بوَّابةُ الحياة
لكلِّ سعادةٍ أو لذَّةٍ في الحياةِ الدنيا ألمها الخاصُّ المجتزَأ منها، والذي لا ينفصلُ عنها.. يُقبِل معظم الناس على المغامرة في العادة، ويُقدِمون على تجربة معظم ملذّات الدنيا بحماسٍ وبغير تردّد، رغم ما يتخلّلها من آلامٍ وأوجاعٍ منقوصةٍ جزئيّة.. إلاّ أنّ القليلين فقط هم من يُقدِمون على الألم الأكبر والأتمّ فيها، ذلك الإقدام الشجاع الذي يُقدمونهُ على آلامها المنقوصةِ الأخرى..
وبرغمِ كونهِ حقيقةً محسومةً لا رجعةَ فيها، وبرغمِ كونهِ قضاءً واقعًا يسري على الناس أجمعين، المقدِم منهم والمحجِم، يبقى الألمُ الأكبر خيارًا مرفوضًا، وحقيقةً كبرى مرهوبة يفَرّ الناس منها، رغم يقينهم بأنّها ستأتي لا محالة.. قال تعالى: (قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) الجمعة: 8.
نعم إنّهُ الموت.. الحقيقةُ الكبرى التي يتّفق عليها كلُّ الناس ولكن لا يتّعظون بها. الموت، ذلك الألم الأقصى، الذي يفرُّ معظم الناس منه ويخافونه.. إنّهُ ذلك الهاجس الممقوت الذي تحجمُ الأغلبيّةُ عن التفكير فيه، خشية الوقوع في شراك النظرِ في معقّباته، وما سيليه من تسلسلاتٍ وأحداثٍ مجهولةٍ غامضة، لا يعلمها إلاّ الله.. هي في علم الغيبِ أقدارٌ جاهزة، وقضاءٌ ينتظرُ أوانهُ أن يحلّ، إلاّ أنّه رغم هذا يبقى في حسبان الناس - معظمهم على الأقلّ - آخرَ الاحتمالات، التي لا فائدة من التفكير فيها، أو ترقّب أن تحلّ بأيّ لحظة، أو تخيّلِ الطريقةِ المثلى لاستقبالها على أقلّ حدّ.
وعلى رغمِ كونه الحقيقة الحاسمة، والقضاء الأوحد، تختلف نظرةُ الناسِ للموت على أيّ حال، بحسب انتماءاتهم واختلافاتهم الدينيّةِ وتدرّجهم في الإيمان.. ثمّ تأتي مرحلة التعدّدات الفكريّة، فاختلافُ النظرة الخاصّة التي يعكسها الشخص نفسه على رؤيته للموت، انطلاقًا من تجاربه في الحياة، وطريقته الخاصّة بمعالجة الأمورِ والقبولِ بالحقائقِ المرّةِ الصعبةِ التي لا بدّ منها.
وبرغم تعدّد التعريفات، يبقى الموتُ هو تلك الفكرة المرعبة الغامضة الشفّافة في الآن عينه، التي تأتينا دائمًا بلباسها الواضح الفاضح، المعروض أمام أعيننا يومًا تلو آخر، والذي وعلى رغم شفافيته، يخفي خلف ردائهِ الواضح جسدًا غريبًا غامضًا مقحمًا في الغموضِ والتساؤلات.. أمّا من ناحيةِ الإسلام، فإنّ أمر الموت معروفٌ ومحسومٌ، خطوطُهُ بيّنة، فيطمئنُّ المؤمن إذ يستند إلى نصوص الوحي الواضحة الصريحة، من كتابٍ وسنّة، تطمئنه وتحكي له عن الجزاءِ المريح، والمنقلبِ الآمن والنعيمِ الخالدِ الأبديّ الذي ستمكث فيه أرواح المؤمنين الفائزين الذين اختار الله أن يشملهم برحمته وعنايته..
مع هذا، يبقى المؤمن التقيّ الورع، خائفاً وجلاً، مترقبًا كلّ خيطٍ من عذاب؛ إذ إنّه يرى أخطاءه الصغرى وذنوبَهُ بعين مكبّر، بخلافِ الكافر أو العاصي، الذي تستبين له المعاصي والذنوب الكبرى خيوطا رفيعةً غير مرئية، فتنقلب بعد الموت حبالا غليظة تلتفّ حول عنقه - على حدّ المجاز لا التحقيق- وحقيقة الأهوال والعذابِ القادم بعد الموت أعظم من هذا وأشدُّ رعبًا وأكثر مدعاةً لإعادة التفكير في الحياة الآنيّة المعاشة، علّها تصل إلى مرحلةٍ يصير الموت فيها أمرًا مقبولاً، إن لم نقل شيّقاً ومطلوباً..
وانظر إلى قول الصحابيّ الجليل أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه حين قال لخالد ابن الوليد رضي الله عنه وهو يحثّه على الجهادِ وبذلِ الروحِ في سبيل الله: (احرص على الموت توهب لك الحياة).. بل انظر إلى خالد ابن الوليد (سيف الله المسلول)، حين أرسل للفرس يقولُ لهم بكلّ جرأةٍ وشجاعة: ".. وَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَآتِيَنَّكُمْ بِقَوْمٍ يُحِبُّونَ الْمَوْتَ كَمَا تُحِبُّونَ الْحَياة"!
نعم هناك أناسٌ مؤمنون ينتظرون الموتَ ويتشوّقون إليه ويحبّونه تمامًا كما يحبُّ بعضُ الناسِ الحياة، لأنّه يمثّل لهم نقطة البداية الحقيقيّة التي لا نهاية لها، والذهابَ الذي يمثّل العودة إلى الحقّ والحقيقة والنعيمِ المطلقِ الأبديّ الثابت المستمرّ، الذي لا ألم فيهِ ولا نقصان.. قال تعالى: (يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَٰذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ) غافر: 39. وقال جلّ من قائل: (وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) العنكبوت: 64
ولأنّ الموت يمثّل للمؤمن لحظة اللقاء بالله عزّ وجلّ، تلك الأمنية الكبرى التي يشتاق إليها كلّ من فهم حقيقة الحياة وعرف الغاية الكبرى من خلقه، ألا وهي عبادة الله الواحد الأحد، قال تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) الذاريات: 56.
فالمؤمن إذًا ترسّخ في ذهنه مفهوم الموت، بحسب نصوصٍ بيّنةٍ لا لَبْسَ فيها، يؤمنُ بها أشدّ الإيمان ويستيقنُ بها ويستندُ إليها، لكنه يبقى مع هذا خائفا وجلًا، لأنّه يعرف أنّ الموتَ محفوفٌ بالآلامِ، منها ألمٌ يسبقه، ومنها ألم يليه، وهو على أيّ حال يخشى لحظة الألم التالية تلك أكثر من سابقتها، التي ولربما اضمحلّت وتلاشت تمامًا من حسبانه، وذلك بحسبِ إيمانه ودرجة يقينه بالله وتوكّله عليه.. فالمؤمن الحقّ يسلّم أمره لله ويحسن الظنّ به، حتّى تصبح فكرة الموت المرعبة في حسبانه فكرةً خاليةً من الألم، في الدنيا على الحدّ الأدنى.. وهو مع هذا حسنُ الظنّ بالله أيضًا فيما هو قادم بعد الحياة الدنيويّة القصيرة الزائلة، لكنّه خائف رغم هذا طامعٌ في رحمة الله التي ليس له عنها غنى.. فهو مدركٌ تمام الإدراك أنّه مهما علمَ وعملَ وجاهد، فلن ينجو من عذاب الله والألم إلاّ برحمةٍ من الله وحده.
لذا، يربطُ المؤمن أمره بالله في كلّ أحواله، ويتوكّل عليه توكّلًا يتضمّن التسليم الكامل، ويحسن الظنّ بالله ويخشاه، خشيةً ممزوجةً برجاء. فإن وصلت مرحلة الإيمان بقلبه إلى أقصى مداها، وصار الموت في باطنهِ شرفًا يُطلب، على أمل الفوز واللقاء، نال الحظوة الكبرى، وعرف الحياة الحقيقية.
قليلون هم الذين يحرصون على الموت لتوهب لهم الحياة الحقيقية.. فالناس تبحث عن الثمن الأقل، وليست مستعدة لدفع ثمن أكبر قليلا ولا بالتضحية بمزيد من الآلام..
" احرص على الموت توهب لك الحياة ".. قدِّم وضحِّ وابذل واستعدّ لأكبر جرعة من الألم الدنيوي لكي تنال الحياة الحقيقية المثلى والكاملة.. قال تعالى: (إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا) المعارج: 19.. القويّ فقط هو من يستيقن بالله ويتوكّل عليه ويستمدّ منه هذه القوة التي يستطيع بها أن يواجه الألم الأكبر ويتقبله بكل سرور ويحرص عليه..
فالمستيقن بالله والمقبل عليه يطلب لذة أعظم من كل ملذات الحياة العابرة الوهمية، لذا فهو مستعد لبذل أقصى درجة من الألم والتخلّي والانعتاق لقاء هذه اللذة القصوى التي لا لذة بعدها: رؤية الله والفوز برضوانه..
قال تعالى:(لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَد) البلد: 4.. فإنّ رحلة الحياة الدنيوية هي بلا شكّ رحلة شاقة متعبة كلها آلام متتابعة، وعثرات ومصائب ومشاكل ومنغصات.. والموت هو الألم الأخير الأقصى في الدنيا الذي يليه القرار الحاسم، إما الخلود في الشقاء والعذاب والآلام الخالدة، وإما الفوز بالنعيم الحقيقي الكامل الأبدي الذي لا يتخلّله ألم ولا شقاء ولا منغصات.. إنّ من اختار اللذة القصوى – المرحليّة والمنقوصة- في الحياة الدنيا نالها، لكن عليه أن يبذل لقاءها الدرجة القصوى من الألم الخالد، التي ستبدأ بعد الموت وتستمرّ إلى ما لا نهاية. أمّا من اختار اللذّة القصوى الخالدةَ في الدار الآخرة، فسينالها حتمًا، لقاء بذل الروحِ والملذّاتِ الزائفة المنقوصة في سبيل اللهِ، وجهاد النفسِ وتقديم رضا الله على كلِّ لذّةٍ لا يرتضيها، والإقدامِ على الألمِ الأقصى الدنيويّ – المرحليّ – الذي هو الموت، إقدام الشجعان المتوكّلين المؤمنين، المحسني الظنّ بالله.
فإنّ من يستعدّ لليوم الآخر، ويعملُ له؛ لأنّهُ يرى فيهِ الحياة الحقيقيّة، هو إنسانٌ مؤمنٌ نافذُ البصيرة، متوكّل على الله وهو حسبه، منه يستمدّ قوّته وقدرته على الصبر والتماسك والإقدام.. فالمؤمن يرى الألمَ ضعيفًا جدًّا أمام خالقه، ويستشعر معنى (الله أكبر) في أعماقه بيقينٍ كامل، وهو يعي تمامًا أنّ الله تعالى هو حقًّا أكبر من كلّ الأكدارِ والهمومِ والآلامِ والمنغّصات.
أمّا الإنسان الخائفُ الفارّ من الموت فهو إنسان متوكّل على نفسه، يرى أنّ الألم الأقصى في الحياة الدنيا أعظم من كلّ شيء، لذا فهو يخشى الموت أكثر من خشيته لله، ويرى في الحياة الدنيا ونعيمها المنقوصِ الزائل حياتهُ الحقيقيّة التي يتشبّثُ بها ويتمسّك، ولسوف يندمُ في النهاية ويقولُ يوم القيامةِ يا ليتني عملتُ لهذا اليوم وهذه الحياة الحقيقيّة الأبديّة، قالَ تعالى في كتابهِ الكريم: (يقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي)، الفجر: 24.
فاربط حياتك بالله دومًا وكن مستعدًّا للحظةِ الموتِ أتمّ استعداد، لأنّها بوّابة الدخول إلى السعادة العظمى والحياةِ الحقيقيّةِ الخالدة، فإمّا الصعودُ والقربُ والفوزُ بالراحةِ الأبديّة، وإما السقوط والهبوط إلى الدرك الأسفل من العذابِ والحسرةِ والألمِ الدائم المستمرّ الذي لا حدّ لهُ ولا نهاية.. فتهيّأ لقربِ الموتِ تدنُ منكَ الحياة!...
anoud31 @anoud31
عضوة جديدة
يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.
هنو عماد
•
جزاكي الله خير موضوع رائع
الصفحة الأخيرة