الذاكرات

الذاكرات @althakrat

محررة ذهبية

بين المدح والقدح والنصح ...

ملتقى الإيمان

إنَّ حاجَةَ المرءِ في هذه الحياةِ تَؤُزُّه إلى الخوضِ في غمارِها أزًّا،ويُدَعَّى إلى مخالطةِ بني جنسِه دعًّا، وإنه كادِحٌ إلى ربِّه كدحًا فملاقيه، ثم هو خِلال ذلك كلِّه إمّا أن يذوق حُلوَ الحياة فيَهنَأ فيها، أو أن يُلسَعَ بلهيبِ مُرِّها فيتكدِّر وهو يتجرّعها ولا يكاد يُسيغُها، غيرَ أنه يستجلِب المراغمَةَ والمصابَرَةَ بخيلِه ورَجِلِه، وهو مع هذه المراغَمَةِ في نواحي الحياة خيرٌ ممَّن زَوَى نفسَه وقضَى عليهَا بالعزلةِ في زاويةٍ ضيِّقَة خسيسَةٍ لا يَرَى فيها إلا نفسَه؛ لينأى بها عن مكابَدةِ الحياة ومخالطةِ أهلِها، وقد قال النبيّ -صلى الله عليه وسلم-: (المؤمنُ الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خيرٌ من الذي لا يخالط الناسَ ولا يصبر على أذاهم) رواه أحمد.
وفي خِضَمّ معافَسةِ الحياةِ وضُروبها يجِدُ المرءُ نفسَه بالضّرورةِ مُحاطًا بالنّاس في غيرِ ما سبيل؛ في بيتِه،وسوقِه ومَسجدِه، وعمَله، وهَيهاتَ هيهاتَ أن تكونَ سِماتُ المخالِطين لَه على حدٍّ سَواء، بل إنهم سَيمثُلون أمامَه على ثلاثةِ أصنافٍ: صِنف مادِح له، وصِنفٌ قادِح له، وصِنفٌ ناصِح له، وخَير هذه الثلاثةِ آخِرُها.
أمّا المَدح: فهو سِلاحٌ خطيرٌ ومحَكٌّ دقيق في عِفَّة اللِّسان وحُسن القَصد، وغالبًا ما يودِي بالممدوحِ إلى الغُرور والبَطَر، وبالمادِح إلى المبالَغةِ والتصنُّع والإغراءِ والنِّفاق؛ لأنَّ من نظَر إلى صاحبه بعينِ الرضا في كلّ شيء كلَّت عينه عن عيوبِه، ولربَّما اشتدَّ الإفراطُ به في المدحِ حتى يُصبح سُلَّمًا للمادِح عند الممدوح لبلوغِ مَأربٍ دنيويّ، فيكثُر مدحُه ويَقِلّ صدقُه ويحسُن لِسانُه ويخبُث قلبُه، أو يمادِح صِنوَه طلَبًا للودِّ ظاهِرًا وسِهامُه تَنطلِق غَيظًا إذا غابَ عنه.
والمحزِنُ أنَّ الناسَ مِن هذا الصِّنف ليسوا قلِيلًا، دَيدَنُ الواحدِ منهم المدحُ والإطراءُ بحقٍّ وبغير حَقّ، لهم وَلَعٌ بالإغراءِ وبقَلب السيِّئات حَسَناتٍ، يحمِل أحدُهم عن الممدوحِ القبائحَ،ويحسِّن لَه الأخطاءَ، ويسوِّق لَه الحقَّ باطِلًا والباطلَ حقًّا، حتى يألَفَ الممدوح ذلِك، فيغيبُ وعيُه عن حقيقةِ نفسِه، ويتعاظَم عَن عيبِ ذاته؛ ثُمَّ يدمِن الثناءَ والإفراطَ حتى يواليَ ويعاديَ على ذَلك؛ فصديقُه الحمِيم هو المادِح، وعدوُّه اللّدود هو المكاشِف الصادق.
ثم إنّه بذيوع مثل ذلكم يكثُر الغشُّ،وتضيعُ الحقوق،وتَذوب ثقة المرءِ بنفسِه،وتضمحلّ منفعتُه،ويضمر إخلاصه، فلا ينبض قلبُه إلا بالمَدح، ولا يتنفَّس إلا بالمدح، ولا يجالِس إلاّ المدّاحين، وحينئذ لن يكون للعقَلاء عندَه محلٌّ للاستشارةِ، ولا للمخلِصين طريقٌ للاستنارة؛ حيث ذهب به حبُّ المدح والإطراءِ كلَّ مذهب، فصدَّه عن استبصارِ المصلحةِ والنفع المَعلوم.
ولذا لم يأتِ المدحُ والإطراء في وجهِ الممدوح مذمومًا على هذهِ الصفة إلاّ لما يفضي إليه من الغرورِ والإعجابِ القاضِيَين بالبعدِ عن الأصلح،وتضييعِ الأنفع،وكسرِ الهِمَم عن بلوغِ المعالي، فقد سمع النبيُّ رجلًا يمدَح صاحبَه أمامَه، فقال -صلوات الله وسلامُه عليه-: (ويحَك، قطعتَ عُنُقَ صاحبك) قالها مرارًا. رواه البخاري ومسلم. وقال -صلوات الله وسلامه عليه-: (إذا رأيتم المدَّاحين فاحثُوا في وجوهِهم الترابَ) رواه مسلم، وقال -صلوات الله وسلامه عليه-: (إيّاكم والتّمادُحَ؛ فإنّه الذَّبحُ) رواه أحمد وابن ماجه.
وهذا كلُّه لا يمنع إعطاءَ كلِّ ذي حقٍّ حقَّه، وإنزالَ الأمورِ منازلَها من خلال الشكرِ للمحسِن حقيقةً، والتشجيعِ لصاحب الهمّة بالثناء المنصفِ المعتدِل؛ لأنَّ ذلكم خُلُق من أخلاقِ الإسلامِ الرفيعة، ومن لا يشكر الناسَ لا يشكُر الله، وقد أثنى النبيّ –صلى الله عليه وسلم-في وجوهِ عددٍ من الصحابة على وجهِ الحقيقة والقصدِ مع أمنِ الافتتانِ والغرور.
والحذَرَ الحذَر مِن حُبِّ المرءِ أن يُمدَح بما لَيس فيه أو بما لم يَفعَله، فقد قالَ جلّ شأنه: {لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنْ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.
أمّا الصّنفُ الثاني: فهو ذَلكم الرّجلُ القادِح المنطَلِقُ قدحُه من خِسَّة طبعِه، ولُؤم نَفسِه، وقَذارةِ لِسانه، فهوَ لا يُرَى إلاّ طعَّانًا لعّانًا فَاحِشًا بذيئًا، لِسانُه كما الذّباب لا يقَع إلاّ عَلى الأذَى، لا يَعرف طريقًا إلى الإنصافِ، ويعذِّبه السكوتُ، لسانُه كالعقربِ وقَلَمُه كالعَقور، يقرِض الأعراضَ، ويتطاوَل على الكِرام واللِّئام على حدٍّ سواء، لا يعجِبه فعلُ أحد، ولا يستسيغ الإنصافَ، يُدمِن النقدَ، ويكنز العدلَ، ويُنفق القدحَ، يحبّ أن يخالِفَ ليذكَر وأن يبَلبِل ليُشكَر، يتَقَحَّم في الغَمَرات والمزلاَّت والخوضِ في الكلامِ عَلى غير هُدى، وربما لا تلذُّ نفسُه إلا حين يكون قدحُه ذائعًا في الملأ شائعًا بين الأصحاب، يرَى الناس كلَّهم خطّائين وأنه هو المصيبُ وحدَه، إن تحدَّث عن الماضي فكأنه مطَّلِعٌ عن الخبايا، وإن تحدَّث عن المستَقبَل فكأنه حديثُ من سيرى وسيسمَع، يرى نفسَه فقيهًا وحاكمًا وطبيبًا ومهندسًا ومعلِّمًا، لا يعجِبه العَجب، ولا تتوق نفسُه لحُسن الأدَب، وإنما يلوك لسانَه فيغتاب ويبهتُ، جاعِلاً لسانَه كالمقراض، يقلَع هنا ويجرح هناك، فللَّه ما أشبهَ حالَه بلاحِسِ المبرَد؛ كلّما ازداد لَحسُه ازداد دمُه على المبرد.
وأمثالُ هؤلاء آفةٌ عَلى المجتمعاتِ، وهم شِرار الخَلق الذين قال عَنهم النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: (إنَّ شرَّ الناس منزلةً عند الله يومَ القيامة من تَركَه الناسُ اتِّقاءَ فُحشِه) رواه أبو داودَ والترمذي، وفي الصّحيح قولُ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم-: (المسلم من سلِم المسلمون من لسانه ويده).
ثم إنّه قد يَشتدّ الأمر بلاءً إذا كان القَدح مصوَّبًا في نحورِ ذَوي الهيئاتِ والمكانة الرفيعةِ كالسلطان والعالِم؛ حيث إنَّ لهما من الإجلال والتقديرِ ما يقبُح معه التشهيرُ بهما أو التعيير لهما، يقول ابن عبد البرّ -رحمه الله-: "أحقُّ الناسِ بالإجلال ثلاثةٌ: العلماء والإخوان والسّلطان، فمن استخفَّ بالعلماء أفسَد مروءتَه، ومن استخفَّ بالسلطان أفسَد دنياه، والعاقلُ لا يستخِفّ بأحد".
وممّا يزيد الأمرَ تأكيدًا وتوثيقًا حينما يكون الخوض فيما قالَ الله أو قال رسولُه -صلى الله عليه وسلم-، فليس ذلك إلاّ للعلماء، فهم وَرَثة الأنبياء ومصابيح الدُّجى؛ ولذلك قال سفيانُ الثوريُّ -رحمه الله-: "ما كُفِيتَ عن المسألةِ والفُتيا فاغتنِم ذلك ولا تنافِس، وإيّاك أن تكون ممن يحبّ أن يُعمَل بقوله أو يُنشَر قوله أو يُسمَع قولُه، وإيّاك وحبَّ الشهرة؛ فإنَّ الرجلَ يكون حبُّ الشهرة أحبَّ إليه من الذهبِ والفضة، وهو بابٌ غامِض لا يبصِره إلا العلماء السّماسِرة".
{وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً}
لقد مرَّ مَعَنا ذكرُ صِنفين من النّاس مَذمومَين، وها نحنُ نَذكر ثالثَ الأصناف الخيارَ الوسَط، وهو الصِّنفُ الناصحُ منَ النّاس، وهو الذي يصدُق في نصحِه ويخلِص في قصدِه، إن مدَح مدَح بوجهٍ مشروع، وإن قدَح وجرَح فعلى وجهِ الإصلاحِ وحُسن المقصد، بأسلوبِ الحكيم وصورةِ المعرِّضِ لا المصرِّح، إن راجَع خَطأَ أحدٍ ما فإنما يُراجِعه في لباقةٍ وبراعةٍ؛ ليحملَ المخطِئ على الخير ويَصدَّه عن الشرّ، وهو في الوقت نفسِه يجتنِب النّصحَ المعلَن بين النّاس؛ لأنّه لونٌ مِن ألوانِ التوبيخِ المودي إلى التّعيير.
ولا جرَمَ أنَّ تبادلَ النصحِ الخالص الصادقِ الأمين هو سُلَّم الفلاح وطريقُ النجاح، وهو لونٌ من ألوان التعاون على البر والتقوى، وهو الصبغةُ الأصيلة التي أمَر الله بها جلّ شأنه في قوله: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ}، وقد أمر بها النبيّ –صلى الله عليه وسلم-في قوله: (الدين النصيحة) قالها ثلاثا، قالوا: لمن يا رسولَ الله؟ قال: (لله ولكتابِه ولرسولِه ولأئمّةِ المسلمين وعامَّتهم) رواه مسلم.
فالواجبُ على المسلم لزومُ النصيحةِ للمسلمين كافّة وتركُ الخيانة لهم بالإضمارِ والقول والفعل معًا؛ إذ إنَّ المصطفى –صلى الله عليه وسلم-كانَ يشترِطُ على من بايَعَه من أصحابِه النصحَ لكلِّ مسلم. متفق عليه.
ثم إنَّ خيرَ النّاس أشدُّهم مُبالغةً في النصيحةِ الصادِقة، ومِن هنا يصير ضَربُ النّاصِح خَيرًا من تحيّةِ الشانِئ.
بسم الله الرحمن الرحيم، {وَالْعَصْرِ ،،إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ ،،إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}.




للشيخ سعود بن إبراهيم الشريم -حفظه الله-
18
811

يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.

تسجيل دخول

pink-girl
pink-girl
جزاك الله الجنان بلا حساب:26:
رى الوادى
رى الوادى
ثالثَ الأصناف الخيارَ الوسَط، وهو الصِّنفُ الناصحُ منَ النّاس، وهو الذي يصدُق في نصحِه ويخلِص في قصدِه، إن مدَح مدَح بوجهٍ مشروع، وإن قدَح وجرَح فعلى وجهِ الإصلاحِ وحُسن المقصد، بأسلوبِ الحكيم وصورةِ المعرِّضِ لا المصرِّح، إن راجَع خَطأَ أحدٍ ما فإنما يُراجِعه في لباقةٍ وبراعةٍ؛ ليحملَ المخطِئ على الخير ويَصدَّه عن الشرّ، وهو في الوقت نفسِه يجتنِب النّصحَ المعلَن بين النّاس؛ لأنّه لونٌ مِن ألوانِ التوبيخِ المودي إلى التّعيير.

فعلا الخيار الوسط. احسن شىء.ولكن احس انه قليل في هذا الزمن
جزاك الله خير اختي الذاكرات كما عودتينا....مواضيعك رائعه.....
اللهم ارزقها الجنه وما قرب اليها من قول وعمل....
نورعلىنور123
نورعلىنور123
ثالثَ الأصناف الخيارَ الوسَط، وهو الصِّنفُ الناصحُ منَ النّاس، وهو الذي يصدُق في نصحِه ويخلِص في قصدِه، إن مدَح مدَح بوجهٍ مشروع، وإن قدَح وجرَح فعلى وجهِ الإصلاحِ وحُسن المقصد، بأسلوبِ الحكيم وصورةِ المعرِّضِ لا المصرِّح، إن راجَع خَطأَ أحدٍ ما فإنما يُراجِعه في لباقةٍ وبراعةٍ؛ ليحملَ المخطِئ على الخير ويَصدَّه عن الشرّ، وهو في الوقت نفسِه يجتنِب النّصحَ المعلَن بين النّاس؛ لأنّه لونٌ مِن ألوانِ التوبيخِ المودي إلى التّعيير. فعلا الخيار الوسط. احسن شىء.ولكن احس انه قليل في هذا الزمن جزاك الله خير اختي الذاكرات كما عودتينا....مواضيعك رائعه..... اللهم ارزقها الجنه وما قرب اليها من قول وعمل....
ثالثَ الأصناف الخيارَ الوسَط، وهو الصِّنفُ الناصحُ منَ النّاس، وهو الذي يصدُق في نصحِه ويخلِص في...
ورده الجوري
ورده الجوري
جزاك الله كل خير وجعله الله في ميزان حسناتك.
الذاكرات
الذاكرات
جزاك الله الجنان بلا حساب:26:
جزاك الله الجنان بلا حساب:26:
اللهم آمين ولكِ مثلهُ وزيادة ،،،