خلق الله تعالى النفس البشرية قابلةً للتزكية والتقويم، وصالحةً لأَنْ تُقاد بسلاسل العبر إلى عبادة ربها وخالقها، ومنعها من اللذة والشهوة المهلكة، وركَّب سبحانه في الفطرة توحيدَه واختياره، وخلق القلب يحب الحقَّ ويريده ويطلبه، فإذا عرضت له إرادة الشر طلَبَ دفْعَها؛ لأنها تفسده كما يفسد الدَّغَل الزرع، فإذا أهملت شردَت وجمَحَت، ولم يظفر بها بعدُ، والناجي يومَ القيامة هو مَن لا يغفل عن تذكيرها وردِّها عن غَوايتها.
وتأمل - أيها القارئ الكريم - كيفَ أقسم الله تعالى في مطلع سورة الشمس أحدَ عشر قسمًا بشيء من العالم العلوي والعالم السفلي، وبما هو آلة التفكُّر؛ وهي النفس المفلحة وغيرها من النفوس الفاجرة، ثم قال سبحانه جواب القسم: ﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ﴾ ؛ أي: لقد أفلَح مَن طهَّر نفسه من الذنوب، ونقَّاها من العيوب، ورقاها بطاعة الله وصالح الأعمال، وعلاها بالعلم النافع والعمل الصالح، وخاب وخسر من دنَّس نفسها بالرذائل والعيوب، واقتراف الذنوب، وكل ما يشينها.
فلكل داء دواء، ولكن حتى يصيب دواءُ الداء يجب أن نفهم تلك الحقائق، ونعمل بموجبها، ونرفعها إلى مستوى الحقيقة الإيمانية الكبرى، التي تصغر معها كلُّ قيم الأرض، وتذوب في حرارتها كلُّ عوائقها، فالحياة الدنيا إنما تعظم في العين وفي الحس حين تقاس بمقاييسها هي، ولكنها حين تُوزنُ بميزان الآخرة تبدو شيئًا زهيدًا تافهًا: لعبًا، ولهوًا، وزينة، وتفاخرًا، وتكاثرًا، ولكن ما أسهل هذا بالدعوى! وما أصعبَه بالفعل! وعند الامتحان يُكرَمُ المرءُ أو يُهان!
وحتى تستقرَّ تلك الحقائق في القلب، وتظهر في واقع الناس، وتطبق وَفْقَ منهج الإسلام الحركي الواقعي، الذي يُواجِهُ حواجزَ النفس والإدراك والرؤية الخاطئة بوسائل فعَّالة يسهل تطبيقُها، وهذا أعظم ما في المنهج الإسلامي: أنه حي واقعي، فاحرص - سلمك الله - على العمل بما سأذكره لك إن أردت النجاة غدًا من عذاب الله
ومن الوسائل الشرعية الفعَّالة للتغلب على فتن الدنيا أمور كثيرة:
منها: تدبُّر القرآن الكريم وما قصَّه الله تعالى علينا من خبر القرون من قبلنا، قال الله تعالى حكاية عن قارون وما ملكه من كنوز: ﴿ إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ * وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ﴾ إلى قوله تعالى: ﴿ فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ * فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ ﴾ ، وحذَّر سبحانه من الفرح بالدنيا، وبيَّن أن فرح المؤمن إنما يكون بأعمال الصالحة، وليس بعَرَضٍ من الدنيا قلَّ أو كثر؛ قال تعالى: ﴿ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ﴾ ، وقال الله جل وعلا: ﴿ أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ ﴾ ، وقال: ﴿ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ﴾ .
"فبهذا الفضل الذي آتاه الله عبادَه، وبهذه الرحمة التي أفاضها عليهم من الإيمان؛ فبذلك وحدَه فليفرحوا.
فهذا هو الذي يستحقُّ الفرح، لا المال ولا أعراض هذه الحياة، إن ذلك هو الفرح العلوي الذي يطلق النفس من عقال المطامع الأرضيَّة والأعراض الزائلة، فيجعل هذه الأعراض خادمةً للحياة لا مخدومة، ويجعل الإنسان فوقها وهو يستمتع بها لا عبدًا خاضعًا لها، والإسلام لا يحقر أعراضَ الحياة الدنيا ليهجرها الناس ويزهدوا فيها، إنما هو يزنها بوزنها؛ ليستمتعَ بها الناس وهم أحرار الإرادة طلقاء اليد، مطمحُهم أعلى من هذه الأعراض، وآفاقهم أسمى من دنيا الأرض، الإيمان عندهم هو النعمة، وتأدية مقتضيات الإيمان هي الهدف، والدنيا بعد ذلك مملوكة لهم لا سلطان لها عليهم".
ومنها: التجهُّز للرحيل، كما اتفقت على ذلك وصايا الأنبياء وأتباعهم، قال مؤمن آل فرعون: ﴿ يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ ﴾ ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((ما لي وللدنيا؟! إنما مثلي ومثل الدنيا كمثل راكبٍ قال في ظل شجرة، ثم راح وتركها))، وفي صحيح البخاري (6416) عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما، قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي، فقال: ((كن في الدنيا كأنك غريب، أو عابر سبيل)) وكان ابن عمر، يقول: (إذا أمسيتَ فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخُذْ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك)؛ صحيح البخاري (8/ 89).
وقال علي بن أبي طالب: (ارتحلت الدنيا مدبرةً، وارتحلتِ الآخرة مقبلةً، ولكل واحدة منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا؛ فإن اليومَ عمل ولا حساب، وغدًا حساب ولا عمل).
فالشعور بقُرب الرحيل، وسرعة انقضاء الدنيا، وتصور النفس في عداد الراحلين - يبعث على الاستعداد لدار البقاء، والمبادرة لاغتنام الفرص، والمسابقة في الأعمال الصالحة.
ومنها: تذكُّر الموت بزيارة المقابر، وحضور الجنائز، وتذكُّر مَن مضى من الأقارب والمعارف والإخوان، وكيف كان رحيلهم، ومجاهدة النفس على عدم التماهي مع الدنيا؛ "فالاستغراق في شهوات الدنيا، ورغائب النفوس، ودوافع الميول الفطرية هو الذي يشغل القلب عن التبصُّر والاعتبار، ويدفع بالناس إلى الغرق في لُجَّة اللذائذ القريبة المحسوسة، ويحجب عنهم ما هو أرفع وأعلى، ويغلِّظ الحس فيحرمه متعة التطلع إلى ما وراء اللذة القريبة، ومتعة الاهتمامات الكبيرة اللائقة بدور الإنسان العظيم في هذه الأرض، واللائقة كذلك بمخلوق يستخلِفُه الله في هذا الملك العريض.
ولما كانت هذه الرغائبُ والدوافع - مع هذا - طبيعيَّة وفطرية، ومكلفة من قبل البارئ جل وعلا أن تؤدي للبشرية دورًا أساسيًّا في حفظ الحياة وامتدادها، فإن الإسلام لا يُشير بكبتها وقتلها، ولكن إلى ضبطِها وتنظيمها، وتخفيفِ حدَّتِها واندفاعها، وإلى أن يكون الإنسان مالكًا لها، متصرفًا فيها، لا أن تكون مالكةً له متصرِّفةً فيه، وإلى تقويةِ روح التسامي فيه، والتطلع إلى ما هو أعلى.
وفي آية واحدة يجمعُ السياق القرآني أحبَّ شهوات الأرض إلى نفس الإنسان: النساء، والبنين، والأموال المكدَّسة، والخيل، والأرض المخصبة والأنعام، وهي خلاصة للرغائب الأرضية، إما بذاتها، وإما بما تستطيع أن توفِّره لأصحابها من لذائذ أخرى.
وفي الآية التالية يعرض لذائذ أخرى في العالم الآخر: جنات تجري من تحتها الأنهار، وأزواج مطهرة، وفوقها رضوان من الله، وذلك كله لمن يمدُّ ببصره إلى أبعد من لذائذ الأرض، ويصل قلبه بالله".
ومنها: العمل على استقرار حقيقة الحياة الدنيا في النفس، وأن وجودَها على الأرض موقوت، محدودة بأجل ثم تنتهي حتمًا، فالصالحون يموتون والطالحون يموتون، والمجاهدون يموتون والقاعدون يموتون، المُستعْلون بالعقيدة والمُستذلُّون للعبيد كلُّهم يموتون، يستوي مَن يأبَى الضَّيم ومَن هو خوَّار رِعْديدٌ جبان! الحريص على الحياة بأي ثمن وعالي الهمة ذو الاهتمامات الكبيرة والأهداف العالية النبيلة، ويموتُ التافهون أصحاب المتاع الرخيصِ والعظماءُ، فلَحِق رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى، وهلك أبو جهل، وشتَّان ما بين موتةٍ وموتة، فالكلُّ يموت، مات إمام الدنيا شيخ الإسلام والمسلمين وهلك أعداؤُه بغصَّتِهم، وعاشت كتب أبي عباس حجة لله على العباد، وهاديةً إلى صراط الله المستقيم، وآية وبرهانًا على نبوة سيد الخلق أجمعين صلى الله عليه وسلم.
ومنها: تأمل أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الكثيرة التي تبين حقيقة الدنيا، وحسبنا أن ننبِّه على بعضها:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَن أصبح منكم آمنًا في سربه، معافًى في جسده، عنده قوتُ يومه، فكأنما حِيزت له الدنيا))؛ رواه الترمذي، وابن ماجه، وحسَّنه الألباني.
وعن أبي هريرة قال: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، وهو يقول: ((الدنيا ملعونة، ملعون ما فيها، إلا ذكرَ الله، وما والاه، أو عالمًا، أو متعلِّمًا))؛ أخرجه الترمذي (2323)، وابن ماجه (4112)، وحسنه الألباني.
وعن كعب بن مالك الأنصاري، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما ذئبان جائعان أُرسِلَا في غنم بأفسدَ لها من حرصِ المرء على المال والشرف لدينه))؛ رواه أحمد، والترمذي، وقال: هذا حديث حسن صحيح.
وفي صحيح مسلم (2957) عن جابر بن عبدالله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرَّ بالسوق، داخلًا من بعض العالية، والناس كنفته، فمرَّ بجَدْيٍ أسكَّ ميت، فتناوله فأخذ بأذنه، ثم قال: ((أيُّكم يحب أن هذا له بدرهم؟))، فقالوا: ما نحبُّ أنه لنا بشيء، وما نصنع به؟ قال: ((أتحبون أنه لكم؟))، قالوا: والله لو كان حيًّا، كان عيبًا فيه؛ لأنه أسك، فكيف وهو ميت؟ فقال: ((فوالله لَلدنيا أهونُ على الله من هذا عليكم)).
ومنها: الاستعانةُ بالصبر والصلاة، والاستعداد لبذل التضحيات التي تتطلَّبها مكابدة ومجاهدة فتن الدنيا؛ قال الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ ، فالصبر هو المعونة العظيمة على كل أمر، ولا أملَ لغير الصابر أن يدرك شيئًا من الفضائل، لا سيما ترك الشهوات والمداومة المستمرة على جهاد النفس، فهذه أمور تَفتقِرُ أشدَّ الافتقار إلى تجرُّع مرارة الصبر، فمَن لازمه فاز ونجا، ومن ردَّه الإلف والعادةُ والمشقة، لم يُدرِك شيئًا، وحصل على الحرمان؛ ففتنُ الدنيا تنجذب إليها دواعي النفس ونوازعُها، خصوصًا إن كانت في قدرة العبد، ومن ثَمَّ فلا يمكن تركُها إلا بصبر جميل، وكفِّ دواعي القلب ونوازع النفس لله تعالى، واستعانة بالله على العصمة منها.
والحاصل: أن العبد لن يتغلَّب على ضعف القُوى النفسانيَّة والجسدية، وموجبها من التسخُّط وضعف الإرادة، إلا بمقاومتها بالصبر لله والصلاة والتوكل عليه، وصدق اللجوء والافتقار إليه، والغنى به على الدوام، فجميع الخلق مضطرُّون للصبر في كل حالة من أحوالهم، حتى يصبحَ الصبرُ لنا وصفًا ملازمًا وملكةً؛ فنستحق معية الله الخاصة، ومحبته ومعونته، ونصره وقربه الخاص، ولو لم يكن في الصبر منقبةٌ عظيمة للصابرين إلا هذه الفضيلة لَكفَى بها نعمةً؛ أعني: معيتَه الخاصة بالمؤمنين ﴿ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ ، كيف ومِن وراء ذلك توفيقُه وتسديده، وتهوين المشاق والمكاره، وتسهيل كل عسير وحزن؟
فإن عجزت عن كل ما ذكرتُه لك، فليس أقل من أن تَحْذَر من داء قديم موغل في القِدم، وهو بيع الآخرة بالدنيا، ومِن أظهر صوره أكلُ الحرام دون مبالاة، وقد تنبَّأ النبي صلى الله عليه وسلم بهذا، ولا يخفى على أحدٍ انتشار ذلك المرض الفتَّاك في أهل زماننا؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليأتيَنَّ على الناس زمان، لا يبالي المرء بما أخذ المال، أمن حلال أم من حرام؟)).
أما المؤمن، فله شأنٌ آخر؛ فإنه إن حاز الدنيا، فإنه يحوزُها في يده لا في قلبه، ويمتلكها ولا تملكه، ويضحي بها في سبيل آخرته، لا أن يبيع الآخرة من أجل الدنيا، وأن يطلب الآخرة بالدنيا، لا أن يطلبَ الدنيا بالآخرة، وأن يفرِّغ قلبَه مما خلَتْ منه يداه، فهذا هو مَن يُرجَى له حسن العاقبة في الدنيا والآخرة، وقد لخَّص تلك الوصية يحيى بن معاذ في قوله: "الدنيا أميرُ مَن طلبَها، وخادمُ مَن ترَكها، الدنيا طالبةٌ ومطلوبة، فمَن طلبها رفضته، ومن رفضها طلبتْه، الدنيا قنطرةُ الآخرة فاعبروها ولا تعمروها، ليس من العقل بنيان القصور على الجسور، ومن طلَّق الدنيا فالآخرة زوجتُه، فالدنيا مطَلَّقة الأكياس، لا تنقضي عدتُها أبدًا، فخلِّ الدنيا ولا تذكرها، واذكرِ الآخرةَ ولا تنسها، وخُذْ من الدنيا ما يبلِّغك الآخرةَ، ولا تأخذْ من الدنيا ما يمنعك الآخرة".
الختام:
وقبل الختام أنبه القارئ الكريم إلى طبيعة الإسلام الذي ندين جميعًا الله به، الذي قد تخفى حقيقته عن كثير من المسلمين - ولعل هذا هو السبب الحقيقي فيما نحن فيه من تأخر ومحن - وهو أن الله تعالى جعل الدخول في الإسلام صفقة بين اثنين: الله سبحانه وتعالى الملِك الحق المبين، وبين عبده المسلم؛ ﴿ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيم ﴾ ؛ فانظر إنها بيعةٌ مع الله وهو المشتري سبحانه، وعبده الضعيف الهزيل هو البائع، فلا يبقى بعدَها للعبد شيء من نفسه ولا في ماله يمنعُه من الله الملك الحق، والمقابل ثمنٌ محدَّدٌ معلوم، هو رضا الله والجنة، وهو ثمن لا تعدله تلك السلعة المزجاة، ولكنه فضلُ الله ومَنُّه، وهذا هو الفوز الذي لا فوز أكبر منه ولا أجل، فهو السعادة الأبدية، والنعيم المقيم، والرضا من الله الذي هو أكبر من نعيم الجنات.
وإن لم يُسْعفْك عقلك في تصور مقدار تلك الصفقة، فانظر - سلمك الله - إلى المشتري من هو؟ وهو الله جل جلاله وتقدَّست أسماؤه، وإلى العوض، وهو جنات عرضُها السموات والأرض، التي فيها ما لا عينٌ رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وإلى الثمن المبذول، وهو النفس والدنيا بما فيها، وإلى من بلَّغ عقد التبايع، وهو سيدُ ولد آدم وأشرف الرسل، وإلى الكتب التي رُقِّمت فيها البيعة، وهي كتبُ الله الكبار، المنزلة على أفضل الخلق وأُولي العزم من الرسل؛ "فوالله لو كان للإنسان ألف نفْس، تذهب نفسًا فنفسًا في سبيل الله، لم يكن عظيمًا في جانب هذا الأجر العظيم؛ ولهذا لا يتمنَّى الشهداء بعدما عاينوا من ثواب الله وحسن جزائه إلا أن يردُّوا إلى الدنيا، حتى يُقتلوا في سبيله مرة بعد مرة، ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ ﴾ .
هؤلاء هم الموفَّقون الذين باعوا أنفسهم وأرخصوها وبذلوها؛ طلبًا لمرضاة الله، ورجاء لثوابه، فهم بذلوا الثمن للمليء الوفيِّ الرؤوف بالعباد، الذي مِن رأفته ورحمته أن وفَّقهم لذلك، وقد وعد الوفاء بذلك، فقال: ﴿ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ﴾ ، وفي هذه الآية أخبر أنهم اشتروا أنفسَهم وبذلوها، وأخبر برأفته الموجبة لتحصيل ما طلبوا، وبذل ما به رغبوا، فلا تسألْ بعد هذا عما يحصل لهم من الكريم، وما ينالهم من الفوز والتكريم".
"والذين باعوا هذه البيعةَ، وعقدوا هذه الصفقة هم صفوةٌ مختارة، ذاتُ صفات مميَّزة، منها: ما يختصُّ بذوات أنفسهم في تعاملها المباشر مع الله في الشعور والشعائر، ومنها: ما يختص بتكاليف هذه البيعة في أعناقهم من العمل خارجَ ذواتهم؛ لتحقيق دين الله في الأرض من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والقيام على حدود الله في أنفسهم وفي سواهم: ﴿ التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ ...
إنه نص رهيب! إنه يكشف عن حقيقة العلاقة التي تربط المؤمنين بالله وعن حقيقة البيعة التي أعطوها - بإسلامهم - طَوال الحياة، فمن بايع هذه البيعةَ ووفَّى بها، فهو المؤمن الحق الذي ينطبق عليه وصف (المؤمن)، وتتمثل فيه حقيقة الإيمان، وإلا فهي دعوى تحتاج إلى التصديق والتحقيق! حقيقة هذه البيعة - أو هذه المبايعة كما سمَّاها الله كرمًا منه وفضلًا وسماحة - أن الله سبحانه قد استخلص لنفسه أنفُسَ المؤمنين وأموالهم، فلم يَعُدْ لهم منها شيء، لم يعد لهم أن يستبْقوا منها بقية لا ينفقونها في سبيله.
لم يَعُد لهم خيار في أن يبذلوا أو يمسكوا، كلَّا، إنها صفقة مشتراة، لشاريها أن يتصرَّف بها كما يشاء، وفقَ ما يفرض ووفق ما يُحدِّد، وليس للبائع فيها من شيء سوى أن يمضي في الطريق المرسوم، لا يتلفَّت ولا يتخيَّر، ولا يناقش ولا يجادل، ولا يقول إلا الطاعة والعمل والاستسلام، والثمن: هو الجنة، والطريق: هو الجهاد والقتل والقتال، والنهاية: هي النصر أو الاستشهاد.
ولقد كانت هذه الكلمات تطرق قلوبَ مستمعيها الأولين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتتحوَّل من فورها في القلوب المؤمنة إلى واقع من واقع حياتهم، ولم تكن مجرد معانٍ يتملَّوْنها بأذهانهم، أو يحسونها مجردة في مشاعرهم، كانوا يتلقونها للعمل المباشر بها؛ لتحويلها إلى حركة منظورة، لا إلى صورة متأملة... هكذا أدركها عبدالله بن رواحة رضي الله عنه في بيعة العقبة الثانية، قال محمد بن كعب القُرَظي وغيره: قال عبدالله بن رواحة رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم (يعني ليلة العقبة): اشترِطْ لربك ولنفسك ما شئت، فقال: ((أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئًا، وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسَكم وأموالَكم))، قال: فما لنا إذا نحن فعلنا ذلك؟ قال: ((الجنة))، قالوا: ربح البيع، ولا نَقيلُ ولا نستقيل.
هكذا "ربح البيع ولا نقيل ولا نستقيل"، لقد أخذوها صفقةً ماضية نافذةً بين متبايعين، انتهى أمرها، وأمضي عقدُها، ولم يَعُد إلى مردٍّ من سبيل: "لا نقيل ولا نستقيل"؛ فالصفقة ماضيةٌ لا رجعةَ فيها ولا خيار، والجنة ثمن مقبوض لا موعود! أليس الوعدُ من الله؟ أليس الله هو المشتري؟ أليس هو الذي وعد الثمن وعدًا قديمًا في كل كتبه: ﴿ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ ﴾ ؟ أجل! ومن أوفَى بعهده من الله؟".
تمَّ بحمدِ اللهِ وحولهِ وقوَّته
قال الحسن: قد أفلح مَن زكَّى نفسه وحملها على طاعة الله، وقد خاب من أهلكها وحملها على معصية الله، وقاله قتادة. وقال ابن قتيبة: (يريد أفلح مَن زكَّى نفسه؛ أي: نمَّاها وأعلاها بالطاعة، والبر، والصدقة، واصطناع المعروف، ﴿ وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ﴾ ؛ أي: نقصها وأخفاها بترك عمل البر، وركوب المعاصي)؛ التبيان في أقسام القرآن (ص: 21)، وقال في الجواب الكافي (ص: 78): "ومن عقوباتها - أي المعاصي -: أنها تصغر النفس، وتقمعها، وتدسيها، وتحقرها، حتى تكون أصغرَ كلِّ شيء وأحقره، كما أن الطاعة تنمِّيها وتزكيها وتكبرها، قال تعالى: ﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ﴾ ، والمعنى: قد أفلح مَن كبرها وأعلاها بطاعة الله وأظهرها، وقد خسر من أخفاها وحقرها وصغَّرها بمعصية الله.
فالعاصي يدس نفسه في المعصية، ويخفي مكانها، يتوارى من الخلق من سوء ما يأتي به، وقد انقمع عند نفسه، وانقمع عند الله، وانقمع عند الخلق، فالطاعة والبر تكبرُ النفس وتعزُّها وتُعْليها؛ حتى تصير أشرفَ شيء وأكبره، وأزكاه وأعلاه، ومع ذلك فهي أذلُّ شيء وأحقره وأصغره لله تعالى، وبهذا الذلِّ حصل لها هذا العز والشرف والنمو، فما أصغرَ النفوسَ مثلُ معصية الله، وما كبرها وشرفها ورفعها مثلُ طاعة الله".
قال الأصمعي: "هذا أبدع بيت قالته العرب".
في ظلال القرآن (3/ 1799).
رواه البخاري (8/ 89) معلَّقًا.
في ظلال القرآن (1/ 373) باختصار يسير.
قد حقَّق شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه الفذ "الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح" أن وجود الأئمة الأعلام ومصنفاتهم الماتعة من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم، ودلائل الإعجاز، ومن الآيات التي يظهرها الله تصديقًا لرسوله.
"يتكرَّر ذكرُ الصبر في القرآن كثيرًا؛ ذلك أن الله سبحانه يعلم ضخامة الجهد الذي تقتضيه الاستقامة على الطريق بين شتَّى النوازع والدوافع، والذي يقتضيه القيام على دعوة الله في الأرض بين شتى الصراعات والعقبات، والذي يتطلَّب أن تبقى النفس مشدودة الأعصاب، مجندة القُوَى، يقظةً للمداخل والمخارج.
ولا بد من الصبر في هذا كله؛ لا بد من الصبر على الطاعات، والصبر عن المعاصي، والصبر على جهاد المشاقِّين لله، والصبر على الكيد بشتى صنوفه، والصبر على بطء النصر، والصبر على بُعْد الشُّقَّة، والصبر على انتفاش الباطل، والصبر على قلة الناصر، والصبر على طول الطريق الشائك، والصبر على الْتواءِ النفوس، وضلال القلوب، وثقلة العناد، ومضاضة الإعراض.
وحين يطول الأمد، ويشق الجهد، قد يضعف الصبر، أو ينفد، إذا لم يكن هناك زاد ومدد، ومن ثم يقرن الصلاة إلى الصبر؛ فهي المَعين الذي لا ينضب، والزاد الذي لا ينفد؛ المعين الذي يجدِّد الطاقة، والزاد الذي يزوِّد القلب، فيمتد حبل الصبر ولا ينقطع، ثم يضيف إلى الصبر الرضا والبشاشةَ، والطمأنينة والثقة واليقين.
إنه لا بد للإنسان الفاني الضعيف المحدود أن يتصل بالقوة الكبرى؛ يستمدُّ منها العون حين يتجاوز الجهد قواه المحدودة، حينما تواجهه قُوى الشر الباطنة والظاهرة، حينما يثقل عليه جهد الاستقامة على الطريق بين دفع الشهوات وإغراء المطامع، وحينما تثقل عليه مجاهدة الطغيان والفساد وهي عنيفة، حينما يطول به الطريق وتبعد به الشُّقَّة في عمره المحدود، ثم ينظر فإذا هو لم يبلغ شيئًا وقد أوشك المغيب، ولم يَنَلْ شيئًا وشمس العمر تميل للغروب، حينما يَجدُ الشر نافشًا، والخير ضاويًا، ولا شعاع في الأفق، ولا مَعْلَم في الطريق... هنا تبدو قيمة الصلاة، إنها الصلة المباشرة بين الإنسان الفاني والقوة الباقية، إنها الموعد المختار لالتقاء القطرة المنعزلة بالنبع الذي لا يغيض، إنها مفتاح الكنز الذي يغني ويقني ويفيض، إنها الانطلاقة من حدود الواقع الأرضي الصغير إلى مجال الواقع الكوني الكبير، إنها الروح والندى والظلال في الهاجرة، إنها اللَّمسة الحانية للقلب المتعب المكدود، ومن هنا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان في الشدة قال: ((أرحنا بها يا بلال)) ويكثر من الصلاة إذا حَزَبه أمر؛ ليكثر من اللقاء بالله".
منقول
بحر الاماني ... @bhr_alamany_5
عضوة جديدة
يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.
أسماء :أهم شي ندعو الله الثبات ..ندعو الله الكفايه وندعوالله على كل حال المهم كما خططنا للدنيا نخطط للآخره ..ونسآل الله حسن الخاتمه على مايحب ويرضاأهم شي ندعو الله الثبات ..ندعو الله الكفايه وندعوالله على كل حال المهم كما خططنا للدنيا نخطط...
اللهم آمين ،
الصفحة الأخيرة
وندعوالله على كل حال
المهم كما خططنا للدنيا نخطط للآخره ..ونسآل الله حسن الخاتمه
على مايحب ويرضا