قال الشيخ عبد الله بن عبد العزيز بن عقيل وهو يحدث عن شيخه العلامة عبد الرحمن السعدي :
واجتمعنا معه مرّة في إحدى الليالي، فطُلب منه أن يختم المجلس، فطلب كتاب مقامات الحريري، وفي آخره: المقامة الخمسون، وفيها قصيدة بليغة، ذكر فيها توبته، وفيها وعظ يرقّق القلوب، وكان شيخنا يحبّها، ويقرؤها وتُقْرَأ عليه، فطلب منّي قراءتها، فقرأتها عليه وعلى الحاضرين، ثمّ جرى ذكر الشعر والقصائد والمدائح والمراثي والهجاء ونحو ذلك، فقال: كنت أقرأ في ديوان المتنبي، وهو ديوان فيه مدح، وفيه هجاء، وفيه حِكَمٌ، وفيه أشياء كثيرة، ولمّا قرأت قصيدة فيها هجاء شديد، رأيت في المنام كأنّي أنبش قبرًا، فتقزّزت نفسي، وعرفت أنّ هذا من جَرّاء هذه القصيدة، فعزفتْ نفسي عن قراءة الأشعار التي فيها هجاء.
وها هي القصيدة التي كان يحب قراءتها العلامة السعدي ـ رحمه الله ـ :
خلِّ ادّكـارَ الأرْبُــعِ = والمعْهَدِ المُـرتَـبَـعِ
والظّاعِـنِ الـمـودِّعِ = وعـدِّ عـنْــهُ ودَعِ
وانْدُبْ زَماناً سـلَـفـا = سوّدْتَ فيهِ الصُّحُفـا
ولمْ تزَلْ مُعـتـكِـفـا = على القبيحِ الشّـنِـعِ
كمْ لـيلَةٍ أودَعْـتَـهـا = مآثِمـاً أبْـدَعْـتَـهـا
لشَهوَةٍ أطَـعْـتَـهـا = في مرْقَدٍ ومَضْجَـعِ
وكمْ خُطًى حثَثْـتَـهـا = في خِزْيَةٍ أحْدَثْتَـهـا
وتوْبَةٍ نـكَـثْـتَـهـا = لمَلْـعَـبٍ ومـرْتَـعِ
وكمْ تجـرّأتَ عـلـى = ربّ السّمَواتِ العُلـى
ولـمْ تُـراقِـبْـهُ ولا = صدَقْتَ في ما تدّعـي
وكمْ غمَـصْـتَ بِـرّهُ = وكمْ أمِنْـتَ مـكْـرَهُ
وكـمْ نـبَـذْتَ أمـرَهُ = نبْذَ الحِذا الـمـرقَّـعِ
وكمْ ركَضْتَ في اللّعِبْ = وفُهْتَ عمْداً بالكَـذِبْ
ولـمْ تُـراعِ مـا يجِـبْ = منْ عهْدِهِ الـمـتّـبَـعِ
فالْبَسْ شِـعـارَ الـنّـدمِ = واسكُبْ شـآبـيبَ الـدّمِ
قبـلَ زَوالِ الـقـــدَمِ = وقبلَ سوء المـصْـرَعِ
واخضَعْ خُضوعَ المُعترِفْ = ولُذْ مَلاذَ المُـقـتـرِفْ
واعْصِ هَواكَ وانحَـرِفْ = عنْهُ انحِرافَ المُقـلِـعِ
إلامَ تـسْـهـو وتَـنـي = ومُعظَمُ العُمـرِ فَـنـي
في ما يضُرّ المُقْـتَـنـي = ولسْـتَ بـالـمُـرْتَـدِعِ
أمَا ترَى الشّـيبَ وخَـطْ = وخَطّ في الرّأسِ خِطَـطْ
ومنْ يلُحْ وخْطُ الشّـمَـطْ = بفَـودِهِ فـقـدْ نُـعـي
ويْحَكِ يا نفسِ احْرِصـي = على ارْتِيادِ المَخـلَـصِ
وطاوِعي وأخْـلِـصـي = واسْتَمِعي النُّصْحَ وعـي
واعتَبِرِي بمَـنْ مـضـى = من القُرونِ وانْقَـضـى
واخْشَيْ مُفاجاةَ القَـضـا = وحاذِري أنْ تُخْـدَعـي
وانتَهِجي سُبْـلَ الـهُـدى = وادّكِري وشْـكَ الـرّدى
وأنّ مـثْـواكِ غـــدا = في قعْرِ لحْـدٍ بـلْـقَـعِ
آهاً لـهُ بـيْتِ الـبِـلَـى = والمنزِلِ القفْرِ الـخَـلا
وموْرِدِ السّـفْـرِ الأُلـى = واللاّحِـقِ الـمُـتّـبِـعِ
بيْتٌ يُرَى مَـنْ أُودِعَــهْ = قد ضمّهُ واسْـتُـودِعَـهْ
بعْدَ الفَضاء والـسّـعَـهْ = قِيدَ ثَـــــلاثِ أذْرُعِ
لا فـرْقَ أنْ يحُـلّـــهُ = داهِـيَةٌ أو أبْــلَـــهُ
أو مُعْسِـرٌ أو مـنْ لـهُ = مُلكٌ كـمُـلْـكِ تُـبّـعِ
وبعْدَهُ الـعَـرْضُ الـذي = يحْوي الحَييَّ والـبَـذي
والمُبتَدي والمُـحـتَـذي = ومَنْ رعى ومنْ رُعـي
فَيا مَفـازَ الـمـتّـقـي = ورِبْحَ عبْـدٍ قـد وُقِـي
سوءَ الحِسابِ المـوبِـقِ = وهـوْلَ يومِ الـفــزَعِ
ويا خَسـارَ مَـنْ بـغَـى = ومنْ تعـدّى وطَـغـى
وشَبّ نـيرانَ الـوَغـى = لمَطْعَـمٍ أو مـطْـمَـعِ
يا مَنْ عليْهِ الـمـتّـكَـلْ = قدْ زادَ ما بي منْ وجَـلْ
لِما اجتَرَحْتُ مـن زلَـلْ = في عُمْري الـمُـضَـيَّعِ
فاغْفِرْ لعَبْـدٍ مُـجـتَـرِمْ = وارْحَمْ بُكاهُ المُنسـجِـمْ
فأنتَ أوْلـى مـنْ رَحِـمْ = وخـيْرُ مَـدْعُـوٍّ دُعِـي
فرحمة الله عليه وعلى علماء أهل السنة.
يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.
قويه في الحق
•
^^
الصفحة الأخيرة