المشتاقة الى الجنه
الجزء الثانى عشر



أول مرة في حياتي أركب طائرة... أشعر بأنني أحلق بين السماء والأرض بلا ثوابت أو رواس، أتعمق داخل السحب وتبتعد عني الأرض شيئاً فشيئاً حتى تغيب عن ناظري، فلا أرى سوى سماء زرقاء من مختلف الجهات وقطع ضخمة من السحب، ترى ه لمعنى هذا أنني قريبة من الله... أيكون دعائي وأنا على الأرض... إذن فلأدع وأتوسل إلى ربي أن يشفيني عبد الرحمن ابن أخي خالد ويزيح هذه الغمة من صدره... سألني شقيقي صالح الراكب بجواري في الطائرة وكأنه يقرأ أفكاري:
- هل تعتقدين أن عبد الرحمن سيشفى؟
تنهدت بقوة وأنا ألملم أطراف عباءتي السوداء...
- أرجو ذلك... فلندع الله يا صالح أن يشفيه والله لا يخيب رجاء عبد إذا دعاء.
بسمل صالح وتمتم بمناجاة طويلة لم أسمعها ثم غرق كل منا في أفكاره....

تداعت ذكرياتي القريبة حينما هاتفني خالد قبل ليال. سألته بلهفة إذا قد استطاع تدبير السفر إلى الخارج لأجراء الجراحة لابنه عبد الرحمن... أجابني بصوت يخيم عليه اليأس والقنوط:
- أحلام أنا بحاجة إليك، بل في أمس الحاجة لوجودك إلى جوراي، فبعد الرحمن في حالة صحية حرجة جداً ولم أتمكن من تدبير المبلغ اللازم للسفر.. زوجتي أيضاً مريضة وترقد الآن في المستشفي، فهي حامل بالشهر الثامن كما تعلمين، لكنها تعاني من نزيف حاد وهبوط في الضغط وحالتها حرجة أيضاً فهي تعلم حال جيداً وتعلم أنه يموت...
صرخت هلعاً:
- لا يا خالد... لا تقل هذا... إن عبد الرحمن سيعيش عمراً مديداً بفضل الله ورحمته فلا تتشاءم يا أخي رجاء...
أجابني بهدوء:
- إنك رقيقة يا أحلام، وتحاولين تجميل الحقائق، لكننا نعلم جيداً أنه لا أمل... أحلام هل تستطيعين أن تحضري إلى تبوك وتمكثي لفترة بسيطة حتى تتحسن الأحوال أو يأخذ الله أمانته..؟
امتلأ قلبي بالأحزان فلم أعرف بماذا أجيب... أردف خالد قائلاً:
- أعرف أن أبي سيعارض مجيئك لكن هل ستحاولين...؟ لا أحد إلى جوارنا هنا، فزوجتي ليس لها شقيقات، وأمها متوفاة كأمي ولا صداقات قوية تتيح لنا أن نثقل على الآخرين...إنني وحدي في البيت مع الأطفال وإجازتي التي أخذتها من مدير المدرسة قاربت على الانتهاء وأنا مضطر أن أعود خلال أسبوع...
حاولت إخفاء نبرة الحزن من صوتي وأنا أقول:
- عموماً الإجارة الصيفية على الأبواب... أسبوعان على الأكثر وتبدأ الإجازة... خالد أعدك بأنني سأحاول مع أبى ولن يرفض مساعدة إنسانية كهذه...
أحسست به يبتسم في سخرية على الطرف الآخر لكنني تابعت:
- لن أتأخر يا خالد في مساعدة بسيطة، سأحاول بكل جهودي...
قامت زوبعة في البيت ليس لها أول ولا آخر منذ أخبرت أبي بطلب أخي خالد... انتفخت أوداجه وبرزت رقبته نافرة جلية وهو يصرخ:
- أنت فتاة... ألا تعلمين ما معني فتاة... يعني أي شئ يخدشك ويقضي على سمعتك وسمعة أهلك...
- لكنني يا أبي سأذهب عند أخي وليس عند أحد غريب...
- ولو .. أي مكان تغادرين فيه بيت أهلك هو خطر عليك وأي خطر... لن تخرجي من هذا البيت إلا لبيت زوجك، وليتصرف خالد كما كان يتصرف دائما بدوننا... ألم يشعر بالحاجة إلينا سوى الآن... الآن فقط...
- إننا أهله يا أبي... لمن يلجأ إذا لم يلجأ الابن إلى أهله... فالظفر لا يخرج من اللحم...
- إنسي هذا الموضوع واغربي عن وجهي وإلا حرمتك من التدريس...

انكفأت أبكي بحرارة وأنا أتصور خالد يواجه الدنيا بمفرده، بلا أب ولا أم ولا أخوة وكأنه يتيم لا حول له ولا قوة... أتق الله يا أبي وقف إلى جوار ابنك ولو مرة واحدة في حياتك ليذكروها لك بعد الممات...

لقد رفضت مساعدته وهو في أحلك الأوقات وأتعس الظروف وقبضت يدك عنه وأدرت ظهرك له... لا تقض عليه يا أبي بهذه الضربة القاصمة بأن تمنع أخوته من مساعدته، فلن يضيرك في شئ أن سافرت له ووقفت إلى جواره في مأساته المزدوجة باسمك وتحت رعايتك... وتأكد أنني شريفة طاهرة سأحفظك في أي مكان أحل فيه فوق أي أرض وتحت أي سماء فلا تخذلني يا أبي..

عجزت عن النطق بحرف مما يدور في أعماقي ومضيت أنهنه في بكاء خافت يحمل عجزي وضعفي ويأسي... حتى تدخلت زوجة أبي... سمعتها تناقشه وتقنعه ثم تقترح أن يرافقني أخي صالح في غدوي ورواحي... علا صوته في البداية حتى ملأ فضاء الحجرة من حولي ثم تضاءل شيئا فشيئاً حتى خفت، فترقبت قدومه ليعلن لي موافقته المشروطة... إنها ليست المرة الأولى التي تتدخل فيها زوجة أبي لصالحي، فقد تدخلت مرات كثيرة أذكر منها حين رفض أبي تعييني في مدرسة بعيدة عن مدينتنا، فأقنعته حتى وافق... وقتها أيقنت بأن الأب لا يحب أولاده إلا إذا كان يحب والدتهم، وربما بل بالتأكيد أبي يحب زوجته...

جاءني بعد لحظات قائلاً:
- استعدي للسفر قريباً... لكن مع أخيك صالح ولمدة قصيرة فقط... أفهمت؟

مرت أيام قبل أن يستأذن صالح من عمله وأستأذن من مديرتي في إجازة اضطرارية قصيرة ثم نحلق في الطائرة...

سمعت صوت الميكرفون يعلن وصول الرحلة إلى تبوك... نزلنا مع أفواج المسافرين وأنا أقبض يد شقيقي بقوة شديدة وكأنه سيهرب مني...
لفحتني الأجواء الحارة بمجرد خروجي من جو الطائرة المكيف... إن الأجواء متشابهة في بلادي، لكن إحساس المرء قوي بما هو غريب عنه أكثر من القريب...

رأينا خالد في المطار... غصة ألم في حلقي شعرتها حينما اقترب منا، لقد نحل عوده وشحب وجهه وذبلت عيناه، بيد أن الألم الأكبر أحسست به حينما رأيت طفله عبد الرحمن في المستشفي... لم أشعر إلا بدموعي تجري حارة على خدي، لقد هالني مرآه لدرجة كبيرة... فقد كان كومة عظام ملقاة على سرير، لم يبق فيه سوى عينين سوداوين كبيرتين... خالد كان على حق... إن عبد الرحمن يموت لكن ببشاعة وبطء...

استقبلتني زوجة أخي خالد بنواح أفزعني رغم أنني توقعته... هي الأخرى ترقد على سرير المرض هزيلة ناحلة إلا من حزن كبير تشي به عيناها... رباه ألهذا الحد تنهار الأسرة وتتحطم... رباه إنني ابتهل إليك أن تشفي عبد الرحمن لتعود أسرة أخي كما كانت وتعود الابتسامة إليهم من جديد... لكن أحقاً كنت أمل؟ أكان لدي رجاء بأن تحدث معجزة في هذا الحطام البشري؟ لكنه يحيي العظام وهي رميم وهو قادر على كل شئ سبحانه... الوحيد الذي كان لاهيا مبتسما غير عابئ بشي هو ريان.... إنه لا يدري بالمأساة المروعة التي تحيط بالأسرة... لا يدري شيئا عن نعيق البوم وعن طيور الموت القادمة لتخطف شقيقة. أحسست بألم شديد يعصف بكياني... لماذا بخلت عليه يا أبي بحفنة من النقود لينقذ حياة ابنه أو حتى ليلقيها في البحر أو ليحرقها إن شاء، فمهما يكن من أمر تكون قد فعلت ما يجب على أي أب أن يفعله وضميره مرتاح... لكن ما فعلته يا أبي يخالف كل الشرائع والقوانين وسنن الحياة وضمائر البشر... لقد قتلت ابنك مرتين... مرة برفضك مساعدته والمرة الأخرى بتنكرك لإحساس الأبوة داخلك وكأنه ليس ابنك ولست أباه...

حادثت شقيقتي بدرية عبر الهاتف وأنا أبكي... وما لا تعبر عنه الكلمات ولا تفي به العبارات أحسست به بدرية بأعماقها تدعمه قوة الترابط بيننا. همست لي بأن أتماسك ولا أنهار أمام خالد حتى لا يفقد هو الآخر رباطة جأشه، أوصتني أن أدعمه بالأمل رغم غيابه وأبدد طائر الموت بالوهم والرجاء وأن أعين زوجته المحطمة على تقبل أعباء الحياة... ويحك يا بدرية إن ما تطلبينه منى هو المستحيل بعينه، كيف أبدو رزينة هادئة أمام براءة يغتالها وحش كاسر، أبوه يتمزق لوعة وأمه تتلوى حسرة وألماً... كيف أري الحياة وهي تسلب منه رويداً رويداً ولا أصرخ... أبكي... وانتحب بجنون... أعذريني يا أختاه فالموقف أكبر مني والوضع لا طاقة لي بالتجمل أمامه... لقد نسيت نفسي وقريتي وحبي الوليد... ضاعت قيمة الأشياء وازدادت تفاهتها أمام رهبة الموت القادم...

تحاملت على نفسي ومضيت أرفع من معنويات أخي وزوجته... فوجدت بي زوجته متنفساً لحزنها المكبوت، وعذابها الصارخ ودموعها الحبيسة، فبدأت شيئا فشيئا تتخفف من همومها وتتماثل للشفاء حتى استطاعت العودة إلى البيت على قدميها والصغير لم نملك إزاءه إلا الدموع وآيات من القرآن الكريم أتلوها عليه بصمت شفيف وعينين دامعتين...

حينما تخف وطأة المرض قليلا ينظر لي بعينيه الواسعتين ثم يبتسم بوداعة قائلا بصوت خافت:
- أريد أن ألعب بالكرة...
شئ ما يجثم على صدري.... خالد يختنق بالدمع فلا يجيب فأقول له ببشاشة:
- ستلعب بالكرة إن شاء الله قريباً....
- وريان...؟
- ريان سيلعب معك لكنك ستفوز عليه...
- لكنني متعب ورأسي يؤلمني...
- ستشفى إن شاء الله ولن يعود رأسك يؤلمك...
ثم أدير رأسي إلى الحائط وأبكي... أبكي بصمت وحسرة تجاوبني عيون أخوي خالد وصالح... يهتف خالد بمرارة وهو يضرب الحائط بقبضة يده:
- أشعر بالعجز الشديد... لماذا لم يساعدني أبي وهو يملك الأموال الطائلة... ما نفع أمواله إذا لم تسعد أولاده في حياتهم... تبا لها من أموال...
أتبادل وصالح نظرات صامته حائرة... يتابع بأسي:
- كان هناك أمل كبير بالشفاء بعد العملية الجراحية أخبرني الأطباء أن نسبة الشفاء عالية تصل إلى 90% لكن ماذا أفعل؟ لقد فعلت كل ما في وسعي ولم أستطع استكمال بقية المبلغ... إلهي إنني عاجز... عاجز...
وجلس على أرضية المستشفي الباردة يبكي بمرارة.

حادثنا أبي بضرورة العودة إلى الرياض، قال بأن الحاجة انتفت لوجودي، فقد خرجت زوجة خالد من المستشفي ولم يعد هناك مبرر لبقائي...

ودعتهم وأنا أتجلد وأقاوم كيلا أسفح الدموع كلأنهار... ثم مررنا بالصغيرة في المستشفي... كان يعيش نوبة قاسية من ارتفاع الحرارة الشديد وجسده يتفصد من العرق...

قبلته على جبينه قبلة انحدرت على أثرها الدموع لتبلل وجهه الحبيب وعينيه وفمه الصغير... انتزعني صالح من بين أحضان الطفل وهمس لي بأن أتجلد من أجل خالد الذي ينتظرنا بالخارج...
ودعنا خالد وقد بدا مذهولا ضائعا...

وفي الطائرة بكيت كثيرا لدرجة أنني لم أر الناس من حولي ولا المضيفات ولا أدري أين أجلس وبجوار من؟!

بعد وصولنا البيت بفترة قصيرة، رن جرس الهاتف... لا أدري لماذا شعرت بانقباض النفس... تناولت سماعة الهاتف وأنا أقاوم غثياني.... جاءني صوته.... خالد.... وكأنه قادم من عالم آخر... تماسكت بصعوبة كيلا أتهاوى سألته ونذير الشؤم يقترب أمام عيني....
- كيف حال عبد الرحمن؟
بصوت معدني بارد أجاب:
- لقد أنجبت طفلا...
قبل أن أبارك له، أردف قائلا بنبرات الصوت البارد القاتل:
- وأسميناه عبد الرحمن...
شهقت برعب وأنا أهتف...
- هل تعني ... تعني... أن...؟
- لقد مات عبد الرحمن منذ نصف ساعة فقط...
صرخت بلوعة وأنا أسقط في عالم من فراغ...



وللقصة بقية....................
سمر مر
سمر مر
هـــــــــــلا وغــــــــــــــــــلا بالمشتــــــااااااااقة

الحمدلله على سلامتك

الجزء حزيييين يقطع القلب

لاتتأخرين تراني تحمست مرررررررررره حاولي تنزلين اكثر من جزء لعيوني >>>وحدة واثقة ههههههه
MAY.MAY
MAY.MAY
الحمدلله على السلامة ....ويعطيك العافية..
ننتظر البقية لا تتأخرين علينا..
فراشة الالماس
ويعطيك العافية..
ننتظر البقية لا تتأخرين علينا
جوجو13
جوجو13
ويعطيك العافية.. ننتظر البقية لا تتأخرين علينا
ويعطيك العافية.. ننتظر البقية لا تتأخرين علينا
..
ننتظر