المصيف ليس فقط الرمل والبحر والشمس وحالة الاستجمام والانطلاق والسفر بعيدا، أو حتى المغامرات وقصص الحب الخاطفة، كما يرد إلى الذهن حال ذكر هذه الكلمة الموحية، فثمة مشاهد ورؤى أكثر عمقا ترتبط بهذا الطقس السنوي الصيفي، تحمل دلالات اجتماعية واقتصادية لافتة، وتقف شاهدة على تحولات مجتمعية عنيفة حدثت خلال السنوات الأخيرة في مصر، وأسهمت في هبوط طبقات وصعود طبقات أخرى، ليس على أساس سوى القدرة المالية بصرف النظر عن مصدرها.
فالمصيف إذا ما أمعنا النظر سنجد أنه ليس إلا مجتمعا صغيرا، يعكس كل تناقضات المجتمع وحالته الراهنة والتي تبرز فيها الطبقية بشكل واضح.
الأغنياء هجروا الإسكندرية
يكفي للتدليل على هذا أنه صار للأغنياء الآن شواطئ خاصة وللفقراء شواطئهم المزدحمة والمهملة والقذرة بدون مبالغة، الأكثر من ذلك أن الطبقات الثرية صارت تنأى بنفسها بعيدا عن تجمعات المهمشين، وتركت، مثلا، الإسكندرية أهم المصايف التقليدية وذهبت إلى مكان أبعد قليلا، حيث الشاليهات الفاخرة والفيلات والقصور في الساحل الشمالي، وما يمثله ذلك من توجه طبقي نحو الفصل أو الانعزال عن الطبقات الأفقر والأكثر إزعاجا حسب تصورات النخبة الجديدة التي جاءت نتيجة تزاوج رأس المال والسلطة، على غرار شبيه بما كان يحدث في أوروبا وأمريكا أو حتى في جنوب إفريقيا أثناء مرحلة التمييز العنصري.
اقرأ أيضا:
الصيف.. وطقس الهروب الكبير
الصيف والأدباء.. المجد للقراءة ولا عزاء للكتابة
ولا يقتصر هجر الطبقة الجديدة للإسكندرية أو "جمصة" أو "رأس البر" و"العريش" والتوجه فقط نحو الساحل الشمالي، فثمة مصايف منافسة تستقطبهم، وإن كان الأوروبيون يعتبرونها مشاتيا، مثل شواطئ شرم الشيخ والغردقة والعين السخنة التي دخلت، مؤخرا، إلى حلبة المنافسة، بإغراءات الرفاهية من فيلات وشاليهات فوق الهضاب الخضراء وملاعب الجولف و"التريفليك" وتقديمها كسويسرا مصر.
وهنا يتجلى التأثير الرأسمالي الغربي واستيراد أنماط استهلاكية وتسويقية جديدة، تغازل طموحات وتطلعات الطبقات الصاعدة الباحثة عن التميز بأي ثمن، ولو كان هذا على حساب إحباط فئات أخرى، ليس لها ذنب في وضعية إفقار الأغلبية لتسديد فاتورة رفاه الأقلية.
فهؤلاء لديهم القدرة على تملك الفيلات والشاليهات، ومن لديه طموح من الشريحة العليا من الطبقة المتوسطة، يمكن إشباع رغبته عن طريق نظم حديثة للتملك مثل نظام المشاركة بالوقت "تايم شير" لأسبوع أو أسبوعين في العام.
وبعض أبناء هذه الطبقة المتوسطة لا يزال يرتاد المصايف التقليدية خاصة الإسكندرية، لكنه يسعى لتمييز نفسه بشواطئ أكثر هدوءا وأكثر خصوصية بصرف النظر عن التكلفة المالية الأعلى.
متعة وتسلية
ولاشك أن إقامتهم وطريقة قضاء أوقاتهم بالطبع مختلفة عن الطبقات الأفقر وتعكس حالة التمايز، فهم إما ينزلون في شقق فاخرة أو شاليهات أو في فنادق على البحر.
وتراهم ينزلون، غالبا، إلى الشاطئ بمظهر مختلف، حسب درجة التحرر أو الثقافة وما إن كانت تقليدية أو أوروبية، حيث تزدحم هذه الشريحة الاجتماعية بخلفيات مختلفة اقتصادية وثقافية وغالبيتها يحمل تأثيرات البيئة الخليجية، فالبعض ينزل بمايوهات غالبا قطعة واحدة، فنادرا ما ترتدي الفتيات أو السيدات البكيني لأسباب تتعلق بالرفض الاجتماعي والديني له والثقافة التقليدية السائدة في كل الطبقات، لكن الأغلبية تنزل ببودي أو بلوزة وبنطلون، أو ما يسمى بـ"المايوه الشرعي" وبالطبع بحجاب، والمنقبات منهن يكتفين بالجلوس على الشاطئ أو الاستيقاظ مبكرا والنزول إلى البحر خلسة قبل أن يراها أحد.
ويمضون أوقاتهم بين المقاهي والمطاعم الفاخرة ودور السينما والمسرح التي تقدم لهم أعمالا خاصة تناسب ذوق جمهور المصطافين الباحثين فقط عن المتعة والتسلية ولو في السطحية والتفاهات.
غياب الخصوصية
ينتشر الحجاب في مصايف الفقراء
فيما للفقراء طقوسهم الخاصة وأماكنهم، بالطبع، التي لا تخطئها عين، من حالة الازدحام الكبيرة التي تجبرك على الاصطدام بالآخرين كلما نزلت الماء أو تجولت على الشاطئ، فضلا عن غياب الحد الأدنى من الخصوصية.
وهؤلاء البسطاء الذين يتوجهون إلى الإسكندرية أو جمصة أو رأس البر، تتجلى ملامح طبقتهم في نمط ملابس البحر فهم ينزلون للماء بشكل مختلف، فالنساء ينزلن بجلابيبهن البيتية التي يلتصق بها الماء فتشف وتكشف عن كامل الجسد، أما المتعلمات منهن فترتدي بودي وبنطلون غالبا.
والرجال منهم يقومون بارتداء مايوه صنعوه بأنفسهم من بنطلون قديم يتم تقصيره أو من بذلة عسكرية بقيت من أيام التجنيد أو جرى شراؤها خصيصا لهذا الغرض، بالإضافة إلى الملابس الرياضية الرخيصة.
ثمن الرحلة.. بالكاد
أما أدوات البحر فيتم إحضارها غالبا معهم، من أجل تجنب ثمن التأجير وتقليل التكلفة من شماسي وكراسي يتم استبدالها، أحيانا بـ"حصير" بلاستيكي وعوامات عبارة عن "شمبر" (إطارات سيارات قديمة).
وهؤلاء لا يقبلون على ارتياد المطاعم والكافيهات، لأنهم بالكاد استطاعوا تدبير ثمن الرحلة.. أحيانا بالمشاركة بين أفراد أكثر من أسرة، أو بعمل "جمعية" يتم تخصيصها لهذه الفرصة السنوية للمتعة والترفيه، فهؤلاء يحضرون أطعمتهم معهم وكأنهم مازالوا في بيوتهم من أغذية يعتبرونها أخف وأسهل؛ مثل المعكرونة المحمرة مع الفراخ والمحاشي، مع اصطحاب أوعية الماء الكبيرة المثلجة "كولمان" والعصائر وترمس الشاي وأحيانا يحملون معهم شعلة بالغاز.
وتراهم يمشون على الشاطئ حفاة أو بـ"شبشب حمام" والشباب منهم شبه عراة بشورت وفانلة أو بشورت فقط، فيما يغلب على النساء الخمار أو النقاب.
وتسليتهم أكياس اللب والفول السوداني والترمس والفشار والجيلاتي أو لعب الكرة والجلوس على الكورنيش لتناولها وتبادل أحاديث النميمة والاندهاش من منظر هنا وهناك.
اختلاف في الاهتمام
ومثلما يمثل المصيف صحيفة حالة اجتماعية واقتصادية للمجتمع المصري، فإنه يكشف عن اختلاف الاهتمام به وطبيعة التعاطي معه حسب المرحلة العمرية، فقد حكت لي صديقة أن أباها بعد أن وصل إلى المعاش لم يعد يتحمس كثيرا للخروج من البيت والسفر بعيدا، وأنه بات يكتفي بالذهاب إلى مصيف قريب من القاهرة مثل "فايد" ولأيام معدودة، لأنه لا يرغب في القيادة بسيارته لمسافات طويلة، نظرا لظروفه الصحية.
في حين أنها هي ذاتها تفضل انتظار سفريات العمل الصيفية كبديل عن المصيف الأسري، لأنها توفر لها فرصة استمتاع أكبر في جو من الحرية والانطلاق والرفاهية بحكم النزول في فنادق خمسة نجوم، مع صحبة من الشباب بعيدا عن قيود الأسرة والتزاماتها التي لا تشعرها كثيرا بالتغيير.
هجوم التتار
وثمة بعد آخر يجب عدم إغفاله، وهو إحساس السكان الأصليين بالمصيف وتجاه المصطافين القادمين من مدن أخرى، والذي يبدو أشبه بتوجه رفض الآخر والموقف السلبي من الغريب، ويمثل حالة أخرى من الإحساس بالتمايز على أساس ديمغرافي لا يقل سلبية عن نظيره الطبقي، لأنه ينطلق من إحساس بالاستعلاء والتفوق.
فحسب صديقة سكندرية، فإنهم لا يفضلون الخروج للشواطئ في الصيف، لازدحامها بالقرويين القادمين من قرى ونجوع مصر الأشبه بالضيف الثقيل الذي جاء ليلوث البحر والكورنيش ويضيق على أهل البلد، فضلا عن السلوكيات الفجة والعشوائية والمضايقات التي تصل إلى التحرش اللفظي أو الجسدي، لأنهم يتصرفون كما تقول، وفق منطق المثل الشعبي "البلد اللي محدش يعرفك فيها، امشي وبرطع فيها".
وأخبرتني أنها إما تنزل للبحر في الصباح الباكر قبل "هجوم التتار أو الجراد" حسب توصيفها أو تذهب مع أسرتها إلى مصايف أخرى في مطروح أو الغردقة أو شرم، بحثا عن متعة خالية من الزحام والمضايقات.
--------------------------------------------------------------------------------
ام دندوووووون @am_dndoooooon
محررة ذهبية
يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.
ام دندوووووون
•
وين الردود نايمين شكلكم
الصفحة الأخيرة