أعظم الجوارح اختراقاً للحرمات هو (( اللسان )) في حالتيه :
متلفظاً، متكلماً بمحرم ، أو مكروه ، أو فضول ، وما جرى مجْرى هذه الآفات من: (( حصائد اللسان )) و (( قوارص الكلام)) بدوافع : التعالي، والخِفَّة، والطَّيْش، والغضب ....
وفي حالته ساكتاً عن حقٍّ ، واجب ، أو مستحب ، بدافع : محرم ، أو مكروه ، كالمداهنة ، والمجاملة ، والملاينة ، وربما تحت غِطاءِ : غضِّ النظر ؟ والتَّعقُّل ، وإكساب النفس ميزان الثقل ، والتأني ، ومعالجة الأمور . وهكذا من مقاصد توضع في غير مواضعها ، ونِيَّاتٍ تُبرقع بغير براقعها .
والله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه .
وانظر كيف نهى النبي r المسلمين عن نُسك الجاهلية : (( الصمت طوال اليوم )) وأُمروا بالذكر ، والحديث بالخير .
عن علي – رضي الله عنه – قال : حفظت عن رسول الله r : (( لا يُتم بعد احتلام ، ولا صُمات يوم إلى الليل )) رواه أبو داود بسند حسن .
وما هذا إلا لتوظيف المسلم لسانه في الخير ناطقاً ، وساكتاً . وليحذر من ارتكابه ما نهى الله عنه ، فعن أبي هريرة – رضي الله عنه – أن النبي r قال : (( إن الله – تعالى – يغار ، وغيرة الله أن يأتي المرء ما حرَّم الله عليه )) .
قال ابن القيم – رحمه الله تعالى – في كتابه : (( الجواب الكافي )) : ( 230- 234 ) :
( فصل : وأما اللفظات : فحفظها بأن لا يخرج لفظة ضائعة ، بأن لا يتكلم إلا فيما يرجو فيه الربح والزيادة في دينه ، فإذا أراد أن يتكلم بالكلمة نظر : هل فيها ربح وفائدة أم لا ؟ فإن لم يكن فيها ربح أمسك عنها ، وإن كان فيها ربح نظر : هل تفوت بها كلمة هي أربح منها ؟ فلا يضيعها بهذه ، وإذا أردت أن تستدل على ما في القلب ، فاستدل عليه بحركة اللسان ؛ فإنه يطلعك على ما في القلب ، شاء صاحبه أم أبي .
قال يحيى بن معاذ : (( القلوب كالقدور تغلي بما فيها ، وألسنتها مغارفها )) فانظر إلى الرجل حين يتكلم فإن لسانه يغترف لك مما في قلبه ، حلو وحامض ، وعذب وأُجاج ، وغير ذلك ، وبين لك طعم قلبه اغتراف لسانه ، أي كما تطعم بلسانك طعم ما في القدور من الطعام فتدرك العلم بحقيقته ، كذلك تطعم ما في قلب الرجل من لسانه ، فتذوق ما في قلبه من لسانه كما تذوق ما في القدور بلسانك .
وفي حديث أنس المرفوع: (( لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه ، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه )) وسئل النبي r عن أكثر ما يدخل الناس النار؟ فقال: (( الفم و الفرج )) قال الترمذي : حديث حسن صحيح . وقد سأل معاذ النبي r عن العمل الذي يدخله الجنة ويباعده من النار فأخبره النبي r برأسه وعموده وذروة سنامه، ثم قال: (( ألا أخبرك بملاك ذلك كله ؟)) قال : بلى يا رسول الله ، فأخذ بلسان نفسه ثم قال : (( كف عليك هذا )) فقال : وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به ؟ فقال : (( ثكلتك أمك يا معاذ ، وهل يكب الناس على وجوههم – أو على مناخرهم – إلا حصائد ألسنتهم )) قال الترمذي : حديث حسن صحيح .
ومن العجب : أن الإنسان يهون عليه التحفظ والاحتراز من أكل الحرام والظلم والزنا والسرقة وشرب الخمر ، ومن النظر المحرم وغير ذلك ، ويصعب عليه التحفظ من حركة لسانه ، حتى ترى الرجل يُشار إليه بالدين والزهد والعبادة ، وهو يتكلم بالكلمات من سخط الله لا يلقى لها بالاً ينزل بالكلمة الواحدة منها أبعد مما بين المشرق والمغرب ؛ وكم ترى من رجل متورع عن الفواحش والظلم ، ولسانه يفري في أعراض الأحياء والأموات ، ولا يبالي ما يقول .
وإذا أردت أن تعرف ذلك فانظر فيما رواه مسلم في صحيحه من حديث جندب بن عبد الله قال : قال رسول الله r : (( قال رجل : والله لا يغفر الله لفلان ، فقال الله عز وجل : من ذا الذي يتألَّى عليَّ أني لا أغفر لفلان ؟ قد غفرت له وأحبطت عملك )) فهذا العابد الذي قد عبد الله ما شاء أن يعبده أحبطت هذه الكلمة الواحدة عمله كله .
وفي حديث أبي هريرة نحو ذلك ، ثم قال أبو هريرة : تكلم بكلمة أوبقت دنياه وآخرته .
وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة عن النبي r : (( إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالاً يرفعه الله بها درجات ، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً ، يهوي بها في نار جهنم )) وعند مسلم : (( إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين ما فيها يزل بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب )) .
وعند الترمذي من حديث بلال بن الحارث المزني عن النبي r : (( إن أحدكم ليتكلم بالكلمة من رضوان الله ما يظن أن تبلغ ما بلغت ، فيكتب الله له بها رضوانه إلى يوم يلقاه . وإن أحدكم ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما يظن أن تبلغ ما بلغت ، فيكتب الله له بها سخطه إلى يوم يلقاه)) وكان علقمة يقول: كم من كلام قد منعنيه حديث بلال بن الحارث؟
وفي جامع الترمذي أيضاً من حديث أنس قال : توفي رجل من الصحابة ، فقال رجل : أبشر بالجنة ، فقال رسول الله r : (( وما يدريك ؟ فلعله تكلم فيما لا يعنيه ، أو بخل بما لا ينقصه )) قال : حديث حسن .
وفي لفظ : أن غلاماً استشهد يوم أحد ، فوجد على بطنه صخرة مربوطة من الجوع ، فمسحت أمه التراب عن وجهه ، وقالت : هنيئاً لك يا بني ، لك الجنة ، فقال النبي r : (( وما يدريك ؟ لعله كان يتكلم فيما لا يعنيه ، ويمنع ما لا يضره )) .
وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة يرفعه : (( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت )) .
وفي لفظ لمسلم : (( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فإذا شهد أمراً فليتكلم بخير أو ليسكت )) .
وذكر الترمذي بإسناد صحيح عنه r أنه قال : (( من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه )) .
وعن سفيان بن عبد الله الثقفي قال : قلت : يا رسول الله قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً بعدك ، قال : (( قل آمنت بالله ثم استقم )) قلت : يا رسول الله ما أخوف ما تخاف علي ؟ فأخذ بلسان نفسه ، ثم قال : (( هذا )) والحديث صحيح .
وعن أُم حبيبة زوج النبي r عن النبي r قال : (( كل كلام ابن آدم عليه لا له ، إلا أمراً بمعروف ، أو نهياً عن منكر ، أو ذكر الله عز وجل )) قال الترمذي : حديث حسن .
وفي حديث آخر : (( إذا أصبح العبد فإن الأعضاء كلها تكفر اللسان ، تقول : اتقِّ الله فينا فإنَّما نحن بك ، فإذا استقمت استقمنا ، وإن اعوججت اعوججنا )) .
وقد كان السلف يحاسب أحدهم نفسه في قوله : يوم حار ، ويوم بارد ، ولقد رؤي بعض الأكابر من أهل العلم في النوم فسُئِل عن حاله ، فقال: أنا موقوف على كلمة قلتها، قلت: ما أحوج الناس إلي غيث ، فقيل لي : وما يدريك ؟ أنا أعلم بمصلحة عبادي. وقال بعض الصحابة لجاريته يوماً : هاتي السفرة نعبث بها ، ثم قال : أستغفر الله ، ما أتكلم بكلمة إلا وأنا أخطمها وأزمها إلا هذه الكلمة خرجت مني بغير خطام ولا زمام أو كما قال .
و أضرُّ حركات الجوارح : حركة اللسان ، وهي أضرها على العبد .
واختلف السلف ، والخلف : هل يكتب جميع ما يلفظ به أو الخير والشر فقط ؟ على قولين ، أظهرهما الأول .
وقال بعض السلف : كل كلام ابن آدم عليه لا له إلا ما كان من الله وما والاه ، وكان الصدِّيق – رضي الله عنه – يمسك على لسانه ويقول : هذا أوردني الموارد ، والكلام أسيرك ؛ فإذا خرج من فيك صرت أنت أسيره . والله عند لسان كل قائل : {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} .
وفي اللسان آفتان عظيمتان ، إن خلص من إحداهما لم يخلص من الأخرى : آفة الكلام ، وآفة السكوت ، وقد يكون كل منهما أعظم إثماً من الأُخرى في وقتها ؛ فالساكت عن الحق شيطان أخرس ، عاص لله ، مراء مداهن إذا لم يخف على نفسه . والمتكلم بالباطل شيطان ناطق ، عاص لله ، وأكثر الخلق منحرف في كلامه وسكوته ؛ فهم بين هذين النوعين ، وأهل الوسط – وهم أهل الصراط المستقيم – كفوا ألسنتهم عن الباطل ، وأطلقوها فيما يعود عليهم نفعه في الآخرة ؛ فلا ترى أحدهم يتكلم بكلمة تذهب عليه ضائعة بلا منفعة ؛ فضلاً أن تضره في آخرته ، وإن العبد ليأتي يوم القيامة بحسنات أمثال الجبال فيجد لسانه قد هدمها عليه كلها ، ويأتي بسيئات أمثال الجبال فيجد لسانه قد هدمها من كثرة ذكر الله وما اتصل به ) انتهى .
وقال أيضاً : ( ص / 145 – 146 ) في نفوذ الشيطان إلى العبد منْ ثغرة اللسان :
( فصل : ثم يقول – أي الشيطان - : قوموا على ثغر اللسان ؛ فإنه الثغر الأعظم ، وهو قبالة الملك ؛ فأجروا عليه من الكلام ما يضره ولا ينفعه ، وامنعوه أن يجري عليه شيء مما ينفعه : من ذكر الله تعالى ، واستغفاره ، وتلاوة كتابه ، ونصيحة عباده ، والتكلم بالعلم النافع ، ويكون لكم في هذا الثغر أمران عظيمان ، لا تبالون بأيهما ظفرتم :
أحدهما : التكلم بالباطل؛ فإن المتكلم بالباطل أخ من إخوانكم ومن أكبر جندكم وأعوانكم.
والثاني : السكوت عن الحق ؛ فإن الساكت عن الحق أخ لك أخرس ، كما أن الأول أخ ناطق ، وربما كان الأخ الثاني أنفع أخويكم لكم ، أما سمعتم قول الناصح (( المتكلم بالباطل شيطان ناطق ، والساكت عن الحق شيطان أخرس )) ؟
فالرباط الرباط على هذا الثغر أن يتكلم بحق أو يمسك عن باطل ، وزينوا له التكلم بالباطل بكل طريق ، وخوفوه من التكلم بالحق بكل طريق .
واعلموا يا بني أن ثغر اللسان هو الذي أهلك منه بني آدم وأكبهم منه على مناخرهم في النار ، فكم لي من قتيل وأسير وجريح أخذته من هذا الثغر ؟
وأُوصيكم بوصية فاحفظوها : لينطق أحدكم على لسان أخيه من الإنس بالكلمة ، ويكون الآخر على لسان السامع ؛ فينطق باستحسانها وتعظيمها والتعجب منها ، ويطلب من أخيه إعادتها ، وكونوا أعواناً على الإنس بكل طريق ، وادخلوا عليهم من باب واقعدوا لهم كل مرْصد ، أما سمعتم قسمي الذي أقسمت به لربهم حيث قلت : {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} ؟ أو ما تروني قد قعدت لابن آدم بطرُقه كلها ، فلا يفوتني من طريق إلا قعدت له بطريق غيره ، حتى أصيب منه حاجتي أو بعضها ؟ وقد حذرهم ذلك رسولهم - r - وقال لهم : (( إن الشيطان قد قعد لابن آدم بطرقه كلها ، وقعد له بطريق الإسلام : فقال : أتُسلم وتذر دينك ودين آبائك ؟ فخالفه وأسلم ؛ فقعد له بطريق الهجرة ؛ فقال : أتهاجر وتذر أرضك وسماءك ؟ فخالفه وهاجر ؛ فقعد له بطريق الجهاد ؛ فقال : أتجاهد فتقتل فيقسم المال وتنكح الزوجة ؟ )) فهكذا فاقعدوا لهم بكل طرق الخير ، فإذا أراد أحدهم أن يتصدق فاقعدوا له على طريق الصدقة ، وقولوا له في نفسه : أتخرج المال فتبقى مثل هذا السائل ، وتصير بمنزلته أنت وهو سواء ؟ أو ما سمعتم ما ألقيت على لسان رجل سأله آخر أن يتصدق عليه ؛ فقال : هي أموالنا إن أعطيناكموها صرنا مثلكم ؟ واقعدوا له بطريق الحج ؛ فقولوا : طريقه مخوفة مشقة ، يتعرض سالكها لتلف النفس والمال ، وهكذا فاقعدوا على سائر طرق الخير بالتنفير عنها وذكر صعوبتها وآفاتها ، ثم اقعدوا لهم على طرق المعاصي فحسنوها في أعين بني آدم ، وزينوها في قلوبهم ، واجعلوا أكبر أعوانكم على ذلك النساء ؛ فمن أبوابهن فادخلوا عليهم ، فنعم العون هن لكم ) انتهى .
*****************************************
المبحث الثاني (1) :
في كَتْبِ الملكين كُلَّ ما يلفظ به اللسان من الكلام
إنَّ أي لفظ ينطق به المرء المكلف ، يدور في واحد من أحكام التكليف الخمسة :
الإباحة ، والوجوب ، والاستحباب ، والحرام ، والمكروه .
ولا خلاف يؤثر في أن جميع ما يتكلم به المرء من خير يؤجر عليه ، واجباً كان أو مستحباً، أو من شر تلحقه تبُعتُهُ محرماً كان أو مكروهاً: أن الملكْين المُوكَّليْن به يكتبانه.
وإنما الخلاف في : (( الكلام المباح )) هل يكتبه الملكان أم لا يكتبانه ؟ على قولين :
والصحيح الذي عليه عامة المحققين : أنهما يكتبانه ، لعموم قول الله - تعالى - : {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} .
فيكتب الملكان كل ما ينطق به الإنسان ، وأما النية الباعثة له ، فلا اطلاع لهما عليها ، فالله يتولاها . والله أعلم .
(1) الجواب الكافي لابن القيم : ص/ 234 . السير للذهبي : 9/ 84 .

مغرزه بالطعس @mghrzh_baltaas
عضوة نشيطة
يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.

مس ديزاين
•
جزاااااااك الله خيرااااااا

الصفحة الأخيرة