بسم الله الرحمن الرحيم
تعيش البيوت المسلمة أزمةً طاحنةً من جرَّاء الامتحانات التي تطرق الأبواب بين الفينة والأخرى ...
وحالما يقترب موسم الاختبارات حتَّى ترى كثيراً من البيوت قد أعلنت عن حالة التأهب القصوى وهذا جهدٌ مشكور ، وعملٌ مأجور إذا صلُحت النيَّة ، وخلُص المقصِد لله ربِّ العالمين .
ولكننا لو تأملنا هذا الاهتمام المبالغ فيه من أجل هذا الامتحان الهيِّن ثمَّ قلَّبنا البصر إلى ضعف الاستعداد وقلَّة الاهتمام وشدَّة الغفلة عن ذلك الامتحان الرهيب الذي خلقنا الله تعالى من أجله وأنشأنا له ، لرأيت البصر ينقلب إليك خاسئاً وهو حسير .
والفرق واسع والبون شاسع بين امتحان الدنيا وامتحان الآخرة ..
وإليك أوجهاً من ذلك التباين والاختلاف بين الامتحانين
المـوضـوع
امتحان الدنيا في جزءٍ من كتاب ، وفي ورقاتٍ معدوداتٍ من دفتر ، في مجالٍ من مجالات الحياة ، وضربٍ من ضروب العلم
أمَّا امتحان الآخرة ففي كتابٍ لا يغادر صغيرةً ولا كبيرةً إلاَّ أحصاها ، قد حوى الأقوال ، وأحصى الأفعال ، وأحاط بالحركات والسَّكنات ، وألمَّ بالخطرات والهنَّات والزلاَّت !
قال تعالى :{ ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلاَّ أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضراً ولا يظلم ربك أحدا }
الأسـئـلة
امتحان الدنيا أسئلته محدودة في بعض مفردات الكتاب ، فلا يمكن للمعلِّم أن يسأل الطالب عن كلِّ دقيق وجليل من محتويات المنهج ، وربما تدركه الشفقة فيختار له من أسهل الأسئلة وأيسرها ، ولعلَّه يراجع مع الطالب الإجابة قبيل الامتحان بأيام مساعدةً له وتيسيراً عليه
أما امتحان الآخرة فالأسئلة حاويةٌ لأطراف الحياة ، شاملة لدقائق العمر ..
أسئلة عن الأفعال ..
و أسئلة عن الأقوال ..
وأسئلة عن الأموال ..
وأسئلة عن النيَّات ..
وأسئلة عن المعتقدات ..
وأسئلة عن الأوقات ..
وأسئلة عن الأمانات ..
سؤال خطير ؛ جِدُّ خطير ، عن كلِّ كبير وصغير وعظيم وحقير !
قال تعالى(فوربك لنسألنهم أجمعين * عما كانوا يعملون (
قال تعالى { وقفوهم إنَّهم مسئولون)
عن ابن مسعود رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال :" لا تزُولُ قدَما ابن آدم مِن عندِ ربِّه حتَّى يُسألَ عن خمس : عن عُمرِهِ فيما أفناهُ ، وعن شَبابِهِ فيما أبلاهُ ، وعن مالِهِ مِن أينَ اكتسَبَهُ وفيما أنفَقَهُ ، وماذا عمِلَ فيما عَلِمَ "
ولو أنَّا إذا مِتنا تركنا لكان الموتُ غاية كلَّ حيٍّ
ولكنَّا إذا متنا بعثنا ونُسأل بعده عن كلِّ شيءٍ
المـكـان
امتحان الدنيا في جوٍّ مهيأ ، ومكانٍ معدٍّ ، فالكراسي مريحة ، والأنوار ساطعة ، والمكيفات باردة ، والأمن والأمان يبسطان رداءهما على المكان
أما امتحان الآخرة ففي جوٍّ رهيب ، وموقفٍ عصيب ، ومكانِ عجيب ..
أهوالٌ عظيمة ، وكرباتٌ جسيمة ، وأحوالٌ مفجعةٌ ، ومناظر مدهشةٌ ، ترتعد منها الفرائص ، وتقشعرُّ منها الجلود ، وتنخلع لهولها القلوب ، وتشيب منها مفارق الولدان !
يوم يجمع الله الأولين والآخرين ، فإذا هم بالساهرة ، حفاةً بلا أحذية ، عراةً بلا أردية ، غرلاً بدون ختان .
قال تعالى :{ يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات وبرزوا لله الواحد القهار }
القلوب واجفة ، والأبصار خاشعة ، والأعناق خاضعة ، والأمم جاثية على الرُّكب تخشى العطب ، لِما ترى وتسمع من مهلكات وخطوب ، فالميزان منصوب ، والصراط مضروب ، والشهود تشهد ، والجوارح تفضح ، والصحائف تنشر !
وإلى الله يومئذِ المستقر !
فأين المفر ؟!
الزمـان
امتحان الدنيا إن طال زمانه وامتدَّ أوانه فهو في ساعةٍ من نهار ، وربما أكثر من ذلك بقليل .
أما امتحان الآخرة فهو في { يوم كان مقداره خمسين ألف سنة }
قال تعالى :{ وإن يوماً عند ربك كألف سنة مما تعدون }
وعندما يعيش المجرمون ذلك اليوم الطويل بما فيه من خطبٍ جليل ، يقسمون الأيمان المغلظة ما لبثوا إلاَّ قليلاً ولا عاشوا إلاَّ يسيراً .
قال تعالى :{ ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة كذلك كانوا يؤفكون }
فيفزعون نادمين ، وعلى أعمارهم متحسِّرين : إنما هو زمنٌ يسير ! وعمرٌ قصير! ثُمَّ كان إلى الله المصير !
قال تعالى : { قال كم لبثتم في الأرض عدد سنين قالوا لبثنا يوماً أو بعض يوم فاسأل العادين)
والعاقل الحصيف يعلم علم اليقين أنَّما هي بضع سنين أو أقلُّ من ذلك أو أكثر ، ثمَّ يقبر ، ثمَّ ينشر ، ثمَّ يحشر ، فإذا به واقفٌ بين يدي ربّه في يوم العرض الأكبر!
فيستعدَّ لما أمامه من أهوال يوم القيامة ، فيغنم أيامه ولياليه فيما يقرِّبه من خالقه ومولاه
المـراقب
المراقب في الدنيا مخلوقٌ مثلك ، محدود القدرات ، معدود الإمكانات ، ينسى ويغفل ، ويسهو ويتنازل ، وليس بالإمكان أن يحيط بقاعة الامتحان
أمَّا الرقيب على امتحان الآخرة ـ وله المثل الأعلى ـ فهو الذي لا يضلُّ ولا ينسى ، قد أحاط بكلِّ شيءٍ علماً ، لا تخفى عليه خافية ، ولا يعزب عنه مثقال ذرَّة ، ولا يغيب عن بصره شيءٌ من الأشياءٍ في الأرض ولا في السَّماء .
قال تعالى : { الله لا إله إلاَّ هو الحيُّ القيًّوم لا تأخذه سنةٌ ولا نوم (
فأين تغيب عن سمعه وبصره ؟! وهو السَّميع البصير !
وأين تهرب عن علمه ونظره ؟! وهو العليم الخبير !
وأيُّ حجابٍ يواريك منه ويحجبك عنه ؟!
نسبـة النّـجـاح
امتحان الدنيا نسبة النجاح فيه عاليةٌ جداً !
فربما بلغت ثمانين بالمائة ، وربما وصلت إلى تسعين بالمائة ، بل وربما بلغت النسبة إلى أعلاها والدرجة إلى منتهاها
أما امتحان الآخرة فنسبة النجاح فيه قليلة جداً !
فلا أقول : واحدٌ في العشرة ! ولا أقول : واحدٌ في المائة ! وإنما هي : واحدٌ في الألف !!
فيا للهول !
تسعمائة وتسعةُ وتسعون إلى النَّار بعدلٍ من الله وحكمة !
و واحدٌ إلى الجنَّة بفضلٍ من الله ورحمة !
اللهُمَّ لطفك ! يا لطيف .
فرحماك اللهُمَّ وفضلك !
وجودك اللهُمَّ وكرمك !
النجاح
النجاح في امتحان الدنيا مؤدَّاه أن يرتقي العبد في مراتبها ويعتلي في درجاتها ..
وأيُّ درجة هذه ؟! وأيُّ مرتبة تلك ؟! والدنيا بما فيها من نعيم ولذَّة منذ خلقها الله تعالى وإلى أن يرثها وهو خير الوارثين نعيمها لا يساوي في نعيم الآخرة إلاَّ كقطرة أخذت من بحرٍ لُجيٍّ
عن المستورد ـ أخا بني فهر ـ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" و الله ما الدنيا في الآخرة إلاَّ مثلُ ما يجعَلُ أحدُكُم إصبَعهُ هذه ـ وأشار بالسَّبَّابة ـ في اليَمِّ ، فلينظر بم ترجعُ ؟ "
أمَّا نجاح الآخرة فهو الزحزحة عن النَّار ، والدخول إلى الجنَّة ، فضلاً من الله ومِنَّة !
قال تعالى :{ فمن زحزح عن النَّار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلاَّ متاع الغرور }
وتأمَّل فرحته العارمة ، وسعادته الغامرة عندما يثقل بالصالحات ميزانه ، وتثبت على الصراط أقدامه ، فيأمن يوم الفزع الأكبر جنانه ، ويُلقَّى حجَّته ، فيرفع كتابه فوق رأسه ، وينشره بين الخلائق ، ويستعلي بصوته ، وينادي على رؤوس الأشهاد في فرحٍ وسرور ، وبهجة وحبور
: { هاؤوم اقرؤوا كتابيه * إني ظننت أني ملاقٍ حسابيه )
وكما أنَّ النجاح يتفاوت في الدنيا ما بين مقبولٍ ، وجيد ، وجيد جداً ، وممتاز ، ومراتب الشرف ، وأوسمة التفوُّق ...
فالنجاح درجاتٌ بعضها فوق بعض ...
كذلك يوم القيامة ، فدخول الجنَّة لا يكون إلاَّ بفضل الله ورحمته ، ثُمَّ يكون التفاوت في الدرجات والتمايز بين أهلها في النعيم والخيرات ، على حسب أعمالهم الصالحة في الدنيا ، فكلَّما زادت حسناتهم زادت درجاتهم ..
وكلما كثرت طاعاتهم ارتقوا في منازلهم وعظمت كرامتهم ..
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ؛ أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، قال :" إنَّ أهلَ الجنَّةِ ليتراءونَ أهلَ الغُرفِ مِن فوقِهم ، كما تتراءَونَ الكوكبَ الدُّرِّيَّ الغابِرَ مِن الأُفقِ مِن المشرِقِ أو المغربِ ، لتفاضُلِ ما بينهم " قالوا : يا رسول الله ! تلك منازِلُ الأنبياءِ لا يبلُغُها غيرهم . قال :" بلى . والذي نفسي بيده رجالٌ آمنوا بالله وصدَّقوا المُرسلينَ "
الرسوب
الاخفاق في امتحان الدنيا هيِّنٌ سهلٌ ، فهو خسارةٌ لدرجة أو مرحلة أو مرتبة من دنيا لا تساوي عند الله الذي خلقها وسوَّاها جناح بعوضة .
وحسب الدنيا حقارةً ودناءة أن الله تعالى جعلها دار بلاءٍ وامتحان ، وموطن غفلةٍ ونسيان ، وموقع خطيئة وعصيان ، ولو كانت نعمة لساقها بين يدي رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم الذي كان عيشه منها كفافاً .
النفس تبكي على الدنيا وقد علمت أنَّ السَّلامة فيها ترك ما فيها
لا دار للمرء بعد الموت يسكنها إلاَّ التي كان قبل الموت يبنيها
فإن بناها بخير طاب مسكنه وإن بناها بشرٍّ خاب بانيها
أمَّا الرسوب في امتحان الآخرة ، فخسارة الأبد ، وحسرةُ السَّرمد ، وألم لا ينفذ ، وندم لا ينقطع ، وعذاب لا ينتهي ، وعقاب لا ينقضي .
يوم يُكبُّ المجرم على وجهه إلى نارٍ تلظَّى ، لا يصلاها إلاَّ الأشقى ، فيخسر نفسه وأهله وماله .
قال تعالى :{ قل إنَّ الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين }
قال تعالى :{ وتراهم يعرضون عليها خاشعين من الذلِّ ينظرون من طرفٍ خفيٍّ . وقال الذين آمنوا إنَّ الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة . ألا إنَّ الظالمين في عذابٍ مقيم }
والخسارة الأكبر ، والحرمان الأعظم ، أن يحرم العبد من لذَّة النظر إلى وجه الله الكريم في الجنَّة يوم المزيد والنظر إلى وجه العزيز الحميد .
قال تعالى :{ كلاَّ إنَّهم عن ربهم يومئذٍ لمحجوبون ثمَّ إنَّهم لصالوا الجحيم }
فرصة للتعويض
امتحان الدنيا أسوأ ما يمكن أن يحصل فيه أن يرسب الطالب ، ويخفق في الامتحان ..
وغالباً يكون لديه فرصةٌ أخرى وكرَّة ثانية ، بدورٍ ثان أو بإعادة المحاولة سنةٌ أُخرى حتَّى يتمَّ له النجاح ، أو بتغيير مجال الدراسة والبحث ، ولعلَّ في ذلك خيراً كثيراً لا يدركه ، وفضلاً عظيماً لا يعلمه ...
فكم من بابٍ أغلق في وجه صاحبه ، وكان الخير في غلقه ، ولو أنَّه ولج فيه لوقع في البلايا والمحن ، والرزايا والفتن .
قال تعالى :{ وعسى أن تكرهو شيئاً وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شرٌّ لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون }
أمَّا امتحان الآخرة فلا فرصة ثانية ولا كرَّة آتية ..
وإنما هي رحلة عمل تنتهي لحظاتها ، وتنقضي أوقاتها ، ثمَّ تحين ساعة الانتقال إلى العظيم المتعال !
قال تعالى :{ ثمَّ ردُّوا إلى الله مولاهم الحق ألا له الحكم وهو أسرع الحاسبين }
وعندما يخفقون في الاختبار ، ويدخلون النَّار ، يُعذَّبون بها ، ويصلون سعيرها ، ويحرَّقون بحرارتها ..
ينادون { وهم يصطرخون فيها ربنا أخرجنا نعمل غير الذي كنَّا نعمل }فيأتيهم التقريع والتوبيخ الذي يزيد في حسراتهم ، ويضاعف من لوعاتهم والجزاء في يوم الجزاء
رحلة العمر انتهت ، وفرصة الزرع انقضت ، وقد حان أوان الحصاد !
فوا بشرى للزارعين بما حصدوا ..!
ووا أسفاه على الخاملين يوم جدَّ المشمِّرون وهم رقدوا ..!
وفاز بالغنائم طُلاَّبها ، وبالمعالي أربابها !
فيا لهذا الإنسان ؛ ما أشدَّ ظلمه لنفسه ! وما أعظم جهله بعاقبة أمره !
الخـاتمـة
... اليوم عملٌ ولا حساب ، وغداً حسابٌ ولا عمل !
فلنُرِ اللهَ منَّا خيراً ، نُسرُّ به يوم أن نُعرض عليه ، ونقف بين يديه ، حيث تُعطى الجوائز لكلِّ فائز ، ويزخُّ في قفا كلِّ خاسر إلى نار السَّموم ،
{ يوم يأتِ لا تكلَّمُ نفسٌ إلاَّ بإذنه فمنهم شقيٌّ وسعيد * فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق * خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلاَّ ما شاء ربك إن ربك فعَّال لما يريد * وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلاَّ ما شاء ربك عطاءً غير مجذوذ * }
وفي هذا بلاغٌ لقوم عابدين !
اللهُمَّ اجعلنا ـ بفضلك ـ من السُّعداء الفائزين ، ولا تجعلنا ـ برحمتك ـ من الأشقياء الخاسرين ، والحمد لله ربِّ العالمين ....
منقول
يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.

أم أتوري
•
جزاك الله خيرا

جزاك الله خيراً
ذكرتيني أختي بأستاذ فاضل درسنا في الجامعة
طلبوا منه البنات تأجيل الامتحان
فقال لهم : سوف يأتيكم امتحان لا يؤجل
الله يجزاه عنا وعن المسلمين خير الجزاء ويرفع قدره ويزيده إيماناً وعلماً
ذكرتيني أختي بأستاذ فاضل درسنا في الجامعة
طلبوا منه البنات تأجيل الامتحان
فقال لهم : سوف يأتيكم امتحان لا يؤجل
الله يجزاه عنا وعن المسلمين خير الجزاء ويرفع قدره ويزيده إيماناً وعلماً



الصفحة الأخيرة