najah78

najah78 @najah78

عضوة فعالة

العيد في دمشق ذكرى كل متيم

ملتقى الأحبة المغتربات

عيد دمشق
ذكرى كل متيم
بزغت خيوطُ الفجر الأولى , تملأ الأفقَ ضياءَ , و تنثر النور في الأرجاء , و مضت ليلة السابع و العشرين من رمضان تسحب ذيولها إلى بارئها , مضمخةً بآهات المنيبين وأنات التائبين.
وغادر الدمشقيون المساجد التي عمروها بالذكر و الطاعة طيلةَ الليل , يحاكون سلف الأمة في طاعتهم يوما واحدا في السنة بعد أن عجزوا عن سلوك سبيلهم كل العام .
و تشيع منذ هذه اللحظة في دمشقَ مشاعرُ متباينة , فيرمق الدمشقيون بعينٍ رمضانَ و هو يلملم سقط متاعه , و يُعِدُّ عدة سفره البعيد , يودعهم و يلوح بيدِ الفراق إليهم , فتكاد القلوب تنفطر لفراقه , و العيون تنساب لوداعه , و يستشرفون بعين أخرى طلعةَ الوافد البهية و فرحةَ العيد المقبلة , فتتهلل لها وجوهُهم , و تنفرج له أساريرُهم .
و يقف بلبل دمشق ( توفيق المنجد ) – ذلك الصوت الذي شاب صاحبُه و ما فقد يوما بريقه و سحره , حاله كحال دمشق التي شاخ الزمان و ما ذهب عنها ألقها و بهاؤها – , يقف (توفيق المنجد) ليبثَّ رمضانَ أشواقَه و يفضي إليه بآهاته ,ويناجيه معاتبا :(تعجلت ميقات النوى رمضانُ .....مهلا – أُخَيَّ-فكلنا ولهان ) , و يؤوب ( المنجد ) إلى نفسه ليعلم أن رمضان راحل لا محالة , فيزفر عندها زفرته المتأوهة تبعث الحرقة في قلوب الشاميين , و تلهب لوعةً في صدورهم لا يطفئ حرَّها إلا الدمعُ تسكبه المآقي غزارا إذ يصافح قلوبَهم نداءُ البلبل الواله : ( فودعوه , ثم قولوا له : يا شهرنا هذا عليك السلام ) .
و تمر أيام رمضان الأخيرة في عجلة و سرعة , فالكل يُعِدُّ العُدة لاستقبال الوافد الجديد , فحيث سِرْتَ في أزقة الشام سَرَت إليك روائحُ ( المعمول بفستق ) و ( الغريبة ) و (البرازق ) و( أقراص العجوة ) تفوح من بيوت الدمشقيين تعطر الجو بعطر العيد بعد أن زينت الحلوى جوانب الأسواق , فتشعر وكأنما دمشق في مهرجان الجمال يفيض من كل زاوية و مكان .
ومع آخر أيام رمضان تنحني شمس الأصيل مستخفية وراء قاسيون,ذلك الجبل الشامخ كالطود الأشم يحمي دمشق من عوادي الزمن – و كم حماها - , فيؤوب الدمشقيون إلى بيوتهم يتسابقون إلى الإفطار الأخير في رمضان يودعون فيه لمة العائلة و بهجة اللقاء.
و تمر الساعات الأخيرة في ليلة الثلاثين من رمضان , و تعيشها دمشق على أهبة الاستعداد , لا تدري أتفرح بقدوم العيد أم تجزع لوداع رمضان .
وعند أذان العِشاء الأخير يؤم الدمشقيون المساجد ينهلون آخر رشفة من وصال الحبيب الذي آنس بقربه وحشتهم , و أزال بجوده فاقتهم , و تدخلُ المسجدَ فتتبدى لك الوجوه حزينة كاسفة , و تُلْذَعُ بحرقة الفراق تلوع الأفئدة.
و ينتظر الدمشقيون مدفع العيد يعلن إثبات القاضي الشرعي لهلال أول أيام شوال , و هم بين راج عيد غد و متحسر على رمضان أمس .
و بين زحمة الأسواق و ضجيج الباعة يتعالى صوت المدافع تضربها دمشق فرحا بقدوم الضيف العزيز , و تدوي في أرجائها صيحاتُ التكبير ألما على فراق الحبيب الذاهب .
و يعلو صوتُ التهاني كلَّ صوت في دمشق , فلا تسمع الناسَ إلا مهنئا بعضُهم بعضا, و لا تراهم إلا معانقا كلٌ صاحبه .
و تتسارع الخطا في كل مكان , و تغص الشوارع بالرائح و الغادي , وتمتزج صيحات الباعة-يزينون لك بضاعتهم-بأصوات ألعاب النار تخترق الفضاء , فأنَّى مشيت في دمشق سمعت جلبة و رأيت زحمة , و علمت أن الكل في شغل وحركة.
فالحلاق يؤنس الجالسين بحديثه و مزاحه حتى لا يَمَلُّوا طولَ الانتظار , يريد كل منهم أن يزين ظاهره بعد أن طهر في رمضانَ باطنه.
و صاحب ألعاب العيد يستنفر أبناء عمومته و أصدقاءه يعينونه على نصب(المراجيح) التي بدأ الصغار يتحلقون حولها , يرمقونها بعيون زينتها الفرحة و رسمتها البسمة .
و يروح الخياط و يجيء بين زبائنه يكسوهم ما أعد لهم من أبهى الحُلَل , يتزين بها الدمشقيون و يظهرون فرحتهم , فترى الناس عنده بين قيام وقعود , كلٌ يرى ثوبه و يعاين حُلته .
و لا يكاد يغلق ( البغجاتي ) علبةً حتى يفتح الأخرى , يملؤها بأطيب حلوى قد تفنن بعرضها, و صب فيها من إتقان صنعته و خير بلده ما ينسيه تعبه و عرقه الذي تتناثر حباته على جبهته التي احمرت من فرط نشاطه , فتراه يصُفُّ ( البقلاوة ) و(الكول شكور ) و ( المبرومة ) في علب الزبائن مزهوا بصنعته و طيب مطعمه .
و يقف اللحام خلف منصته يقطع اللحم قطعا كبارا لتنال رضا (شاكرية خانم ) أكلة الدمشقيين المفضلة في العيد .
و تدخل حمام السوق فلا تكاد تجد – لازدحام الناس – مكانا لك بين المغتسلين , و تتعالى في ردهة الاستقبال صيحات الترحيب بك و التأهيل بمن معك ,لتدخل بعدها في معمعة الحمام و تتنقل بين( البراني) و (الجواني) , و تتناوبك أيدي ( المكيس ) و (المدلك ), لتخرج بعد ذلك من الحمام و قد خلقت خلقا آخر , تقليد حرص عليه الدمشقيون عناية منهم بالنظافة و الطهارة .
و يفزع طلاب المسجد-الذي خلا من كل زائر-لتنظيفه و تعطيره , فيقضون ليلهم يحنون ظهورهم لا للسجود و إنما لمسح السجاد , و يثنون الهامات لا للركوع و إنما لتنظيف الأروقة و الممرات ,و تفوح روائح الطيب من كل زاوية تنادي الرُّكَّعَ السجود أن أقبلوا و لا تدبروا.
وتسهر ليلةُ العيد لا يغفو لها جفن , وتتثاءب عن بريق الفجر , وكأنما تأبى أن يَبينَ نورُه و يشع ضياؤه .
و يطلع الفجر لتعلو معه أصوات التكبير ترتجُّ لها أرجاء دمشق كلها فرحا و طربا , و يٌّدْلِفُ المصلون إلى مساجد الأحياء الكبرى جماعات جماعات , و قد التف في كل جماعة رجال العائلة الواحدة تغشى المحبةُ وجوهَهم و تزينُ البسمةُ محياهم , و تمتن الفرحة أواصر القربى بينهم فتحس بالألفة تنساب في كل مكان .

و يتوسط الأمويُ مساجدَ البلد , كالقلب يتوسط كلَّ الجسد , و يعلو بهتافه المقدس مرددا ( الله أكبرُ الله أكبر,لا إله إلا الله .الله أكبرُ الله أكبر,و لله الحمد ) , تكبيراتٌ تذوي لها قلوب الدمشقيين إذ يسمعونها من رابطة المنشدين بإيقاعها الفريد المحبب, و الذي تكاد تحس لفرط العاطفة فيه أنه نداء الواله لحبيبه أو استغاثة المضطر لسيده .
و ما أن تنقضي خطبة العيد حتى يموجَ المسجد بمن فيه , كلٌ يسلم على صاحبه في مشهد ما ترى أعجبَ منه و لا أدلَّ على لطف الشاميين و محبتهم لبعضهم .
و يخرج الدمشقيون من المسجد و قد أدوا حق الله , فيؤمون المقابر يذكرون فيها حق موتاهم , لتعلم وفاءَ الدمشقيين لأسلافهم و اعترافَهم بفضل أجدادهم .
وتعلو المقابرَ خضرةٌ , ما زرعتها يد الفلاح و لا غرست نبتها , و إنما أنبتتها محبةُ الأبناء للآباء و غرسها احترامُ الأحفاد للأجداد , و كأنما أبى الدمشقيون لفرط فرحتهم بالعيد إلا أن يشركوا فيها من رحل عنهم من موتاهم .
ويروح الرجال عائدين إلى بيوتهم , وتجتمع العائلة كلها-بقضها و قضيضها , بصغيرها و كبيرها , بنسائها و رجالها-في بيت العائلة الكبير , و تُعَدُّ مائدة الفطور لتتحلق العائلة من حولها يتصدرها الجد و الجدة و قد غصت أحضانهما بالأحفاد يتسابقون إلى جدهم يقبلون يده و تهفو قلوبهم إلى محفظته ليتحفهم بالمال يقضون فيه حق طفولتهم من اللعب و البهجة .
و يتراكض الأولاد في فضاء الحارة الدمشقية يهرجون و يمرحون , وقد تسلح كل منهم بسلاحه فتتراءى لك القوة في أبناء دمشق منذ الصغر , قوةٌ يسر بها الآباء و تستاء من صخبها و ضوضائها الأمهات,و تتعالى بين هذا و ذاك ضحكات الأجداد و غمزات الأخوات .
و يتوافد الجيران و أبناء العائلة يزور بعضهم بعضا , و تنساب كلمات التهنئة و التبريك بين المتزاورين , يزينون بها شفاههم بعد أن ازدانت بأجمل الأثواب أجسادُهم ,وتشيع البهجة في كل زاوية من حارات دمشق , و تهبط الرحمة على هذه البلدة الوادعة الآمنة فتزيدها في يوم العيد رحمة و أمانا , و تجذِّرُ في قلب كل دمشقي محبةٍ الشام و عشقها.
وتبقى دمشق على مَرِّ الزمان في قلب كل عاشق حلما , و على لسان كل متيم ذكرى , فلا ينسى أي دمشقي مهما شاخ به الزمان و ناءت به الأيام ذكريات العيد في عاصمة الدهر و الزمان .

*******************************
بقلم: إياد عمار
34
2K

يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.

تسجيل دخول

مغتربة بالصين
تسلم ايديكي ياحلوة على الموضوع الرائع
وكل سنة وانتى سالمة يانجوحة
madyh11
madyh11
ياسلام شو هاد يانجوحة فتقتي جروحاتنا

يعطيكي العافية
انا وليلى
انا وليلى
مشكووووورة نجوحة وكل سنة وانتي سالمة والله يقومك بالسلامة يارب
فعلا عييد سورية غييرررررررررر
حمصية يا احلى بنت
مشكووووورة نجوحة وكل سنة وانتي سالمة والله يقومك بالسلامة يارب فعلا عييد سورية غييرررررررررر
مشكووووورة نجوحة وكل سنة وانتي سالمة والله يقومك بالسلامة يارب فعلا عييد سورية...
:icon33: بالدنيي كلها ما في احلى من الشام (طبعا بعد حمص :p) هههههههه عم امزح كلنا واحد و كل مدينة احلى من التانية..
تسلم ايديكي عالمقال الرائع.. فتقتي الجروح..
الحنين للوطن 2
كل عام وانتم بخييير

والله يعطيكي العافية

قلبتي علينا المواجع :( صرلي 3 سنين ما نزلت على سوريا الله يفرجها علينا ويكتبلنا نصيب ننزل هالكام يوم ياااااااااااارب