fraternity88

fraternity88 @fraternity88

عضوة فعالة

القسم في سورة الليل من كتاب التبيان في أقسام القرآن لابن القيم(2)

ملتقى الإيمان

ومن ذلك قسمه سبحانه وتعالى بـ { والليل إذا يغشى * والنهار إذا تجلى * وما خلق الذكر والأنثى } وقد تقدم ذكر القسم عليه وأنه سعى الإنسان في الدنيا وجزاؤه في العقبى فهو سبحانه يقسم بالليل في جميع أحواله اذ هو من آياته الدالة عليه فأقسم به وقت غشيانه وأتى بصيغة المضارع لأنه يغشى شيئا بعد شيء وأما النهار فإنه إذا طلعت الشمس ظهر وتجلى وهلة واحدة ولهذا قال في سورة الشمس وضحاها { والنهار إذا جلاها * والليل إذا يغشاها } وأقسم به وقت سريانه كما تقدم وأقسم به وقت إدباره وأقسم به إذا عسعس فقيل معناه أدبر فيكون مطابقا لقوله { والليل إذ أدبر * والصبح إذا أسفر } وقيل : معناه أقبل فيكون كقوله { والليل إذا يغشى * والنهار إذا تجلى } فيكون قد أقسم بإقبال الليل والنهار وعلى الأول يكون القسم واقعا على انصرام الليل ومجيء النهار عقبيه وكلاهما من آيات ربوبيته
ثم أقسم بخلق الذكر والأنثى وذلك يتضمن الأقسام بالحيوان كله على اختلاف أصنافه ذكره وأنثاه وقابل بين الذكر والأنثى كما قابل بين الليل والنهار وكل ذلك من آيات ربوبيته. وأقسم سبحانه بزمان السعي وهو الليل والنهار وبالساعي وهو الذكر والأنثى على اختلاف السعي كما اختلف الليل والنهار والذكر والأنثى وسعيه وزمانه مختلف وذلك دليل على اختلاف جزائه وثوابه وأنه سبحانه لا يسوي بين من اختلف سعيه في الجزاء كما لم يسو بين الليل والنهار والذكر والأنثى
ثم أخبر عن تفريقه بين عاقبة سعي المحسن وعاقبة سعي المسيء فقال { فأما من أعطى واتقى * وصدق بالحسنى * فسنيسره لليسرى * وأما من بخل واستغنى * وكذب بالحسنى * فسنيسره للعسرى } فتضمنت الآيتان ذكر شرعه وذكر الأعمال وجزائها وحكمة القدر في تيسير هذا لليسرى وهذا للعسرى وأن العبد ميسر بأعماله لغاياتها ولا يظلم ربك أحدا وذكر للتيسير لليسرى ثلاثة أسباب ( أحدها ) إعطاء العبد وحذف مفعول الفعل إرادة للإطلاق والتعميم أي أعطى ما أمر به وسمحت به طبيعته وطاوعته نفسه وذلك يتناول إعطاءه من نفسه الإيمان والطاعة والإخلاص والتوبة والشكر وإعطاءه الإحسان والنفع بماله ولسانه وبدنه ونيته وقصده فتكون نفسه نفسا مطيعة باذلة لا لئيمة مانعة فتعطي خيرها لنفسها ولغيرها. ( السبب الثاني ) التقوى وهي اجتناب ما نهى الله عنه وهذا من أعظم أسباب التيسير وضده من أسباب التعسير فالمتقي ميسرة عليه أمور دنياه وآخرته وتارك التقوى وإن يسرت عليه بعض أمور دنياه تعسر عليه من أمور آخرته بحسب ما تركه من التقوى. قال تعالى { ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا } فأخبر أنه ييسر على المتقي مالا ييسر على غيره وقال تعالى { ومن يتق الله يجعل له مخرجا * ويرزقه من حيث لا يحتسب }.وقال تعالى { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من
رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به ويغفر لكم } فضمن لهم سبحانه بالتوقى ثلاثة أمور : ( أحدها ) أعطاهم نصيبين من رحمته نصيبا في الدنيا ونصيبا في الآخرة وقد يضاعف لهم نصيب الآخرة فيصير نصيبين ( الثاني ) أعطاهم نورا يمشون به في الظلمات ( الثالث ) مغفرة ذنوبهم وهذا غاية التيسير فقد جعل سبحانه التقوى سببا لكل يسر وترك التقوى سببا لكل عسر. ( السبب الثالث ) التصديق بالحسنى وفسرت بلا إله إلا الله وفسرت بالجنة وفسرت بالخلف وهي أقوال السلف واليسرى صفة لموصوف محذوف أي الحالة والخلة اليسرى. والأقوال الثلاثة ترجع إلى أفضل الأعمال وأفضل الجزاء فمن فسرها بلا إله إلا الله فقد فسرها بمفرد يأتي بكل جمع فإن التصديق الحقيقي بلا إله إلا الله يستلزم التصديق بشعبها وفرعها كلها وجميع أصول الدين وفروعه من شعب هذه الكلمة. فلا يكون العبد مصدقا بها حقيقة التصديق حتى يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله ولقائه ولا يكون مؤمنا بالله إله العالمين حتى يؤمن بصفات جلاله ونعوت كماله ولا يكون مؤمنا بأن الله لا إله إلا هو حتى يسلب خصائص الإلهية عن كل موجود سواه ولا يكون مؤمنا بهذه الكلمة مصدقا بها على الحقيقة من نفى عموم خلقه لكل شيء وقدرته على كل شيء وعلمه بكل شيء وبعثة الأجساد من القبور ليوم النشور ولا يكون مصدقا بها من زعم أنه يترك خلقه سدى لم يأمرهم ولم ينههم على ألسنة رسله وكذلك التصديق بها يقتضي الإذعان والإقرار بحقوقها وهي شرائع الإسلام التي هي تفصيل هذه الكلمة.
ومن فسر الحسنى بالجنة فسرها بأعلى أنواع الجزاء وكماله ومن فسرها بالخلف ذكر نوعا من الجزاء فهذا جزاء دنيوي والجنة الجزاء في الآخرة فرجع التصديق بالحسنى إلى التصديق بالإيمان وجزائه والتحقيق أنها تتناول الأمرين
وتأمل ما اشتملت عليه هذه الكلمات الثلاث - وهي الإعطاء والتقوى والتصديق بالحسنى - من العلم والعمل وتضمنته من الهدى ودين الحق فإن النفس لها ثلاث قوى : قول البذل والإعطاء وقوة الكف والإمتناع ودقة الإدراك والفهم ففيها قوة العلم والشعور ويتبعها قوة الحب والإرادة وقوة البعض والنفرة فهذه القوى الثلاثة عليها مدار صلاحها وسعادتها وبفسادها يكون فسادها وشقاوتها فإذا كملت قوة حبه وإرادته بإعطائه ما أمر به وقوة بغضه ونفرته باتقائه من نهى عنه وقوة علمه وشعوره بتصديقه بكلمة الإسلام وحقوقها وجزائها فقد زكى نفسه وأعدها لكل حالة يسرى فصارت النفس بذلك ميسرة لليسرى.
ولما كان الدين يدور على ثلاث قواعد فعل المأمور وترك المحظور وتصديق الخبر وإن شنت قلت الدين طلب وخبر والطلب نوعان : طلب فعل وطلب ترك فقد تضمنت هذه الكلمات الثلاث مراتب الدين أجمعها فانتظم ذلك الدين كله أكمل الناس من كملت له هذه التقوى الثلاث
ودخول النقص بحسب نقصانها أو بعضها فمن الناس من يكون قوة إعطائه وبذلك أتم من قوة انكفافه وتركه فقوة الترك فيه أضعف من قوة الإعطاء ومن الناس من يكون قوة التصديق أتم من قوة الاعطاء والمنع ومن الناس من يكون فيه قوة التصديق أتم من قوة الاعطاء والمنع فقوته العلمية والشعورية أتم من قوته الإرادية وبالعكس فيدخل النقص بحسب ما نقص من قوة هذه القوى الثلاث ويفوته من التيسير لليسرى بحسب ما فاته منها.
قال ابن عباس { فسنيسره لليسرى } أي نهيئه لعمل الخير تيسر عليه أعمال الخير وقال مقاتل والكلبي والفراء : نيسره للعود إلى العمل الصالح
وحقيقة اليسرى أنها الخلة والحالة السهلة النافعة الواقعة له وهي ضد العسرى وذلك يتضمن تيسيره للخير وأسبابه فيجري الخير وييسر على قلبه ويديه ولسانه وجوارحه فتصير خصال الخير ميسرة عليه مذللة ما منقادة.
{ وأما من بخل } فعطل قوة الإرادة والاعطاء عن فعل ما امر به ( استغنى ) بترك التقوى عن ربه فعطل قوة الإنكفاف والترك عن فعل ما نهى عنه ( وكذب بالحسنى ) فعطل قوة العلم والشعور عن التصديق بالإيمان وجزائه { فسنيسره للعسرى } قال عطاء : سوف أحول بين قلبه وبين الإيمان بي وبرسولي وقال مقاتل : يعسر عليه أن يعطى خيرا وقال عكرمة عن ابن عباس : نيسره للشر قال الواحدي : وهذا هو القول لأن الشر يؤدي إلى العذاب فهو الخلة العسرى والخير يؤدي إلى اليسر والراحة في الجنة فهو الخلة اليسرى قال الفراء : العرب تقول قد يسرت غنم فلان إذا تهيأت للولادة وكذلك إذا ولدت وغزرت ألبانها أي يسرت ذلك على أصحابها إنتهى
والتيسير للعسرى يكون بأمرين ( أحدهما ) أن يحول بينه وبين أسباب الخير فيجري الشر على قلبه ونيته ولسانه وجوارحه ( والثاني ) أن يحول بينه وبين الجزاء الأيسر كما حال بينه وبين أسبابه فإن قيل : كيف قابل اتقى باستغنى ؟ وهل يمكن العبد أن يستغني عن ربه طرفة عين ؟
قيل : هذا من أحسن المقابلة فإن المتقي لما استشعر فقره وفاقته وشدة حاجته إلى ربه اتقاه ولم يتعرض لسخطه وغضبه ومقته بارتكاب ما نهاه عنه فإن من كان شديد الحاجة والضرورة إلى شخص فإنه يتقي غضبه وسخطه عليه غاية الإتقاء ويجانب ما يكرهه غاية المجانية ويعتمد فعل ما يحبه ويؤثره فقابل التقوى بالإستغناء تبشيعا لحال تارك التقوى ومبالغة في ذمه بأن فعل فعل المستغني عن ربه لافعل الفقير المضطر إليه الذي لاملجأ له إلا إليه. فما أجمع هاتين الآيتين للخيرات كلها وأسبابها والشرور كلها وأسبابها فسبحان من تعرف إلى خصائص عباده بكلامه وتجلى لهم فيه. وقد تضمنت هاتان الآيتان فصل الخطاب في مسألة القدر وإزالة كل لبس وإشكال فيها وذلك بين بحمد الله لن وفق لفهمه ولهذا أجاب بها النبي صلى الله عليه و سلم من
أورد عليه السؤال فأجاب بفصل الخطاب وأزال الأشكال ففي الصحيحين من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : قيل : يا رسول الله أفلا ندع العمل ونتكل على الكتاب ؟ قال ثم قرأ فقد تضمن هذا الحديث الرد على القدرية والجبرية وإثبات القدر والشرع وإثبات الكتاب الأول المتضمن لعلم الله سبحانه الأشياء قبل كونها وإثبات خلق الفعل الجزائي وهو يبطل أصول القدرية الذين يمنعون خلق الفعل مطلقا ومن أقر منهم بخلق فعل الجزاء دون الإبتداء هدم أصله ونقض قاعدته. والنبي صلى الله عليه و سلم أخبر بمثل ما أخبر به الرب تعالى أن العبد ميسر لما خلق له لا مجبور فالجبر لفظ بدعى والتيسير لفظ القرآن والسنة وفي الحديث دلالة على أن الصحابة كانوا أعلم الناس بأصول الدين فإنهم تلقوها عن أعلم الخلق بالله على الإطلاق فهم العارفون بأصول الدين حقا لا أهل البدع والأهواء من المتكلمين ومن سلك سبيلهم وفي الحديث استدلال النبي صلى الله عليه و سلم على مسائل أصول الدين بالقرآن وإرشاده الصحابة لاستنباطها منه خلافا لمن زعم أن كلام الله ورسوله لا يفيد العلم بشيء من أصول الدين.
وفي الحديث بيان أن من الناس من خلق للسعادة ومنهم من خلق للشقاوة خلافا لمن زعم أنهم كلهم خلقوا للسعادة ولكن اختاروا الشقاوة ولم يخلقوا لها وفيه إثبات الأسباب وأن العبد ميسر للأسباب الموصلة له إلى ما خلق له وفيه دليل على اشتقاق السنة من الكتاب ومطابقتها له فتأمل قوله صلى الله عليه و سلم ومطابقته لقوله تعالى { فأما من أعطى واتقى * وصدق بالحسنى * فسنيسره لليسرى } كيف انتظم الشرع والقدر والسبب والمسبب ؟
وهذا الذي أرشد إليه النبي صلى الله عليه و سلم هو الذي فطر الله عليه عباده بل الحيوان البهيم بل مصالح الدنيا وعمارتها بذلك فإذا كان هذا في مصالح الدنيا وأسباب منافعها فما الموجب لتعطيله في مصالح الآخرة وأسباب السعادة والفلاح فيها فكيف يعطل ذلك في شرع الرب وأمره ونهيه ويستعمل في إرادة العبد وأغراضه وشهواته ؟ وهل هذا إلا محض الظلم والجهل والإنسان ظلوم جهول ظلوم لنفسه جهول بربه.
ولو اتكل العبد على القدر ولم يعمل لتعطلت الشرائع وتعطلت مصالح العالم وفسد أمر الدنيا والدين وإنما يستروح إلى ذلك معطلوا الشرائع ومن خلع ربقه الأوامر والنواهي من عنقه وذلك ميراث من إخوانهم المشركين الذين دفعوا أمر الله ونهيه وعارضوا شرعه بقضائه وقدره كما حكى الله سبحانه ذلك عنهم في غير موضع من كتابه كقوله تعالى { سيقول الذين أشركوا لو شاء الله
ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون * قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين }
3
1K

يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.

تسجيل دخول

jouliana
jouliana

لا اله الا انت سبحانك اني كنت من الظالمين


اللهم ارزقنا شفاعة نبيك محمد صلى الله عليه وعلى
آله وسلم وأوردنا حوضه وأرزقنا مرافقته في الجنة


اللهم اميييييييييين يااااااااااارب

نور الله قلبك الى الخير والعلم واليقين وجميع المسلمين
والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الاحياء منهم والاموات

اللهم امييييييييين ياااااااااارب
لووبي
لووبي
جـــــزااااكي الله خـــير الدنـــيا والاخـــرة يالغاليـة وبارك الله لكي وجعله في ميزان حسناتك
اللهم ارزقنا شفاعة نبيك محمد وأوردنا حوضه، وارزقنا مرافقته في الجنة،
أستغفرالله العظيم وأتوب إليه
أستغفرالله العظيم وأتوب إليه
سُبْحَانَ اللهِ وَالحَمْدُ للهِ وَلا إِلَهَ إِلا الله وَالله أَكْبَرُ وَلاحَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلا بِاللهِ
حكايه صبر
حكايه صبر
جزاك الله خيرا
أسال الله أن لايرد لك دعوة ،ولايحرمك من فضلة ، ويحفظ أسرتك وأحبتك ،ويسعدك ، ويفرج همك ، وييسر أمرك ، ويغفر لك ولوالديك وذريتك ، وأن يبلغك أسمى مراتب الدنيا وأعلى منازل الجنة .
اللهم آمين