فيضٌ وعِطرْ

فيضٌ وعِطرْ @fyd_oaatr

فريق الإدارة والمحتوى

« المطوعة مكيّة » وختمة القرآن ~ لوحة من الماضي

الأدب النبطي والفصيح



مشهد يعبق بأنفاس الماضي
صورة من سنواتٍ غابت خلف جدار الزمن .. وخلّفت الذكرى
رسمتها أنامل الأجداد .. في زمن البساطة والتقشف
هلمّ بنا لنرفع الستار .. ونقرأ شخوص الماضي تتحرك على خشبة مسرح الحياة :
ها نحن نرى أم أحمد تسير بخطىً متثاقلة بين الدروب المتربة الملتوية الضيقة
" السكيك " حيث تتلاصق البيوت البسيطة وتتعانق باتجاه بيت معين رسمته ذاكرتها وحين تصل .. تطرق الباب..دق دق !
ينبعث من الداخل صوتٌ نسائيٌ يتساءل بلهجة ممطوطة :
- من هناك ؟
- أنا أم احمد يامطوعة !
يصر الباب الخشبي العتيق منفرجاً ...فتدلف أم احمد ، وتدور عبارات السلام والترحيب والسؤال عن الحال بين الطرفين .. حتى إذا انتهت تلك المراسيم ، واتخذت أم أحمدمجلسها... أطلقت تنهيدة ارتياحٍ ثم بادرت بالقول:
- ياالغالية !.. ياالحبيبة ! قصدتك راغبة في إلحاق ابنتي فاطمة تحت رعايتك ؛ لتدارسيها القرآن الكريم ، فقد بلغت السن التي يجب فيها أن تتقن قراءة كتاب الله تعالى وتختمه، وإنني أتوسم الخير على يديك.
- على بركة الله . عيوني ! - وهي تشير الى عينيها بمودة وطيب نفس -
- لكن يالغالية أحب أن أتفق معك على طريقة دفع الإكرامية نظير ذلك ..
فـهل ترغبي ياعزيزتي أن ندفع " كطوعة" -عند نهاية ختم القرآن - "أم خميسية " - كل خميس - ؟
- لا فرق بيننا ! كما تحبين ..أقول لك لابأس حتى لولم تدفعي .. فطومة ابنتي
- اي والله أنت صادقة هي كابنتك ! ولكن الحمد لله..! الخير كثير
، وما دمت خيرتني فسأجعلها خميسية...
أما «المداد » الحصير الذي يستعمل للجلوس " فتفضلي هذه « الربية » لأجله...!
- لا هذا كثير ! تكفي نصف ربية.
- لا والله - ترد يد المطوعة التي همت بإعادة النقود- تأخذينها..! وهي قليلة بحقك
، أنت تنورين عقول بناتنا بكتاب الله. وأي شيء أعظم من ذلك؟ !
جزاك الله تعالى كل الخير ..
مطوعة مكية تسرح بنظرها ....
تتنهد و هي تضع يدها على صدرها ...
وتشع عيناها بالمحبة ... وتتطلع إلى البعيد
- ياأم احمد أنت لاتدركين مقدارفرحتي حين تختم إحدى بناتي القرآن ، الدنيا
لاتسعني حينها ... كأنني في عرس ..!
. اللهم أدم نعمتك علينا .. ! «ترفع كفيها بالدعاء وتمسح شبح دمعة بطرف ملفعها »
- آمين ... !
وبين عبارات الثناء،
والأخذ والعطاء...
تدور " استكانة " الشاي المعطر بنكهة "الدوّة " .. وبرائحة الأصالة ، وطعم المحبة !
وقبل ان تخرج أم أحمد تلقي بآخر استفسار طرأعلى ذاكرتها:
- آه .. نسيت أن أسألك كيف ستكون فترات الدراسة ؟ وهل من شيء آخر تحتاجه فاطمة ؟؟
- بعد عمري - الدروس كالعادة من الصبح حتى أذان الظهر . وبعد الغداء مرة أخرى حتى أذان المغرب ... هذا ولا تحتاج - الله يسلمها - غير «قرشة الماي» مثل كل البنات.
- إن شاء الله ! جزاك الله خير ! .. في أمان الله..!
- أمانة الله...!
ويسدل الستار !!

تمر الشهور وفاطمة مكبة على دروسها. و كل همها إجادة قراءة القرآن وفهم وحفظ ماتيسر منه ، حتى إذا أصبحت متمكنة بشهادة المطوعة العريقة
صار معلوماً لكل الناس أن فاطمة قد ختمت القرآن الكريم
ويالها من فرحة وشرف عظيمين للمطوعة ولأهل فاطمة...!
إنه عرس الروح ..!
.......... ..........
ويرفع الستار عن المشهد الثاني لنرى فاطمة وقد ارتدت أبهى حلّة لديها..!
تتوسط الجمع ... متوردة الوجنتين انفعالاً وزهواً...
، تقطع الدرب إلى بيت المطوعة بخفة وفرحة ، تكاد لا تسعها" السكيك "
وحولها قريناتهابلباسهن الملون الزاهي وعلى رؤوسهن "البخانق" المؤطرة بالزري
والنساء خلفهن يحملن الصواني المليئة ب( النون) والحلوى وماء الورد والبخور.. حتى يصل الركب الى الدار.. وتعلو الزغاريد...!
وفي حوش المطوعة الواسع الواسع ...نشهد فاطمة تضع بيدالمطوعة شيء وتقبلها فتحتضنها المطوعة بإعزازٍ ومحبة ..
ثم تهيء لها مكاناً إلى جانبها على ( المطرح )
فهي صاحبة الشأن ..! وتحفّ بها الفتيات وعلي الجانبين تجلس الأمهات ، والصواني ...تنتظر!
تبدأ المطوعة بقراءة الفاتحة، وجزء من سورة البقرة ، ثم .....« التحميدة » التي هي من ضرورات الختمة .
و تردد جموع النساء والفتيات بحماس أثر كل مقطع تنشده المطوعة : آميـــن !
الحمد لله الذي هدانا... آمين !
للدين والإسلام اجتبانا.. ..
سبحانه من خالق سبحانه
بفضله علمنا القرآنا
نحمده وحقه أن يحمدا
حمدا كثيراً ليس يحصى عددا
ثم الصلاة كلما الحادي حدا
على النبي الهاشمي محمدا
علمني معلمٌ ماقصرا
رددلي في درسه وكررا
إني تعلمت كتابا أكبرا ...
حتى قرأت مثله كما قرا
جزاك الله ياوالدي الجنانا
. وشيد الله لك البنيانا
وأنت ياأمي فنعم الوالدة
.عسى نراك في الجنان قاعدة
الجد والجدة لا تنساهما
. فعند ربي الله جزاهما
أعطوا المعلم حقه عظيما
. لأنه كان بنا رحيما
الحمد لله الحميد المبدي...
سبح له طير السما والرعد ...
....... ... ... .. ....
ويفوح البخور... ويرش ماء الورد...
وتعلو حناجر النساء بالتهليل والصلاة على النبي
وتنهال التهاني والقبلات على فاطمة ...!
. وتلقى أكف السخاء الحلوى الملونة ...
لتتزاحم في التقاطها الأيدي ...!
، ويعبق أريج المحبة ، وتدور الأحاديث الجميلة ، وأخبار "الفريج "في جو من البساطة الذي يتذوق هذه البهجة ويستطعم لحظاتها...
في زمن الأصالة .. في زمن الجار للجار والكل جيران...
في زمن القليل الثمين .حيث لكل شيء .. قيمة ..
ولكل شيء موضع ... لاشيء يضيع... ولاشيء يزيد عن الحاجة !
. أما النفوس فكانت غنية في زمن يفتقر إلى المادة ...
غنية بمشاركتها .. بعطائها... بوفائها... بتفانيها ..!
ألا ماأصعب الزمن الغني بالمادة .. الفقيرالى كل القيم الجميلة
الزمن الذي يحوز فيه الإنسان أضعاف حاجته من متاع الدنيا ... ولا يشبع
ويجمع ... ولا يقنع ..!
......................
يخلو بيت المطوعة مكية ... حيث تطوي الدروب الذاهبين ..
يخيم الهدوء على الدار...و يبدأ الغروب بنشر ظلاله ...فتعم السكينة ...وتلملم المطوعة الوحيدة البقايا التي خلفها الإحتفال ...
بعد أن تغلق بابها الخشبي " أبو الرمانة "... ويجاوبها صريره ..
وتنبعث من " أحواش " البيوت المغلقة ... رائحة الحطب المشتعل في التنور
حيث تختلط به نكهة الخبز الشهية..!
ويجر الغروب أطراف ثوبه منسحباً
ويرتفع " الله أكبر " من المسجد
ثم ... يغلق كتاب.... الماضي !!!!..
3
2K

يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.

تسجيل دخول

نعمة ام احمد
نعمة ام احمد
ما اروع عبق التاريخ بهذه القصة ...

فعلاً زمان أجدادنا كان مختلفاً عن زمن المادة التي نعيشها اليوم ...

غاليتي فيض سردت قصة من حقبة الماضي بطريقة سلسة ماتعة كما عهدنا من مدادك الراقي ..

وفيها من المعلومات الشئ الكثير .. فأنا شخصياً لم اكن اعلم عنها شيئاً ... حقاً استمتعت بقراءتها ...

لك مني كل الود
نعمة ام احمد
نعمة ام احمد
مكرر كالعادة فالعذر منك
السلطانه كولكشن
السلطانه كولكشن
لا اله الا الله