تأملات في أحوال الجوارح يوم القيامة ـ الجزء الثاني ( أحوال الوجه)

ملتقى الإيمان





تأملات في أحوال الجوارح يوم القيامة ـ الجزء الثاني ( أحوال الوجه)


سبق أن أشرت في المقالة الماضية إلى أحوال البصر في ذلك الموقف العظيم ، وما يسبقه من مقدمات وإراهاصات ، وفي هذه المقالة ، سأشير ـ وباختصار ـ إلى أحوال الوجه يوم القيامة :

بعدما يرى أهل الموقف من الأهوال ما يرون ، وحين يجاء بجهنم تجثو الأمم على ركبها من هول ذلك الأمر وفظاعته ، ولا أجد وصفاً أعظم ولا أبلغ من وصف العليم بتلك الأحوال سبحانه ، حينما قال سبحانه ـ عن عباده الصالحين ـ : ( يخافون يوماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالآبْصَارُ) .

هناك ـ وفي ذلك اليوم ـ تنقسم وجوه الخلق يوم القيامة إلى قسمين اثنين فقط ، يوضح ذلك قوله تعالى :
( يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ : فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ* وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) ،
وهذا كقول الله تعالى : ( وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ ) .

ولك أن تتصور أن هذه الوجوه المسودّة ـ والعياذ بالله ـ لم تصل إلى أرض المحشر إلا بعد أن ضربت الملائكة وجوههم وأدبارهم ، عند الاحتضار ، وقبل الانتقال إلى عرصات الموقف ، كما قال سبحانه : (وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ ) ،
وكما قال : (فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ) .

بل لقد أيقنوا بإفلاسهم ،وسوء حالهم منذ أن رأوا الأمر عياناً ، كما قال الله : (فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ) .

إنها ـ كما قال الله ـ (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ) أي كالحة عابسة( تظن )أي تستيقن ( أن يفعل بها فاقرة ) أي : داهية عظيمة ...

إنها وجوه يومئذٍ ( عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ * أؤلئك هم الكفرة الفجرة) ، فهي وجوهٌ علاها الغبار ، وغشاها القتار ،وهو شبه الدخان ، يغشى الوجه من الكرب والغم .

واستمع إلى سبب ذلك في قول ربك جل جلاله : ( وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ، مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ ، كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً ، أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ).

فإذا كان هذا حال هذه الوجوه وهي في العرصات ، لم تدخل النار بعد ، فما ظنكم بالطريقة التي ستحشر بها هذه الوجوه الكالحة المسودة المكفهرة ؟ وإلى أين ؟ إلى النار !!

استمعوا إلى قول الله : ( إن المجرمين في ضلال وسعر*يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ ) ...

( وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً) ...

( الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً) .

حتى إذا ما وصلوا إلى النار ألقوا وكبوا كباً كما يكب الشيء الذي يلقيه صاحبه إلقاء المبغض الكاره : ( وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) ...

فلعلهم يستطيعون أن يهربوا هنا أو هناك ! (يَقُولُ الآنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ ؟ )

فيأتي الجواب القاطع لكل احتمال يمكن أن يتردد في قلوب أولئك : ( كَلا لا وَزَرَ* إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ) ، ( لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ ) .

فإذا كان هذا حالها وهي تحشر إلى النار ، فما ظنك بهذه الوجوه بعد أن تلفحها النار بلهبا المحرق ؟
وما ظنك بها ـ بعد أن أضناها العطش ، وسألت الإغاثة لسد ما يجدونه من حرارة بطونهم ـ فإذا بهم يغاثون بماء كالمهل ، يشوي الوجوه ، (بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقاً)
،اللهم إنا نعوذ بك من حال هؤلاء .

وفي مقابل هذه الأوصاف الموحشة ، لتلك الوجوه الكالحة ، فإن الله تعالى وصف وجوه أهل الإيمان بأوصاف تليق بها ، جزاءاً وفاقاً ، إنه وجوه المتوضئين ، الراكعين ، الساجدين ، إنها وجوه الذاكرين المخبتين ( وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) .
يا الله !
ما أعظم الفرق بينهم وبين من يقدم أرض المحشر وقد بيّض الله وجهه ، ونضّر جبينه ، ويعده ربه برحمته الخالدة ؟!.
ألا يحق لتلك الوجوه التي بشرّت بجنة ربها ،و الخلود فيها أن تكون وجوهاً تعلوها النضارة ، والسرور ؟

بلى والله ، ولذلك قال الله تعالى : ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إلى ربها ناظرة )
، (تعرف في وجوههم نضرة النعيم ) .

وحق لها والله أن تكون ناضرة ! أليست هي الوجوه التي لطالما سجدت لله ؟!

أليست هي الوجوه التي لطالما تحدرت الدموع عليها من خشية الله ؟!

أليست هي الوجوه التي حفظت ما فيها من جوارح : في سمعها وبصرها ولسانها عما لا يرضي الله ؟!

ثم تاج ذلك كله أن تتنضر في جنة النعيم برؤية رب العالمين سبحانه وتعالى ، ذلك النعيم الذي لا يشبهه نعيم ، وهو الزيادة التي وعد الله بها المؤمنين من عباده في قوله (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ) .

إنها الوجوه التي قال الله عنها : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ * ضاحكة مستبشرة ) ،إنها وجوه الناس الذين يأخذ أحدهم كتابه أحدهم بيمينه فيقول ـ من فرحه وسروره ـ ( هاؤم اقرأوا كتابيه ، إني ظنتت أني ملاق حسابيه )

إنها : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ * لسيعها راضية * في جنة عالية * قطوفها دانية ...)

ولئن كانت وجوه الكفرة ، عليها غبرة ، وترهقها قترة ، فقد سلم الله وجوه المؤمنين من ذلك ، بل هي كما قال الله : (وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) .

ومن عجب أنك ترى مقدماتٍ لهذه الأحوال في الدنيا قبل الآخرة !
فلله ، كم من شخص ـ في هذه الدنيا ـ خلق أسود البشرة ، من أهل الإيمان ، إلا أنك ترى عليه نضرة الإيمان ، وبهاء الطاعة ، والعكس صحيح ، فكم من رجل خلق أبيض البشرة ، إلا أنك ترى ظلمة المعصية على وجهه ، وآثار الضيق على محياه !

فسبحان من أشهد عباده شيئاً من أحوال ذلك اليوم ؟!


وقفة ،ومثال واقع ولا بد :

فلكأني بوجه بلال ، الذي قضى الله أن يكون أسود البشرة ، لكأني به يأتي أبيض الوجه ، يطفح بالبشر والسرور ، ويتهلل بالرضا والنضارة !
ولكأني بذلك البغيض المقيت أبي لهب ، والذي لقب وكني بأبي لهب ، لشدة الحمرة التي تعلو وجهه ، لكأني به مسود الوجه ، عليه غبرة ، ترهقه قترة ، لماذا ؟ إنه من الكفرة الفجرة .
فنسأل الله تعالى أن يبيض وجوهنا يوم تبيض وجوه وتسود وجوه .



م/ن


قريبًا الجزء الثالث إن شاء الله


6
1K

يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.

تسجيل دخول

الاميرة الشهري
بارك الله فيكَ على هذه المشاركة
وجزآك الله خيراً على هذا المجهود
وجعله الله في ميزان حسناتك
آنين الصمت
آنين الصمت
فنسأل الله تعالى أن يبيض وجوهنا يوم تبيض وجوه وتسود وجوه <<< اميييين وجميع المسلمين والمسسلمات
والله يجعله في ميزان حسسناتك
عائشة المشرقة
موضوع قيم و مؤثر

بارك الله فيك
ما زلت للعلم صغيرة
بارك الله في مروركن الطيب ..وجزاكن الله خيرا
ـ أم ريـــــم ـ
اللهم لاتجعل للآهات مقرا في جوفها ولا للهم مستقرا في صدرها

اللهم اكسي قلبها نوراواجعل حياتها أنسا وفرحا وسرورا

طرح هادف وقيم جعله الله في موازين حسناتك

وغفرالله لك ولوالديك وأسكنكم الفردوس الأعلى



أختـــــكم "أم ريــــــــم"