عندما يبحث الإنسان عن الأخطاء، ويكون ذلك ديدنه وعادته يقع في إشكالية تشرّب الخطأ، ويصبح كأنه مغناطيس ترمي به في التراب فلا يلتقط إلا الرّان والحديد.
وهذا نمط تربوي واقع في المجتمعات أو المدارس العلمية أو المحاضن التربوية.
ومنشؤه خلل في القصد والهدف، وجنوح في أصل التربية على إعطاء الفرد نفسه حق التصويب والتخطئة، مع الإسراف في ملاحظة الآخرين، وتتبّعهم، وعدّ أنفاسهم، إضافة إلى شبهات مترسبة في أعماق النفس باتت وكأنها الحق الصُّراح.
ولو لم تكن نتيجة مَن دأْبه البحث عن الأخطاء إلا القاعدة الفيزيائية المشهورة "لكل فِعْل ردّ فِعْل، مساوٍ له في القوّة ومضادّ له في الاتجاه" لكفاه ذلك.
والتغافل عن الأخطاء ليس غباء أو سذاجة أو إقرار خطأ؛ فإن من يقرّ الناس على أخطائهم ليس فقيهاً، ومثله الذي يلاحقهم ويتابع أخطاءهم ويقسو عليهم.
والفقيه بحق هو من جمع هذا وذاك.
يقول ابن الوردي:
تجنَّبْ أصدقاءَكَ أو تغافَلْ
لهمْ تظفرْ بودّهمُ المبينِ
وإنْ يتكدّروا يوماً فَعُذْراً
فإنَّ القومَ منْ ماءٍ وطينِ
ويسري ميزان الوسط بين التغافل والملاحقة في كل المعاملات حتى بين الزوجين، وفي الصحيحين في حديث أم زرع: " قَالَتِ الْخَامِسَة: زَوْجي إِنْ دَخَلَ فَهِدَ، وَإِنْ خَرَجَ أَسِدَ، وَلاَ يَسْأَلُ عَمَّا عَهِدَ" .
يقول ابن حجر: يحتمل المدح بمعنى: أنه شديد الكرم، كثير التغاضي، لا يتفقّد ما ذهب من ماله، وإذا جاء بشيء لبيته لا يسأل عنه بعد ذلك، أو لا يلتفت إلى ما يرى في البيت من المعايب، بل يسامح ويغضي.
وغالباً ما تتحكم العواطف؛ فيتصرف الناس بإملاء منها، وأشد ما يكون هذا عندما يتعلق بالشرع، ورغم ذلك فالناس لا يحبون أن تُهان كرامتهم، أو يُستخفّ بهم.
ولما أجاز ابن عباس -رضي الله عنه- الدينار بالدينارين؛ قال له أبو أسيد الساعدي في ذلك، وأغلظ له؛ فقال ابن عباس: ما كنت أظن أحداً يعرف قرابتي من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول لي مثل هذا.
والمرء لا يسلم من الهوى في الحكم على الآخرين إلا من رحم الله.
وقد ذكر الشيخ عبد الرحمن المعلمي صاحب التنكيل تجربة شخصية في كتابه حيث يقول: "وبالجملة فمسالك الهوى أكثر من أن تُحصى، وقد جرّبت نفسي، أنني ربما أنظر في القضية زاعماً أنه لا هوى لي، فيلوح لي فيها معنى، فأقرره تقريراً يعجبني، ثم يلوح لي ما يخدش في ذاك المعنى، فأجدني أتبرم بذلك الخادش، وتنازعني نفسي إلى تكلّف الجواب عنه، وغضّ النظر عن مناقشة ذاك الجواب، وإنما هذا لأني لما قررت ذاك المعنى أولاً تقريراً أعجبني صرت أهوى صحته، هذا مع أنه لم يعلم بذلك أحد من الناس، فكيف إذا كنت قد أذعته في الناس ثم لاح لي الخادش! فكيف لو لم يَلُح لي الخادش، ولكن رجلاً آخر اعترض عليّ به! فكيف لو كان المعترض ممن أكرهه؟!
وهذا يبين لك مساحة حظ النفس، والأنانية في الجِبِلّة البشريّة.
تصيّد الأخطاء قد يكون بحسن نية ودافعه خير؛ لأنه بحث من يستشعر الغيرة والرقابة، لكن تتولد عنده الروح السلطويّة الفوقيّة على الناس.
ومن الطريف: أن أحدهم كان يكثر من قراءة سورة القارعة إذا أمَّ زملاءه، وكانوا يتندرون عليه أنه لا يكاد يحفظ غيرها، فصادف أن دخل الحرم مع زملائه؛ فقال مداعباً: لعل الإمام يقرأ تلك السورة ويغلط لأرد عليه!
وأنت حين تلتزم بقول أو رأي أن فلاناً يُؤخذ عليه كذا من الأقوال والمذاهب أو الأحوال أو الأخطاء، ثم تذهب للتحقّق من ذلك والتحرّي حوله؛ ففي الغالب قد يسعدك أن تكتشف صواب ظنك السيّئ فيه، بينما المفترض هو أن تحزن لتحقّق الخطأ في أخيك المسلم.
ولما ناظر داود الظاهري أحدهم، ردّ عليه ذلك الشخص وقال له: إذا كنت تقول كذا وكذا؛ فقد كفرت والحمد لله.
قال له داود: لا حول ولا قوة إلا بالله! كيف تفرح لكفر أخيك المسلم؟
وما أجمل هذا الأثر الصحيح الذي يصف(البحّاثة عن الأخطاء) عندما لا يرى إلا عيوب الآخرين وأخطاءهم، مع أنه قد يكون أسوأ حالاً منهم: ( يُبْصِرُ أَحَدُكُمْ الْقَذَاةَ فِي عَيْنِ أَخِيهِ وَيَنْسَى الْجِذْعَ فِي عَيْنِهِ) رواه البخاري في الأدب المفرد موقوفاً ورفعه ابن حبان في صحيحه وصحّحه الألباني.
فنحن حينما نحاول أن نزن حسنات الآخرين وسيئاتهم؛ تجدنا في الغالب نضع إصبعنا على طرف الكفة؛ لترجح هنا أو هناك بحسب ميلنا أو هوانا!
وقديماً كان حكيم الفقهاء (الشافعي) يقول: ما ناظرت أحداً إلا تمنّيت أن يظهر الله الحق على لسانه.
وقد قيل لعثمان -رضي الله عنه -وهو خليفة، إن قوماً اجتمعوا على لهو وقَصْفٍ وفجور فذهب إليهم فوجدهم قد تفرقوا؛ فحمد الله تعالى وأعتق رقبة.
ومن الجيد رؤية الجانب الإيجابي حتى لدى المخطئ، وخاصة حين يكون السياق داعياً لاستحضارها أو ذكرها، وقد مدح النبي -صلى الله عليه وسلم- النجاشي بأنه ملك لا يظلم عنده أحد وكان يومئذ كافراً، وقد قال ذلك لمناسبة أمر الصحابة بالهجرة إليه.
رأت إحدى الداعيات في بلد إسلامي امرأة محجّبة وهي تدخّن فقالت: سبحان الله محجّبة تدخّن؟
ولو شاءت لقالت: ما شاء الله بالرغم من أنها مدخنة إلا أنها التزمت بالحجاب.
صحيح أن الإنسان الذي عليه سمات التقوى قد يُعاتب، ويؤاخذ على ما لا يؤاخذ غيره، ويتحمل مسؤولية أكثر مما يتحمل غيره، لكن علينا أن نتدرب على الوزن بالقسط وألاّ نخسر الميزان.
هل يعني هذا أن علينا أن نبتلع الأخطاء ونتشرّبها؟
كلا، بل الأصل معالجة الخطأ، لكن إذا أفرط الإنسان في المعالجة احتاج إلى معالجة، وإلاّ فالنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول كما في الحديث الذي رواه أبو داود والترمذي والبخاري في الأدب المفرد وابن أبي شيبة عن أبي هريرة: (الْمُؤْمِنُ مِرْآةُ أَخِيهِ).وقد صحّحه الصنعاني، وحسّنه الألباني وغيره.
والتعبير بالمرآة هنا بليغ، فأنت ترى فيها صورتك على حقيقتها بدون تعديل، وهكذا المسلم يرى فيه أخوه المسلمُ الوجهَ الطيبَ المشرق من الصواب، كما يرى فيه الخطأ أو النقص والجانب السلبي، خلافاً لما يفهمه قوم وهم يردّدون هذا الحديث ويظنون أنه يعني بيان العيب والخلل.
سلمان العودة
حاشجيات @hashgyat
عضوة فعالة
يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.
الصفحة الأخيرة
حاشجيات
موضوع رائع وقيم جداً
بارك الله فيكِ
وجزاكِ الله خير الجزاء