أفلاكٌ ثلاث .. تدور بنا ..
تصنع الحياة من أحوالنا : الأمس واليوم والغد.
حاضرنا اليوم ..يذوب غداً في عتمة ماضينا ..
ويتخلّق في رحم الحاضر جنين المستقبل
وهكذا .. ينطلق بنا ركب الزمان بين حلٍّ وترحال..
يضفي لمسة جديدُهُ ، ويعيد حكاية قديمهُ ..
كحبات منظومة الشمل (المسبحة) ..تلتقطها الأنامل وتسقطها ..
أو كسلسلة متصلة الحلقات .. تشكل لنا ملامح الدهر :
(هل الدهر إلا اليوم أو أمس أو غد
كذاك الزمان بيننا يَـتَردَّد
يرد علينا ليلــة بعد يومها
فلا نحن نبقى ولا الدّهر ينفد..)
اتصلت بأطراف نفسي في وقفة تأمٌل ..
وأنا أتوسم شهور عامي الراحل
وأفرز من ذاكرتي أفراحه وأتراحه
فواعجبا ..!
وجدت كلّ فرحٍ قديمٍ ..
فتّق بي حزناً جديداً
وكأنّ أعراس الأمس تحولت مآتم اليوم !!
وتمر طارقةٌ فتثير هواجع تساؤلاتي :
يانفس أهذه حقيقة الحياة ؟
لاتترك حلاوة شهدٍ رشفناه بالأمس
إلا وتحيله اليوم إلى مرارة ؟!
كيف تنبثق نديات الجراح
من سالف الأفراح ...؟!
الأمس لاح لي .. أمس حياتي
وانتفض حياً من نصف قلبي المدفون في التراب
ليصفع اليوم عيني بدمعة آلمتني ..
فإذا بأفراح الأمس التي انقلبت حزناً
تثير زوبعة هوجاء تقلب أمان الروح الساكنة
وتبعث الأموات من القبور ..
وتخلط ذكرى القريب بالبعيد ..
انتزعْتُني .. من ذهن الحاضر والأمس ..
واقتلعتُ جذوري من جلستي الصفراء
ورحلت لضفة غروبٍ مجهولة العنوان
عند مرفأ حياتي ..
هناك اسندت ظهري على متكأ راحتي
و شبكت عشري ..
على أضالع صدري ..
وأرسلت طرف التأمّل بعيداً ... ليسيح في الفضاء ..
وليعانق فتنة الأصيل المتورد..
ويرقب أمواجي .. تعلو وتهبط ..
في محيط وجداني الزاخر
لتلتقط من الأعماق كنزي..
وتكشف عن خبيئتي ..
حيث أطياف أحبتي ..
وتركتها تطفو بي فوق لجّتي ..
.... ~ ~ ....
أحبائي ~
مهما تراخت الأيام ..
وتغيرت بنا معالم الزمان والمكان
فأنتم في الروح التي امتزجتم بها
تحملكم معها... حيثما رحلت وأينما حلّت..
فالحبيب الغائب لايتغير الزمان ولا المكان
في القلب الذي أحبه
وحبكم لايعتريه تأويل
ولا تحكمه شبهة
استشرت روحي فأفتتني ..
أنكم فيها كيان وكينونة
وبقاء وتجلي ..
أنتم الخلايا التي تملأ أنفاسي بالشهيق ..
هاأنذا أحيا بكم هذه اللحظات
دون أن أخترق الصمت بيننا
لينطق ..
فروحي تتصل بكم ..
رغم بعد المزار ..
عطشتُ لكم .. ولم يروني الاصطبار
فانسلخت عن ذاتي لأرتشفكم حباً
في برزخ عالم يشكل لي وحدي مرائيه
ويرتدي حلة شوقي الشغوف بكم..
في هذا الحريق المشتعل في سماء الغروب
فكونوا لي في الغياب
كما تمثلتم لروحيَ الآن..
قطرات فرح وزخات ضياء..
كونوا شهقة روحي تأتي إليّ مسرعة
حين أستدعيها في لحظة حنين تستبدني
فتريح أنفاسي المختنقة ..!
ها أن صوتي المكتوم
قد انسل مني..
ليثبِّت على جدار العلن تواشيح قلبي
ويستل السيف من مهجة حرفي الذي أرقه النأي
ويستنشق وهماً تحمل ذراته بلسم الشفاء
ويغرق في آخر موجات ضياء مسفوح الدم
في الأفق..!
رَحيــــــــلْ~
وهنا تودّع النوارس الأمواج ..
وترحل بعيداً مع آخر أصداء صيحاتها ..
في الأفق الغارب ..حتى تتلاشى ..!
فأقرأ ختام تراتيل قلبي على صفحة السماء المضرجة
التي استحمت ألوانها في نهر من أرجوانٍ وعطور
قبل انطفاء البريق..!
الْأزْهارُ تَنامُ مُبَكّرةً~
وهناك على المدى البعيد في حقلي الغائب
تنام عيون البنفسج
وتسكت لغة السنديان العتيق
وتسلم ليلكةٍ عينيها المنداة .. للرقاد ..
ويغفو الياسمين خلف زجاج النافذة ..!
وأتابع انحدار شرفات المغيب حتى آخر الرمق
وأعود .. لأوقظ ذاكرتي .. من أخيلة سفري
هذا الذي بلل عطش حروفي شيئاً..
وأعادني .. جزءاً
وسافربي لآخر لمسة ضياء
ثمّ أفاق .. على اقفرار المساء.