : ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه "وقال جلا وعلا : " ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير " وقال سبحانه : ونفس وما سواها . فألهمها فجورها وتقواها . قد أفلح من زكاها . وقد خاب من دساها .

إنه العلاج النفسي الحقيقي الذي يبدأ تصحيح انحراف النفس من مرضها واضطرابها من الأعماق ومستوى الجذور لا مجرد الملامسة السطحية الفرعية من الأغصان كما هو في أساليب العلاج النفسي الحديث سرعان ما تعود الاوضاع النفسية بعدها إلى سابق عهدها من الإعتلال بل قد تزداد الحالة سوءاً وتتفاقم المشكلة فيما يعرف بلغة الطب النفسي المعاصر بإنتكاسة أو ردة الفعل (rebound phenomena) .
ذلك أن الطب النفسي المعاصر في مجمله مؤسس على نظريات افتراضية قد توافق الحقيقة في شيء منها أوفي جانب من جوانبها وليس الحقيقة كلها مما يفسر تعدد النظريات والأطروحات النفسية وما يحدث من تضارب فيما بينها وإقتصار نجاح كل منها على علاج نوع محدد من العلل والإضطرابات النفسية وبشكل أيضاً وقتي لا يصل في كل الأحوال إلى درجة الاستشفاء الكامل .


ذلك لإعتماد تلك التنظيرات والفرضيات على العقل البشري وحده الذي يعتريه القصور والعجز عن إدراك حقيقة النفس البشرية والطبيعة الإنسانية مهما بلغ في ذلك من فطنة وذكاء وامتلك من قدرات وطاقات وإمكانيات ..

دفع ذلك أمثال طبيب الأعصاب الأمريكي الشهير الحائز على جائزة نوبل للطب ( أليكسس كارييل ) أن يعلن حيرته مدوية في كتابه الشهير " الإنسان ذلك الكائن المجهول " .
أما العلاج النفسي الإيماني فشيء مختلف تماماً حيث يستهدى هذا العقل القاصر بنور الوحي المنزل من الخالق الذي فطر النفوس وخلقها على طبيعة لا يسبر كنها إلا هو سبحانه و الآيات الواردة في هذا السياق كثيرة منها قوله تعالى : إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم . ذلك قولهم بأفواههم والله يقول الحق وهو يهدي إلى سواء السبيل . ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا .

يعتمد العلاج النفسي الإيماني اعتماداً كاملاً على استنهاض الفطرة والعمل على حفزها ونفض غبار الران وما اعتراها من دنس عنها وتجديد ما طمس من معالمها بفعل التصورات المغلوطة عن النفس والكون والنشأة والمآل .

إن الإنسان لحظة ما يولد يكون على الفطرة النقية التي لا يشوبها شائبة أي موحداً بالفطرة كما ورد في الحديث الشريف " ما من مولود إلا ويولد على الفطرة " فيكون ذو إيمان عميق متجذر و روح شفافة متطلعة لفاطرها راغبة في تألهه وتوحيده وذات إحساس ورغبه أكيده لوحييه وتنزيله وشرعه لو بقيت على ما كانت عليه لحظة ما أبصرت النور حينما تشب وتكبر تلك النفس .

لكن الحكمة اقتضاها المولى سبحانه لا يحدث ذلك من الإحتفاظ بنقاوة الفطرة إلا لعدد قليل من البشر على مر العصور والأزمان وهم صفوة الخلق من أنبياء الله ورسله كون عين الله ترعاهم وتحفظهم وتهيء لهم الأسباب التي تبقيهم على ما فطروا عليه لحظة وجودهم في هذه الدنيا لحين وفاتهم والسبب في ذلك واضح ومعلوم كونهم النموذج البشري الذي يقتدى بهم .

إنما سائر الخلق فليس لهم مثل هذه الخصوصية وهذه الميزة وهذه الحصانة الربانية التي تحفظ لهم فطرتهم النقية وتبقيهم على حالتهم التي ولدوا عليها فالجميع معرضاً للتشويه والطمس لمعالم هذه الفطرة إنما بدرحات متفاوته حسب البيئة التي تحتضن المولود والتنشئة التي يشب عليها كما جاء في عجز الحديث الشريف المشار إليه آنفا " فأبواه يهودانه أو ينصرانه او يمجسانه "

إذن في ظل غياب هذه العناية الالهية الخاصة لحفظ نقاء الفطرة وغياب الحصانة الفكرية في هذه المرحلة العمرية من حياة الطفل حيث لا يكتمل عقل الإنسان ويصل إلى مرحلة النضج والمسؤولية إلا في سن الرشد يظل الإنسان في هذه السن ما بين الولادة وسن البلوغ معرضا للتشويه الفطري إلا أن عدل الله سبحانه ورحمته بنا أنه لا يحاسبنا على ذنب أو جريرة تقترفها أيدينا في هذا العمر وذلك لما ذكر من أسباب.
هذا لا يعني أعفائنا من مواجهتنا لعقوبات تأديبية رادعة من جهة الوالدين والمربين والسلطة حفاظاً على النشأة السليمة و السلم العام وتماسك المجتمع .

إن الإسلام دين الفطرة كما قال سبحانه : " فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لاتبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن اكثر النالس لا يعلمون " .

يعني هذا أنه كل ما ابتعد الإنسان عن دين الله وعن تعاليمه وشريعته ولم يقم حياته على ذلك كلما حدث تشويه أكثر فأكثر لفطرته وطمس لمعالمها في نفسه . والعكس صحيحا كلما تمسك بتعاليم الإسلام وتدين أكثر فأكثر كلما استعادت فطرته بريقها ونقائها وتوهجت وتلألات ورهف إحساسه واستشفت روحه وسكنت نفسه وسعد قلبه وهذا ما نعنيه بالعلاج النفسي الإيماني .

إلا أن لحظة هذه الهداية وإدراكها وهذه الشفافية الروحية والوقت المطلوب للوصول إليها للسالكين تتفاوت من شخص لآخر لمجموعة من العوامل والأسباب نوجزها فيما يلي :

·قدر التشويه والركام اللذان تلبسا بهذه الفطرة جراء التصورات الخاطئة والمضللة والذنوب والآثام والمعاصي التي اكتسبتها النفس في ما مضى فكلما كان الران الذي يغلف هذه الفطرة ويحجبها عن نور الوحي وحياة القلب أكبر والإسراف على النفس من الآثام أكبر كان الجهد المطلوب من المهتدي والسالك لطريق الهداية أكبر ..
تماماً كما إذا أردت إزاحة كومة من التراب من مكانها كلما كان حجمها أكبر تسلتزم منك عملاً وبذل جهدا أكبر لإنجاز تلك المهمة ..

·الكثير من الناس من الذين أسرفوا على أنفسهم من الذنوب والمعاصي من المسلمين المفرطين كلما شعروا بشدة الكرب والضيق والكآبة وضاقت عليهم الدنيا بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم لجأوا إلى الله بالدعاء والذهاب إلى المسجد وقراءة القرآن ونحو ذلك من العبادات والقربات وهذا جميل بل هو المطلوب فعله في هذه الأوقات الصعيبة والتازم النفسي ..
·إلا أن الذي يحصل أنهم لا يشعرون في باديء أمرهم بتحسن ملحوظ وتغير لحالهم فيعودون القهقرة ويوقفون هذه المحاولات وكأنهم يعتقدون أن ذلك كتناول حبة مسكن للألم سرعان ما يزول صداعهم ..
أو أن هذه الإجراءات السريعة التي يقوم بها بعض الطالبين للعلاج النفسي الإيماني وهذه السويعات القصيرة من اللجوء إلى الله والفرار إاليه كفيلة بمسح وإزاحة ما ترسب من ران كثيف وحجاب غليظ على قلوبهم من المعاصي نتاج فعل سنين .

· الله سبحانه وتعالى قادر على تخليص العبد الفار إليه وتطهير نفسه مما غلفها من ذنوب وظلم في طرفة عين أو أقل من ذلك لأن أمره سبحانه بين الكاف والنون " إنما أمرنا إذا أردنا شيئا أن نقول له كن فيكون " .
· لكن اقتضت مشيئته سبحانه أن يكون لله سنن ثابتة في الكون والحياة والنفس لا تتغير ولا تتبدل و لا بد من الأخذ بها والعمل بمقتضاها لتحقيق المقاصد والاهداف . ومن بين أهم تلك السنن والقوانين الربانية في هذا السياق قوله سبحانه : والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا " .
·يتضمن هذا الجهد حتى يعقبه ثمرة الإيمان والهداية وانشراح الصدر وزوال الغم والهم وما اعترى النفس من اعتلال واضطراب واكتئاب وتازم الكثير الكثير من الأعمال وبذل ما في الوسع ومن الصبر والمثابرة نذكر من بين تلك الأعمال الخطوات التالية التي لا بد منها :

·العزم على تغيير نمط العيش وأسلوب الحياة الذي يتفق مع المنهج الرباني والتفكير الجاد في التوقف عن المضي قدما في تلك الحياة العبثية الخطيرة المآل والتوجه بالنفس إلى حياة الجد والطهر والعزة والحياء والفضيلة ، والحياة مع الله عملاً بقوله تعالى : إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بانفسهم " .

·إن من أعظم وأهم وأخطر الخطوات في هذه المرحلة للسالكين والمهتدين الجدد والتي لا غنى للمهتدى عنها البتة :

·البحث عن الرفقة الصالحة سواء من الشباب المهتدين الذين سبقوك إلى طريق الإيمان للمهتدى الجديد أو الفتيات المهتديات للمهتدية الجديدة وهم كثر والحمدلله وبالسهولة الوصول إليهم والتعرف عليهم سواء من الذين يقطنون معك في الحي أو إذا تعذر ذلك من أي مكان في مدينتك التي تقيم فيها .

· أنك ستكتشف أو أنت أنكما في موضع ترحيب وحفاوة وتقدير واحترام من هؤلاء الرفقة الصالحة وكانهم في شوق إلى لقائك والظفر بك منذ زمن بعيد . هذا الامر كما قلنا من قبل ضروري جدا أن يحصل قبل انعزالك وانقطاعك عن اصدقائك العاديين السابقين والذي يمكن إن جاز التعبير تسميتهم بأصدقاء الدنيا إذا تلطفنا القول بهم ولم نقل بأصحاب السوء الذين إن لم يضروك ( وهذا نادر جدا ) لن ينفعوك .

·إنك ستشعر بمودة وانجذاب عجيبين إلى هؤلاء الاخوة - او الاخوات - الجدد بعد أن كنت تنفر منهم وتنبزهم بأسوأ الالقاب وهذا أمر مشاهد ومجرب ومتوقع . كما انك ستشعر في الوقت ذاته بشيء من النفور والبعد عن أصدقائك القدماء ولا تميل لمصاحبتهم كما كنت من قبل .


· في هذه المرحلة توقع بل هو الأمر الأكيد أن ياتيك سيل من الإتصالات الهاتفية أو الرسائل الاثيرية القصيرة (sms) عبر جوالك للبحث عنك والسؤال عن سبب انقطاعك عليك في هذه المرحلة الانتقالية الحرجة أن تعتذر منهم لكن بكل لطف ودبلوماسية ولا تخبرهم عن أي شيء مما استجد في حياتك .


·مجاهدة النفس :

·أولاً :
الإلتزام بأداء الصلوات المفروضة في وقتها طبعاً صلاة الجماعة في المسجد إن كنت من المهتدين الشباب – في البداية قد تواجه صعوبة كبيرة ويرجع ذلك لعاداتك السابقة وبرنامج حياتك السابق وخاصة صلاة الفجر مع جماعة المسجد لإختلاف برمجة ساعتك البيولوجية على الإستيقاظ صباحاً للعمل وليس لوقت الصلاة ..
·لكن ستجد ذلك يسهل عليك شيئاً فشيئا وكعوامل مساعدة عليك بالنوم مبكراً قدر ما تستطيع بخلاف ما كنت معتاداً عليه من السهر في ما مضى من حياتك كما يمكنك ضبط ساعة المنبه أو الإستفادة من خاصية المنبه في جوالك كما يفعله الكثير اليوم ممن يحرص على صلاة الفجر في حينها .
· إن للصلاة شأن عظيم في الإسلام كما أنها ستعينك كثيراً وتسّهل عليك بإذن الله ترك المعاصي والذنوب المتاصلة في نفسك لأن الصلاة الخاشعة التامة تنهى عن الفحشاء والمنكر كما ذكر الله جل ثناؤوه في القرآن الكريم .


·ثانياً :
عليك ترك المعاصي والإقلاع عن الذنوب التي استمرت نفسك واعتادت عليها وفي الواقع ستجد في مبتدأ امرك صعوبة و صراع مرير مع نفسك الامارة بالسوء وستكون الحرب بينكما قوية وبين كر وفر مرة تنتصر عليك وتغلبك ومرة تنتصر عليها وتغلبك ..
·إلا أن الغلبة في النهاية ستكون لك بإذن الله وتختلف معصية عن أخرى حسب إعتياد النفس عليها وقوة تأثيرها وجاذبيتها وعلى هذا الأساس ستجد نفسك تتخلص من الذنوب اليسيرة أسهل بكثير من المعاصي الكبيرة ..
·إن العادات السيئة والمعاصي الكبيرة تحتاج إلى إيمان وصدق وتوبة أكبر للتغلب عليها من هنا ما عليك إلا المواصلة في الطاعات واختصار قائمة الذنوب والمعاصي رويداً رويدا ..
·لا تنسى اللجوء إلى الله والإلحاح عليه بالدعاء والتضرع بقلب خاشع منكسر أن ينصرك على نفسك الامارة بالسوء وعلى الشيطان الرجيم والهوى في هذه المرحلة ستلاحظ شدة بكائك وزيادة حياؤك من الله لدرجة أنك ستستحي من رفع بصرك إلى السماء وهذا دليل على صدق توبتك وزيادة إيمانك فاحمد الله على ذلك ..



0
379

يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.

تسجيل دخول

خليك أول من تشارك برأيها   💁🏻‍♀️