
الفتور في العبادة

حينما تنجو سفينةُ المرءِ من بحر المعاصي المهلك ، فترسو على ساحل الإيمان الآمن ، يكون حينها عرضةً لحبائل الشيطان المغرضة ، وشباكه المعقدة ، وأنيابه المفترسة ، وما ذاك إلا لأنه غرضٌ كم تمنى الشيطان أن يصيبه بسهمه المسموم ، ليرديه قتيل الضعف الممقوت ، والانتكاسة المهينة .
ولكن ما أهون هذا الشيطان ، وما أقل حيلته ، وما أضعف كيده ، إذا واجهه المؤمن بسلاح الإيمان المضاء ، ونوره الوضاء ؛ فراجع أسباب ضعف إيمانه ، ونظر في علل فتوره وتقصيره ، واتخذ من أسباب الثبات على دينه ما ينصره على الشيطان في هذا الصراع العنيف .
الفتور ::
مرض يتسم بالتسلل الخفي حينما يريد أن يدس داءه في قلب المسلم أو عقله ، كما أنه لا يأتي بغتة ، بل إن نَفَس الشيطانِ فيه طويل ، وكيده في الإصابة به متنوع ، حتى يقتنع صاحبه أنه فيه على حق ، وأنه كان على خطأ أو تطرف .
والفتور :
انكسار وضعف ، ولعلك تلمح بوضوح أن هذه الكلمة تشير إلى أن هذا الضعف قد سُبق بقوة ، وذلك الانكسار قد تقدمته صلابة ، ولهذا قال علماء اللغة :
( فتر : أي سكن بعد حِدّة ، ولان بعد شِدّة )
فالفتور::
إذًا مرض يصيب الأقوياء ، ويترصد لكل من يتطلع إلى الكمال في دينه ، وعلى هذا فإن الأمر يزداد خطورة ؛ إذ أن أهم المقصودين هنا هم شريحة أهل الإيمان من العاملين المنتجين ، والمبدعين المتفوقين ، الذين تنهض عليهم الأمة ، وتنقاد لهم سفينتها .

إننا قبل التعرف على أسباب إصابة المؤمن بالفتور في العبادة ، لابد من تبيين حقائق ومسلمات تتعلق بضعف إيمان المؤمن وفتوره ، أذكرها في القواعد التالية :
القاعدة الأولى :
أن جميع الخلق _ سوى من عصمه الله _ معرض للإصابة بالفتور ، والوقوع في الأخطاء والمعاصي ، وهذا أمر قد أثبته النبي صل الله عليه وسلم ، وجعله سمة لكل بني آدم فقال :
( كُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ ، وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ )
رواه الترمذي ، وابن ماجه ، والدارمي ، وإسناده حسن ، ورواه الحاكم وصححه .
ولما كان الإنسان مفطورًا على الوقوع في المعصية ، واقتراف الخطأ ، أرشده الله تعالى إلى طريق الخلاص منها ، وهو التوبة النصوح ، فمن توخاه نجا ، ومن تنكب عنه خسِر ، ومن هنا جاء الترغيب الرباني إلى طريق النجاة بالعفو عما اقترفه الإنسان من الذنوب ، وليس هذا فحسب ، بل وبتبديل السيئات السابقة إلى حسنات أيضًا ، فيا له من فضل عظيم ، وعفو كريم ، يقول الله تعالى فيه :
(( إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ))
ويقول النبي صل الله عليه وسلم :
((والَّذي نَفْسِي بِيَدِهِ ، لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا ، لَذَهَبَ اللَّهُ بِكُمْ ، وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ فَيَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ ، فَيَغْفِرُ لَهُمْ)) رواه مسلم
القاعدة الثانية :
أن قلب المرء وإن صفا ، وثبت على الإيمان ، واستلذ بحلاوته ، فإنه معرّض للانتكاسة ، ومهيأ للانقلاب ، قد يقرب من ذلك وقد يبعد عنه ، يقول النبي صل الله عليه وسلم :
( إِنَّمَا سُمِّيَ الْقَلْبُ مِنْ تَقَلُّبِهِ ؛ إِنَّمَا مَثَلُ الْقَلْبِ كَمَثَلِ رِيشَةٍ مُعَلَّقَةٍ فِي أَصْلِ شَجَرَةٍ يُقَلِّبُهَا الرِّيحُ ظَهْرًا لِبَطْنٍ )
رواه أحمد وهو صحيح
ومن الذي بيده تقليب القلوب وتصريفها ، إنه الله سبحانه ، يقول النبي صل الله عليه وسلم:
( إِنَّ قُلُوبَ بَنِي آدَمَ كُلَّهَا بَيْنَ إصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ ، كَقَلْبٍ وَاحِدٍ ، يُصَرِّفُهُ حَيْثُ يَشَاءُ )
ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صل الله عليه وسلم
( اللَّهُمَّ مُصَرِّفَ الْقُلُوبِ صَرِّفْ قُلُوبَنَا عَلَى طَاعَتِكَ )
رواه مسلم
القاعدة الثالثة :
أن مذهب أهل السنة والجماعة في شأن الإيمان ، أنه يزيد بالطاعة ، وينقص بالمعصية ،
وهل يستوي إيمان عبد تعلق قلبه بالمساجد ، وشغف بحب الله ورسوله صل الله عليه وسلم ،
وأضاء نور القرآن عقله ، وأنارت السنة بصيرته ، بمن صد عن هذا كله ،
فرضي بمستنقعات الرذيلة له موردًا ومشربًا ، وامتلكت جوارحَهُ المعاصي ،
وسرى في دمه داءُ التبعية لكل ناعق ، فاستمتع بالشهوات المحرمة ،
وسلَّم قياده لشيطان الهوى ؟ لا والله الذي لا إله إلا هو لا يستوون ، وهل يستوي من قال الله فيه :
( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانَا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ )
هل يستوي هؤلاء بمن قال الله تعالى فيهم :
( وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ )
أقول : لا يستوون !!
القاعدة الرابعة :
أن بقاء قلب المؤمن على الدرجة الرفيعة من الإيمان التي يجدها في أعظم العبادات قدرًا ، وأكثرها تأثيرًا ؛ كالصلاة ، والحج ، والصيام وتلاوة القرآن ، وقيام الليل ، أمر متعذر ؛ لشدة انشغال القلب بأعمال الدنيا ، وملذاتها ، وما يعتريه فيها من أفراح وأتراح ، وليس هذا من الرياء أو النفاق في شيء ، وقد وجد هذا أفضل القرون من صحابة النبي صل الله عليه وسلم ؛ فقد روى مسلم في صحيحه :
عَنْ حَنْظَلَةَ الْأُسَيِّدِيِّ ، قَالَ : لَقِيَنِي أَبُو بَكْرٍ ، فَقَالَ : كَيْفَ أَنْتَ يَا
حَنْظَلَةُ ؟ قَالَ قُلْتُ : نَافَقَ حَنْظَلَةُ ، قَالَ : سُبْحَانَ اللَّهِ ، مَا تَقُولُ ؟
قَالَ قُلْتُ : نَكُونُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صل الله عليه وسلم ،
يُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ ، حَتَّى كَأَنَّا رَأْيُ عَيْنٍ ،
فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللَّهِ صل الله عليه وسلم عَافَسْنَا الْأَزْوَاجَ
وَالْأَوْلَادَ وَالضَّيْعَاتِ ، فَنَسِينَا كَثِيرًا ،
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : فَوَاللَّهِ إِنَّا لَنَلْقَى مِثْلَ هَذَا ، فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ حَتَّى
دَخَلْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صل الله عليه وسلم ،
قُلْتُ : نَافَقَ حَنْظَلَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صل الله عليه
وسلم : وَمَا ذَاكَ ؟
قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، نَكُونُ عِنْدَكَ تُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ حَتَّى كَأَنَّا
رَأْيُ عَيْنٍ ،
فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِكَ ، عَافَسْنَا الْأَزْوَاجَ وَالْأَوْلَادَ وَالضَّيْعَاتِ نَسِينَا كَثِيرًا ،
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صل الله عليه وسلم:
(وَالَّذِي نَفْسِيبِيَدِهِ إِنْ لَوْ تَدُومُونَ عَلَى مَا تَكُونُونَ عِنْدِي وَفِي الذِّكْرِ ، لَصَافَحَتْكُمُ الْمَلَائِكَةُ عَلَى فُرُشِكُمْ وَفِي طُرُقِكُمْ ، وَلَكِنْ يَا حَنْظَلَةُ ، سَاعَةً وَسَاعَةً ، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ )


إن سؤالاً تتحدث به قلوبنا ، وإن لم تنطق به ألسنتنا ، وهو : كيف أعرف أنني مصاب بداء الفتور ، ما أعراضه ، وأشكاله التي يظهر بها في عبادتي ، وفي حياتي ؟
المظهر الأول :

قسوة القلب ::
ذلك السياج المانع للقلب من الخشوع لله تعالى ، الحابس لدمع العين من خشيته ، الحائل دون قشعريرة الجلد وليونته ذلاً لله تعالى ، فلا يعرف القلب بعد هذا معروفًا ، ولا ينكر منكرًا ، قد جفّت ينابيع الحب فيه ، وأقفرت رياض الرحمة لديه ، واصفرت خضرة المشاعر في فؤاده ،
(فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ )
المظهر الثاني :
التهاون في فعل الطاعات ، ما كان منها فرضًا ، أو نفلاً ، يسيرًا كالأذكار ، أو غير ذلك ، كالحج ، والصلاة ، والصيام ، فإذا رأى الإنسان نفسه متثاقلاً في أداء العبادات ، متكاسلاً في النهوض إليها ، كارهًا لأدائها ، يشعر كأنها أمثال الجبال على كاهله ، فليعلم أن داء الفتور قد دب في أوصاله ، وسرى في دمه ، يقول تعالى ذامًا هذا الصنف من المصابين بهزال الإيمان وضعفه :
(وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا )
ويقول تعالى :(وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ )
المظهر الثالث :
بغض الصالحين الممتثلين للسنة ، الحريصين على إقامة شعائر الدين في أنفسهم ، وأهليهم ، ووسطهم ، فإذا ما رأيت العبد يجتنب مجالس الخير ، ويأنس بأحاديث اللغو والتفاهة ، فاعلم أنه يعيش صراعًا مع نفسه ، فإنها تنازعه الثبات على الحق ، وتدعوه إلى الإهمال فيه ، والفتور في القيام به .
المظهر الرابع :
موت المشاعر الدينية ، وعدم الغضب من أجل الله تعالى ؛ فإن المرء يمر في يومه وليلته بفتن كثيرة ، وامتحانات متتالية ، على رأسها هذه المنكرات التي تموج بالناس حتى تكاد تغرقهم ، وما تواجه به تعاليم الإسلام من السخرية والاستهزاء ، وما تتعرض له بعض شعوب المسلمين من حروب الإبادة التي لم يشهد لها التاريخ مثيلًا ، وما يشاهده المسلم اليوم من سقوط أكثر المسلمين في شباك الغرب والشرق .
المظهر الخامس :
عدم الشكر في السراء ، وعدم الصبر في الضراء ، وإنما يأتي ذلك من ضعف الإيمان ، والفتور في الصلة بين العبد وخالقه ، فلو أن العبد استحضر أن كل نعمة تصل إليه إنما هي من الله وحده ، لشكر الله عليها ، فتزداد صلته بخالقه الذي مَنَّ عليه بهذه النعم وغيرها ، ولو أنه حينما تحل به مصيبة ، أو تقع به كارثة ، علم بأنها ابتلاء وامتحان من الله ، ليصبر عليها ، لينال أجر الصابرين ، فيفوز مع الفائزين ، ولا يكون الشكر في امتحان النعمة ، والصبر في امتحان الشدة إلا من المؤمنين .
يقول النبي صل الله عليه وسلم:
( عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ ، وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ ، فَكَانَ خَيْرًا لَهُ ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ ، فَكَانَ خَيْرًا لَهُ) رواه مسلم
المظهر السادس :
المجاهرة بالمعصية ، وعدم مبالاة المرء بمعرفة الناس بوقوعه فيها ، وهي من أعلى مراتب الفتور ، حتى حذّر النبي صل الله عليه وسلم منها في قوله :
( كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إِلَّا الْمُجَاهِرِينَ ، وَإِنَّ مِنَ الْمُجَاهَرَةِ أَنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ عَمَلًا ، ثُمَّ يُصْبِحَ وَقَدْ سَتَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ فَيَقُولَ : يَا فُلَانُ ، عَمِلْتُ الْبَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا ، وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ ، وَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللَّهِ عَنْهُ ) رواه مسلم
وما أشنع هذا الفعل الذي تتوغل النفس فيه في غمرة المعصية المقترنة بالجهل ، فيزيد على وباء الذنب ، ظلمة الانسلاخ من الحياء من الله ومن خلقه ، وإن الحياء لشعبة من شعب الإيمان ، فكيف إذا كان من الله تعالى !!

عدم تعهد العبد إيمانه من حينٍ لآخر ، من حيث الزيادة أو النقص ، فإن بدون مراجعة الإنسان نفسه مع حال إيمانه ، تتكالب عليه أسباب الفتور من كل جانب ، فتعمل معاولها الهدامة في بنيانه ، ولذا فإنه يجب على المؤمن إذا رأى في إيمانه قصورًا ، أو شعر بشيءٍ من مظاهر الفتور ، أن يتزود من أسباب الإيمان ، وينهل من معينه .
السبب الثاني :
الجهل بما أعده الله تعالى للمتقين من الجنان ، أو تجاهله ، أو نسيانه ، أو عدم مذاكرته بين الحين والآخر ، فإذا ما وقع الإنسان في شيء من هذا ، فتر عن العبادة ، وتكاسل عنها ؛ لأنه فطر على التعلق بالشكر ، وطلب الجائزة على المعروف ، وقد هيأ الله ذلك لعباده إلى حدٍ لا تتصوره أذهانهم ، ولا يخطر على بالهم ،
(هذا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ(49)جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمْ الْأَبْوَابُ(50)مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ(51)وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ(52)هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ(53) ( إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ )
السبب الثالث :
استبعاد العقوبات الدنيوية ، والاستهانة بالعذاب الأخروي ، أو الشعور بأنه عذاب معنوي فحسب . وهذا السبب قسيم لسابقه ، فإنما يسعد المؤمن بإيمانه على أمرين ، الرجاء في ثواب الله ، والخوف من عقابه ، فإذا ما استبعد المسلم حلول النقمة عليه في الدنيا بسبب ذنب أصابه ، أو خطيئة ارتكبها ، تمادى في طريقها غير مبالٍ بنتائج هذا الفعل .
يقول بعض السلف :
(( إنني أجد أثر المعصية في أهلي ودابتي ))
السبب الرابع :
الانبهار بالدنيا وزينتها ، والاغترار بنعمها الزائلة ، وإن للدنيا من الفتنة العظيمة ما يتغيّر به حال العباد من الثبات إلى الفتور ، ومن القوة إلى الضعف ، من هنا حذّر خالقها سبحانه من الاغترار بها
فقال :
( يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ )
السبب الخامس :
طول الأمل ، وهذا هو قاتل الهمم ، ومفتر القوى ، قرين التسويف والتأجيل ، وحبيب الخاملين الهاملين ، وعدو الأتقياء النابهين .
السبب السادس :
من أسباب الفتور : تحميل الإنسان نفسه في عبادته ما لا يحتمل عادة ، فإنه وإن استمر على فعل الطاعة مع ثقلها عليه ، إلا أنه سيصيبه الفتور بعد ذلك ؛ لمخالفته المنهج النبوي الكريم ، وهو أن المؤمن ينبغي أن يأخذ من الأعمال ما يطيق ، حتى لا يصاب بالملل والسآمة ، فيعود هذا على ترك العمل نهائيًا .
وقد أرشد الله تعالى إلى ذلك فقال
: { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ }
وعلم عباده ذلك الدعاء الكريم فقال :
(رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ)
وهاهو نبي الأمة صل الله عليه وسلم يرسم الطريق المستقيم في العمل بالعبادة ، وهو التوسط فيها ، فلا إفراط ولا تفريط ، حتى يبقى المسلم على صلة دائمة لا تعرف الفتور ، وطريقة مستمرة لا تعرف الانقطاع ،
فقال عليه الصلاة والسلام :
( إن الدين يسر ، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه ، فسددوا ، وقاربوا ، وأبشروا )
رواه البخاري
ويتوعد النبي صل الله عليه وسلم المتنطعين في الدين ، المشددين على أنفسهم في العبادة بما لا يطيقون بالهلاك ،
فقال : ( هلك المتنطعون ) قالها ثلاثًا .. رواه مسلم
السبب السابع :
الابتداع في الدين ، وإنه لسبب خفي من أسباب الفتور ، ومدخل للشيطان على النفس البشرية قلما تتنبه له ، وذلك لأن هذه الشريعة الغراء ليست من صنع البشر ، بل أحكامها إلهية ، مصدرها الوحي ، جاءت مؤصلة بكلام الله تعالى ، وسنة النبي صل الله عليه وسلم ، أي : بالوحي الذي لا ينطق عن الهوى ، من هنا كانت أحكامها متصفة بالحكمة ، قائمة على المصلحة ، مملوءة بالرحمة ، وكان على العبد أن يقتصر عليها دون زيادة أو نقصان .
أما النقصان ، فالخلل فيه واضح لا يحتاج إلى بيان ؛ لأنه لا يجوز أن يفعل الإنسان ما يحلو له من الدين ويترك ما لا يهوى ، فقد قال الله تعالى :
( أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ )
وأما الزيادة على الدين ، ولو كان ذلك بإ نشاء العبادات أو الأذكار ، أو ابتكار طرق جديدة في أداء الطاعات ، فإن في ذلك كله زيادة في التكليف ، ومشقة على العباد ، بسببها قد يبغض الإنسان العبادة المفروضة من ربه ، والمشروعة من نبيه ، وذلك لضيق وقت الإنسان ، وتزاحم الواجبات عليه ، مما يؤدي إلى ترك المطلوب المشروع ، لفعل المبتدع المرفوض ، وإنك سوف تجد هذا بوضوح في شأن المبتدعة ، حيث ينشطون لبدعتهم ، ويفترون عما أوجب عليهم ، فما أجمل الاكتفاء بالسنة النبوية ، وما أروع الاقتداء بالحبيب ، وما أفضل السير على منهاج سلف الأمة المهديين .
السبب الثامن :
الرفقة السيئة ، وهي الأخطبوط الذي يضم المصاب بداء الفتور ، كلما حدثته نفسه بالعودة إلى الثبات ، والعزيمة على الرشد ، فتنته هذه الرفقة بعرض جديد من ألوان الهوى ، وصور الفساد والخنا ، فتراه يتوهم السعادة في مجالستهم ، والسهر معهم ، وإنها
لسعادة
( كَسَرَابٍ بقيعة يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءه لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ )
السبب التاسع :
الانفراد والعزلة ، ففي زمن كثرت فيه المغريات ، وتنوعت فيه وسائل الشهوات ، وسهلت فيه الخلوة بما حرم من المثيرات ، أصبحت العزلة وسيلة إلى الفتور ، وطريقًا إلى الخور والضعف ؛ لأن المسلم حينما ينفرد لا يعرف صوابه من خطئه ، ولا قوته من ضعفه ، فتراه يسير متخبطًا في عمى ، بلا دليل يدل ، ولا حكيم يرشد ، فيسهل قياده من الشيطان للتقصير والهوى ، وإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية .
السبب العاشر :
عدم معرفة الله حق معرفته ، والجهل بعظمته في النفوس ؛ فإن من عرف الله تعالى بأسمائه وصفاته ، لم تجرؤ نفسه على التقصير في عبادته ، أو الوقوع في معصيته ، أو الخلوة بالخطيئة ، أو المجاهرة بالسيئة .
السبب الحادي عشر :
استحقار صغائر الذنوب ، والاستهانة بعقوبتها ، وإنها والله القطرات التي أجرت سيول الفجور ، والحصى الصغيرة التي تراكمت منها جبال الذنوب ، فمرة نقول : صغائرُ ، ومرة نقول : لممٌ ، وما الأمر إلا ملائكة يكتبون ، وصحف تملا ، ورب يحصي ، في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ، فهل علم الفاتر عن الطاعة ذلك كله ؟
السبب الثاني عشر :
التعلق في الالتزام بالدين بالأحياء من الصالحين ، وإنه السوس الذي ينخر في دين الإنسان من حيث لا يشعر ، فكم يفرح المرء بهدايته ، غير أنه لم يهتد إلا لأجل إعجابه بشخصية فلان ، أو استحسانه صوته أو صورته ، حتى يصل الأمر بأن يتبعه في كل شيء ، ويقلده في كل أمر ، فإذا ما أصيب قدوته بالفتور ، لحقه فيه دون تردد ، ولو انتكس ، انقلب كما انقلب على عقبيه ، وإنه لا يضر الله شيئا .
إنه يجب أن نقتدي في سائر عباداتنا بالنبي صل الله عليه وسلم ، وبسلفه الأخيار ، لا نرتضي بهم بدلا ، وليكن ذلك نبراسنا في دعوتنا الناس إلى منابر الهداية المضيئة ، فإن الأحياء لا تؤمن عليهم الفتنة .
السبب الثالث عشر :
الانشغال بالعلوم العلمية البحتة ، والانفتاح على شتى وسائل تحصيلها ، من دون تفريق بين ما حلّ منها وما حرم ، كالتعذر في تعلم اللغة الإنجليزية برؤية الأفلام الأجنبية ، أو الاطلاع على مواقع منحلة في شبكة الانترنت ، أو السفر إلى الخارج من غير أخذ الأهبة الدينية التي يجب أن يتسلح المسلم بها قبل ذهابه إلى هناك ، أو السكن مع إحدى الأسر الكافرة ، والاختلاط بهم ؛ بحجة إجادة التعلم والاضطرار إليه
السبب الرابع عشر :
الغفلة عن محاسبة النفس ، فترى أحدنا يسير في هذه الدنيا ولم يجعل على نفسه حسيبًا ، فتكثر عثراته ، وتتضاعف زلاته ، لا يعرف ما فعل ، ولا يدرك ماذا قال ، ولا يتراجع عن خطأ ، ولا ينشط لفعل طاعة ، كل تصرفاته مرتجلة ، لا يضع لنفسه أهدافًا ، ولا يسأل نفسه ماذا أنجز في يومه ، وكم قصّر في حق ربه ، وكم ضيّع من حقوق عباده ...
فهل حاولنا أن نخلو بأنفسنا ساعة نحاسبها عما بدر منها من الأقوال والأفعال ؟ وهل حاولنا يومًا أن نعد سيئاتنا كما نعد حسناتنا ؟ بل هل تأملنا أن طاعتنا قد لا يخلو بعضها من الرياء والسمعة ، كيف القدوم على الله _يا عباد الله _ ونحن لأنفسنا غير محاسبين ، ولحساب الله غير مطيقين
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه :
(( حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوها قبل أن توزنوا ، فإن أهون عليكم في الحساب غدًا أن تحاسبوا أنفسكم اليوم ، وتزينوا للعرض الأكبر، يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية ))
إذا كنا قد عرفنا جملة من أسباب الفتور في العبادة ، ووضعنا أيدينا على الداء ، فقد جاء دور الكلام على الدواء .
إن الدواء الناجع لداء الفتور هو بإيجاز قطع كل الأسباب التي سبق ذكرها ، التي من شأنها أن توقع المسلم في خنادق الفتور ، ومهاوي التقصير ، ليسلك بدلها وسائل الثبات ، وطرق الالتزام بالهداية ، فيعظم العبد ربه في قلبه ،
ويطبع هذا التعظيم على أقواله وأفعاله واعتقاده ، ويتّبع سنة النبي صل الله عليه وسلم بلا زيادة أو نقصان ، ويضع الموت والنار والجنة نصب عينيه ، يرجو رحمة ربه ، ويخاف عذابه ، معظمًا في ذلك شعائر الله ، فإن ذلك من تقوى القلوب ،
متعاهدًا لنفسه بالمحاسبة ، وبالرفقة الصالحة ، وبالوعظ والتذكير ، مبتعدًا عن طرق الهوى والفتنة بشتى وسائلها ،
مرددًا دعاء النبي صل الله عليه وسلم :
( اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك ) رواه مسلم
أسأل الله سبحانه أن يحبب إلى إلينا الإيمان ويزينه في قلوبنا ويكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان ويجعلنا من الراشدين