بسم الله الرحمن الرحيم
بقلم : عائض القرني
" لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ "
كأن الثريا علقت بجبينـــــه *** وفي جيده الشعرى وفي وجهه القمر
ولو نظرت شمس الضحى في خدوده *** لقالت معاذ الله ما يوسف بشر
كنا نجلس كل يوم ، مع قوم ، ينتقون من الحديث درره ، ويذكرون لنا العالم بحره وبرّه . فدَلِف علينا يوماً من الأيام ، شيخ ممشوق المقام ، كثير الابتسام ، فصيح الكلام ، فنظر في وجوهنا وتوسّم ، ثم تبسّم وسلّم ، ثم جلس واتكى ، وتأوّه وشكى .
قلنا: ما الخبر ، أيها الشيخ الأغر ؟ قال : تذكرت من غبر ، أهل الأخبار والسير ، فعلمت أننا بالأثر ، قلنا : ما الاسم ، فقد أعجبنا الرسم .
قال : أنا عبيد الله بن حسان ، من أهل ميسان ، قلنا : كلامك محبوب ، فقص علينا قصة يوسف بن يعقوب ، فقال : مهما اهتم العالم بالحفظ وحرص ، لكن الذهن فتر والخاطر نكص . وكفى بقصص الله وهو يقول : " نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ " ، لكن سوف أخبركم بوقفات ، والعفو عما نسيناه وفات .
لما نصح يعقوب يوسف أن لا يقص ما رأى ، لأنه يخشى عليه ما جرى ، فإنه ما خلا جسد من حسد ، وكم من قلب بنعم الغير فسد ، فيا أيها العبد استر جمال يوسف النعم ، خوفاً من أن تلقى في غيابة جب النقم ، فيسلط عليك ذئب البغضاء ، لا ذئب الصحراء :
عوى الذئب فاستأنست بالذئب إذ عوى *** وصـوّت إنسان فكدت أطير
لا تعتذر للمخالف ، فيأخذ العذر منك وأنت واقف ، أما ترى يعقوب ، يوم خاف على ابنه الخطوب ، قال : أخاف أن يأكل الذئب يوسف ، فقالوا : أكله الذئب فلا تأسف ، فكأنهّ هيأ لهم الحجة ، حينما ضلوا في المحجّة .
وجاؤا على قميصه بدم كذب ، لأن الذئب ما خلع الثوب ، بل شقه وسحب ، والذئب لا يفتح الأزرار ، بل يمزقها بلا وقار :
يا ممعنا في السوء والعيب *** لا ينفع الــــــتهذيب في الذيب
لو علمت القافلة بمكانة يوسف : ما قالوا : يا بشرى هذا غلام ، بل لقالوا : يا بشرى هذا إمام ، وولي مقدام ، وسيد همام ، ولكن وما أدرى الليل ببدر التمام.
يوسف لديه جمال وجلال ، فردعه وازع الجلال ، عن نوازع الجمال ، لما قال : معاذ الله ، حماه ربه وتولاه .
لو ترك يوسف كلمة اذكرني عند ربك وذكر هو ربَّه ، لكشف كربه ، وأزال خطبه ، وأسعد قلبه .
يوسف ما نسي إيمانه ، سُئل عن الرؤى وهو في الزنزانة ، فدعا إلى التوحيد ، لأن التوحيد حياة العبيد ، لا يرده قيد ولا يمنعه حديد .
قد قلت للذئب الوفي لصـــحبه + ياصاحـب الأظـــفار والأنياب
أأكلت يوسف في العراءبخلسة + ودم النبوة سال في الأثواب فأجابنــــي والله لم أهــــمم به + هذا معاذ الله غـــــير صواب إني أحب الأنبـــــياء ومهجتي + تفدي النبي ومقلتي وإهابي
الذئاب ما تأكل الأنبياء ، ولا تلطخ أفواهها بدماء الأولياء ، لأنهم أصفياء أوفياء وإنما يقتل الأنبياء ذئاب الخليقة ، إذا عميت عليهم الحقيقة ، وأظلمت عليهم الطريقة:
الذئب أكرم عشرة من ثلة *** خانوا عهود مودة الإخوان
في سورة يوسف قميص بريء من الذئب ، وقميص بريء من العيب ، وقميص مضمخ بالطيب .
فالأول : قميص يوسف وقد مزّقه الإخوان والثاني : قميصه وقد مزّقته امرأة السلطان والثالث : قميصه وقد ألقي على يعقوب فأبصرت العينان
كأن كل نداء في مسامعه *** قميص يوسف في أجفان يعقوب
لما قال إخوة يوسف له : " وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ " ، نسوا أنهم هم الذين أوقعوه في هم كثير ، فهو بسبب ما فعلوه في حزنه أسير ، وفي بيته كسير ، فهم يحتجون به وقت الحاجة ، وينسونه وقت اللجاجة .
لما قال يعقوب : لا تدخلوا من باب واحد ، لأنه خاف الحاسد ، فهو في مكان النعيم قاعد ، فإذا أقبلوا في حملة ، قتلهم جملة ، فَعمِّ على الحسود الأمر، لتضع في عينيه الجمر .
الدنيا وجهها نحس ، يباع يوسف بثمن بخس ، وحزن يعقوب يكاد يذهب بالنفس ، والفراعنة بملكهم يفرحون ، وفي دنياهم يمرحون ، وفي نعيمهم يسرحون لكن انظر إلى العواقب ، عندما تكشف عن الأولياء النوائب ، وتزول عنهم المصائب .
فإذا الفرحة الغامرة ، والحياة العامرة ، و النعيم في الآخرة .
أما الفجار ، فسحابة نهار ، وراحة حمار ، ثم نكال في أسوء دار .
هَمَّ يوسفُ هَمّة ، فتذكر علو الهمة ، وإمامة الأمّة، ففر إلى الباب، يطلب الطريق إلى الوهاب ، بعد ما هيئت له الأسباب، لأن يوسف من سلالة الأطياب، فتاب وأناب .
يوسف شاب ، من العزاب ، تعرّضت له امرأة ذات منصب وجمال ، وحسن ودلال ، فغلقت الأبواب ، ورفلت في أبهى الثياب ، فتذكر يوم القيامة ، وساعة الندامة ، فقال : أواه معاذ الله ، فمنعه الله وكفاه ، وأنت تتعرض للنساء صباح مساء ، غرك الوجه المبرقع ، والحسن المرقع ، ولا تحذر وتتوقّع .
هب أن نظرتك التي أرسلتها *** عادت إليك مع الهوى بغزالي
نظر المهيمن فيك أسرع موقعا *** فخف العظيم الواحد المتعالي
في قلب يوسف من الوحي نصوص ، وفي قلبك من المعصية لصوص ، في شرايين يوسف دماء الإمامة والدين ، وفي شرايينك شهوة الماء والطين .
يوسف تخرج من جامعة " وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى "، وأنت تخرجت من جامعة : يشكو العيون السود قلبي والهوى .
لشتان ما بين اليزيدين في الندى *** يزيد بن عمرو والأغر بن حاتمِ
يوسف تربيته على شريعة ، وأخلاق رفيعة ، وبعضهم يربى على مجلات خليعة ، وآداب شنيعة .
وا أسفي على منهج يوسف ، في هذا الواقع المؤسف ، صورة عارية ، وكأس وجارية ، وشهوات سارية ، كلها تقول : هيت لك ، وليس عند الجيل صرخة معاذ الله .
الآن حصحص الحق ، وبان الفرق ، فيا شباب الصدق ، قولوا في أحسن نطق : معاذ الله . من أراد السناء ، والثناء ، والعلياء ، وأن يحمي نفسه من الفحشاء ، والفعلة الشنعاء ، فليحفظ متن الأولياء : معاذ الله .
من عاذ بالله أعاذه ، وأكرم ملاذه .
منقول من
http://www.tadawi.com/ubbdocs/Forum3/HTML/000893.html

أم يحيى @am_yhy
عضوة شرف في عالم حواء
هذا الموضوع مغلق.

الصفحة الأخيرة
جزاك الله خيرا أخت أم يحيى
وجعلها الله في موازين حسناتك
وجزا الله خيرا الشيخ ابا عبدالله عائض القرني