الموتى لا ينطقون أبداً - بقلم : هند السويدي رحمها الله
(قصة فنتازيا ولجت بي دهاليز مجهولة من الشعور بالوهم والخوف والانحناء الشفاف أمام الموت)*غابت استدارة الأرض خلف جفني .. وتضاءلت عملقة الجبال وقت احتضاري .. أنا في غمرة من شعور خفي يكويني .. ويقودني إلى حيث اللانهاية وإلى حيث المجهول الذي فغر فاهه ينتظر وليمة جديدة على وشك أن تزف إليه.. أشعر بسريان الحرارة يلف جسدي .. يا إلهي ماذا دهاني ؟ شيء ما يغرز بثقله على كاحلي .. هل يعني ذلك ان جسدي في طريقه إلى الموت ؟.. ولكن ماذا عن السكرات التي كنت اقرأ عنها ؟ هل سأتذوق شيء من مرارتها ؟ يا إلهي ليتني الآن أهذي فأفيق بعدها على سرير أبيض يلتف لفيف من أهلي يتسابقون لتقديم باقة من الزهور حولي في استدارة تكتمل بضجيج الأطفال والنساء .. ولكن .. لا أرى غير وجه قبيح أسود رهيب يطل من السماء قادما نحوي بسرعة مذهلة .. لا أرى الشمس ولا أسمع الرياح .. لقد اختفت الوجوه ولا تسعفني ذاكرتي على تفقد جسدي فقد سرت قشعريرة واسعة مشت كدبيب النمل على عروقني ووصلت الحلقوم .. آآه .. لربما هذا احتضاري .. ولربما الوجه المطل علي من السماء هو ملك الموت الذي صاحت على قدومه الديوك ونهقت على نزوله الحمير.. و لأول مرة أتحسس ما يخبئه الغيب في إغماضتي الأخيرة التي أسكنت جسدي ولم أشعر بأن ما خلفته ورائي من رأس و أذنين ولسان وشفتين وبطن ويدين وفرج ورجلين ليس لي هذه المرة .. بل للتراب الذي سوف يستقبل جثتي المسجاة الآن في داري .. آآه يا داري .. تلكم التي دخلتها عروس بكامل زينتي لأول مرة مذ ست سنوات ذقت فيها لذة العرس وأخرج منها الآن بقماش أبيض يغطيني ويذيقني مرارة الاحتضار ويطير بي إلى حيث يرقد الموتى . لست أدري ما يحدث لي .. كل ما أشعر به أن جسدي أصبح بعيدا عني وغريبا عني .. وكل ما أراه الآن عالما أبيض حملني إليه ملك الموت على عجالة رهيبة خطفت بصري وسمعي وأوقفت نبض قلبي وجعلتني أدخل سم الخياط تحت قماش أبيض تمتليء رائحته بالكافور .. أنا لا أغمض عيني الآن ولا أفتحهها إنها ليست لي الآن .. ولكن أرى من خلال ثقوب بيضاء الذين يتشحون بالسواد من حولي يلقون علي الوداع الأخير ويتسارعون إلى تقبيل جبيني .. ولكن حاملي السقالة قد عجلوا في حملي إلى حيث صمت القبور .. أنام هناك حتى الذؤابة ..واستقر في حفرة مع الموتى الذين يزفون الآن نبأ قدومي إليهم في السماء .. لا أعلم أهو شعور لذيذ أن ألتقي بمن سبقني إلى عالم البرزخ أم شعور مخيف سوف لن يزول عني ما بقيت في انتظار نهوض العالم معي إلى حيث الحساب ؟! .. آه يا كلمة حساب .. أي حساب عسير ينتظرني الآن .. ويحك أيتها الذاكرة .. لقد أصابك العطب وغاب عنك كل منطق تعلمته في صفوف المدرسة وكل الأرقام وكل الحروف .. ولكن هذا مصير محتوم لكل البشر فالأكفان تنتظر أجساد البشر .. و أجفان السماء تهتز من الموتى الذين في البرزخ يزفوني كنبأ ميلاد ميت جديد .. أما الذين في الدنيا فإن الأيادي تنتظر حفر قبر لي واكتظ المكان وعج بالأجساد الذين ترامى إليهم نبأ وفاتي وانتقالي إلى رحمة الله وكتبت الصحف عني أنني دخلت في ذمة الله و سوف تلتحف المقبرة بجثة جديدة وتنعم بجثة بيضاء سمينة تفوح منها رائحة الكافور فلا أرض تحتي ولا سماء فوقي ولا بحر أمامي ولا بر خلفي .. ولكن أعيش ازدواجية لا تعيها ذاكرة ولا يفهمها عقل .. الناس يروني طريحة القبر تلفحني الشمس بلسعات أشعتها تارة وتبكيني الغيوم بغزارة أمطارها تارة أخرى ولكنني أرى شيئا آخر .. فلا صمت القبور يخيفني ولا رائحة الموتى تزكمني ولا أحسد الحشرات على سريانها حية فوق جثتي ولا الديدان على نبشها لخيوط كفني .. وكل ما يخيفني أنني ألتحق بعالم الموتى .. والتقاء الأرواح فخلف بروج السماء في برزخ إلى يوم يبعثون .. لقد سقطت الشمس خلف الأفق وسقطت ورقتي أمامها .. ولم يعد يغار القمر من استدارة وجهي .. فأنا منذ اليوم افقد نضارة وجهي تدريجيا والبريق في عيني سوف يزول قريبا ولن تفهمها أبدا لغة الأجساد ..*هذه أول ليلة لي في قبري .. لقد ذهبت الجموع الغفيرة المودعة .. ومع رحيل قرع نعلهم أقعداني من رقادي منكر ونكير وقد أمدني الله بالقدرة على الاستنطاق مرة أخرى .. وأروني مقعدي الذي ينتظرني وجعلوا قبري يتسع مد البصر .. أنا الآن أنتظر قيام الساعة داخل خيط رفيع أبيض .. انظر إلى اهل الدنيا .. يتشحون بالسواد ويبكونني .. ويعددون مناقبي في الليلة الأولى .. أرى أمي تنتحب وأبي يبكي في صمت .. أرى إخوتي يغسلون أعينهم وقد فاضت من الدمع .. أرى أخي طريح الفراش يئن ويبكي بحرقة يود لو ينتفض من جسده الذي أغرقته الغيبوبة في بحر لجي من الوجع لعله ينفض عني غبار التراب و لفافة الكفن ويقبل جبيني ويهم بموادعتي الوداع الأخير .. أرى زوجي يبكيني ويخبيء دموعا أبت إلا أن تظهر للعيان .. وودت لو أخبره الآن أن لا مانع لدي أن يزفه الناس إلى عروس أخرى .. أرى أطفالي تعلوهم الدهشة وأمارات الاستفهام ولسانهم لا يكف عن السؤال : أين ماما ؟ ماذا تفعل في السماء ؟ .. آآآه إنهم يبكون بكاء الأحياء وأنا أبكي بكاء الاموات .. ومنذ ليلتي هذه سوف يغيب عن ذاكرتي ركض الخيول الجامحة , ولست بحاجة بعد اليوم إلى دولاب ملابسي وسوف لن أقبل جبين أطفالي ولن أنتظر زوجي على فراش الغنج فعروقي الآن تذبل لقد انطفأت قناديلي.. و كل جزء من ترانيمي يدور في أفق السراب .. هناك حول البعيد تتراقص خلفي الجرذان تحفر في ثقب يغلف ذاكرتي .. وكل ما حولي ظلام داجن مع إني أتذكر أن الشمس تسطع خارج الكفن في كبد السماء .. وخارج سرادق الغيب .. لم أتصور أن أرى الزحام يلف المكان لتوديعي ولم أكن أعلم أن لساني سوف يترك فصاحته اليوم ليذيقني ما وراء الحشرجة .. فليس اليوم هاهنا ظمأ وجوع وعقل وصلاة بل تراب وقرع نعال تعلن رحيلي عن الدنيا وبقائي في برزخ فسيح غريب لا منطق فيه ولا تاريخ ولا زمان فيه ولا مكان ولا ليل فيه ولا نهار .. تصوروا حجم الازدواجية في المعيشة بلا جسد ولا عيون و بين أن تكون مرميا على قارعة القبور وبين اختباء الروح في البرزخ .. وبين أن يتوالى الليل والنهار وتمر الأحقاب وأنت ترى الحقبة تصبح جزءا من الثانية وتصبح الثانية حقبة من سنين عامرة .. تصوروا غيهب الظلام السرمدي الذي لا يخلفه نهار ولا ضوء .. آآه يا أنا يا هذا الإنسان الضعيف .. جسدي فقد الحس والحركة وروحي عند بارئها تلتقي بأجنحة الأرواح في عالم غيبي يجعلني أرى كيان الأرض وما عليها كأنها لا تساوي جناح بعوضة .. فلا أموال العالم تغنيني ولا قصور الأثرياء تبهرني .. فمن يقفز في عرج غيبي إلى ما فوق السماوات السبع سوف يدرك أن الله حق وأن النبيين حق وأن الملائكة حق وأن العدم هو حياة الأرض بما فيها من عج وفج وأن الدار الآخرة لهي الحيوان .. آآه .. أتحدث إليكم بهذيان غير هذيان البشر ولسان غير لسان الدم واللحم .. وإغماضتي الآن لا تعرفها عيون الأنعام ولا أبصار البشر ولكنها هي من أذاقتني طعم التراب ولقنتني كيف أعيش أسفل الأرض مع الدواب.. وكيف أن ميلادي قبل ثلاثة عقود يوم قد علم الناس كيف يحملونني وهم يضحكون وكيف أن رحيلي هذا اليوم قد لقن الناس سبيلا كيف يحملونني وهم يبكون .. ولم تمض علي عشر دقائق حتى تكرر مشهد دفن جثة أخرى نامت قريبة مني .. إنه أحد بني آدم قد توفاه الله ولكن ما إن ذهبت عنه قرقعة النعال وأدبرت الوجوه حتى كأن شيئا ما يحدث مع صاحبنا النائم بجواري .. آآه إنه القبر يضيق به ولم يسعه لربما لم يفسح له القبر نورا على مد بصره .. يا الله اسمع صراخه الآن ولهيب قبره .. لربما كان من أهل النار والعياذ بالله .. فإن حسابه مع منكر ونكير قد طال وتلعثمه عسير .. سأغمض عيني وأبقى طريحة القبر حتى أمد ولن ألتفت إليه إننا نشترك نحن الموتى في هواجس البرزخ وعذاب القبر وانتظار القارعة .. أشعر الآن بوجع أجهل ما فيه .. فحولي إما مؤمن يكرم وإما كافر يهان وعذاب القبر الآن يجعلني أختبيء في ثقب يسدل الستار على ثرثرتي ويغمضني إغماضة أخيرة .. وسأنتظر ريثما تصير الجبال عهنا ويصير البشر فراشا مبثوثا .. فالموتى لا ينطقون أبدا .. ولكن ينتظرون أبدا .. *
الى جنة الخلد ياهند مثواك ...

نور 9009 @nor_9009
عضوة
يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.

catycat
•
فليس اليوم هاهنا ظمأ وجوع وعقل وصلاة بل تراب وقرع نعال تعلن رحيلي عن الدنيا وبقائي في برزخ فسيح غريب لا منطق فيه ولا تاريخ ولا زمان فيه ولا مكان ولا ليل فيه ولا نهار
اللهم اجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة يارب العالمين
مشكورة عزيزتي
اللهم اجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة يارب العالمين
مشكورة عزيزتي

جزاك الله الجنان فعلا كانت رحلة تذكيرية وانصح نفسي اولا والأخريات ثانيا ان نحفظها في المفضلة كل ما قلة الهمة واقبلنا على الدنيا نقرائها مرة اخرى وتكون سبب بأذن الله في الاقبال على ماعند الله خير وابقى000000000 جزاك الله كل خير
الصفحة الأخيرة
سبحان الله نتالم من شدة المرض
نتالم من الفراق والطلاق والجوع وناس تبحث عن الثراء وتريد السفر سنويا والسكن في افضل القصور والفلل ولكن لنتذكر بانا سنودع هذة الحياة في مجهول لاحد يعلم يومه ولا اريد القول سوى سبحان الله