لقد كانت أول قصة كتبتها، وها أنا ذا اليوم أضعها بين يديكن عسى أن تفددنني بنقدكن وآرائكن، أتمنى أن تنال إعجابكن.
الغربة
أتت من زمن خلا عسى أن تحيا زمان الرقى، سلب العمر منها أشواقا فهي اليوم وراءها اليوم تسعى، امتطت سفينة الدهر فرست بها على شاطئ مجهول، مكان غريب و منظر عجيب، لم يطأ مخيلتها يوما صورا كالتي تراها الآن، كيف لا و هي التي عهدت البساطة رفيقة لها في الحياة، راحت هنا و هناك تجول ،و لكنها لم تطق البقاء بعدما رأت ما رأت و واجهت ما واجهت، كيف يروق لها المكوث عند عجوز هرمة تكاد تلفظ أنفاسها الأخيرة تحت وطأة سيف بتار، غير أنها كانت تتظاهر دوما بالقوة و الفتوة و تظن أنها قد تعافت و عادت إلى ريعان الشباب.
ولكنها أدركت بفطرتها الحقيقة المرة، و اكتشفت بعد محاكاتها الأحداث أنها مجرد مكيدة حيكت بخيوط ذهبية رصعت باللآلئ و الدرر.
رجعت المسكينة إلى منبتها خائبة الأمل، خافضة الجبين بعدما ارتدى وجهها لباس الحزن و الحلل. وأخيرا سمعت صوتا يناديها: فاطمة....فاطمة.. فعاد لنفسها بعض رونقها إلتفتت يمينا و شمالا، إلا أنها لم تجد أحدا وقد جلب نظرها مكان اعتادت رؤيته، و قد كان لها متحف للذكريات و التذكارات، هو ذاك الكوخ الصغير، منزلها الذي آواها لسنين مضت، نعم هو ذاك الذي سمعت له صوتا...و لكن الحقيقة أنه كان جامدا طوال الوقت، وأن ذاك الهمس قد نسجه الحنين إلى الديار.
ولكنها أبت إلا أن تلبي نداءه، اقتربت منه و دخلت، فأحست بالدفء من جديد بعدما كاد يهلكها برد قاس نابع من قلوب أقسى، الدفء الذي ترعرعت في حضنه و تربت.
وقفت فاطمة واجمة تتأمل و كأنها ترى بيتها لأول مرة، و قد كان السكون يعمه كما لو أنه كان مهجورا، وما لبث دوامه حتى طرق مسامعها لحن اعتادت أذنها سماعه و قد كان أنيسها المرموق، إنه صوت أمها الحنون الذي إذا ولج قلبها مسح أحزانه، وإذا زار عقلها نور أفكاره، حتى إذا رأتها عاد الدم يسري في عروقها من بعدما كاد يتجمد في الأوردة و الشرايين. و لكنها رسمت بحزنها الصامت الحيرة في وجه الأم التي حاولت محو أثرها بابتسامة لم تستطع أن تخفي بها ملامح دهشتها .
ارتمت فاطمة في حضن أمها ترتشف الحنان و الأمان، وقد انفجرت عيناها السوداوتان الواسعتان بنبع من الدموع كانت تسير على الخدين كالسيل العارم إذا قطع البطحاء، و قد كان صوت نحيبها قد هز مشاعر أمها التي رث قلبها لحال و حيدتها، فأخذت تهدئ من روعها و تخفف من ألمها الذي لم تدر بعد سببه بعبارات رقيقة المعاني كانت كالمسكن إذا دخل جسم المريض،فأزال ألمه شيئا فشيئا، و لكن الفؤاد إذا جرح كان الجرح عميقا صعب الإلتمام.
نظرت إلى أمها بلؤلؤتين كانتا تنثران من ذاك اللمعان عبيرات كانت بقايا لذاك النبع الغزير، و قد أحست بالأمان يغمر قلبها بعدما تحققت أنها عادت إلى مرتعها، إلى أرضها، إلى حبييتها أمها.
خيم الهدوء مجددا على الكوخ و قاطنيه، وقد نفذ صبر الفتاة قبل أن تبوح بما أفجعها، أخذت تتحدث كما لو أنها لم تتحدث منذ زمن بعيد، قد ثار بركان الكلمات بعد ان ضاقت عليه نفسه احتباس تلك الحمم بداخله،بل كيف يتحمل قلب صغير جمرات تظل تحرقه، أخذت الفتاة تسرد قصتها مع ذلك الزمن الذي لم تفهم عوالمه، ذالك المكان الذي لم تطق معيشته، ذلك الأنسان الذي جهلت شخصيته، وأمها قد غادرت بفكرها مع الكلمات وراحت تتجول في أجواء القصة المبهرة و قد تابعت أحداثها باعتناء:
"ظننت في البداية و يا ليتها لم تكن بداية أني سأستقبل استقبال الملوك من من آثرتها، حسبت أنها الكريمة التي فاحت بعبق العطور، وأزهرت بالورد و الزهور،و نشرت من أضوائها فملأت الأكوان بالنور .
خلت أنني سأبصر ضياء الشمس مسيطرا على أنحاء المعمورة ليل نهار وهي متسقة وسط السماء لايأفل بريقها، بل أين جدول الماء النقي الصافي الذي كان منهلا لكل من أراد منهلا، أين تلك الشجرة التي زرعت منذ أمد بعيد ، بحثت عنها غير أنني لم أجد إلا الأشواك تحوط المكان، فقد تركت و نسيت فهي اليوم وحيدة تبحث عمن يرعاها، عمن يعيرها اهتمامه، ويوليها اعتناءه، علها تعود كسابق عهدها أيام الربيع، تمد من ظلالها و تهدي من ثمارها كل زائر و مار، و لكن أين اليوم الزائر وأين المار.
قد غرني سراب خدع بصري، وساقني الفضول إلى اجتياح المكان و اقتحام المجهول، في أول وهلة بدا كل شيء مختلفا، إلا أن الجمال قد أبهجه، والإتقان قد زينه، وزادته الدقة رونقا و بهاء، أحببت المكان ففرحت ورحت أتفحص معالمه، كانت عيناي كالطير تحلق عاليا، يمينا و شمالا ثم تعود إلي لتنبئني بما رأت و ما أبصرت، و عقلي عاجز عن تفسير الأمور . بنايات كانت قد بلغت النخيل الشامخة طولا ، أجسام غريبة تدب على الأرض و لم تكن نوقا ولا أنعاما وقد فاقت بسرعتها الخيل الأصيل، و أخرى تحلق عاليا في السماء و قد شابهت الصقور...
طوال الدرب صادفت أناسا لم أدر أمن العرب كانوا أم من بني الفرس الروم، كانوا ينظرون إلي باحتقار و ازدراء لم أدر لم، ربما لأنني كنت متغيرة لا أشبههم وربما كان السبب ردائي الذي كنت ألبس، ولكني لم أبالي ولم آبه،ولم أيأس في البحث عمن تشبهني، و لكن هيهات لما أردت، ما علمت أفي مجتمع خال من النساء أنا، أم أنهن و الرجال سواء؟ولكن مرادي تحقق إذ كانت الدعوة موجهة لجميعهن، كنت أقتفي أثرهن حتى وصلت، ولجت المكان وكلي سرور، استبشرت خيرا لعلي أزيد من علمي ولو الشيء اليسير، مع كل خطوة خطوتها إلى الأمام كنت أحس أن شيئا ما يعيدني إلى الوراء قاومه حبي للعلم والتفقه ، حتى إذا فتحت عيني إذا بقاعة واسعة مرصعة بجواهر مضيئة ذات ألوان لم أعهد رؤيتها، ولكن بشاعة المنظر أغلقهما، وأعادني ضميري إلى خارج المكان إلى بر الأمان. مع علمي أن شمس الإسلام قد طلعت إلا أنني لم أدر أفي الجاهلية الأولى أنا أم حقا في عصر الإسلام.
واصلت المسير و فكري حائر جائل: ما أصنع ماذا أعمل؟ كيف؟ وأين ؟ و لماذا؟....أسئلة كثيرة كانت تتفجر داخلي كوابل من القنابل ظلت تحرقني، ولكني عاجزة عن إيجاد أي جواب لها يقنعني و يشفي غليلي.
صادفت لفيفا من الشباب متآلفين متفائلين كان منظرهم يوحي إلى التفاخر، إذ كانوا متجمعين ويد الله مع الجماعة، فظننت أنهم كانوا يتدارسون القرآن و يتلونه أو يتفقهون في الدين فيكونون خير رجال للغد، و لكن شتان بين هذا و بين ما كانوا يفعلون، استهزاء بالدين و استهتار بالقيم والأخلاق، كلام لا تطيق أذن سماعه، مشاهد لا تطيق عين رؤيتها ومواقف لا يستطيع عقل استيعابها.
بدأ الحزن يحفر خندقا في قلبي وقد كان عمقه يزيد والآلام تتراكم داخله وتغمره، بينما أنا كذلك رثى قلبي لحاله، إذ كان فريسة لذالك الوحش البشري الذي انقض عليه دون رحمة و لا شفقة، ولد ضعيف كان مرتميا على الأرض والدماء تتطاير و الصراخ يعم المكان، والناس مارة من حوله، وما كان أحد مكترثا، إلا من وقف ضاحكا ساخرا.
علمت حينها أن لا مكان للإسلام هنا، لا مكان للأخلاق و لا للقيم، القوي يأكل الضعيف كما تأكل النار الحطب،والحق قد دفن وووري عليه التراب، والعدل قد تلاشى كما يتلاشى الضباب.
وأنا أمشي تعجبت من شكل تلك الصحيفة التي كانت تسبح في الجو ما كانت من الجلد و لا من العسب و ما كانت من الرقاع، تناولتها فزاد العجب إذ كانت مكتوبة بحروف عربية غريبة الشكل ، قرأت عليها كلمات لم أشأ تقبلها، وصرت أصيح "ما فعلوا بك وما صنعوه، أين أنت يا حبيبي يا رسول الله، حسبي الله و نعم الوكيل حسبي الله و نعم الوكيل" نظر إلي أحدهم وقد كاد الضحك يقتله، فما علمت سبب ضحكه وما كان كلامي مضحكا، استرجع أنفاسه و قال: من تقصدين: محمد، محمد قد مات منذ قرون مضت، أصابت كلماته صميم قلبي كالرمح القاتل، فزاد الألم وزادت الجراح، جلست على الأرض أبكي و أنوح، وعدت إلى قرارة نفسي أبحث عن دواء ناجع لهمي، وبعد طول أخذ ورد بيني و بينها، ومد و جزر للأفكار، أدركت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يمت، ولكنه قد غاب بين هؤلاء الناس، فظنوا أنه قد مات، كيف لا و قد عاد لا يذكر اسمه الكريم بينهم، كيف لا و قد تركوا وصيته وخالفوا سنته، وقد باعوا دينهم بعرض من الدنيا قليل، لو كان حيا في قلوبهم لكان بينهم،وقد نصبوا أئمة الفساد عليهم ملوكا، فحملوا شعاراتهم، وتناسوا وجود أعظم الخلق وأكرمهم، سيدهم وقائدهم.
وأخيرا بعد كل ما كان ، حدث ما لم أتوقع حدوثه، لقد نبئني صوت الأذان أني حقا في بلاد الإسلام، نظرت من حولي وانتظرت، انتظرت وطال الانتظار، فلا موقف تغير ولا أحد لب النداء،كل في دوامته غارق و في انشغالاته منهمك،حتى ظننت أنهم صم لا يسمعون، بل في آذانهم وقر فهم عن الحق معرضون.
ضاقت نفسي ولم أتحمل البقاء،و حمدت الله أن لم يخنني العزاء، ولكن إلى متى سيبقى لي رفيقا، ماذا و إن تركني قليله الذي آنسني، سأغادر معه، سأمسك يده وأطلب منه أن يأخذني بعيدا، إلى حيث الأفق، علني ألقى السعادة هناك.
مرالزمن سريعا، ولم أدر أأغمي علي أم استغرقت في نوم عميق، كان الظلام بسواده يحوطني و المكان:أين أنا ؟وكيف وصلت إلى هنا؟ أعلى صفحات الواقع أنا أم هي أضغاث أحلام؟
ظل ذهني مشوشا والمجهول يناديني لأكشف حقائقه، بعدما كدت أضيع في متاهاته الموحشة، وقد أخذ الروع يحجز مكانه داخلي، ورحت أفتش عن سبيل الخلاص، وحسبت أنه هو، ذالك النور الذي قد انفلق من الظلام ، فإذا بقبس من النار يدنو مني وقد أضاء أرجاء المنزل الذي لم يكن شكله غريبا عني، كشف الستار الأسود عن وجه امرأة عجوز كانت ملامحه تروي قصة واقع مرير وماض أليم ، كانت ابتسامتها المصطنعة تخفي أسرارا كثيرة، خيل إلي أني أعرفها غير أنني لم أقابل قط من يشبهها، كانت شفتاها تتحركان إذ كنت غارقة في تساؤلاتي التي لم تفارقني، وفي كل مرة كانت تزورني بوجه جديد، ولكن كلمة وحيدة التي استوعبت من كلامها وقد قالت "يابنيتي" نعم لقد قالت بنيتي، كان إحساسا جديدا بعد الشعور بالغربة ، جعلني أبحث عن حقيقتها، ترى من تكون؟ وما أتى بي إليها؟ سألتها وكررت السؤال، ولكن صمتها قد طال، فخفت أن لا يكون المقال في مقامه، ولكنها تكلمت وقالت ما زاد من حيرتي:
"سأخبرك إذا أردت -فعجبت لأنني من أردت- أنا عجوز وحيدة، لا أهل لي و لا خلان، وإن كان لي جيران فلست لهم جارة، وإن كنت من هذه الديار فأنا غريبة فيها" قد بدا الإبهام فيما تقول ولكن ما بعده قد أزاله،أخذت تحكي قصة بؤسها وأيامها معه، وهي تبكي أمة قد غيرت دستورها، وكيف أن الإسلام قد صار غريبا في مهده، وقد تركه أبناؤه.
أخذت تروي كلاما كان لي مفتاحا فتحت به صندوق الألغاز، وقد فككت به الرموز المجهولة وحللت عقدة حكاية كانت من نسيج الخيال، كان آخر فصولها أن أهدتني من دررها نصيحة كانت آخر ما تملك، كانت أعز علي من أن لا أعمل بها، وقد كانت لي الخشبة التي تمسكت بها في عرض البحر حتى أنجاني الله من الغرق.
بقلم:رقية الفردوس
أظن أنكن تنتظرن النهاية، وأسئلة كثيرة تتجول في أذهانكن بعد إكمال القصة: ترى من تكون العجوز، وما كانت نصيحتها؟ وما هي الأسرار و الألغاز التي فكت، أنا انتظركن في تحليل المعاني وتوقع ما قد حدث بعد ذالك.
في انتظار مشاركتكن.
يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.
مناير العز :مبدعة يا رقية أكملي قصتك .. فأنتِ تملكين أسلوبا جزلامبدعة يا رقية أكملي قصتك .. فأنتِ تملكين أسلوبا جزلا
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته:
شكرا جزيلا لك أختي مناير العز،وهذا شرف لي أن تقومي بقراءة قصتي، أما عن النهاية فقد انتهت القصة حقا ، إلا أنني لم أظهر ذلك ، ولكن في الأخير معان تدل على تمامها ولعل بدايتها كانت هي النهاية.
لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه و سلم
شكرا جزيلا لك أختي مناير العز،وهذا شرف لي أن تقومي بقراءة قصتي، أما عن النهاية فقد انتهت القصة حقا ، إلا أنني لم أظهر ذلك ، ولكن في الأخير معان تدل على تمامها ولعل بدايتها كانت هي النهاية.
لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه و سلم
الصفحة الأخيرة
أكملي قصتك .. فأنتِ تملكين أسلوبا جزلا