بقلم : د.جابر قميحة
إنها واقعة مضي عليها قرابة عشرين عاماً, وقد يعتبرها بعض القراء واقعة عابرة لا تشد النظر, ولا تستحق أن نتوقف عندها, ولكني أرى عكس ذلك, وأرى من الفائدة أن نقف أمامها لنعتصر ما فيها من دلالة أو دلالات, فالمسلم مطالب بالنظر والاعتبار, والاتعاظ والانتفاع بما يرى }إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولاً{. وقيمة الواقعة - أية واقعة - لا تقاس بحجم الواقعة, وتوهجها, والمساحة الزمانية والمكانية التي تشغلها, ولكن تقاس بقدر ما تعكس من دورس وعبر, وما تقود إليه من فوائد مادية ومعنوية تنفع الإنسان في دنياه وفي أخراه.
ومعذرة - يا قارئي العزيز, لقد أغراني قلمي - سامحه اللّه - بهذا الاستطراد, فتعال معي كي نستعيد صورة هذه الواقعة في إيجاز شديد.
* * *
في سنة 1981م كنت أقيم بمدينة "نيوهافن" بولاية "كنكتكت" بالولايات المتحدة لأداء مهمة علمية في جامعة (يل YALE). وكنا - نحن العرب والمسلمين - لا نطمئن لشراء اللحوم المثلجة, مع أن ذبيحة الكتابي يحل أكلها شرعاً, ولكن بعض الإخوة قال "من يدري? ربما تم الذبح علي يد ملحد, أو كافر جاحد".
قال أخ خبير: "في ضاحية "الأورنج" - وهي لا تبعد عن "نيوهافن" أكثر من سبعة أميال - مجزر كبير ألحقت به حظيرة واسعة تضم من العجول والخراف الكثير والكثير, ومن الممكن أن نشتري منها ما نريد, ونذبح بأيدينا, ويقوم عمال المجزر بالسلخ والتنظيف والتقطيع".
واسترحنا لهذا الحـل الذي سيدفع عنا الحـرج, وذهبنا إلي المجزر في يــوم اتفقنا عليه من أيام يناير1982م.
وقام أحد الإخوة السعوديين بذبح الخراف التي اشتريناها، وبدأ العمال يقومون بالباقي, وحل ميعاد العصر, فتوضأنا من ماء المجزر, وعلى الأرض الخضراء الممتدة أمام المجزر شرع أحد الإخوة يرفع صوته الجميل بالأذان, وكانت درجة الحرارة 6 تحت الصفر. وفوجئنا بصاحب المجزر وعماله يتركون عملهم, ويقفون في صمت تام, وعيونهم معلقة بنا, ونحن نؤدي صلاة الجماعة في طمأنينة وخشوع, وكأن دفء الإيمان قد دب في أوصالنا, فلم نشعر للبرد القاتل - أمام المجزر - بلسعة أو لمسة.
ولكن الأعجب من ذلك أن صاحب المجزر وعماله ظلوا واقفين, وكأن أرجلهم قد سمّرت في الأرض, حتي بعد أن سلمنا وانتهت الصلاة, وكأنهم يريدون مزيداً من هذه الحركات والسكنات الخاشعة في قيام وركوع وسجود. وسمعت صاحب المجزر يردد بينه وبين نفسه "Fine - Fine" (جميل. جميل). وأخذني العجب إذ رأيت عينيه تبرق فيهما عبرتان, وهو يهز رأسه في بطء وهدوء.
* * *
وغادرنا المجزر, ونحن نحمل ما اشترينا من لحم, وكان حديثنا في عودتنا عن هؤلاء الذين أُخذوا بمنظر الصلاة. قال أحد الإخوة: "لقد شعرت كأن قلوبهم قد تفتحت لقبول الإسلام". وقال آخر: "لو شاهدوا الصلوات الجهرية لأسلموا". أما أنا فلم أتكلم, فقد كانت نفسي - بكل حواسها - ممتلئة بكلمات الرجل "Fine - Fine". وقادتني كلمات الرجل إلي تذكر حقائق ثلاث غابت عن أذهان كثيرين:
الحقيقة الأولي: اعتقادنا الخاطئ أن الآخرين من غير المسلمين - في أوروبا وأمريكا بصفة خاصة - يعرفون جوهر الإسلام وقواعده, ويعرفون واقع قضايانا, ولكنهم يغالطون , ويسلكون سبيل الشيطان والباطل تعصباً وتعامياً، مع أنهم - في الواقع - يجهلون حقائق ديننا وقضايانا.
* * *
والحقيقة الثانية أن المسلمين - علي المستوى العالمي - فقراء في الدعاة. وقد قرأت إحصائية مفزعة مؤداها: أن عدد الدعاة المسلمين العالميين لا يزيد علي ثلاثة آلاف داعية, في مقابل ربع مليون مبشر مسيحي, يتقن كل منهم عدداً من اللغات, وكذلك عدداً من المهارات، في الطب البشري, والطب البيطري, وأمور الزراعة والبناء والهندسة, وتحت أيديهم إمكانات مادية هائلة, وقد انتشروا في كل أنحاء العالم, وخصوصًا أحراش آسيا, ومجاهل أفريقيا. وهم يجدون - بإمكاناتهم المادية الهائلة - مرعاهم الخصيب في أوساط الفقراء من الوثنيين والمسلمين.
* **
والحقيقة الثالثة والأخيرة خلاصتها: أن أغلب دعاتنا المحليين لا يصلحــون لنشـر الدعوة علي مستوى العالم, لافتقارهم للغات الأجنبية من ناحية, وللثقافات العصرية من ناحية أخرى, وتداركًا لذلك أرى أن تأخذ الحكومات والشعوب الإسلامية هذه المسألة مأخذ الجد والاهتمام, وتتكاتف لإنشاء "أكاديمية الدعوة الإسلامية العالمية" لتخريج دعاة متخصصين لمثل هذه الدعوة، متذرعين برصيد ضخم من الفقه, وكذلك الثقافات العصرية, زيادة علي تعلم لغة المنطقة التي سيقوم الداعية بالدعوة فيها, وبذلك ينتشر الإسلام, ويرتفع صوت الأذان في كل مكان, وتكون كلمة اللّه هي العليا, وكلمة الذين كفروا السفلي.
م ن ق و ل
حسناء الوجود :38:
حسناء الوجود @hsnaaa_alogod
عضوة نشيطة
يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.
زهرة جده
•
زاكي الله خيرا اختي على النقل
الصفحة الأخيرة