.. بائع الدجاج

الملتقى العام

كنا على قمة من قمم جبل تورغر (و تعني الجبل الأسود) ..
حيث كان الداخل إلى جلال آباد .. يرى سلسلتين من الجبال الممتدة في الأفق ..
(تور غر) الجبل الأسود يطل على الأطراف الشمالية للمدينة و يمتد على طول الطريق
الذي يربطها بكابل ..
و الجبل الأبيض (سبين غر) سلسلة بيضاء تراها في الأفق البعيد .. و تقع على امتدادها
جبال جاجي و تورا بورا..
كنا في تورغر مع أبوالخطاب رحمه الله .. خمسة عشر رجلا ..
أحلنا ليل تلك الجبال إلى نهار .. و أشغلنا سكان الجبل الهادئ ..
حتى أن الشيوعييون كانوا يسألوني في المخابرة عن أبوالخطاب .. من هو و ماذا يريد و
لماذا أتي إلى هنا ..
كان عندي هواية ليلية هي السمر مع الشيوعيين .. أتتبع مخابراتهم و أتندر عليهم .. و
أدخل الرعب في قلوبهم
قلت لهم .. الجواب ما ترون لا ما تسمعون .. سوف ترون أباالخطاب بأعينكم قريبا ..
فكانوا يكيلون السباب و الشتائم فلا أزيد على أن أضحك عليهم
و أٌقول لهم ينبغي أن تتأدبوا معنا .. فربما تكونون في الصباح أسرى عندنا تجلبون
الماء و تغسلون الصحون.
الشاهد .. مو هذي سالفتنا ..
أوشكت الأرزاق أن تنفد .. بل قد نفدت .. و أصبحنا نلاحق زواحف الجبل
من الضبان و الوبر و النيس ..
فنزل أبوالخطاب إلى بيشاور ليجلب الأرزاق .. و بقينا في الجبل ..
نترصد القوافل .. و نقطع الطريق
في أحد الأيام .. لمحت خيال شخص من بعيد تحت أشعة الشمس المحرقة ..
يظهر و يغيب بين الجبال .. تبعته ببصري حتى مر قريبا من مركزنا
فناديته لأتأكد من هويته .. فلما جاء فإذا هو ولد صغير ..
يحمل ست أو ثمان دجاجات و قد ربطهن من أرجلهن و علقهن على كتفه
كان أثر التعب واضحاً على وجهه
فسألته ما شأنك .. قال أنا أبيع الدجاج ..
قلت له في هذا المكان المقطوع .. و الجبال الموحشة التي لا حياة فيها ..
قال ماذا أفعل ؟ .. أطلب الرزق لأمي و إخوتي ..
نحن نسكن في (ككلك) (القرية المهجورة التي تحت الجبل) .. و ليس لنا عائل ..
قلت له : لماذا .. و أين أباك ؟ ..
قال .. و اسمعوا لما قال .. كلمة نزلت على سمعي كالصاعقة ..
الكلمة التي جعلت هذه الحادثة ترسخ في ذهني حتى الساعة ..
و كأنه أمامي الآن و أنا أحادثه .. و الدجاجات على كتفه ..
كنت أظن أنه سيقول أبي شهيد .. أو مات بالملاريا .. أو أنه شيخ عاجز ..
لكنه خالف كل توقعاتي و تفوه بما لم يخطر لي ببال ..
...
قال : أبي كافر !! ..
.. هكذا !! .. بهذه البساطة التي أذهلتني ..
صعقت ..انتفضت .. سرى في جسدي شيء كالكهرباء .. و لم أدر ما أقول ..
ففهم سكوتي .. و تعجبي ..
فعلل كلمته بقوله : إنه هناك .. و أشار إلى جهة مواقع العدو ..
إنه يقاتل مع الشيوعيين .. و رأيته يدافع دمعة كادت تخرج من عينيه لولا أن تداركها
بكمه..
يقول لي هذا و هو يعلم أني أصب الحمم على رأس أبيه ليل نهار ..
يالله .. من علّم هذا الطفل الأمي الجاهل .. هذه العقيدة الراسخة في الولاء و
البراء ..
لا إله إلا الله ..
آه يا صاحبي لو تعلم أن هناك أناس في بلادي
يرون أنك و أمك و إخوتك الصغار في قريتكم المهجورة ستموتون على الشرك إن لم تقرأوا
عليهم عقيدتكم ..
لا فرق عندهم بينك و بين أبيك .. فأنتم مشركين تقاتلون ملحدين ..
كيف و كل هذه العقيدة في قلبك ؟؟ .. عقيدة ثقيلة لا يقوى على حملها إلا أولوا العزم
..
عقيدة يدرسوننا إياها منذ سنين .. ثم رأيناهم عجزوا عن حملها ..
عقيدة البراءة من الكافرين و الولاء للمؤمنين ..
لقد استمروا عقوداً يؤصلون هذه المسألة و يدرسونها و يحفظون أدلتها و يصبونها في
رؤوسنا صباً ..
حتى قلنا أنهم أهلها و أئمتها و سادتها و حملة لواءها ..
فإذ بهم يفشلون .. في أول اختبار ..
لقد عقل هذا الولد الجاهل معنى (و من يتولهم منكم فإنه منهم) .. و تاه عنها قرّاء
قومي ..
طفل يتبرأ من أبيه لأنه انحاز لصف الكفار .. سبحان ربي
و علماء .. يبررون الإنحياز لصف الكفار .. و ينسفون كل ما تعلمناه منهم ..
في أكبر صدمة أصابت مكانتهم في قلوبنا في مقتل .. فهي تترنح إلى اليوم ..
ربما أصبح الولد الآن رجلاً طالبانياً .. و وضع على كتفه البيكا بدل من الدجاج ..
و لكن هل علم بالفضيحة الكبرى ؟ .. هل علم أن الذين كانوا يكفرونهم و هم لا يعرفون
حالهم ..
لم يجرءوا على تكفير النصارى .. و لا من قاتل مع النصارى .. و هم يعلمون حالهم ..
إن كنت يا صاحبي حكمت بكفر أبيك و هو يصلي و يصوم .. لأنه قاتلكم مع الشيوعيين ..
فإن قومنا قاتلوكم مع الأمريكان .. و لم يكفرونهم .. بل لم ينكروا عليهم .. و
أوجبوا علينا طاعتهم
هل علمت أن المقاتلات التي صبت الحمم فوق رؤوسكم انطلقت من أرضنا ؟؟ ..
هل علمت أننا كنا طرفاً في الحلف المشؤوم عليكم .. نحن و حكامنا و علماؤنا ..؟
إنه قدركم يا صاحبي .. أن تكونوا جداراً منخفضاً يصعد عليه الجميع
فأنتم أهل لأن تكفروا و تموتوا على الشرك ..
بينما تعج دول الإسلام بكل أشكال الشرك الأكبر و الأصغر دون نكير ..
أنتم من دون أهل الأرض .. صالحين لأن نطبق عليكم جميع ما ندرسه من مسائل العقائد ..
خاصة في باب الشرك و التوسل والتبرك و الغلو ..
لم أر شعب يصفهم طالب العلم جملة (بالمشركين) هكذا بكل ثقة و طمأنينة دون أي شفقة
أو استثناء
أو إحساس بتأنيب الضمير إلا الشعب الأفغاني .. خذ راحتك ..
مع أن القبور و الشرك و غلاة الصوفية في مصر و اليمن و المغرب و باكستان و العراق و
السودان
أكثر من أفغانستان بأضعاف مضاعفة .. بل إن إيران دولة أقيمت على الشرك بالله ..
و لكن أهل إيران ليسوا مشركين .. و لن يجرؤ أحد على وصفهم بذلك ..
فأنتم يا صاحبي (طوفة طامنة) ..
كيف لا و أنتم الذين تستخدم دماءكم لإضفاء الشرعية على دولتنا الإسلامية ..
فلولاكم لم تطبق الحدود عندنا ..
فأنتم الوحيدين من أجناس العالم ..
الذين تقطع أيديهم و رقابهم لتطبق الشريعة و يستتب الأمن ..
فقطعة الحشيشة بحجم الخنصر ثمن لرأس أحدكم ..
و أطنان المخدرات بأنواعها .. تدخل ملء السمع و البصر ..
و لا يجرؤ أحد على مسائلة أصحابها فضلا عن محاسبتهم
قبل سنة سمعت أن أفغاني قطعت يده لأنه سرق في الحرم المكي .. فضحكت من الخبر ..
و قلت .. الحمدلله الذي سخر لنا الأفغان ليقيموا لنا كل شعائر ديننا التي اندرست ..
من الجهاد .. إلى الحدود و قطع الأيادي و الرقاب ..
فالأفغان .. هم (الوحيدين) الذي يسرقون في الحرم ..
و لن أستغرب إن حملت إلينا أنباء الغد خبر إقامة حد الرجم على زاني أفغاني ..
إيه .. لقد أثرت أشجاني أيها الغلام المؤمن ..
فلا شيء (غير الإيمان) يحمل الولد على البراءة من أبيه ..
لقد كان الله و رسوله .. أحب إليك من أبيك
و هذه هي أوثق عرى الإيمان ..
سبحان ربي ..
تذكرت عبدالله بن عبدالله بن أبي بن سلول عندما وقف لأبيه عند مدخل المدينة و شهر
في وجهه السيف و منعه من دخول المدينة. و قال له : و الله إنك لأنت الأذل و رسول
الله صلى الله عليه و سلم هو الأعز و والله لا تدخلها حتى يأذن لك رسول الله . و
بقي الولد و الوالد على باب المدينة .. حتى أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم له
بالدخول.
الله أكبر .. بعد أن كنا نقرأ مثل هذه الحوادث في كتب الأولين ..
رأيتها بعيني يجسدها هذا الطفل بكل هذا التسليم و اليقين : أبي كافر .. يقاتل مع
الكفار ..
يالله ..
لم أدر ما أفعل لهذا الولد .. لكني ..اشتريت منه كل الدجاج الذي على كتفه ..
ففرح فرحاً شديداً .. و كأنه حاز الدنيا ..
لأني كفيته مؤونة تسويق بضاعته في الجبل ..
تمتع الشباب بوجبة دسمة تلك الليلة .. لم يحلموا بها ..
و رجع الولد إلى أمه ..و هو لا يدري ماذا فعل بي ..

للكاتب // همّام

XXXXXXXX
0
466

يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.

تسجيل دخول

خليك أول من تشارك برأيها   💁🏻‍♀️