باقي كتاب هبة الدباغ

الملتقى العام

سم ودم!
لم ينقض شهر على ممارسات المقدم السبع الذي لم يكترث بما حصل حتى صدرقرار مفاجىء لم ندر سببا له يقضي بنقله ،لكن فرحتنا لم تتم ومأساتنا معه لم تنته ، فلقد أحضروا مكانه مقدما اسماعيليا من السلمية اسمه عماد لم يكن أقل لؤما منه . . وكان عماد هذا إذا التأم انقلب وجهه إلى لونين : أصفر كالسم وأحمر كالدم ! لكننا وقد فاض بنا الكيل وما عاد لدينا جلد على احتمال الظلم قررنا التصدي له أيضا ، ويبدو أنه بطياشته وعنجهيته أراد أن يخضعنا بالطريقة التي اعتادها وأمثاله مع السجينات القضائيات ، فأقبل علينا صباح أحد الأيام وأراد أن يضرب إحدى السجينات من بيننا لتمتثل لأوامره ، فما كان منها إلا أن ردت عليه بصفعه على وجهه جعلته يرتد مبهونا وقد تهاوى انتفاخه الزائف . . وصار يهددها بالجزاء وبالعقوبات ، فقمنا كلنا عليه نقول له إن هذا ليس بحقك ولا بصلاحياتك . . وهذا القرار بمنع الزيارات كله من عندك . . وعندما أسقط من يده وأحس خطورة ما يجري وقد شارفت بعض المضربات على الموت بالفعل وعد أن يكتب إلى إدارة المخابرات ليطلب الأحكام ويتحقق من وضعنا ، لكن الأهالي كانوا أسرع بالإتصال معهم والحصول على أذونات بالزيارة ، فأنهت المضربات إضرا بهن ، وخفت الضغوط والقيود بعض الشيء وإن لم تنته ، ولكنه استمر يضايقنا أيام الزيارات ولا يسمح للأهالي بالدخول إلا بعد أن تدنو الساعة من الثانية أو الثالثة . . ولقد حدثتنا أم ماجدة فيما بعد أنها كم وكم قبلت الأرض على باب السجن تقول له أو لمسؤول الزيارات : دعني أقبل رجلك وأدخل هذه الأغراض لابنتي فقط . . فيرفض . . فإذا أسقط في يدها كتبت ورقة صغيرة تطمئن ابنتها فيها ببضع كلمات وترجوه أن يوصلها لها ، فكان يأخذها ويمزقها أمامها ويطؤها بقدميه أمامها دونما رحمة !
من السياسة إلى الى الاقتصاد !
كانت فاتحة الوافدات الجدد علينا في دوما فتاة فلسطينية الأصل في الثلاثينات من عمرها اسمها جميلة البطش ، كانت تدرس في سوريا واتهمت مع مجموعة من تنظيم شيوعي بتفجير الفندق السياحي بحلب وإحدى السفارات بدمشق وبأشياء أخرى . وكان قد ألقي القبض عليها عام 79 وحكمتها محكمة أمن الدولة العليا بالسجن المؤبد . . وبعد أن أمضت قرابة السبع سنوات في سجن المسلمية بحلب نقلت إلى دوما مع بداية انتقالنا عام 86 ولم تخرج إلا بعدنا بسنتين . . وبرغم مشاركتها السجن معنا لأكثر من سنتين إلا أنها كانت تميل إلى العزلة ولا تختلط حتى مع الشيوعيات الأخريات . . وبعد جميلة بأسابيع أحضروا طالبة أدب فرنسي من دمشق اسمها هلال معتقلة بتهمة تخريب الإقتصاد ! فقد كان أبوها كبير صرافي دمشق ولوحق أثناء التضييق على الصرافين فهرب خارج سوريا . . ولم يلبث بعد فترة وأن أرسل سبعة ملايين ليرة ونصف من الأردن وطلب من ابنته أن تعطيها لصراف اخر في دمشق . . فلما ذهبت إلى البيت المطلوب تصادف ذلك مع قيام الإخوان بتوزيع منشورات في المنطقة فظنوها واحدة منهم ، فلما فتشوا سيارتها ووجدوا هذا المبلغ الكبير نسوا الإخوان والمنشورات وأخذوا النقود والسيارة . . ولم يعيدوا لها من ذلك شيئا حتى بعد الإفراج عنها بعد ثلاث سنوات !
رهينة الجبناء !
وتتالت الأيام وحلت علينا ضيفة جديدة هي عزيزة جلود زوجة النقيب إبراهيم اليوسف . . وكانت عزيزة قد اعتقلت أول مرة بعد حادثه المدفعية نالت فيها أشد العذاب ، ثم أفرجوا عنها لتكون طعما يمكنهم من اصطياد زوجها ، فلما لم يصلوا إلى شيء من خلالها أعادوا اعتقالها ثانية فوجدوها حاملا ، فقالوا لها إذا فأنت تعرفين مكان زوجك وتقابلينه ، وكان عمر حميدة يضربها على بطنها وينادي كالممسوس على الجنين يقول له :إنزل . . إنزل واشهد اللهم إني بعثي ! لكن الله حفظ لها الطفل وعادوا فأفرجوا عنها بعد أن سجنوها في ثكنة هنانو وعذبوها هناك أيضا . . وعندما خرجت وضعت مولودها اسماعيل قبل أن يعتقلوها للمرة الأخيرة واسماعيل معها في شهره الأول أو الثاني ، وبقيا معا في المنفردة بسجن المسلمية أربع سنوات . . وهناك ، وعلاوة على معاناة السجن المرة فقد مرت عزيزة بظرف رهيب جعلها تعيش كابوسا مرعبا لا مثيل له ، فخلال تلك الفترة حدثت عملية تمرد قام بها بعض السجناء . . فاعتصموا في مهجعهم احتجاجا على التعذيب والإرهاب وسوء المعاملة وأحرقوا فرشهم ورفضوا الإنصياع لأوامر المخابرات بإخلاء المكان . وقتها ظن أولاء أن مجموعة من المسلحين تسللت إلى داخل السجن وقامت بالتمرد فما عادوا يجرؤون على الإقتراب . . فبادروا بخستهم إلى جذب عزيزة من زنزانتها وقدموها كرهينة وصاروا يساوموا الشباب عليها : إذا لم تسلموا أنفسكم فسنقتلها . . فعاشت المسكينة على أعصابها يومين من الرعب كاملين . . أتوا خلالها بقناص قتل المعتصمين أمام عينيها واحدا بعد الآخر حتى أنهوا الموضوع ! وعندما نقلوها من بعد إلى دمشق تمكن أهلها من أخذ إسماعيل معهم ليعيش مع إخوته في بيت والدها طوال الفترة القادمة ، حيث ظل أهل أبيهم كلهم في السجن ! وقد مكثت عزيزة في سجن التحقيق العسكري ثمانية أشهر ثم نقلوها إلى دوما والتقينا معها هناك لنبقى معا حتى الإفراج عنا . . ورغم أنهم تلوا اسمها مع قائمة الذين شملهم العفو فقد نقلوها إلى سجن المسلمية من جديد واحتفظوا بها هناك لمدة سنتين إضافيتين في زنزانة منفردة سيئة جدا تحوطها معاملة أسوأ . . فلم يسمحوا لها في البداية برؤية أحد أبدا من أهلها حتى أصيبت المسكينة بانهيار عصبي . . وبعد فترة طويلة سمحوا لأبنائها فقط بزيارتها وظل الحظر على بقية الأهل قائما . . وكانت عزيزة في قلق دائم على أولادها خاصة بعد تهديدات العميد حسن خليك رئيس اللجنة التي قابلتنا قبل الإفراج ، والذي قال لها بلسان ينفث الحقد والمقت : - ثأر الذين قتلهم زوجك المجرم ما نسى واهل القتلى نار قلوبهم تخمد . . وهم مستعدون في أية لحظة لكي يأخذوا به . . وأضاف يقول لها : أنت يجب ألا تعيشي قريبا من أولادك . . لازم تبقي بعيدا عنهم حتى لا تشربينهم الحقد والإجرام ! ولذلك كانت المسكينة في خوف دائم عليهم من نقمة العلويين وهاجس مستمر أين ستخفيهم . . ولقد سلم الله لها إياهم وأتى اسماعيل فزارنا في دوما مع جده في العيد وقد بلغ سبع أو ثماني سنين ، وكان ما شاء الله ذكيا جدا . . وعندما أدخلناه ووضعنا لهم إفطارا وأردت أن أضع له عيدية بجيبه نظرإلي دامع العينين وقال : - نحن في الخارج نستطيع أن نأتي بنقود ، ولكنكم لا تستطيعون وأنتم هنا أن تأتوا بثيء ! وأقسم ألا يأخذها أبدا إ!
مع الشيوعيات . . في فراش واحد !
كان عدد نزيلات مهجعنا قد وصل إلى قرابة الأربعة والعشرين حينما أصبحنا ذات يوم وحوالي 14 معتقلة من الشيوعيات على الباب . . ومدير السجن يأمرنا أن نستوعبهن معنا . . وأن تقتسم كل سجينة من الإخوان الفراش مع أخرى شيوعية ! . كانت القادمات قد اعتقلن دفعة واحدة بعد انكشاف تنظيمهن وتورطه بالعمل المسلح ضد النظام . . وروت القادمات أنهن أتين من التحقيق العسكري بعد أن ذاقوا هناك العذاب الشديد شبابا وبنات معا ، وروين أن الكثير من المعتقلين معهن أصيبوا بالشلل النصفي نتيجة تعذيبهم على الكرسي الذي يتسبب بعد طي الإنسان بداخله في كسر عموده الفقري . وعلى الرغم من تعاطفنا مع كل سجين وترحيبنا بكل قادم بغض النظر عن اتجاهه أو تنظيمه إلا أن التعايش مع الشيوعيات وقد قارب عددهن الثلاثين وصل إلى نقطة الإستحالة ! فأكثرهن لم يكن ابتداء متعاونات ولا يتورعن عن إظهار العداوة وعدم الإحترام . . ولم يكن يبالين بالطهارة والنجاسة مثلنا ، ولا يعتنين بالنظافة مثلما نفعل ، وكنا حينما نستيقظ لنصلي في الليل لا نستطيع ذلك إلا إذا طوينا فرشتنا وفرشة التي بجانبنا حتى يتسع المكان للإثنتين معا ، فصار ذلك غاية في الصعوبة وهن معنا على فراش واحد ! ولقد حاولنا تحملهن في الليالي الأولى فأعطينا إحداهن فراشا وبت أنا وماجدة في الفراش الاخر ، لكننا وبمرور الأيام لم نعد نحتمل ، وخاصة أن منهن شديدات الوساخة تفوح الرائحة السيئة منهن أنى التفتن أو تقلبن! فاتفقنا معهن اخر الأمر أن نعطيهن قسما من المهجع يتقاسمنه فيما بينهن ونجتمع نحن على بعضنا في القسم الاخر . . فوافقن على ذلك وسررن له جدا، لكن المشاكل كانت تندلى كل مساء حول الأمكنة والفرش التي تأخذ مكان فرش أخرى . . وكنت أنا وماجدة ننتظر إلى الأخير حتى تستقر الأمور وننال ولو جزءا من المكان ننام عليه ، وكثيرا ما كانت المشاكل تتصاعد فتقلب هذه فراش تلك أو ترمي لها أغراضها . . حتى تتدخل الشرطة ولا تنتهي المشكلة برغم ذلك !
( الخلية )!
واستمتعت الشيوعيات بالوضع الجديد ، وصرن يعقدن في هذه المنطقة اجتماعهن الذي يسمينه "الخلية" . . حتى أقلقونا أيامها وصرعونا بماركس ولينين . . وأذكر أنني كنت مريضة مرة بحمى التيفوئيد وتصادف ذلك أثناء اجتماع خليتهن ، وكنت أتأوه من ألمي ولا أستطيع تحمله . . فأحسوا وكأنني أعطل عليهن الإجتماع . . فاقترحت إحداهن وكانت طبيبة متخرجة اسمها تماضر العبد الله أن يعطوني مسكنا . . فوافقت البنات وذهبن إلى الممرض وأحضرن منه إبرة مسكن أخذتها تماضر وحقنتني بها في الوريد مرة واحدة وبشكل سريع ، فوجدتني خلال لحظات أفقد الإحساس بفكي ولا أستطيع تحريكه ولو بكلمة . . ثم غبت عن الوعي و لم اعد احس بشيء فقامت كل البنات من قسمنا عليهإ يشتمونها ويحقرونها وصاحت فيها الحاجه غاضبه لم لم تقولى انك تريدين قتلها من اجل اجتماعكم الملعون ومع الايام ازداد التوتر بيننا وبينهن يزيد فيه ضيق المكان وبؤس الحال وكثيرا ما كانت النقاشات معهن تتطور الى خناقه يختمها وهن يقلن لنا : بكره يااخوان اذا استلمنا الحكم فسنعلق مشانقكم فى وسط دمشق
الحج اليومى
ولقد كان تعليق المشانق اهون ربما من الحياه الرتيبيه الممله بلا هدف ولاأمل ومع ازديادالأعداد ومجاورة الشيوعيات وكثرة التضييق والتشديد من إدارة السجن ومديريه ازداد إحساسنا بنفاذ الصبر فدبت الفوضى واختلطت الأمور وصار اعتياديا قيام المشاحنات وسماع المشاجرات وكان الماء ينقطع أحيانا فلا يصل دور الحمام لواحده منا الا مره فى الشهر وأما الزيارات فكانت لاتمر دوما على خير فإما أن يمنعوا الزياره عن الجميع أو يؤخروا اللقاءات الى آخر الوقت وكثيرا ما كانو يبالغون فى تفتيش الطعام حتى يفسدونه ويمدون أيديهم فيه ويقلبونه حتى تنفر منه النفوس ولقد وصل الامر بنا الى شدة الضجر أن ابتكرنا فى الفتره الأخيره حجا نؤدى مناسكه كل يوم فاتخذنا من البركه وسط الباحه مااعتبرناه الكعبه وحددنا أماكن أخرى حولها للسعى وكنا نندفع كلنا بلا إستثناء صباح كل يوم فنطوف ونسعى ونلبى وفى إحدى المرات دخل علينا عنصر من الشرطه ونحن بهذا الحال فسأل مستغربا ما الذى يجرى فقالت له إحدانا وكلنا منهمكات فىالتلبيه والهروله إننا نحج فقال الرجل محولقا يبدو والله أن نهايتكن جميعا فى مستشفى ابن سيناء للمجانين
ريمى
وإذا كانت ذكريات دوما كباقى السجون التى نزلنا فيها محفوره فى القلب لا تنسى فإن ريمى أحد معالم تلك المرحلة التى لا تغيب عن البال وريمى فى الحقيقة قط أنيس أتى به أهل إحدى القضائيات لها وهو صغير جدا فاشتريناه فكان كأنما أرسله الله لنل رحمة وسلوى فى هذا المكان الموحش وعدا عن متعة اللعب فيه والفرجه عليه والإستئناس بوجوده كان ريمى غاية فى النظافه وفى الذكاء وكنا إذا أردنا غرضا من المهجع الثانى ربطنا له ورقه بما نريد على رقبته وأرسلناه فيذهب ويوصلها للمهجع الثانى ويعود بالطلب وكان أيام الزياره يساعدنا فى نقل الأغرض من مكان استقبال الزولر الى المهجع ينقلها قطعه بعد أخرى بفمه وكثيرا ما كان يوقظنا للتهجد إذا لم نستيقظ وينام عند أقدامنا فى الليل كالحارس الأمين وذات مره حضر قائد شرطة دمشق للتفتيش على السجن فلمح ريمى بيننا فثارت ثائرته لأن الحيوانات ممنوعه فى هذا المكان ونادى أحد العناصر وقال له تضعه فى كيس وتأخذه فترميه خارج دمشق فنفذ الشرطى الأمر وذهب بريمى ونحن فى حزن عليه ولوعة وكأننا فقدنا أخا أو قريبا لكننا وبعد ثلاثة أيام وحسب وجدناه وقت الضحى يعود متسللا الى المهجع وقد اتسخ جلده وساءت حالته فلما رأيناه عمت الفرحه وركضت البنات نحوه وكأنما هو أمهم وأبوهم وبعد خروجنا عادت واحده منهن الى دوما خصيصا وأخذته معها الى حلب.
5
1K

يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.

تسجيل دخول

مظلومة في حياتي
الفصل السادس
الفرج والإفراج
ديسمبر 1989
مرت قرابة أربع سنين أخرى انسلخت من أعمارنا دون أن نحس لهن بمعنى أو أثر . . وحل الشتاء من جديد في دوما ونحن لا نكاد نميز بين فصل وفصل أو عام وآخر . . وبينا نحن في حياتنا الرتيبة الخامدة كسر حاجز الصمت ذات يوم من أيام أكتوبر الباردة عام 89 نداء مناد على عزيزة جلود وغزوة ك . أن تجمعا حاجياتهما وتستعدان للمغادرة . إلى أين . . ولماذا ؟ وما الذي حصل ؟ لم يجبنا أحد . . فظننا أن تحقيقا جديدا قد فتح أو محكمة ميدانية عادت للعمل وأنهما عائدتان إلينا خلال أيام . . لكن أسبوعا مر دون خبر . . ولم يلبث المنادي أن نادى من جديد على أم حسان وابنتيها سلوى ويسرى . . ومضت بهما سيارة المخابرات ولم تعد أخبارهم تصل إلينا مثل من سبق . .
حلم وبشاره!
كنت في تلك السنوات التي انقضت لا أنفك أرى أمي في المنام حاملا باستمرار وقد حان موعد ولادتها وأتاها الطلق ولا تلد . . لكنني وفي ليلتي تلك رأيتها رحمها الله تطلق ثم تلد . . فلما رويت الرؤيا للحاجة استبشرت بدنو الفرج . . وكان ما قالته سبحان الله . . إذ لم يلبث مدير السجن أن حضر إلى المهجع في الصباح وقرأ أسماء حوالي 12 منا : أنا وماجدة وأم ياسر ولما ورغداء ومنتهى وهالة ونجوى والحاجتين . . وأتبع قراءة الأسماء بكلمة واحدة : إفراج ! لكننا ومن كثرة ما كان يفعل ذلك دائما ويعدنا بالعفو وبالخروج ولا يحدث شيء بعدها لم نتحرك من أماكننا . . وأذكر أنني كنت وماجدة جالستين على طرف البركة نقرأ القران حينما حضر من جديد وهو يصيح فينا : - قوموا بقا . . تحركوا . لكننا لم نحرك ساكنا وقلنا له : -يكفي كذبا علينا . . لا نحتاج هذا المزيد من الكذب ! لكنه أقسم أنه صادق اليوم . . وأرانا قائمة الأسماء مطبوعة في قرار رسمي . . ورغم ذلك فلم نغير من جلستنا ونحن لا نزال نظنه كاذبا . . فقال لنا بانفعال : - سأدخل لكم دورية المخابرات التي أتت لتأخذكم حتى تصدقوني . فلما رأيناهم بالفعل وتحققنا من جدية الخبر هذه المرة انفجرنا بالتكبير الذي اختلطت الزغاريد فيه مع الدموع والنحيب وفرقعة القبلات إ! وتنشطنا جميعا وقمنا نجمع أغراضنا مثلما اتفق . . وأذكر أنني وماجدة جمعنا كل أغراضنا في كيس كبير بلا وعي وسحبناه وراءنا ، فكانت الأشياء تتساقط منه ولا نبالي . . ولا نكاد نستوعب ما يجري ونحن بين التصديق والتكذيب . . وقام السجن كله على سماع الخبر ولم يقعد ، وخرجت كل السجينات القضائيات يهنئننا ويناد ين : - خرجت السياسيات . . وتقدم منا رجال الشرطة وموظفو السجن الطيبون هذا يسألنا عن صحة النبأ . . وذاك يهنؤنا بحرارة ودموعه تجري من الفرحة كالنساء . . ساعة لا يستطيع المرء أن يصف شعوره فيها . . وكأنني لم أعد بوعيي . . ولم أعد أذكر حتى كيف خرجنا إلى السيارة . . أو ماذا كان شكلها . . أو كيف تسلسلت الأحداث . . لكنني لا أنسى كيف لحق بنا القط "ريمي " يبكي والله وتنهمر دموعه وكأنه إنسان ! وأركبونا السيارة في النهاية لنجد أنفسنا أمام بوابة فرع التحقيق العسكري ونحن أشبه ما نكون نسبح في حلم غريب !
نحن هنا !
من بوابة الفرع إلى غرفة الاستعلامات قادنا العناصر ونحن لا نزال مكبلين حتى نسلم أماناتنا ونملأ بيانات القدوم ، ثم أنزلونا إلى القبو عبر الدرج المقيت نفسه ، ووضعونا في مهجع واحد في القسم الشمالي هذه المرة ، وبينما كنا نعبر الممر سمعت البنات اللاتي سبقننا أصواتنا كما يبدو فصرن يضربن على الباب ويقلن لنا: نحن هنا. وقتها لم نعد نأبه بالعناصر الذين كانوا يصيحون فيهن وفينا لنسكت . . وأخذنا نتبادل عبارات الترحيب والشوق والتبريك . . ووجدنا أنفسنا أخيرا في مهجعنا الجديد أربعة عشر سجينة نكاد لا نجد مكانا للنفس . . فقرعنا الباب وقلنا لهم ذلك ، فأجابنا العنصر : - هذا المهجع الذي تقولون أنه لا يتسع لكن كان اتسع قبلكن لاثنين وتسعين شخصا من الشباب ! وكنا لما رفعنا رؤوسنا نستطلع المكان لمحنا في سقف المهجع رغم ارتفاعه الشاهق رسما لمسجد كما اعتاد سجناء الإخوان أن يفعلوا وتحته اسم شخص ما . . واستغربنا وقتها كيف وصل هذا الشخص إلى أعلى وتمكن من رسمه . . فلما أجابنا جوابه ذاك الذي تقشعر له الأبدان قالت له الحاجة مديحة : - الآن فهمنا خيو . . معنى ذلك أنهم كانوا وصلوا إلى السقف فوق بعضهم البعض !
مزاح فقط !
مرت الليلة الأولى والثانية . . والثالثة ونحن نبيت وراء الباب جميعا ننتظر الإفراج كل لحظة ونظنه بات قاب قوسين أو أدنى . . فلما لم ننل إلا السراب وعدنا نتقلب بين التسويف والتجاهل خبت فرحتنا من جديد اين وانتكست أمالنا . . وعادت رتابة نظام السجن تلفنا مرة أخرى زاد عليها أننا عدنا إلى أيدي المخابرات مباشرة وخضعنا من جديد لأجواء الرعب والارهاب . كانت أيامنا في التحقيق العسكري كما فهمنما لاحقا أقرب ما تكون إلى فترة تأديب . . عاملونا فيها بقسوة بالغة ، وضيقوا فيها علينا أشد مما كان التضييق حتى أيام كفرسوسة . . فالطعام أقل مما يكفي لنصف عددنا ، والزنزانة مقفلة الأ بواب فلا نغادرها إلا للتنفس حسبما يقتضي مزاج العنصر وقتذاك : عشر دقائق أو ربع الساعة في اليوم وحسب ، نمضيها في باحة داخلية ضيقة تحيطها الجدران المرتفعة من كل الإتجاهات ، لكن الجوع والقلق والأ بواب المغلقة لم تكن لتفعل فينما ما تفعله صيحات الإستغاثة وصراخ المعذبين من حولنا . فعندما يحين وقت تنفس الشباب كانوا يخرجونهم راكضين لا ينتعلون في أرجلهم رغم شدة البرد شيئا . . يهرولون حفايا تتبعهم الكرابيج والكابلات وكأنهم قطيع غنم ! ومن شدة اصفرارهم كنا نحس وكأن شعلة ضوء تخرج من كل فرد منهم . . ولا أزال أذكرأن أحد السجناء تأخر في إحدى المرات داخل الحمام بضع ثوان . . وكان بابه مجاورا لباب سجننا ، فأخرجه العنصر المكلف بمراقبته وصار يعذبه عذابا أسوأ من عذاب العبيد. . فبعد اللسعات التقليدية بالكابل جعل هذا العنصر يأمره ونحن نسمع مايدور ويقول له: إحمل الشحاطة بفمك . فيمتثل المسكين لاحيلة له ويحملها . . فيقول له ثانية : - إزحف بها إلى التواليت . . والتواليت هناك يقرف الواحد من الإقتراب أو النظر إليه . . لكن هذا المجرم كان يقوده والشحاطة في فمه إلى هناك فيطمس له رأسه في الحفرة ثم يخرجه ، ويعود بعدها فيأمره أن يحمل الشحاطة ثانية بفمه . . ليعود ويسوقه في اتجاه آخر وهو لا يكف عن لسعه وسلخه بالكابل . . وذاك يصيح ويستغيث وليس من مجيب . . وعندما فاض بنا الصبردقت الحاجة الباب وهي تصيح فيه : -هل أنتم يهود ؟ ألا توجد رحمة في قلوبكم ؟ وجعلنا ننادي جميعا ونقول له : - منشان الله إذا ما بدك ترحمه إرحمنا نحن وخذوه إلى مكان آخر عذبه فيه ! فقال السفيه وظل ابتسامته الساخرة يتراءى لنا من وراء باب ا لحديد : -ليش شوفي ؟ نحن نمزح مع بعضنا فقط ! . وفي مرة أخرى كانوا يوزعون الطعام ، وهناك في فرع التحقيق العسكري كانت الطاقة أسفل باب المهجع ، فكان أحد السجناء يحمل الطعام ويضعه عند الطاقة تم يأتي العنصر من ورائه فيفتح الطاقة لنسحب القصعه . . وذات يوم سألتنا عزيزة أن نحاول السؤال عن بيت أهل زوجها إن كانوا معنا في نفس السجن . . فلما جاء السجين وكان دوري يومها دفعت الطاقة فوجدتها مفتوحة ، فمددت رأسي وسألته : -هل سمعت ببيت اليوسف ؟ فقال لي : نعم . . أتوا بهم جميعا إلى المهجع الجنوبي . . ولم يكد المسكين يتم جملته حتى كان العنصر وراءه ، فأمسكه وسحبه وبدأ يضربه ويعذبه على باب مهجعنا وذاك يصيح ويستغيث : -لم يكن ذنبي . . هي التي كلمتني . . ولم أرد عليها . . وقامت الحاجة فصاحت عليه وقالت له لعله يغفل عنه قليلا : -فعلا لم يكن ذنبه . . هذه مقروفة العمرساءلته عن الطعام فقط . . لكنه لم يتوقف أو يلتفت إليها . . ومضى يتابع الضرب والتعذيب حتى شبع !
الرئيس ما كان له خبر !
ومرت أيام أخر . . وبدأت ملامح أكثر جدية تتبدى عن اقتراب أيام الفرج والإفراج . . فبدأوا يخرجوننا إلى المكاتب في القبو نفسه ويعطوننا استمارات لنملأها بمعلومات مفصلة عن تاريخ حياتنا . . وصورونا مرات عديدة بأوضاع واتجاهات مختلفة ونحن نمسك بأيدينا لوحة الأرقام . . وبعد15 يوما تقريبا أبلغونا عن صدور العفو بشكل رسمي . وقتها سألت الحاجة مديحة رئيس الدفعة وقتها : - خيو . . وليش تذكرتونا الآن بعد كل هذه السنين . . ما هي ا لمنا سبة ؟ فقال لها : والله الرئيس ما كان له خبركم . قالت له : يعني الآن وصله خبرنا ؟ قال لها : نعم . قالت : بالله عليك مض علينا تسع سنين وماله خبر! قال : إي والله . . والله يا حاجة لو له خبركم من زمن كان طالعكم . . لكن من أول ما دري قال طالعوهن إ! فقالت له الحاجة : وما الذي يمنعكم من إخراجنا إذا ! فأخبرها أن سورية الآن حزينة تضامنا مع لبنان الذي قتل رئيسيه رينيه معوض قبل أيام . . وقد صدر الأمر لذلك بتنكيس الأعلام وإغلاق الدوائر الرسمية لهذه المناسبة . . وبالفعل فقد بقينا في الإنتظار أسبوعين أو ثلاثة أخر. . وخلال ذلك أخرجونا مرتين إلى لجنة شكلوها من أجل إبلاغنا النبأ وتوديعنا بما يليق كانت برئاسة العميد حسن الخليل ومعه كمال يوسف رئيس الفرع وضباط آخرون . . فلما حان دوري قابلني كمال يوسف وأنا مثل الأخريات معصوبة العينين وقال لي : - لا تظني أننا أخرجناك وتأخدي راحتك . . أنا من أهلك حاطط لك مخابرات. قلت له : وحتى . .أنا أصلا لم أعمل شيئا . . فقام يشتمني بكلام قبيح ويقول لي أنني مجرمة ولا زلت أنكر . . وقال لي أيضا أن علي الإبلاغ عن أي شخص مطلوب يتصل بي أو حتى أراه . . وكذلك قسى على عزيزة جلود وحدثها عن أولادها ما سبق وذكرته . . وقال لأمل : - شو إلك بالقصر مبارح العصر وجاية لتطلعي ! وكانت كل مهمة اللجنة أن تؤكد لنا أننا لا نستاهل الطلعة ، وإننا لا نزال في دائرة الإدانة . . ولكن كرم الرئيس وعفوه وحده هو الذي أخرجنا إ!
تأهيل أم تجميل !
وضمن مظاهر الكرم الحاتمي الذي تدفق علينا من أصحاب الفضل . . جلادينا المحترمين أنهم بدأوا قبيل الإفراج عنا بما يمكن تسميته تأهيلا لسمية ابنة سلوى التي ولدت في تدمر وترعرعت بين سجون حمص وقطنا ودوما . . وحلت آخر الأمر في العسكري وقد بلغت سن المدرسة ، ولكنها تبدو لمن يراها لا تزال في سنوات عمرها الأولى من الهزال . . ولربما أصابت الرعدة ناظرها لأول مرة من شدة ضعفها واصفرار وجهها . . وتحاشيا لمزيد من الأدلة اليقينية على جرائم النظام ، وحتى لا تخرج هذه البنت إلى المجتمع فيراها الرائح والغادي بهذه الصورة فيسألوا ويعرفوا عن الفاجعة كان برنامج التأهيل هذا . . فكانوا يأخذونها وأمها كل يوم إلى باحة الفرع خارج القبو ويتركونها تتعرف على العالم من حولها ، ويقدمون لها طعاما إضافيا وحلوى وألعابا تستعيد بهم بعضا من طفولتها السليبة . . وفي يوم من الأيام حضر رئيس الفرع وهي هناك فوقفت سيارته ونزل السائق ففتح له الباب وتناول الحقيبة منه وتبعه بعدما نزل إلى مكتبه . . فلما لمح سمية قبل أن يدخل ناداها وأدخلها معه وجعل يداعبها ويتحدث معها ، فلما عادت من عنده قالت لأمها : 227
- ماما أنا غدا عندما أكبر أريد أن أصبح عقيد ! فسالتها سلوى : ولماذا ؟ قالت لها : حتى تكون عندي سيارة وشوفير أي شوفير - يسوق لي السيارة ويحمل لي سنتايتي - شنتايتي - ويدخلني إلى غرفتي مثل غرفة هذا العقيد كمال ! ولما سالتها : كيف مثل غرفته ؟ قالت سمية : يعني فيها سجاد ممدود بالأرض وأضواء وأشياء حلوة ما في منها عندنا ! وكانت سمية تقليدا للسجناء قد كتبت اسمها على الجدار للذكرى . . ولكم كان مؤثرا أن يقرأ المرء ما كتبت هذه الطفلة البريئة تحته تقول : أنا من مواليد تدمر . . سكنت في سجن كذا . . وسجن كذا . . وكذا . . مسجلة كل اسم وتاريخ كل سجن تنقلت مع والدتها إليه !
المقدم المخمور !
وكان رئيس الفرع كمال اليوسف على عنجهيته وتجبره يتصرف إذا جن الليل وحان موعد الكاس والطاس أسفه من الأطفال ! وكثيرا ما كان يرسل وراء غزوة فيأمرها بالجلوس في مكتبه ويمضي يحدثها وهو في نصف وعيه يهدر بما لا يقيم أي معنى . . أو ينزل بنفسه إلى القبو فيقف على طاقة المهجع ويناديها لتتكلم معه . . فكانت المسكينة تمتنع أكثر الأحيان ولا تستجيب . . وأذكر أننا كنا نياما مرة وقد جاوزت الساعة الواحدة بعد منتصف الليل . . فما وجدنا إلا وطاقة الباب قد فتحت وأطل أحد ما برأسه علينا ، وكانت العادة التي جرت أن يدق أولا لنضع على رؤوسنا ، لكن هذا الطارق المجهول فتح الطاقة على حين غرة وأطل يحملق فينا بعينين محمرتين كالدم ، فما وجدنا أنفسنا ألا ونحن ننادي بصوت واحد: الله لا يعطيك العافية . . ومنا من بصقت بوجهة ومنا من صاحت فيه : -أغلق الطاقة وانقلع . . من سمح لك . . ياقليل الأدب . . يا قليل الذوق . . فقام من المفاجأة بشكل غير إرادي وسحب نفسه قليلا ، ثم كأنما تذكر أنه هو رئيس الفرع فمد رأسه وقال : - من هذه قليلة الأدب التي ترفع صوتها . . لكنه وبسبب لهجته المثقلة من السكرلم نعرفه . . وعدنا فسحبنا باب الطاقة وأغلقناه في وجهه . . وفي الصباح خرجت الحاجة تقول للعنصر : - خيو . . نريد أن نقدم طلبا لرئيس الفرع . قال لها : بأية مناسبة ؟ قالت : هناك عنصر قليل الأدب فتح الطاقة علينا بالأمس ومد رأسه . سالها : أية ساعة . فلما أجابته قال لها : - دعني أقول لك شيئا . . لا تتكلمي بما حصل لأن الذي تتحدثين عنه كان رئيس الفرع نفسه ! فشهقت الحاجة وقالت : الله يلعنه ! وعلمنا من البنات في التنفس بعدها أنه بعدما غادرنا أمضى الليلة على باب المهجع الثاني يحاول محادثة غزوة والمسكينة مقطوعة من الرعب لا تدري كيف تتهرب منه !
مد. . وجزر !
ومضت الأيام ونحن كأنما نتقلب على السفود . . حتى دنت أواخر ديسمبر فأتوا صباح يوم منه وقرأوا أسماءنا جميعا وقالوا جهزوا أنفسكم . . تجهزنا أسرع من البرق ، ودبت الفرحة من جديد . . لكن النهار مضى ولم يحدث شيء . . قرعنا الباب وسالناهم: ماذا جرى ؟ فقالوا من غير أن يذكروا السبب : تأجلت للغد . . وفي الصباح التالي حضروا ونادوا أم حسان وابنتيها سلوى ويسرى ومعهم سمية ، وكانوا قد جمعوهن معنا عند وصولنا لضيق المهجع الذي كانوا فيه ، فلما خرجن لم يذكروا لهن عن الإفراج شيئا . . وظننا أنهن ستنقلن إلى المهجع الآخر من جديد ،لكننا لما سالمنا عنهن بعدها . . قالوا لنا : خرجوا . فقلنا لأنفسنا إذا هؤلاء اللاتي صدر العفو عنهن وخرجن ، وأما نحن فقد فاتنا القطار! وقطعنا الأمل وعدنا للتشاؤم . . وجعلت عزيزة تبكي سبحان الله و تقول :أن قلبي يحسسني أني لن أخرج معكن . . وسترون ! وبالفعل خرجنا نحن وبقيت المسكينة من غير ذنب ولا سبب سنتين تاليتين بعدنا . وبعد يومين نادوا على غزوة من المهجع الثاني وحدها وأطلقوا سراحها . . وأخيرا ونحن نصارع الهواجس ونتقلب بين المد والجزر أتوا صباح الرابم والعشرين من ديسمبر وأبلغونا أن ساعة الإفراج قد حانت هذه المرة . . وأخرجونا ونحن بين مصدق ومكذب لتسلم الأمانات وملء الإستمارات . . لكننا لم نكد نغادر المهجع حتى تراجعوا وقالوا أن الأمر تأجل للمساء ! وعادوا فكرروا نفس الأمر في الليل ، فأخرجونا إلى غرفة الأمانات وأوقفونا في طابور طويل . . وبينما نحن ننتظر على أعصابنا طفح الكيل بأمل فمالت على بنت بجانبها وقالت لها : - والله كأننا واقفين بانتظار بطاقات التموين في المؤسسة! فالتقط أحد العناصر العبارة واهتبلها فرصة فقال للمقدم عمر : - سيدي . . أتسمع ما تقوله ؟ فسأله ذاك : ماذا قالت ؟ قال : سيدي هؤلاء لا يتوبون . . ويبقون يتحدثون في السياسة ونقل له العبارة مثلما يحلو له . . فجاء المقدم وكأنما لسعته أفعى يرغي بالشتائم ويزيد وهو يصيح : - والله أنتو ما لازم تخرجو . . لا زم تنقبروا هون حتى الموت . . حتى إذا أكمل قاموس الشتائم التي يحفظها عن ظهر قلب وتسلمنا آخر الأمر أماناتنا وملأنا كل الإستمارات ووقعناها قالوا لنا بأن الأمر تأجل إلى صباح الغد بسبب الضباب . . وأعادونا إلى المهجع الثاني الذي كانت البنات فيه ، فتكومنا كلنا وراء الباب مترقبات متحفزات لا نستطيع النوم . . وعدنا إلى التشاؤم من جديد ، وتذكرنا كيف وعدوا الشباب بالإفراج في كفر سوسة ثم نقلوهم إلى تدمر! وبقينا طوال الليل نستسلم لهذه المشاعر المرة حينا . . وحينا لمداعبات الأمل ولمحاته اللذيذة والتفكر فيما يمكن أن نفعله إذا خرجنا . . لكنني كنت واقع الأمر أحس نفسي عاجزة عن تصور ما الذي يمكن أن أفعله إذا خرجت . . وكأن العقل لدي قد توقف قبل هذه المرحلة وما عاد يستطيع استيعاب معنى الخروج أوالى أين يمكن أن يكون . . كانت البعض تقلن : أنا سأعود لأكمل دراستي . . أو إلى وظيفتي من جديد . . ومنهن من كانت تقسم أنها لن تعود إلى الوظيفة الحكومية أبدا. . وستمضي العمر بين الأهل والأحباب . . وأما أنا فلم أعد أستطيع حتى أن أفكر في هذا الإتجاه . . وأراه حتى اللحظة شيئا مقطوعا منه الأمل ولا يتصوره العقل . . ذاك الذي كان بيننا وبين أن نبلغه مجرد مطلع الفجر!
حتى مطلع الفجر!
واذا كانت ليلة الأربعاء الخامس والعشرين من ديسمبر تلك ليلة لا تنسى فإن مما لا ينسى فيها أولئك الشباب السجناء الذين أحيوا الليلة معنا في مهجعهم المقابل يتلون القران والتسابيح والأذكار وقد بلغهم قرب الإفراج عنا على نية الفرج والتسهيل ، وكنا نتلمس من إشارات منهم أنهم يعيشون همنا ومشغولون بنا أكثر من أنفسهم . . وعلى الرغم من الخاطرة البالغة فقد استمروا يجهرون بالتلاوة والدعاء ليبلغنا في ظلمة الليل فكأنما هو النور يتنزل من السماء . . وسلمهم الله من الحرس فاستمروا في دأب ونشاط حتى مطلع الفجر . ودنا الفجر وكنا كلنا ميتات من التعب والنعاس والجوع . . لكن ترقب الإفراج كان يغلب كل الأحاسيس والمعاني والمعاناة الأخرى . . فجعلنا نطرق الباب مرة بعد مرة نسأل الحرس ما الذي حصل . . ومتى سيفتح هذا الباب بيننا وبين الحرية من غير رجعة . . حتى فاض الصبر بالعنصر فقال لنا آخر الأمر : توقفوا عن الطرق . . عندما نريد أن نخرجكم فسنفتح لكن الباب ونقول لكن اخرجوا . . فلما فتحوا الباب وقالوها كنا كالموج المختزن خلف سد تفجرت بوابته . . واندفعنا فوق بعضنا البعض وكأننا خائفات أن يغلقوه علينا من جديد . . ولما تجمعنا في الممروقد تثبتت عيوننا على الباب بين القبو وساحة السجن في الأعلى قرأوا أسماءنا جميعا ، ووجدناهم قد أخذوا الحاجتين مديحة ورياض ومعهما نجوى وسلسبيلة إلى المهجع الثاني دون أن نعلم لماذا ، وهناك أخبروهم بأن دورهم في الإفراج لم يحن بعد فكدن أن يمتن بأرضهن . . وأصيبت الحاجة رياض بما يشبه الإنهيار العصبي وقد كانت تظن أنها ستكون أول الخارجات . . وأما نحن الذين بقينا أربعة عشر امرأة - سبع من حلب وسبع أخريات من حماة - فأخرجونا وقتها إلى باحة الفرع والشمس لا تزال تتسلق السماء في أول إشراقتها . . فكنا ونحن نعبر من العتمة إلى الضوء مهلهلات الثياب صفر الوجوه كالخارجات من القبر إلى دنيا الناس بعد غياب ! ولم نتمالك أنفسنا جميعا فوقفنا كلنا نتأمل الشروق الدافن ونتلو الشهادتين وقد انفجرت بعضنا في البكاء ، فنظر رئيس الدورية إلينا مستغربا وقال : - ماذا هناك ؟ لماذا وقفتم كلكم ؟ فقالت له أم زهير : بعد تسع سنين هذه أول مرة نرى فيها الشمس وقت شروقها . . ماذا تريدنا أن نفعل وسرعان ما وجدناه أحضر الكلبشات وعاد ، فسألناه وقد غاصت قلوبنا بين الضلوع من جديد : -لم هذه الكلبشات ؟ قال : هذا القانون . . لازم تتكلبشوا حتى تقطعوا ضواحي دمشق . كمدنا مرة أخرى بعد شعور الفرح الذي لا يوصف . . وبدأنا تراودنا المخاوف مجددا من أنهم سينقلوننا إلى سجن اخر وحسب . . لكن الأحداث مضت متسارعة . . فتلوا أسماءنا مرة أخرى . . وتحققوا من عددنا وشخصياتنا ، ثم أصعدونا إلى "الميكرو" ونحن مكبلات . . وصعد معنا ثلاثة عناصر من المخابرات جلس اثنان منهم في الأمام وأخذ الثالث مكانه عند الباب في الخلف . وعندما تحركنا سالمت ماجدة أقرب العناصر إليها إن كنا خارجات إلى بيوتنا بالفعل أم أنه مجرد نقل من مكان إلى اخر . . فطمأنها وأكد لها أنه إفراج حقيقي . . فساكته وهي تستحلفه : -قل لي . . هناك طلعة للشباب ؟ قال لها : والله لا أعرف . لكنها ظلت تلح عليه حتى قال لها : نعم هناك أمل ولكن ليس الآن . . لكنهم أخرجوكم أولا ليتخلصوا من همكم !
تهاني العام الجديد !
ومض الباص بنا نريده أن يطير أسرع من السحاب ويبلغنا بيوتنا للتو . . لكننا كنا في نفس الوقت وكأننا نفكر بعقل واحد في الأتي المجهول : كيف سنفترق اليوم ونصحو في الغد بعيدين عن بعضنا البعض بعد تسع سنوات من صحبة العسر واليسر؟ إلى أين سنذهب . . ومن سنلتقي . . وماذا عمن مات أو قتل . . ماذا عن حماة التي تهدمت . . والأحياء التي سويت بالأرض . . والأحباب الذين واراهم الثرى وقد كانوا بهجة العمر كله إ! وظلت دوامة التساؤلات تعصف بنا حتى بلغنا مشارف حماة وفكوا لنا الكلبشات من أيدينا وقالوا للحمويات أن يستعددن للمغادرة . . فالركب سيكمل بالبقية إلى حلب . وجعلنا نقبل الحلبيات ويقبلننا ويستسمح بعضنا البعض ونتواصى بالزيارة القريبة والإتصال المستمر . . وتوقف الباص أخيرا أمام فرع الأمن العسكري على مشارف المدينة ، وتخطى السائق البوا بة ونزل رئيس الدورية التي رافقتنا فتبادل بعض الكلمات مع مسؤولي الفرع قبل أن يأمرننا بالنزول . . وعاد وبقية العناصر معه إلى الباص وهم يهنؤوننا على الإفراج ويقولون وهم يبتسمون : -الحمدلله خلصنا منكم ومن نقكم . .
كل عام. . وأنتم بخير!
وذهب الركب باتجاه حلب . . ووجدنا عناصر أخرى تستقبلنا هناك بلا اكتراث . . ولم نلبث أن طرق أسماعنا عبارات التهنئة بالعام الجديد يتبادلونها بينهم . . فتذكرنا أن رأس السنة على الأبواب. . ولكننا لم ندرك أننا ينبغي لذلك أن ننتظر مزيدا من الوقت ليحضر رئيس الفرع من مراسم التعييد ! وفي غرفة من غرف الفرع الباردة تكومنا واحدة تلو الأخرى ليست لنا من حيلة إلا الإنتظار . . وبعد ساعات كنا لا نملك إلا التحديق بوجوه بعضنا البعض وارسال الزفرات حضر أحد العناصر وسأل كل واحدة أن تعطيه رقم هاتف ولي أمرها الذي تريد أن يستلمها .؟. وكان الأهالي قد سمعوا قبل أيام عن نبأ الإفراج فذهب الآباء إلى دوما أولا ليسألوا فقال لهم المقدم هناك بأننا نقلنا إلى سجن(عدرا) ! فلما ذهبوا هناك لم يجدوا عنا أي خبر . . ولم يعودوا يعرفوا عنا أي شيء . فلما اتصلوا بهم بدأوا يتوافدون على باب الفرع بين مصدق ومكذب . . واجتمع أكثر آباء البنات واخوانهن وأنا لم يحضر لاستلامي أحد ! وعندما حضر العنصر وسالنى عن هاتف ولي أمري لم أدر بم أجيب . . ولم أجد شيئا أعطيه أو اسما من الأحياء أذكره ! وكانوا قد اتصلوا بوالد ماجدة وقالوا له مثلما قالوا للآخرين -تعال واستلم ابنتك . . فظنها مداعبة من أحد ما وأقفل الخط ! فذهبوا إلى البيت وأحضروه بأنفسهم وهو لا يزال يظن الأمر لعبة . . فلما راها بعينيه كاد أن يغشى عليه . . وأخذ وهو يحتضنها ينظرإلي ويبكي وهو يتمتم : - وأنت من الذي سيأتي ويأخذك ! فلما عاد العنصر يسالنىوقد كاد ينفض الجميع - مع من أريد الذهاب ، قلت مع أبي ماجدة . وأثناء ذلك حضر شقيق واحدة أخرى من البنات وعرض أن يصحبني برفقتها . . فلما اخترت والد ماجدة اتصل ذاك ببيت عمي بعدما أخرج رقمهم من الدليل، لكن عمي وزوجته كانا في حمص وبقيت خالة الأولاد معهم في البيت ، فلما أبلغها بالنبأ اتصلت بخالي هناك وأخبرتهم أن شخصا اتصل وقال بأن هبة طلعت واذهبوا لتأخذوها . فقالت لها عمتي : يكفي كذبا واذا اتصل ثانية أغلقي الخط بوجهه ! فاتصل مرة ثانية وقال لها : - هبة عند بيت رفيقتها ماجدة . . اذهبوا وأتوا بها . فأعطته رقم حمص ليحدثهم مباشرة ، فلما اتصل سألته عمتي : - من حضرتك ؟ قال : فاعل خير. فخافوا من ذلك وارتابوا . . لكنها وبعدما أقفلت الخط رأت أن تتصل ببيت أهل ماجدة فتأكد لها الخبر ، لكنها ولما طلبت أن تتكلم معي حتى تصدق ونادوني لأحدثها وجدتني وكأنما نسيت كيف يكون الحديث على التلفون ! ولم تكد تسمع صوتي حتى وجدتها حضرت أسرع مما أتخيل ! ودخلت فاحتضنتني ورجعت تقبلني وأنا جامدة مكاني وكأنني لم أعد أميز بين الفرح والحزن ! اختلط الشعوران عندي فلم أعد أعرف ماذا أفعل أو الى أين ينبغي أن أذهب ! وكان أهل الحي قد اجتمعوا رجالا ونساء وأطفالا يهنئون بسلامتنا ويباركون لنا . . لكن ظلال التوجس كانت بادية على الوجوه وهم يحملقون فينا ولا يزيدون على أن يحمدوا الله . واقتادتني عمتي من يدي . . وأم ماجدة من ورائنا ترقبنا دامعة العينين وقد أرادتني أن أبيت عندهم الليلة . . وكنت أود ذلك أيضا وأحسها بمنزلة أمي رحمها الله . . وكانت قد رأتني قبل يوم في نومها أنني أرسلت لها بطاقة عليها رسم المسجد الأقصى وكتبت لها تحتها : (سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد ا لأقصى ) فتفاءلت بذلك وذهبت للشيخ ففسر لها المنام وبشرها بقرب فك أسرنا . . وكان ذلك في اليوم الثاني بالفعل ..
ظلال الفاجعة!
وفي تلك الليلة الباردة أواخر عام 89 ولجت سيارة عمتي وقد قاربت الساعة الثالثة بعد منتصف الليل . . وتكورت على نفسي أتقي البرد القارس والقادم المجهول . . وبينما كانت السيارة تعبر بنا المدينة من طرف إلى طرف ، كانت المشاهد أمامي تنطق بالوحشة أنى اتجهت . . فالدمار الذي مضت عليه سبع سنوات لا تزال ظلاله تنطق بالفاجعة . . والشوارع المقفرة تحكي حال القلوب المقفرة . . والنواعير التي طالما حركت بأنينها شجى القلوب أراها جامدة خامدة . . وقد جف من تحتها العاصي وتيبست حولها الأشجار والحقول . كان كل شيء عهدته في المدينة قد تغير ، وماتت على شفاه المشاهد هيئة الحياة . . وحدها سيارات المخابرات لم تتغير برغم السنين . . ها هي ذي تحتل مفارق الطرقات أو تطل مقدماتها من بين الأزقة تترصد الساعة ربما أحلام النائمين ! وقتها ارتد بي البصر إلى دمشق عام 85 وعدت بالذاكرة إلى ليلة رأس السنة في بيتنا بالبرامكة قبل تسع سنوات بالتحديد . . ليلة أن اصطفت سيارات المخابرات على طول الشارع في منتصف الليل . . وسألنى رئيسهم أن أذهب معه خمس دقائق وحسب ، فانتزعوني من الحياة تسع سنوات كاملات . . دون أن أعرف سببا لذلك إلى اليوم !
مظلومة في حياتي
وينكم
شطيرة
شطيرة
كملي معاك
نهاد 44
نهاد 44
جزاك الله خير
((العيون السود))
سبحان الله