الفطرة .. من يشوه جمالها؟

ملتقى الإيمان

سلمان العودة

لقد أخذ الشيطان على نفسه عهدًا بقوله: (لأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا، وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ)
والله تعالى يأمر عباده أن يقيموا وجوههم للدين الحنيف الملائم للفطرة في قوله: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا)ثم يعقب ذلك بقوله: (لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ) .
فيحاول الشيطان تغيير هذه الفطرة بالمسالك المنحرفة، فيدعو الإنسان إلى ما يخالف فطرته الظاهرة والباطنة التي خُلق عليها، فيدعوه إلى الشرك بالله بجميع صوره وأشكاله، ويدعوه إلى اتباع الأحكام والتشريعات الطاغوتية التي ما أنزل الله بها من سلطان.
ومما يؤكد هذا المعنى قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث الفطرة: "كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهوِّدانه، أو ينصِّرانه، أو يمجِّسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء؟".
وعلى هذا فأمر الشيطان لهم بتغيير خلق الله، هو أمره لهم بمخالفة الفطـرة الظاهرة والباطنـة التي جاء الدين ملائـمًا لها، فيأمرهم بالشرك في عبادة غير الله من الأوثان والطواغيت، سواء كانت من شجر، أو حجر، أو بشر، أو درهم ودينار، أو امرأة، أو رجل.. وهذا تغيير للفطرة الباطنة. ويأمرهم بالتصرف في أنفسهم، أو أهلهم، أو أموالهم بما لم يأذن به الله، كمن يشقون آذان الأنعام لأصنامهم، أو يحلقون شعورهم المحرمة.. وهذا من تغيير الفطرة الظاهرة.
ومحادة الشيطان لله تعالى في هذا -وفي غيره- معروفة مكشوفة، ولكن العجيب أن الناس ينساقون معها بوعي، أو بدون وعي.. وأعجب من ذلك أن ينساق معها المسلمون الذين يؤمنون بأن الشيطان موجود -فعلاً- ومسلَّط على ابن آدم!
تحدٍّ صارخ لشرائع الله: أن المرأة المأمورة شرعًا بالتستر صارت تتبرج يومًا بعد يوم، وتتحايل لإبراز زينتها بكل وسيلة، وتتنازل يومًا بعد آخر عن قدر من الحجاب الشرعي الذي جملها به الخالق العظيم، وعلى النقيض من ذلك الرجل الذي صار يطيل ثيابه، ويسحبها ذراعًا أو شبرًا.
وبالجملة فإن موقف الشيطان وحزبه من هذه الفطرة المركوزة في الإنسان متجدّد في أحد موقفين:
الموقف الأول: مسخ الفطرة:
وذلك بتوجيهها الوجهة المنحرفة، ومناقضة ما أمر الله به ورسله، فيفتحون الباب المحرم للإشباع، ويغلقون الباب المشروع -ما استطاعوا-.
حب تقليد الآباء:
يستغل الشيطان حب الإنسان للتقليد -مثلاً-، أو حبه للوفاء لآبائه وأجداده؛ ليغريه بالتمسك بالتراث الموروث عنهم، والعادات والتقاليد المنحرفة، ورفض الجديد -ولو كان حقًّا-، وكم من إنسان حال بينه وبين الحق أنه لم يعهد عليه مجتمعه، وأباه، وأمه.
وهكذا سائر المشركين، رفضوا الحق الجديد، محتجين بأنهم ألفوا آباءهم على شيء، فهم لا يستطيعون مخالفته، كما قال الله – عز وجل - عنهم: (إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ . فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ) .
إنها الحجة الداحضة، والطاغوت الأكبر الذي يغبر فيه المعاندون في وجه الحق: (أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ . بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ . وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ . قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ)
وكم من الناس اليوم -من المسلمين- إذا دُعي إلى حق لا يعرفه، ولم يجد عليه أباه وأمه، قال: هذا دين جديد! هذا شيء ما عرفناه، أنا عمري تسعون أو ثمانون سنة، ما رأيت هذا ولا سمعت به!
وإذا كنت ما رأيت هذا ولا سمعت به، يكون ماذا؟! إذا كان العالِم يخفى عليه الكثير من العلم، فما بالك بأمثالك من الجهال الذين أضاعوا عمرهم في غير طائل؟!
حب الوطن:
ويستغل الشيطان حب الإنسان للبلد، وإلفه له؛ ليحوِّل هذا الحب إلى تقديس، وعبادة صريحة، حيث نجد اليوم من يقول:


وطني لو صوروه لي وثـنًا
لهمـمتُ ألثــــم ذلك الوثـنا


أو يقول:

ويا وطني لقـيتك بعــــد يـأس
كأنـي قد لقيــت بـك الشـــبابا

أدير إليك -قبل البيت- وجهي
إذا فهت الشــهادة والمــتابا!


يا للعجب: رجل يفوه الشهادتين والمتاب، ويدير وجهه إلى وطنه قبل أن يديره إلى الكعبة!
وحب الوطن أمر جبلي لا يحمد بذاته ولا يذم، وحديث "حب الوطن من الإيمان" حديث موضوع، ولوكره الوطنيون!
فإذا كان الحب للوطن مدعاة للدفاع عنه ضد العدو الظاهر الذي يريد احتلاله بالسلاح، وضد العدو المتستر الذي يريد احتلاله بالفكر والانحلال؛ فنِعِمَّا هو:

بالشام أهلي، وبغداد الهوى، وأنا
بالرقمتين، وبالفسطـاط جيـراني

ولست أبغي سوى الإسلام لي وطنًا
الشام فيـه ووادي النيـل سيـان

وحيثما ذُكر اسـم الله في بلـدٍ
عددت أرجــاءه من لب أوطاني


أما إن كان حب الوطن مدعاة للعبودية له، والتضحية بالدين في سبيله؛ فهي عندئذ "وثنية" بلا قناع!.
أما الحب الفطري الجبلي فلا يمدح ولا يذم، ولكنه كحب الزوج (فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ) .
حب الحياة والبقاء:
ويستغل الشيطان حب الإنسان للحياة والبقاء؛ ليثنيه به عن الجهاد في سبيل الله خوفًا من نيل الشهادة!.. وهكذا يجيء للابن من الناحية التي كَادَ فيها للأب: (يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى) .
وهذا يحدث في حبه لماله، وزوجه، وولده، حيث يجعل منها الشيطان وسائل يعرقل بها سير العبد إلى ربه بالدعوة، والجهاد، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، إما خوفًا عليهم، أو خوفًا من فراقهم.
وقد أشار النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى استغلال الشيطان لهذه الغرائز المركوزة في النفس، فقال في حديث سَبَرة بن أبي الفاكه - رضي الله عنه -: "إن الشيطان قعد لابن آدم بأطرقه: فقعد له بطريق الإسلام، فقال: تسلم، وتذر دينك، ودين آبائك، وآباء أبيك؟ قال: فعصاه، فأسلم. ثم قعد له بطريق الهجرة، فقال: تهاجر، وتذر أرضك وسماءك؟ وإنما مثل المهاجر كمثل الفرس في الطول -يعني في الحبل-، قال: فعصاه، فهاجر. ثم قعد له بطريق الجهاد، فقال: هو جهد النفس والمال، فتقاتل، فتُقتل، فتنكح الزوجة، ويقسم المال، قال: فعصاه فجاهد.. الحديث". فهذا تهييج شيطاني لفكرة التقليد للآباء، والوفاء لتراثهم؛ ليمتنع عن الإسلام، ثم تهييج آخر لحب الوطن؛ ليمتنع عن الهجرة، وتهييج ثالث لحب البقاء، وحب الزوجة، وحب المال؛ ليمتنع عن الجهاد، ولكن الإنسان المؤمن يتمرد على وسوسة الشيطان، فيسلم، ويهاجر، ويجاهد، فيكون حقًا على الله أن يرضيه -كما في الحديث نفسه-.
الموقف الثاني: نسخ الفطرة:
وهو محاولة إلغائها بالكلية.
فقد يغري الإنسان بالرهبانية التي تتنكر للفطرة، وتنهكها حتى تقضي عليها أو تكاد، وهذا يحدث لمن هو متطهر غير متقبل للانحراف والفساد.
وقد تسللت هذه الفكرة النصرانية إلى أمة التوحيد عن طريق الدعوات الصوفية المتأثرة بهذا المسلك، والتي تبالغ في تعظيم الجانب الروحي على حساب جوانب الشخصية الأخرى، وخير الهدي هدي الأنبياء، الذين قال الله تعالى فيهم: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً) ، وقال: (وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ) .
- ومن محاولة نسخ الفطرة: القضاء على الغَيْرة التي توجد حتى في الكلاب، وتربية المجتمع على الدياثة، حتى ليفتخر الزوج في المجتمعات الغربية بتعري امرأته أمام الملايين من المشاهدين، وهكذا يعود نظام المجتمع البدائي المتخلف، ولكن باسم "الحضارة"!.
- ومن محاولة نسخ الفطرة: ما تدعو إليه الشيوعية من إلغاء الملكية الفردية، والإباحية الجنسية، وتأميم المواليد بوصفهم أولادًا للدولة يربون في محاضنها؛ ليعملوا في مصانعها.. ولكن الذي يغالب الفطرة ويحاربها، فإنما يحارب أمرًا جبليًّا وضعه الله، وأنزل الدين المناسب له، ومُغالِبُ اللهِ مغلوبٌ:

زعم المسـفِّه أن يغالب ربَّهُ
وليُغلَبنَّ مُغـالِبُ الغَـــــلاّبِ
0
265

يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.

تسجيل دخول

خليك أول من تشارك برأيها   💁🏻‍♀️