Reema_ra

Reema_ra @reema_ra

عضوة جديدة

الواحه الادبية

الأدب النبطي والفصيح

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته :

أحببت ان اكتب لكم هذه القصه من كتاب مصطفى المنفلوطي


إليكم القصة وارجو ان تنال اعجابكم

اللقيطة
مر عظيم من عظماء هذه المدينة بزقاق من أزقة الأحياء الوطنيه في ليلة من ليالي الشتاء ضرير نجمها , حالك ظلامها , فرأى تحت جدار متداع فتاة صغير في الرابعه عشره من عمرها جالسة القرفصاء وقد وضعت رأسها بين ركبتيها اتقاء للبرد الذي كان يعبث بها عبث النكباء بالعود , وليس في يدها ما تتقيه به الا أسمال تترأى مزقها في جسمها العاري كأنها اَثار سياط المستبدين , في أجسام المستعبدين .

وقف الرجل أمام هذا المشهد المحزن المؤثر وقفة الكريم الذي تؤلمه مناظر البؤس , وتزعج نفسه مواقف الشقاء , ثم تقدم نحوها ووضع يده على عاتقها برفق فرفعت رأسها مرتاعه مذعوره وهمت بالفرار من بين يديه وهي تصيح "لا أعود…لا أعود" فلم يزل يمسحها ويروضها حتى هدأ روعها وعاد إليها رشدها وعلمت أنها ليست بين يدي الرجل الذي تخافه , فنظرت إليه نظرة لو أنها اتصلت بلسان ناطق وفم لحدثت عما وراءها من لواعج الأحزان وكوامن الاشجان.
ـ ما أسمك أيتها الفتاة ؟
ـ لا أعلم يا سيدي.
ـ بماذا ينادونك ؟
ـ يدعونني اللقيطة.
ـ وهل أنت لقيطة كما يقولون ؟
ـ نعم يا سيدي , لأنني لا أعرف لي أباً ولا أماً , في الأحياء ولا في الاموات , سوى رجل يتولى شأني , ويضمني إليه في منزله , وكنت أحسبه أبي فيمتلئ قلبي سروراً به , وعطفاً عليه , فلما رأيت أنه يعذبني عذاباً أليماً ويحملني من أثقال الحياة وأعبائها مالا يحمله الاَباء أبناءهم علمت أني وحيدة في هذا العالم , وفهمت معنى الكلمه التي يناديني بها , فألم بنفسي من الحزن والألم ما الله عالم به , وكنت كلما مشيت في الطريق , ورأيت فتاة صغيرة سألتها ألك أم ؟ فتجيبني: نعم , ثم تقص علي من قصص نعمتها ورفاهيتها , وعطف أمها عليها , ورأفتها بها ما يزيدني هماً , ويملأ قلبي يأساً , حتى كان يخيل إلي أنني أذنبت قبل وجودي في هذا العالم ذنباً عاقبني الله عليه بهذا الوجود , بيد أني صبرت على هذا الرجل , وعلى ما كان يكلفني به من التسول على قارعة الطريق , إبقاء على نفسي , وضناً بحياتي , وان تغتالها غوائل الدهر , وكان كلما رأى حاجتي إليه وإلى مأواه , اشتط في ظلمي , ولؤم في معاملتي , حتى صار يضربني ضرباً مبرحاً كلما عدت إليه عشاء بأقل من المبلغ الذي فرض علي تقديمه في كل يوم , ولم أزل اصايره واحتمل منه ما يعجز عن احتماله مثلي برهة من الزمن , حتى جاءني الليلة بداهيه الدواهي , ومصيبة المصائب , فقد حاول ان يسلب من بين جنبي جوهرة العفاف التي لم يبق في يدي ما يعزني عما فقدته من هناءة الحياه ونعيمها سواها , فلم أر بداً من ان أفر بين يديه متسلله تحت جنح الظلام من حيث لا يراني . وما زلت امشي على غير هدى , لا أعرف لي مذهباً ولا مضطرباً , حتى أوتيت الى هذا الزقاق كما تراني . فهل لك يا سيدي أن تحسن إلي كما أحسن الله إليك ؟ وان تبتاع لي رغيفاً من الخبز اتبلغ به , فقد مر بي يومان لم اذق طعاماً ولا شراباً ؟

لم يسمع الرجل من الفتاة هذه القصة المحزنه حتى استقبلها بدموع حاره تنحدر على خديه انحدار العقد وهي سلكه فانتثر , ثم أخذ بيدها , ومشى بها صامتاً واجماً يكاد لا يهتدي لسبيله حتى بلغ قصره , وهناك صنع بها صنع الكريم بأهله وأبلغها من دهرها ما لم تكن تمني نفسها بالوشل القليل منه , وما هي الا أيام قلائل حتى ظهرت في ذلك القصر العظيم فتاة جديدة من اجمل الفتيات وجهاً , وأرقهن شمائل.. وأكرمهن أخلاقاً , واكملهن اَداباً..لا يعرف الناس عنها سوى أنها أبنة قريب لصاحب القصر مات عنها وخلفها يتيمة , فكان الى هذا القصر مصيرها.

وكان لصاحب القصر فتاة من الفتيات اللواتي ربين التربية الحديثة التي يسمونها "التربية العصريه" ويريدون منها التربية الأفرنجيه فكانت كل ما حصلت من العلوم والمعارف والفنون الاَتية :
(1) الرطانة الاعجمية حق جتى مع خادمها الزنجي , وكلبها الرومي.
(2) الولوع بمطالعة الروايات الغراميه الفاسدة.
(3) البراعة في معرفة أي الأزياء أعلق بالقلوب وأجذب للنفوس.
(4) الكبرياء والعظمة , واحتقار كل مخلوق سواها حتى حتى أبويها.
(5) الأثرة وحب الذات حباً يملأ قلبها غيرة وحسداً , حتى إنها لا تستطيع ان تسمع وصفاً من أوصاف الحسن يوصف به سواها.

رأت هذه الفتاة اللقيطة قد أصبحت تقاسمها قلب أبيها وقلوب زائراتها من النساء بما وهبها الله من جمال في الخلق , وحلاوة في الطبع.
وعذوبة في النفس , فأضمرت لها في قلبها من البغض والموجدةما يضمره دائماً أمثالها من اللواتي ربين تربيتها , ونهجن في الحياة منهجها , فكانت تتعمد اساءتها وازدراءها , وتغري بتبكيتها وتأنيبها , والفتاة لا تبالي بشيء من هذا وفاء لسيدها وولي نعمتها , وذهاباً بنفسها عن النزول الى منزلة من يغضب لمثل هذه الهنات , حتى حدثت ذات يوم الحادثة الاتية: دخل صاحب القصر قصره ليلة من الليالي , فبينما هو صاعد في السلم اذ عثر برقعة ملقاة , فتناولها فقرأ فيها هذه الكلمة :
سيدتي:
أنا منتظرك عند منتصف الليل في بستان القصر تحت شجرة السروالمعهودة.
"حبيبك"
فما أتم الرجل قراءة الرقعة حتى دارت به الارض الفضاء , وحتى لمس قلبه بيمينه ليعلم هل طار من مكانه ام لا يزال باقياً فيه , ثم كأنه أراد ان يخفف ما الم بنفسه من الحزن والقلق فقال : لعل ذلك الموعد مع تلك الفتاة اللقيطة , ومن الظلم ان اتعجل باتهام ابنتي قبل ان اقف على الحقيقة , فنظر في ساعته فإذا الساعة قريبة , فرجع ادراجه , وما زال يترفق في مشيته ويتنقل في الحديقة من شجرة الى شجرة حتى وصل الى شجرة اللقاء فكمن وراءها ينتظر ما خبأ له الدهر من حدثانه , وما اضمر له الغيب في طياته .

لم تكن الرسالة رسالة الفتاة الوضيعة , بل رسالة السيدة الشريفة.
وبينما كانت الثانية واقفة في غرفتها أمام مراَتها تختار لنفسها أجمل الأزياء واليقها بموقف اللقاء , كانت الاولى نائمه في غرفتها نوماً هادئاً مطمئناً لا تزعجه زورة الطيف , ولا تروعه أحلام الشباب , حتى سمعت وقع أقدام سيدها على سلم القصر فاستيقظت , ثم رابها موقفه فأشرفت عليه من حيث لا يشعر بمكانها فعرفت كل شيء.. وعرفت ان سيدها سيقف على سر ابنته الذي كانت تعالج كتمانه زمناً طويلاً .. وانه لابد قاتل نفسه في ذلك الموقف حزناً ويأساً.. فعناها من امره ما عناها , ثم اطرقت برأسها لحظة تتلمس وجه الحياة في دفع هذه النازلة , وتتطلب المخرج منها , ثم رفعت رأسها , وقد قررت في نفسها أمراً.

نزلت مسرعة من سلم القصر , فرأت الفتاة قد خرجت من باب القصر الى ذلك الموعد فأدركتها , وامسكت بطرف ثوبها فارتاعت الفتاة والتفتت إليها وقالت لها : ماذا تريدين مني؟ أتتجسسين علي ؟؟ قالت لها : لا يا سيدتي .. وأفضت إليها بالقصة من مبدئها الى منتهاها , فسقط في يدها , وعلمت ان اباها قد وقف على سرها , فقالت لها : لا تزعجي نفسك , فإن اباك لا يعلم أيتنا صاحبة الكتاب فعودي الى غرفتك , وسأذهب الى الموعد مكانك , حتى إذا رآني هناك ذهب من نفسه ما كان يخالجها من الشك في أمرك.
ثم استمرت ادراجها حتى وصلت الى تلك الشجرة , وهنالك برز الرجل من مكمنه , واقترب منها حتى عرفها , فحمد الله على سلامة شرفه وشرف ابنته , ثم قال لها :
ايتها الفتاة : إنب أحسنت إليك , واستنقذتك من يد البؤس والشقاء,
فأسأت إلي بما فعلت , حتى كدت الليله اهلك حزناً وكمداً , وألصق بابنتي ذنبك واحمل عليها عارك , فاخرجي من منزلي , فاللئيم ليش أهلاً للإحسان.

فخرجت خائبة تتعثر في اذيالها , حتى وصلت الى شاطئ النهر,
وهنالك اخرجت مذكراتها من محفظتها , وكتبت فيها آخر كلمة خطتها اناملها:
"احمد الله إني قدرت على مكافأة الرجل الذي أحسن إلي بستر عاره , وإزالة همه وحزنه"

ثم ألقت بنفسها في النهر , وما هي الا دورة أو دورتان حتى افترق ذانك الصديقان الوفيان , جسمها وروحها , فطقا منهما ما طفا , ورسب ما رسب.

وفي صباح تلك الليلة عثر رجال الشرطة بجثة الفتاة الشهيدة فعرفوها , وعادوا بها الى منزل سيدها .. فبكاها بكاء كثيراً وندم على ما اساء به إليها من طردها وازعاجها , ثم أمر بدفنها , ولم يبق في يده من آثارها غير حقيبتها.
مرت الأيام تلو الأيام , وجاءت الحوادث إثر الحوادث , وظهر للرجل من أخلاق ابنته وطباعها , وتهتكها واستهتارها ,ما لم يكن يعرفه من قبل, حتى ضاق بأمرها ذرعاً , وجلس في غرفته في إحدى الليالي يفكر فيما ساق إليه الدهر من خطوبة ورزاياه , ثم ألم به الضجر, فقام إلى صندوقه يفتش عن شيء يتلهى به , فعثر بتلك الحقيبة, ولم يكن قد فتحها قبل اليوم , فإنه ليقرأ إذ عثر بتلك الكلمة الأخيرة التي كتبتها الفتاة على شاطئ النهر قبل موتها , فما اتى على آخرها حتى عرف كل شيء فسقط مغشياً عليه يعالج من الحزن والألم ما يعالج المحتضر من سكرات الموت.
وما استفاق من غشيته حتى صار يهذي هذيان المحموم , ولبث على هذه الحال بضعة أشهر , يمرض ثم يبل , ثم يمرض ثم يبل , حتى ادركته رحمة الله فمرض مرضاً لم ينقض الا بانقضاء أجله.

فيا أيها الوالد المجهول , الذي قذف بتلك الفتاة البائسة في بحر هذا الوجود الزاخر , اعلمت قبل ان تفعل فعلتك التي فعلت انك ستبرز الى هذا العالم فتاة تلاقي شقاءة وآلامه مالا قبل لها باحتماله؟

ويا أيها الآباء العظماء : ان كنتم تريدون ان تسلموا بناتكم الى هذه المدينة الغربية تتولى شأنهن , وتكفل لكم تربيتهن , فانتزعوا من رزأكم الدهر فيهن . وفجعكم في أعراضهن وقفتم أمام ذلك المشهد هادئين مطمئنين , لا تتعذبون ولا تتألمون.

ويا أيها الناس جميعاً : لا تحلفوا بعد اليوم بالانساب والأحساب , ولا تفرقوا بين تربية الأكواخ وتربية القصور , ولا تعتقدون ان الفضيلة وقف على الأغنياء وحبائس على العظماء , فقد علمتم ما اضمر الدهر في طيات احداثه من رذائل الشرفاء وفضائل اللقطاء.

من أختكم بالله ريمــــــا:26:

تقبلو مروري
0
664

يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.

تسجيل دخول

خليك أول من تشارك برأيها   💁🏻‍♀️