بسم الله الرحمن الرحيم
من تفسير سورة الشيخ محمد العثيمين رحمه الله
فإن قال قائل: كيف يعرف الفرق بين النعم التي يجازى بها العبد، والنعم التي يستدرج بها العبد؟
فالجواب: أن الإنسان إذا كان مستقيماً على شرع الله فالنعم من باب الجزاء؛ وإذا كان مقيماً على معصية الله مع توالي النعم فهي استدراج..
.4 ومن فوائد الآيتين: أن صاحب الطغيان يعميه هواه، وطغيانه عن معرفة الحق، وقبوله؛ ولهذا قال تعالى: { ويمدهم في طغيانهم يعمهون }؛ ومن الطغيان أن يُقَدِّم المرء قوله على قول الله ورسوله؛ والله تعالى يقول: {يا أيها الذين آمنوا لا تقدِّموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم} (الحجرات: 1).
القـرآن
)أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ) (البقرة:16).
التفسير:
.{ 16 } قوله تعالى: { أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى }؛ "أولاء" اسم إشارة؛ والمشار إليهم المنافقون؛ وجاءت الإشارة بصيغة البُعد لبُعد منزلة المنافق سفولاً؛ و{ اشتروا } أي اختاروا؛ و{ الضلالة }: العماية؛ وهي ما ساروا عليه من النفاق؛ و{ بالهدى }: الباء هنا للعوض؛ أخذوا الضلالة، وأعطوا الهدى . مثلما تقول: اشتريت الثوب بدرهم؛ فالهدى المدفوع عوض عن الضلالة المأخوذة، كما أن الدرهم المدفوع عوض عن الثوب المأخوذ..
قوله تعالى: { فما ربحت تجارتهم } أي ما زادت تجارتهم . وهي اشتراؤهم الضلالة بالهدى..
قوله تعالى: { وما كانوا مهتدين } أي ما كانوا متصفين بالاهتداء حينما اشتروا الضلالة بالهدى؛ بل هم خاسرون في تجارتهم ضالون في منهجهم..
الفوائد:
.1 من فوائد الآية: بيان سفه هؤلاء المنافقين، حيث اشتروا الضلالة بالهدى..
.2 ومنها: شغف المنافقين بالضلال؛ لأنه تبارك وتعالى عبر عن سلوكهم الضلال بأنهم اشتروه؛ والمشتري مشغوف بالسلعة محب لها..
.3 ومنها: أن الإنسان قد يظن أنه أحسنَ عملاً وهو قد أساء؛ لأن هؤلاء اشتروا الضلالة بالهدى ظناً منهم أنهم على صواب، وأنهم رابحون، فقال الله تعالى: { فما ربحت تجارتهم }..
.4 ومنها: خسران المنافقين فيما يطمعون فيه بالربح؛ لقوله تعالى: ( فما ربحت تجارتهم )..
.5 ومنها: أن المدار في الربح، والخسران على اتباع الهدى؛ فمن اتبعه فهو الرابح؛ ومن خالفه فهو الخاسر؛ ويدل لذلك قوله تعالى: {والعصر * إن الإنسان لفي خسر * إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر} ، وقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم * تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون} : تقف على {خير لكم} ؛ لأن {إن كنتم تعلمون} إذا وصلناها بما قبلها صار الخير معلقاً بكوننا نعلم . وهو خير علمنا أم لم نعلم..
.6 . ومن فوائد الآية: أن هؤلاء لن يهتدوا؛ لقوله تعالى: { وما كانوا مهتدين }؛ لأنهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً؛ ولذلك لا يرجعون؛ وهكذا كل فاسق، أو مبتدع يظن أنه على حق فإنه لن يرجع؛ فالجاهل البسيط خير من هذا؛ لأن هذا جاهل مركب يظن أنه على صواب . وليس على صواب..
القـرآن
)مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ) (البقرة:17)(صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ) (البقرة:18).
التفسير:
.{ 17 } قوله تعالى: { مثلهم } أي وصْفهم، وحالهم { كمثل الذي استوقد ناراً } أي طلب من غيره أن يوقد له ناراً، أو طلب من غيره ما يوقد به النار بنفسه؛ { فلما أضاءت ما حوله } أي أنارت ما حول المستوقد، ولم تذهب بعيداً لضعفها؛ { ذهب الله بنورهم } يعني: وأبقى حرارة النار؛ و "لما" حرف شرط، و{ أضاءت } فعل الشرط؛ و{ ذهب الله } جواب الشرط؛ والمعنى: أنه بمجرد الإضاءة ذهب النور؛ لأن القاعدة أن جواب الشرط يلي المشروط مباشرة..
وفي هذه الآية نجد اختلافاً في الضمائر: { استوقد }: مفرد؛ { حوله }: مفرد؛ { بنورهم }: جمع؛ { تركهم }: جمع؛ { لا يبصرون }: جمع؛ قد يقول قائل: كيف يجوز في أفصح الكلام أن تكون الضمائر مختلفة والمرجع فيها واحد؟ الجواب من وجهين:.
الأول: أن اسم الموصول يفيد العموم؛ وإذا كان يفيد العموم فهو صالح للمفرد، والجمع؛ فتكون الضمائر في { استوقد }، و{ حوله } عادت إلى اسم الموصول باعتبار اللفظ؛ وأما { نورهم }، و{ تركهم }، و{ لا يبصرون } فعادت إلى الموصول باعتبار المعنى..
الوجه الثاني: أن الذي استوقد النار كان مع رفقة، فاستوقد النار له، ولرفقته؛ ولهذا قال تعالى: { أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم... } إلخ..
وعلى الوجه الثاني تكون الآية ممثلة لرؤساء المنافقين مع أتباعهم؛ لأن رأس المنافقين هو الذي استوقد النار، وأراد أن ينفع بها أقرانه، ثم ذهبت الإضاءة، وبقيت الحرارة، والظلمة، وتركهم جميعاً في ظلمات لا يبصرون..
قوله تعالى: { وتركهم في ظلمات }: جمعها لتضمنها ظلمات عديدة؛ أولها: ظلمة الليل؛ لأن استيقاد النار للإضاءة لا يكون إلا في الليل؛ لأنك إذا استوقدت ناراً بالنهار فإنها لا تضيء؛ و الثانية: ظلمة الجو إذا كان غائماً؛ و الثالثة: الظلمة التي تحدث بعد فقد النور؛ فإنها تكون أشد من الظلمة الدائمة؛ و{ لا يبصرون } تأكيد من حيث المعنى لقوله تعالى: { في ظلمات } دال على شدة الظلمة..
.{ 18 } قوله تعالى في وصفهم: { صم } خبر لمبتدأ محذوف . أي هم صم؛ و{ صم } جمع أصم؛ و"الأصم" الذي لا يسمع، لكنه هنا ليس على سبيل الإطلاق؛ بل أريد به شيء معين: أي هم صم عن الحق، فلا يسمعون؛ والمراد نفي السمع المعنوي . وهو السمع النافع؛ لا الحسي . وهو الإدراك؛ لأن كلهم يسمعون القرآن، ويفهمون معناه، لكن لما كانوا لا ينتفعون به صاروا كالصم الذين لا يسمعون؛ وذلك مثل قول الله تعالى: {ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون} (الأنفال: 21).
قوله تعالى: { بُكْمٌ } جمع أبكم؛ وهو الذي لا ينطق؛ والمراد أنهم لا ينطقون بالحق؛ وإنما ينطقون بالباطل؛ و{ عُمْيٌ } جمع أعمى؛ والمراد أنهم لا ينتفعون بما يشاهدونه من الآية التي تظهر على أيدي الرسل . عليهم الصلاة والسلام..
فبهذا سُدت طرق الحق أمامهم؛ لأن الحق إما مسموع؛ وإما مشهود؛ وإما معقول؛ فهم لا يسمعون، ولا يشهدون؛ كذلك أيضاً لا يؤخذ منهم حق؛ لأنهم لا ينطقون بالحق؛ لأنهم بُكم؛ فهم لا ينتفعون بالحق من غيرهم، ولا ينفعون غيرهم بحق..
قوله تعالى: { فهم لا يرجعون }: الفاء هذه عاطفة، لكنها تفيد السببية . أي بسبب هذه الأوصاف الثلاثة لا يرجعون عن غيِّهم؛ فلا ينتفعون بسماع الحق، ولا بمشاهدته، ولا ينطقون به..
الفوائد:
.1 من فوائد الآيتين: بلاغة القرآن، حيث يضرب للمعقولات أمثالاً محسوسات؛ لأن الشيء المحسوس أقرب إلى الفهم من الشيء المعقول؛ لكن من بلاغة القرآن أن الله تعالى يضرب الأمثال المحسوسة للمعاني المعقولة حتى يدركها الإنسان جيداً، كما قال تعالى: {وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون} ..
.2 ومنها: ثبوت القياس، وأنه دليل يؤخذ به؛ لأن الله أراد منا أن نقيس حالهم على حال من يستوقد؛ وكل مثل في القرآن فهو دليل على ثبوت القياس..
.3 ومنها: أن هؤلاء المنافقين ليس في قلوبهم نور؛ لقوله تعالى: { كمثل الذي استوقد ناراً }؛ فهؤلاء المنافقون يستطعمون الهدى، والعلم، والنور؛ فإذا وصل إلى قلوبهم . بمجرد ما يصل إليها . يتضاءل، ويزول؛ لأن هؤلاء المنافقين إخوان للمؤمنين من حيث النسب، وأعمام، وأخوال، وأقارب؛ فربما يجلس إلى المؤمن حقاً، فيتكلم له بإيمان حقيقي، ويدعوه، فينقدح في قلبه هذا الإيمان، ولكن سرعان ما يزول..
.4 ومن فوائد الآيتين: أن الإيمان نور له تأثير حتى في قلب المنافق؛ لقوله تعالى: {فلما أضاءت ما حوله} الإيمان أضاء بعض الشيء في قلوبهم؛ ولكن لما لم يكن على أسس لم يستقر؛ ولهذا قال تعالى في سورة المنافقين . وهي أوسع ما تحدَّث الله به عن المنافقين: {ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم} ..
.5 ومنها: أنه بعد أن ذهب هذا الضياء حلت الظلمة الشديدة؛ بل الظلمات..
.6 ومنها: أن الله تعالى جازاهم على حسب ما في قلوبهم: { ذهب الله بنورهم }، كأنه أخذه قهراً..
فإن قال قائل: أليس في هذا دليل على مذهب الجبرية؟
فالجواب: لا؛ لأن هذا الذي حصل من رب العباد عزّ وجلّ بسببهم؛ وتذكَّر دائماً قول الله تعالى: {فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم} . حتى يتبين لك أن كل من وصفه الله بأنه أضله فإنما ذلك بسبب منه
.7 ومن فوائد الآيتين: تخلي الله عن المنافقين؛ لقوله تعالى: ويتفرع على ذلك: أن من تخلى الله عنه فهو هالك . ليس عنده نور، ولا هدًى، ولا صلاح؛ لقوله تعالى: (وتركهم في ظلمات لا يبصرون ).
.8 ومن فوائد الآيتين: أن هؤلاء المنافقين أصم الله تعالى آذانهم، فلا يسمعون الحق؛ ولو سمعوا ما انتفعوا؛ ويجوز أن يُنفى الشيء لانتفاء الانتفاع به، كما في قوله تعالى: {ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون} (الأنفال: 21).
.9 ومنها: أن هؤلاء المنافقين لا ينطقون بالحق . كالأبكم..
.10 ومنها: أنهم لا يبصرون الحق . كالأعمى..
.11 ومنها: أنهم لا يرجعون عن غيِّهم؛ لأنهم يعتقدون أنهم محسنون، وأنهم صاروا أصحاباً للمؤمنين، وأصحاباً للكافرين: هم أصحاب للمؤمنين في الظاهر، وأصحاب للكافرين في الباطن؛ ومن استحسن شيئاً فإنه لا يكاد أن يرجع عنه..
يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.

التفاحة الحلوة22 :
. إن حل الميتة للمضطر يحتمل حالين : الأولى: أن نقول : إن الله على كل شئ قدير ؛ فالذي جعلها خبيثة بالموت بعد أن كانت طيبة حال الحياة قدر على أن يجعلها عند الضرورة طيبة ، مثل ما كانت الحمير طيبة تؤكل حال حلها ، ثم أصبحت بعد تحريمها خبيثة ا . الحال الثانية : انها ما زالت على كونها خبيثة ؛ لكنه عند الضرورة إليها يباح هذا الخبيث للضرورة ؛ وتكون الضرورة واقية من مضرتها ؛ وهذا الحال أقرب ؛لأنه لو كان عند الضرورة يزول خبثها لكانت طيبة تحل للمضطر ، وغيره .... 86. ( اشتروا الضلالة بالهدى ) : الباء هنا للعوض ؛ ويقول الفقهاء : إن ما دخلت عليه الباء هو الثمن ؛ سواء كان بنقد ، أم عينا ؛ وقال آخرون : الثمن هو النقد مطلقا ؛ والصحيح الأول . 87. ( إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما ، واستغفر الله إن الله كان غفورا رحيما ) استدل بعض العلماء بهذه الآية على أن الذنوب تحول بين الإنسان وبين العلم ، ثم قال تعالى : ( واستغفر الله ) فدل هذا على أن الاستغفار من أسباب فتح العلم - وهو ظاهر - 88. ( آتى المال ) ( المال ) كل عين مباحة النفع سواء كان هذا المال نقدا ، أو ثيابا ، أو طعاما ، أو أي شئ . 89. سميت زكاة لأنها تنمي الخلق ، وتنمي المال ، وتنمي الثواب 90. الإيمان باليوم الآخر يستلزم الاستعداد له بالعمل الصالح ؛ فالذي يقول : إنه مؤمن باليوم الآخر ، ولكن لا يستعد له فدعواه ناقصة . 91. ( منكر ونكير ) قال الألباني في الحديث الوارد في صحيح الترمذي : إنه حسن ، وفي السلسلة الصحيحة : إسناده جيد . ( من المحشي ) 92. صحف موسى اختلف العلماء أهي التوراة أو غيرها . 93. ورد في حديث صححه ابن حبان أن عدة الرسل ثلاثمائة وبضعة عشر رسولا ؛ وأن عدة الانبياء مائة وأربعة وعشرون ألفا ( فيه حاشية على هذا الكلام ) 94. لما سمع أبو طلحة هذه الآية ( لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون ) تصدق ببستانه ، لا لأنه بستانه فقط ، ولكن لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يأتي إليه ، ويشرب فيه من ماء طيب ، وكان قريبا المسجد . 95. من الفوائد أن إعطاء ذوي القربى أولى من إعطاء اليتامى والمساكين ، لأن الله بدأ بهم ، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم تقديم صلة الرحم على العتق . 96. ( والموفون بعهدهم ) العهد عهدان : عهد مع الله عز وجل ؛ وعهد مع الخلق . فالعهد الذي مع الله بينه بقوله : ( وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم ) ، وقوله تعالى : ( ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا وقال الله إني معكم لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضا حسنا لأكفرن عنكم سيئاتكم ....) الآية ، فالعهد الذي عهد الله به إلينا أن نؤمن به ربا ، فنرضى بشريعته ؛ بل بأحكامه الكونية ، والشرعية . أما العهد الذي بيننا وبين الناس فأنواعه كثيرة جدا غير محصورة ؛ منها العقود مثل عقد البيع ، وعقد النكاح ؛ لأنك إذا عقدت مع إنسان التزمت بما يقتضيه ذلك العقد ؛ إذا فكل عقد فهو عهد ؛ ومن العهود بين الخلق ؛ ما يجري بين المسلمين وبين الكفار . 97. أعلى أنواع الصبر : الصبر على طاعة الله ؛ لأن فيها تحملا ، ونوعا من التعب بفعل الطاعة ؛ ثم الصبر عن المعصية ؛ لأن فيه تحملا ، وكفا عن المعصية ؛ والكف أهون من الفعل ؛ ثم الصبر على أقدار الله المؤلمة ، لأنه على شئ لا اختيار للعبد فيه . 98. إذا كان الكافر يقاتلنا بنفسه بأن يكون هذا الرجل المعين مقاتلا ، أو يقاتلنا حكما ، مثل أن يكون من دولة تقاتل المسلمين فإنه لا يجوز بره ، ولا إعطاؤه المال ؛ لأنه مستعد حكما للقتال . 99. ( كتب عليكم القصاص في القتلى ) ( القصاص ) يشمل إزهاق النفس ، وما دونها ؛ قال الله تعالى في سورة المائدة : ( والجروح قصاص ) 100. ( فمن عفي له من أخيه شئ فاتباع بمعروف ) : على العافي اتباع بالمعروف عند قبض الدية ، بحيث لا يتبع عفوه منا ، ولا أذى . 101. ( وأداء إليه بإحسان ) : أي يكون الأداء بإحسان وافيا بدون مماطلة . 102. ذكر ابن عباس رضي الله عنهما أن بني إسرائيل فرض عليهم القصاص فرضا. 103. العفو المندوب إليه ما كان فيه إصلاح ؛ لقوله تعالى : ( فمن عفا وأصلح فأجره على الله ) مثل أن يكون القاتل معروفا بالصلاح ؛ ولكن بدرت منه هذه البادرة النادرة ؛ ونعلم ، أو يغلب على ظننا أنا إذا عفونا استقام ، وصلحت حاله ، فالعفو أفضل لا سيما إذا كان له ذرية ضعفاء ونحو ذلك ، وإذا علمنا أن القاتل معروف بالشر ، والفساد ، وإن عفونا عنه لا يزيده إلا فسادا ، وإفسادا فترك العفو عنه أولى ؛ بل قد يجب ترك العفو عنه . 104. ( كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية ) ؛ إنما لم يؤنث الفعل لكون نائب الفاعل مؤنثا تأنيثا مجازيا ؛ وللفصل بينه وبين عامله . 105. أكثر العلماء على أن هذا الحكم الذي دلت عليه الآية منسوخ ؛ ولكن الراجح أنه ليس بمنسوخ ؛ لإمكان التخصيص ؛ فيقال : إن قوله تعالى : ( للوالدين والأقربين ) مخصوص بما إذا كانوا غير وارثين . 106. من الفوائد أن الوصية الواجبة إنما تكون فيمن خلف مالا كثيرا ؛ لقوله تعالى : ( إن ترك خيرا ) ؛ فأما من ترك مالا قليلا فالأفضل أن لا يوصي . 107. قال الشافعي وغيره من السلف : ناظروا القدرية بالعلم ؛ فإن أقروا به خصموا ؛ وإن أنكروه كفروا ؛ فإما إذا قالوا : إن الله لا يعلم فكفرهم واضح لتكذيبهم القرآن ؛ وإما إذا قالوا : إنه يعلم لكن لا يقدرها ، ولا يخلقها ، قيل لهم : هل وقعت على وفق معلومه ، أو على خلاف معلومه ؟ سيقولون : على وفق معلومه ؛ وإذا كان على وفق معلومه لزم أن تكون مرادة له ؛ وإلا لما وقعت . 108. من الفوائد : أن من خاف جورا أو معصية من موص فإنه يصلح ؛ وهذا يشمل ما إذا كان قبل موت الموصي ، أو بعده ؛ مثاله قبل موت الموصي : أن يستشهد الموصي ، او يستكتب شخصا لوصيته ، فيجد فيها جورا ، أو معصية ، فيصلح ذلك ؛ ومثاله بعد موته : أن يطلع على وصية له تتضمن ما ذكر فتصلح ؛ مثال ذلك أن يوصي لوارث ، فيطلع على ذلك بعد موته ، فتصلح الوصية إما باستحلال الوارث الرشيد ، وإما بإلغائها إذا لم يمكن . 109. من فوائد الآية : أنه قد يعبر بنفي الإثم ، أو نفي الجناح دفعا عن توهمه ؛ وعليه فلا ينافي المشروعية ، كما في قوله تعالى : ( إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ) . 110. ( كما كتب على الذين من قبلكم ) من الأمم السابقة يعم اليهود ، والنصارى ، ومن قبلهم ؛ كلهم كتب عليهم الصيام ؛ ولكنه لا يلزم أن يكون كصيامنا في الوقت والمدة وهذا التشبيه فيه فائدتان : الأولى : التسلية لهذه الأمة حتى لا يقال : كلفنا بهذا العمل الشاق دون غيرنا ، الثانية : استكمال هذه الامة للفضائل التي سبقت إليها الأمم السابقة . 111. من العجائب في زمننا هذا أن من الناس من يصبر على الصيام ، ويعظمه ؛ ولكن لا يصبر على الصلاة . 112. الحكمة في التعبير بقوله : (أو على سفر) - والله أعلم - أن المسافر قد يقيم في بلد أثناء سفره عدة أيام ، ويباح له الفطر ؛ لأنه على سفر . 113. ( وعلى الذين يطيقونه ) أي يستطيعونه ، وقال بعض أهل العلم : ( يطيقونه ) أي يطوّقونه ؛ أي يتكلفونه ، ويبلغ الطاقة منهم حتى يصبح شاقا عليهم ؛ لكن ما ثبت في الصحيحين من حديث سلمة بن الأكوع يدل على ضعفه : ( أنه أول ما كتب الصيام كان الإنسان مخير أن يصوم ؛ أو يفطر ويفتدي ...) ؛ وكذلك ظاهر الآية يدل على ضعفه ؛ لان قوله بآخرها : ( وأن تصوموا خير لكم ) يدل على أنهم يستطيعون الصيام . 114. ( فمن تطوع خيرا ) منصوب على أنه مفعول مطلق ؛ والتقدير : فمن تطوع تطوعا خيرا . 115. ( شهر رمضان ) الشهر هو مدة ما بين الهلالين ؛ وسمي بذلك لاشتهاره ؛ ولهذا اختلف العلماء هل الهلال ما هلّ في الأفق - وإن لم ير - أم الهلال ما رئي واشتهر ؛ والصواب الثاني ، وأن مجرد طلوعه في الأفق لا يترتب عليه حكم شرعي حتى يرى ، ويتبين ، ويشهد إلا أن يكون هناك مانع من غيم ، أو نحوه . 116. ( أنزل فيه القرآن ) الصحيح أن ( أل ) هنا للجنس وليست للعموم ؛ وأن معنى : ( أنزل فيه القرآن ) أي ابتدئ فيه إنزاله ، كقوله تعالى : ( إنا أنزلناه في ليلة مباركة ) . 117. من الفوائد أن الله تعالى أنزل القرآن في هذا الشهر ؛ وقد سبق في التفسير هل هو ابتداء إنزاله ؛ أو أنه نزل كاملا ؛ والظاهر أن المراد ابتداء إنزاله ؛ لان الله يتكلم بالقرآن حين إنزاله ؛ وقد أنزله الله جل وعلا مفرقا ؛ فيلزم من ذلك أن لا يكون القرآن كله نزل في هذا الشهر . 118. ( فلستجيبوا لي ) عداها باللام ؛ لأنه ضمن معنى الانقياد - أي فلينقادوا لي ؛ وإلا لكانت ( أجاب ) تتعدى بنفسها . 119. وكل أناس سوف تدخل بينهم دويهية تصفر منها الأنامل 120. ( لعلهم يرشدون ) ؛ ( لعل ) للتعليل ؛ وكلما جاءت ( لعل ) في كتاب الله فإنها للتعليل ؛ إذ أن الترجي لا يكون إلا فيمن احتاج . 121. من الفوائد : أن الصيام مظنة إجابة الدعاء ؛ لان الله سبحانه وتعالى ذكر هذه الآية في أثناء آيات الصيام . 122. من الفوائد أن الله تعالى يجيب دعوة الداع إذا دعاه ؛ ولا يلزم من ذلك أن يجيب مسألته ؛ لأنه تعالى قد يؤخر إجابته المسألة ليزداد الداعي تضرعا ، أو يدخر له يوم القيامة ؛ أو يدفع عنه من السوء ما هو أعظم فائدة للداعي . 123. ( علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم ) : أي تاب عليكم بنسخ الحكم الأول الذي فيه مشقة ؛ والنسخ إلى الأسهل توبة كما في قوله تعالى في سورة المزمل : ( علم أن لن تحصوه فتاب عليكم ) ؛ إلا أن يراد بقوله تعالى : ( تاب عليكم وعفا عنكم ) ما حصل من اختيانهم أنفسهم . 124. ( تلك ) ؛ ( تي ) اسم إشارة ؛ واللام للبعد ، والكاف حرب خطاب . 125. ( حدود الله ) ؛ اعلم أن حدود الله نوعان : حدود تمنع من كان خارجها من الدخول فيها ؛ وهذه هي المحرمات ؛ ويقال فيها : ( فلا تقربوها ) -حدود تمنع من كان فيها من الخروج منها ؛ وهذه هي الواجبات ؛ ويقال فيها : ( فلا تعتدوها ) 126. ( وكلوا واشربوا حتي يتبين ) أخذ بعض اهل العلم من هذا استحباب السحور ، وتأخيره ؛ وهذا الاستنباط له غور ؛ لأنه يقول : إنما أبيح الأكل والشرب ليلة الصيام رفقا بالمكلف ؛ وكلما تأخر إلى قرب طلوع الفجر كان أرفق به ؛ فما دام نسخ التحريم من أجل الرفق بالمكلف فإنه يقتضي أن يكون عند طلوع الفجر أفضل منه قبل ذلك ؛ لأنه أرفق ؛ وهذا استنباط جيد تعضده الأحاديث . 127. بركة السحور : أولا : لكونه معينا على طاعة الله . ثانيا : لأنه امتثال لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم . ثالثا : لأنه اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم . رابعا : لأنه يغني عن عدة أكلات ، وشرابات في النهار . خامسا : لأنه فصل بين صيامنا وصيام أهل الكتاب . 128. من الفوائد جواز الأكل ، والشرب ، والجماع مع الشك في طلوع الفجر ؛ لقوله تعالى : ( حتى يتبين ) ؛ فإن تبين أن أكله ، وشربه ، وجماعه ، كان بعد طلوع الفجر فلا شئ عليه . 129. من الفوائد : بيان خطأ بعض جهال المؤذنين الذين يؤذنون قبل الفجر احتياطا - على زعمهم - ؛ لأن الله تعالى أباح الأكل والشرب ، والجماع ،حتى يتبين الفجر ؛ وهو أ يضا مخالف للاحتياط ؛ لانه يستلزم أن يمتنع الناس مما أحل الله لهم من الأكل ، والشرب ، والجماع ،وأن يقدم الناس صلاة الفجر قبل طلوع الفجر ؛ وأيضا فإنه يفتح بابا للمتهاون ، ثم اعلم أن الأحتياط الحقيقي إنما هو في اتباع ما جاء في الكتاب ،والسنة - لا في التزام التضييق والتشديد - . 130. ( وتدلوا بها إلى الحكام ) أي تتوصلوا بها إلى الحكام لتجعلوا الحكام وسيلة لأكلها بأن تجحد الحق عليك وليس به بينة ؛ ثم تخاصمه عند القاضي ، فيقول القاضي للمدعي عليك : هات بينة ؛ وإذا لم يكن للمدعي بينة توجهت عليك اليمين ؛ فإذا حلفت برئت ؛ فهنا توصلت إلى جحد مال غيرك بالمحاكمة ؛ هذا أحد القولين في الآية ؛ والقول الثاني : أن المعنى : توصلوها إليهم بالرشوة ليحكموا لكم ؛ وكلا القولين صحيح . 131. ( يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس ) جمع ميقات - من الوقت - ؛ أي يوقتون بها أعمالهم التي تحتاج إلى توقيت بالأشهر . 132. ( وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ) ( البر ) هو الخير الكثير . 133. ( وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا ) أي في المقاتلة ؛ والاعتداء في المقاتلة يشمل الاعتداء في حق الله مثل أن نقاتلهم في وقت لا يحل القتال فيه ، وأما في حق المقاتَلين فمثل أن نمثل بهم . 134. الأمر بقتال الكفار مقيد بغايتين ؛ غاية عدمية ( حتى لا تكون فتنة ) والفتنة الشرك ،والصد عن سبيل الله ، والغاية الثانية إيجابية : ( ويكون الدين لله ) بمعنى : أن يكون الدين غالبا ظاهرا لا يعلو إلا الإسلام فقط . 135. ( ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ) : تشمل الهلاك الحسي أن يعرض نفسه للمخاطر ، والهلاك المعنوي مثل أن يدع الجهاد . 136. ( وأحسنوا إن الله يحب المحسنين ) ... لو لم يكن من فضل الإحسان إلا هذا لكان كافيا للمؤمن أن يقوم بالإحسان . 137. ( ففدية ) أي فعليه فدية يفدي بها نفسه من العذاب . 138. ( من صيام أو صدقة أو نسك ) الصدقة إطعام ستة مساكين لكن مسكين نصف صاع . 139. ( وسبعة إذا رجعتم ) أي إذا رجعتم من الحج بإكمال نسكه ، أو إذا رجعتم إلى أهليكم . 140. ( لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام ) ؛ ( أهله ) قيل المراد به نفسه ؛ وقيل سكنه الذي يسكن إليه من زوجة ، وأب ،وأم ، وأولاد، وما أشبه ذلك ؛ فيكون المعنى : لمن لم يكن سكنه حاضري المسجد الحرام ؛وهذا أصح . 141. الأقرب أن معنى ( حاضري المسجد الحرام ) هو أهل الحرم - يعني : من كانوا داخل حدود الحرم - . 142. هل لحاضر المسجد الحرام التمتع ؟ الجواب :نعم ؛ لأن حاضر المسجد الحرام قد تدخل عليه أشهر الحج وهو خارج مكة ، ثم يرجع إلى أهله في مكة في أشهر الحج ، فيحرم بعمرة يتمتع بها إلى الحج . 143. مما يدل لعدم التهاون بالتوكيل في الرمي أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأذن لسودة بنت زمعة في أن توكل ، وكذلك لو كان جائزا لأذن للرعاة أن يوكلوا . 144. أطلق الله الإحصار ولم يقيده ( فإن أحصرتم ) فالفعل بني للمفعول فلم يذكر الفاعل . 145. من الفوائد أن من تعذر أو تعسر عليه الهدي من المحصرين فلا شئ عليه ، وليس بصحيح قياسه على هدي التمتع . 146. من الفوائد أنه لا يحرم حلق شعر غير الرأس ، ولا تلحق الأظافر به ( ثم بسط الشيخ القول في ذلك ) 147. أن محل الإطعام او النسك في مكان فعل المحظور ؛ لأن الفورية تقتضي ذلك ؛ أما الصيام فالظاهر ما قاله العلماء من كونه في كل مكان ؛ لكن الفورية فيه أفضل . 148. من لم يجد الهدي أو ثمنه فإنه يصوم ثلاثة أيام في الحج : أولها من حين الإحرام بالعمرة ؛ وآخرها آخر أيام التشريق ؛ لكن لا يصوم يوم العيد . 149. يجوز التتابع والتفريق بين الأيام الثلاثة ، والأيام السبعة ؛ لأن الله سبحانه وتعالى أطلق ، ولم يشترط التتابع ؛ ولو كان التتابع واجبا لذكره الله . 150. تنبيه : كثير من الناس كلما رأوا مخالفة من شخص في الإحرام قالوا : ( عليك دم ) ؛ لو قال : حككت رأسي فسقطت منه شعرة بدون اختيار ولا قصد قالوا عليك دم ؛ وهذا غلط : أولا : لانه خلاف ما أمر الله به ؛ والله أوجب واحدة من ثلاث : صيام أو صدقة أو نسك فإلزامهم بواحدة معينة فيها تضييق عليهم . ثانيا : إن الدم في أوقات النحر غالبه يضيع هدرا لا ينتفع به . ثالثا : أن فيه إخفاء لحكم الله عز وجل ؛ لان الناس إذا كانوا لا يفدون إلا بالدم ، كأنه ليس فيه فدية إلا هذا ؛ وليس فيه إطعام ، أو صيام . 151. ( فمن فرض فيهن الحج ) يرجع الضمير إلى بعضهن ؛ لانه لا يمكن أن يفرض الحج بعد طلوع الفجر يوم النحر . 152. ( ولا جدال في الحج ) يشمل الجدال فيه ، وفي أحكامه ، والمنازعات بين الناس في معاملاتهم . 153. الجدال إذا كان لإثبات الحق ، أو لإبطال الباطل فإنه واجب . 154. ( وتزودوا ) أي اتخذوا زادا لغذاء أجسامكم ، وغذاء قلوبكم - وهذا أفضل النوعين -. 155. من فوائد الآية أن أشهر الحج ثلاثة لقوله تعالى أشهر ؛ وهي جمع قلة ؛ والأصل في الجمع أن يكون ثلاثة فأكثر ؛ هذا المعروف في اللغة العربية ؛ ولا يطلق الجمع على اثنين ، أو اثنين وبعض الثالث إلا بقرينة ؛ وهنا لا قرينة تدل على ذلك ؛لأنهم إن جعلوا أعمال الحج في الشهرين وعشرة الأيام يرد عليه أن الحج لا يبدأ فعلا إلا في اليوم الثامن من ذي الحج وينتهي في الثالث عشر ؛ وليس في العاشر ؛ فلذلك كان القول الراجح أنه ثلاثة أشهر كاملة ؛ وهو مذهب مالك ؛ وفائدته أنه لا يجوز تأخير أعمال الحج إلى ما بعد شهر ذي الحجة إلا لعذر . 156. ظاهر الآية الكريمة أنه إذا أحرم بالحج قبل أشهره لا ينعقد ، وهو مذهب الشافعي ، والظاهر أيضا أنه لا ينعقد ، ولا ينقلب عمرة . 157. الكفار قد يكونون عقلاء عقول إدراك لكنهم ليسوا عقلاء عقل رشد . 158. التعبير بـ( أفضتم ) يصور لك هذا المشهد كأن الناس أودية تندفع . 159. سمي عرفات لعدة مناسبات: قيل : لأن الناس يعترفون هناك بذنوبهم . وقيل : لأن الناس يتعارفون بينهم . قيل :لأن جبريل لما علم آدم المناسك ، ووصل إلى هذا قال : عرفت . قيل : لأن آدم لما أهبط إلى الأرض هو وزوجته تعارفا في هذا المكان قيل لأنها مرتفعة على غيرها . وعندي - والله أعلم - أن هذا القول أقرب ، وكذلك الأول . 160. من الحكم للوقوف في عرفة أن يجمع الحاج في نسكه بين الحل والحرم . 161. ( واذكروه كما هداكم ) الكاف للتعليل أي اذكروه لهدايتكم ، ويحتمل أن تكون الكاف للتشبيه أي اذكروه على الصفة التي هداكم إليها 162. ( وإن كنتم من قبله لمن الضالين ) ؛ ( إن ) مخففة من الثقيلة ؛ فهي للتوكيد بدليل وجود اللام الفارقة ؛ والتقدير : وإنكم كنتم من قبله لمن الضالين ؛ واسم ( إن ) ضمير الشأن محذوف ؛ وهو مناسب للسياق ؛ وبعض النحويين يقدر ضمير الشأن دائما بضمير مفرد مذكر غائب فيكون التقدير : وإنه - أي الشأن - والصواب القول الأول . 163. من الفوائد أنه ينبغي للإنسان في حال بيعه ، وشرائه أن يكون مترقبا لفضل الله لا معتمدا على قوته ، وكسبه ؛ لقوله تعالى : ( أن تبتغوا فضلا من ربكم ) 164. ( مناسككم ) : ( النسك ) بمعنى العبادة ؛ ولكن كثر استعماله في الحج وفي الذبح . 165. ( وما له في الآخرة من خلاق ) ( من خلاق ) مبتدأ ؛ وخبره الجار والمجرور . 166. ( ربنا آتنا في الدنيا حسنة ) حسنة الدنيا كل ما يستحسنه الإنسان منها ، مثل الصحة وسعة الرزق ، وكثرة البنين ..... 167. ( أولئك لهم نصيب مما كسبوا ) : قال بعض العلماء إن الإشارة تعود إلى مورد التقسيم كله ، ويكون كل له نصيب مما كسب ؛ كقوله تعالى : ( ولكل درجات مما عملوا ) ؛ وقال آخرون : بل الإشارة تعود إلى التقسيم الثاني ؛ لقوله تعالى ( من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها ) ، وأرى أن الثاني أظهر . 168. ( والله سريع الحساب ) السرعة هنا قد تكون سرعة الزمن ؛ بمعنى أن حساب الله قريب ؛ وقد يكون المراد سرعة محاسبة الله للخلق ؛ والثاني أبلغ . 169. (واذكروا الله في أيام معدودات ) الذكر هنا يشمل كل ما يتقرب به إلى الله عز وجل من قول أو فعل ؛ فيشمل التكبير ، والنحر ، ورمي الجمار ؛ بل والصلاة المفروضة ، والتطوع . 170. ( لمن اتقى ) : الظاهر أنها قيد للأمرين جميعا للتعجل والتأخر ، بحيث يحمل الإنسان تقوى الله عز وجل على التعجل أو التأخر 171. ( ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ) ؛ ( من ) هنا للتبعيض ؛ وهي بمعنى بعض الناس ؛ ولهذا أعربها بعض النحويين على أنها مبتدأ . 172. ما من إنسان في الغالب أعطي الجدل إلا حرم بركة العلم ؛ لأن غالب من أوتي الجدل يريد بذلك نصرة قوله فقط . 173. ( أخذته العزة بالإثم ) أي حملته على الإثم. إن حل الميتة للمضطر يحتمل حالين : الأولى: أن نقول : إن الله على كل شئ قدير ؛ فالذي جعلها خبيثة...
)أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ) (البقرة:19) )يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (البقرة:20).
التفسير:
.{ 19 } قوله تعالى: { أو كصيِّب من السماء }؛ { أو } هنا للتنويع؛ لأن المثل الثاني نوع آخر؛ والكاف اسم بمعنى "مِثل"؛ فالمعنى: أو مِثل صيب؛ ويجوز أن نقول: إن الكاف حرف تشبيه، والتقدير: أو مَثلهم كصيب؛ و "الصيِّب" المطر النازل من السماء؛ والمراد بـ{ السماء } هنا العلو..
قوله تعالى: { فيه ظلمات } أي معه ظلمات؛ لأن الظلمات تكون مصاحبة له؛ وهذه الظلمات ثلاث: ظلمة الليل؛ وظلمة السحاب؛ وظلمة المطر؛ والدليل على أنها ظلمة الليل قوله تعالى بعد ذلك: { يكاد البرق يخطف أبصارهم }، وقوله تعالى: { كلما أضاء لهم مشوا فيه }: وهذا لا يكون إلا في الليل؛ و الثاني: ظلمة السحاب؛ لأن السحاب الكثير يتراكم بعضه على بعض، فيَحدُث من ذلك ظلمةٌ فوق ظلمة؛ و الثالث: ظلمة المطر النازل ؛ لأن المطر النازل له كثافة تُحدِث ظلمةً؛ هذه ثلاث ظلمات؛ وربما تكون أكثر، كما لو كان في الجو غبار..
قوله تعالى: { ورعد وبرق }؛ "الرعد" هو الصوت الذي نسمعه من السحاب؛ أما "البرق" فهو النور الذي يلمع في السحاب..
فهؤلاء عندهم ظلمات في قلوبهم . فهي مملوءة ظلمة من الأصل؛ أصابها صيب . وهو القرآن . فيه رعد؛ والرعد هو وعيد القرآن؛ إلا أنه بالنسبة لهؤلاء المنافقين وخوفهم منه كأنه رعد شديد؛ وفيه برق . وهو وعد القرآن؛ إلا أنه بالنسبة لما فيه من نور، وهدى يكون كالبرق؛ لأن البرق ينير الأرض..
قوله تعالى: { يجعلون أصابعهم في آذانهم }؛ الضمير في { يجعلون } يعود على أصحاب الصيب؛ ففيها حذف المضاف؛ والتقدير: أصحاب الصيب؛ وإنما قلنا ذلك؛ لأنه ليس المشبه به هنا هو الصيب؛ وإنما المشبه به الذين أصابهم الصيب؛ و "أصابع" جمع أصبع، وفيه عشر لغات أشار إليها في قوله:.
(وهمزَ أنملةٍ ثلِّث وثالثَه التسعُ في إصبعٍ واختم بأصبوع) هذا وقد قيل: إن في الآية مجازاً من وجهين؛ الأول: أن الأصابع ليست كلها تجعل في الأذن؛ و الثاني: أنه ليس كل الأصبع يدخل في الأذن؛ والتحقيق: أنه ليس في الآية مجاز؛ أما الأول: فلأن "أصابع" جمع عائد على قوله تعالى: { يجعلون }، فيكون من باب توزيع الجمع على الجمع . أي يجعل كل واحد منهم أصبعه في أذنه؛ وأما الثاني: فلأن المخاطَب لا يمكن أن يفهم من جعْل الأصبع في الأذن أن جميع الأصبع تدخل في الأذن؛ وإذا كان لا يمكن ذلك امتنع أن تحمل الحقيقة على إدخال جميع الأصبع؛ بل الحقيقة أن ذلك إدخال بعض الأصبع؛ وحينئذ لا مجاز في الآية؛ على أن القول الراجح أنه لا مجاز في القرآن أصلاً؛ لأن معاني الآية تدرك بالسياق؛ وحقيقة الكلام: ما دلّ عليه السياق . وإن استعملت الكلمات في غير أصلها؛ وبحث ذلك مذكور في كتب البلاغة، وأصول الفقه، وأكبر دليل على امتناع المجاز في القرآن: أن من علامات المجاز صحة نفيه، وتبادر غيره لولا القرينة؛ وليس في القرآن ما يصح نفيه؛ وإذا وجدت القرينة صار الكلام بها حقيقة في المراد به..
قوله تعالى: { من الصواعق }؛ { من } سببية . أي يجعلونها بسبب الصواعق؛ و{ الصواعق } جمع صاعقة؛ وهي ما تَصعَق . أي تُهلك . مَنْ أصابته؛ هذه الصواعق معروفة بآثارها؛ فهي نار تنطلق من البرق؛ فإذا أصابت أحداً، أو شيئاً أحرقته؛ وغالباً تسقط على النخيل، وتحرقها؛ وترى فيها النار، والدخان؛ وأحياناً تسقط على المنازل وتهدمها؛ لأنها كتلة نارية تنطلق بشدة لها هواء تدفعه أمامها..
فيجعلون أصابعهم في آذانهم من هذه الصواعق لئلا يموتوا؛ ولكنهم لا ينجون منها بهذا الفعل؛ إلا أنهم كالنعامة إذا رأت الصياد أدخلت رأسها في الرمل لئلا تراه؛ وتظن أنها إذا لم تره تنجو منه! وكذلك الذين يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق لا يسلمون بهذا؛ إذا أراد الله تعالى أن يصيبهم أصابهم؛ ولهذا قال تعالى: { والله محيط بالكافرين }، فلن ينفعهم الحذر..
.{ 20 } ولما بَيَّن الله شدة الصوت، وأنهم لفرارهم منه، وعدم تحملهم إياه يجعلون أصابعهم في آذانهم بَيَّن شدة الضوء عليهم، فقال تعالى: { يكاد البرق يخطف أبصارهم } أي يقرب أن يخطف أبصارهم . أي يأخذها بسرعة، فتعمى؛ وذلك لقوته، وضعف أبصارهم..
قوله تعالى: { كلما أضاء لهم مشوا فيه }؛ فكأنهم ينتهزون فرصة الإضاءة، ولا يتأخرون عن الإضاءة طرفة عين؛ كلما أضاء لهم . ولو شيئاً يسيراً . مشوا فيه..
قوله تعالى: { وإذا أظلم عليهم } أي أصابهم بظلمة؛ وذلك أن الضوء إذا انطفأ بسرعة اشتدت الظلمة بعده؛ { قاموا } أي وقفوا..
قوله تعالى: { ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم } دون أن تحدث الصواعق، ودون أن يحدث البرق؛ لأن الله على كل شيء قدير؛ فهو قادر على أن يُذهب السمع والبصر بدون أسباب: فيذهب السمع بدون صواعق، والبصر بدون برق؛ { إن الله على كل شيء قدير }..
هذا المثل ينطبق على منافقين لم يؤمنوا أصلاً؛ بل كانوا كافرين من قبل، كاليهود؛ لأن المنافقين منهم عرب من الخزرج، والأوس؛ ومنهم يهود من بني إسرائيل؛ فاليهود لم يذوقوا طعم الإيمان أبداً؛ لأنهم كفار من الأصل؛ لكن أظهروا الإسلام خوفاً من النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن أعزه الله في بدر؛ فهؤلاء ليسوا على هدًى . كالأولين؛ الأولون استوقدوا النار، وصار عندهم شيء من النور بهذه النار، ثم . والعياذ بالله . انتكسوا؛ لكن هؤلاء من الأصل في ظلمات؛ فيكون هذا المثل غير المثل الأول؛ بل هو لقوم آخرين؛ والمنافقون أصناف بلا شك..
و "الصواعق" عبارة عما في القرآن من الإنذار، والخوف؛ ولهذا يقول الله سبحانه وتعالى عنهم في آية أخرى: {يحسبون كل صيحة عليهم} ؛ و "البرق" نور الإسلام، لكنه ليس نوراً يستمر؛ نور البرق ينقطع في لحظة؛ وميض؛ فهؤلاء لم يدخل الإيمان في قلوبهم أصلاً، ولا فكروا في ذلك؛ وإنما يرون هذا النور العظيم الذي شع، فينتفعون به لمجرد خطوة يخطونها فقط؛ وبعد ذلك يقفون؛ كذلك أيضاً يكاد البرق يخطف أبصارهم؛ لأنهم لا يتمكنون من رؤية النور الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم؛ بل لكبريائهم، وحسدهم للعرب يكاد هذا البرق يعمي أبصارهم؛ لأنه قوي عليهم لا يستطيعون مدافعته، ومقابلته..
فالظاهر أن القول الراجح أن هذين مثلان يتنَزلان على صنفين من المنافقين..
فإن قال قائل: الصنف الأول كيف نقول: إنه دخل الإيمان في قلوبهم؟
فالجواب: نقول: نعم؛ قال الله تعالى: {ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون} ؛ وهذا يدل على أنهم آمنوا أولاً، ثم كفروا ثانياً؛ لأن الإيمان لم يستقر في قلوبهم، ولم تستنر به؛ وإنما هو وميض ضوء ما لبث أن طفئ؛ وإلا فإن الإيمان إذا دخل القلب دخولاً حقيقياً فإنه لن يخرج منه بإذن الله؛ ولهذا سأل هرقل أبا سفيان عن أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم الذين يدخلون في الإسلام: "فَهَلْ يَرْتَدُّ أَحَدٌ مِنْهُمْ سَخْطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فيه؛ فقال: لا؛ فقال: وَكَذَلِكَ الْإِيْمَانُ حِينَ تُخَالِطُ بَشَاشَتُهُ القُلوبَ"(65) ؛ لكن الإيمان الهش - الذي لم يتمكن من القلب - هو الذي يُخشى على صاحبه..
الفوائد:
.1 من فوائد الآيتين: تهديد الكفار بأن الله محيط بهم؛ لقوله تعالى: { والله محيط بالكافرين }..
.2 ومنها: أن البرق الشديد يخطف البصر؛ ولهذا يُنهى الإنسان أن ينظر إلى البرق حال كون السماء تبرق؛ لئلا يُخطف بصره..
.3 ومنها: أن من طبيعة الإنسان اجتناب ما يهلكه؛ لقوله تعالى: (وإذا أظلم عليهم قاموا).
.4 ومنها: إثبات مشيئة الله؛ لقوله تعالى: ( ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم ).
.5 ومنها: أنه ينبغي للإنسان أن يلجأ إلى الله عزّ وجلّ أن يمتعه بسمعه، وبصره؛ لقوله تعالى: { ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم }؛ وفي الدعاء المأثور: "متعنا بأسماعنا، وأبصارنا، وقوتنا ما أحييتنا"(66) ..
.6 ومنها: أن من أسماء الله أنه قدير على كل شيء..
.7 ومنها: عموم قدرة الله تعالى على كل شيء؛ فهو جلّ وعلا قادر على إيجاد المعدوم، وإعدام الموجود، وعلى تغيير الصالح إلى فاسد، والفاسد إلى صالح، وغير ذلك..
القرآن
)يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة:21).
التفسير:
}.{ 21 } يا أيها الناس}: النداء هنا وجِّه لعموم الناس مع أن السورة مدنية؛ والغالب في السور المدنية أن النداء فيها يكون موجهاً للمؤمنين . والله أعلم بما أراد في كتابه؛ ولو قال قائل: لعل هذه آية مكية جعلت في السورة المدنية؟
فالجواب: أن الأصل عدم ذلك - أي عدم إدخال الآية المكية في السور المدنية، أو العكس؛ ولا يجوز العدول عن هذا الأصل إلا بدليل صحيح صريح؛ وعلى هذا فما نراه في عناوين بعض السور أنها مدنية إلا آية كذا، أو مكية إلا آية كذا غير مسلَّم حتى يثبت ذلك بدليل صحيح صريح؛ وإلا فالأصل أن السورة المدنية جميع آياتها مدنية، وأن السور المكية جميع آياتها مكية إلا بدليل ثابت..
قوله تعالى: { اعبدوا ربكم } أي تذللوا له بالطاعة؛ وذلك بفعل الأوامر، واجتناب النواهي ذلاً تاماً ناشئاً عن المحبة، والتعظيم؛ و "الرب" هو الخالق المالك المدبر لشؤون خلقه؛ { الذي خلقكم } أي أوجدكم من العدم؛ { والذين من قبلكم } معطوف على الكاف في قوله تعالى: { خلقكم } . يعني وخلق الذين من قبلكم؛ والمراد بـ "من قبلنا" : سائر الأمم الماضية..
وقوله تعالى: { الذي خلقكم } صفة كاشفة تبين بعض معنى الربوبية؛ وليست صفة احترازية؛ لأنه ليس لنا ربان أحدهما خالق، والثاني غير خالق؛ بل ربنا هو الخالق..
قوله تعالى: { لعلكم تتقون }؛ "لعل" هنا للتعليل . أي لتصلوا إلى التقوى؛ ومعلوم أن التقوى مرتبة عالية، حتى قال الله عزّ وجلّ في الجنة: {أعدت للمتقين} ، وقال تعالى: {إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون} ، وقال تعالى: {واعلموا أن الله مع المتقين} ..
الفوائد:
.1 من فوائد الآية: العناية بالعبادة؛ يستفاد هذا من وجهين؛ الوجه الأول: تصدير الأمر بها بالنداء؛ و الوجه الثاني: تعميم النداء لجميع الناس مما يدل على أن العبادة أهم شيء؛ بل إنّ الناس ما خُلقوا إلا للعبادة، كما قال تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} (الذاريات: 56)
.2 ومنها: أن الإقرار بتوحيد الربوبية مستلزم للإقرار بتوحيد الألوهية؛ لقوله تعالى: { اعبدوا ربكم }..
.3 ومنها: وجوب عبادة الله عزّ وجلّ وحده . وهي التي خُلق لها الجن، والإنس؛ و"العبادة" تطلق على معنيين؛ أحدهما: التعبد . وهو فعل العابد؛ و الثاني: المتعبَّد به . وهي كل قول، أو فعل ظاهر، أو باطن يقرب إلى الله عزّ وجلّ..
.4 ومنها: أن وجوب العبادة علينا مما يقتضيه العقل بالإضافة إلى الشرع؛ لقوله تعالى: { اعبدوا ربكم }؛ فإن الرب عزّ وجلّ يستحق أن يُعبد وحده، ولا يعبد غيره؛ والعجب أن هؤلاء المشركين الذين لم يمتثلوا هذا الأمر إذا أصابتهم ضراء، وتقطعت بهم الأسباب يتوجهون إلى الله، كما قال تعالى: {وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين} ؛ لأن فطرهم تحملهم على ذلك ولابد..
.5 . ومن فوائد الآية: إثبات أن الله عزّ وجلّ هو الخالق وحده، وأنه خالق الأولين، والآخرين؛ لقوله تعالى: ( الذي خلقكم والذين من قبلكم ).
.6 ومنها: أن من طريق القرآن أنه إذا ذَكر الحكم غالباً ذَكر العلة؛ الحكم: { اعبدوا ربكم }؛ والعلة: كونه رباً خالقاً لنا، ولمن قبلنا..
.7 ومنها: أن التقوى مرتبة عالية لا ينالها كل أحد إلا من أخلص العبادة لله عزّ وجلّ؛ لقوله تعالى: (لعلكم تتقون )..
.8 وربما يستفاد التحذير من البدع؛ وذلك؛ لأن عبادة الله لا تتحقق إلا بسلوك الطريق الذي شرعه للعباد؛ لأنه لا يمكن أن نعرف كيف نعبد الله إلا عن طريق الوحي والشرع: كيف نتوضأ، كيف نصلي... يعني ما الذي أدرانا أن الإنسان إذا قام للصلاة يقرأ، ثم يركع، ثم يسجد... إلخ، إلا بعد الوحي..
.9 ومنها: الحث على طلب العلم؛ إذ لا تمكن العبادة إلا بالعلم؛ ولهذا ترجم البخاري . رحمه الله . على هذه المسألة بقوله: "باب: العلم قبل القول، والعمل ..
القـرآن
)الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (البقرة:22).
التفسير:
.{ 22 } قوله تعالى: { الذي جعل لكم الأرض فراشاً... } هذا من باب تعديد أنواع من مخلوقاته عزّ وجلّ؛ جعل الله لنا الأرض فراشاً مُوَطَّأة يستقر الإنسان عليها استقراراً كاملاً مهيأة له يستريح فيها . ليست نشَزاً؛ وليست مؤلمة عند النوم عليها، أو عند السكون عليها، أو ما أشبه ذلك؛ والله تعالى قد وصف الأرض بأوصاف متعددة: وصفها بأنها فراش، وبأنها ذلول، وبأنها مهاد..
قوله تعالى: { والسماء بناءً } . كما قال تعالى: {وبنينا فوقكم سبعاً شداداً} : السماء جعلها الله بمنزلة البناء، وبمنزلة السقف، كما قال تعالى: {وجعلنا السماء سقفاً محفوظاً}(الأنبياء: 32).
قوله تعالى: { وأنزل من السماء ماءً }: ليست هي السماء الأولى؛ بل المراد بـ{ السماء } هنا العلو؛ لأن الماء . الذي هو المطر . ينزل من السحاب، والسحاب بين السماء، والأرض، كما قال الله تعالى: {ألم تر أن الله يزجي سحاباً ثم يؤلف بينه ثم يجعله ركاماً فترى الودق يخرج من خلاله} ، وقال تعالى: {إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار....} إلى قوله تعالى: {والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون} ؛ وبهذا نعرف أن السماء يطلق على معنيين؛ المعنى الأول: البناء الذي فوقنا؛ والمعنى الثاني: العلو..
قوله تعالى: { فأخرج به } أي بسببه؛ { من الثمرات } جمع ثمرة؛ وجمعت باعتبار أنواعها..
قوله تعالى: { رزقاً لكم } أي عطاء لكم؛ وهو مفعول لأجله..
قوله تعالى: { فلا تجعلوا } أي لا تُصَيِّروا { لله أنداداً } أي نظراء، ومشابهين في العبادة { وأنتم تعلمون } أنه لا نِد له في الخلق، والرزق، وإنزال المطر، وما أشبه ذلك من معاني الربوبية، ومقتضياتها؛ لأن المشركين يقرُّون بأن الخالق هو الله، والرازق هو الله، والمدبر للأمر هو الله إقراراً تاماً، ويعلمون أنه لا إله مع الله في هذا؛ لكن في العبادة ينكرون التوحيد: يشركون؛ يجعلون مع الله إلهاً آخر؛ وينكرون على من وحّد الله حتى قالوا في الرسول صلى الله عليه وسلم {أجعل الآلهة إلهاً واحداً إن هذا لشيء عجاب} ؛ وإقرارهم بالخلق، والرزق أن الله منفرد به يستلزم أن يجعلوا العبادة لله وحده؛ فإن لم يفعلوا فهم متناقضون؛ ولهذا قال العلماء . رحمهم الله .: توحيد الألوهية متضمن لتوحيد الربوبية؛ وتوحيد الربوبية مستلزم لتوحيد الألوهية؛ يعني من أقر بتوحيد الربوبية لزمه أن يقر بتوحيد الألوهية؛ ومن أقر بتوحيد الألوهية فإنه لم يقرَّ بها حتى كان قد أقر بتوحيد الربوبية..
الفوائد:
.1 من فوائد الآية: بيان رحمة الله تعالى، وحكمته في جعل الأرض فراشاً؛ إذ لو جعلها خشنة صلبة لا يمكن أن يستقر الإنسان عليها ما هدأ لأحد بال؛ لكن من رحمته، ولطفه، وإحسانه جعلها فراشاً..
.2 ومنها: جعْل السماء بناءً؛ وفائدتنا من جعل السماء بناءً أن نعلم بذلك قدرة الله عزّ وجلّ؛ لأن هذه السماء المحيطة بالأرض من كل الجوانب نعلم أنها كبيرة جداً، وواسعة، كما قال تعالى: {والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون} (الذاريات: 47).
.3 ومنها: بيان قدرة الله عزّ وجلّ بإنزال المطر من السماء؛ لقوله تعالى: { وأنزل من السماء ماء }؛ لو اجتمعت الخلائق على أن يخلقوا نقطة من الماء ما استطاعوا؛ والله تعالى ينزل هذا المطر العظيم بلحظة؛ وقصة الرجل الذي دخل والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة قال: ادع الله يغيثنا، فرفع (صلى الله عليه وسلم يديه، وقال: "اللهم أغثنا"(67) ، وما نزل من المنبر إلا والمطر يتحادر من لحيته..
.4 ومنها: حكمة الله سبحانه وتعالى، ورحمته بإنزال المطر من السماء؛ وجه ذلك: لو كان الماء الذي تحيى به الأرض يجري على الأرض لأضر الناس؛ ولو كان يجري على الأرض لحُرِم منه أراضٍ كثيرة . الأراضي المرتفعة لا يأتيها شيء؛ ولكن من نعمة الله أن ينزل من السماء؛ ثم هناك شيء آخر أيضاً: أنه ينزل رذاذاً . يعني قطرةً قطرةً؛ ولو نزل كأفواه القرب لأضر بالناس..
.5 ومنها: إثبات الأسباب؛ لقوله تعالى: ( فأخرج به من الثمرات رزقاً لكم )..
.6 ومنها: أن الأسباب لا تكون مؤثرة إلا بإرادة الله عزّ وجلّ؛ لقوله تعالى: ( فأخرج به )..
.7 ومنها: أنه ينبغي لمن أراد أن يضيف الشيء إلى سببه أن يضيفه إلى الله مقروناً بالسبب، مثل لو أن أحداً من الناس غرق، وجاء رجل فأخرجه . أنقذه من الغرق؛ فليقل: أنقذني الله بفلان؛ وله أن يقول: أنقذني فلان؛ لأنه فعلاً أنقذه؛ وله أن يقول: أنقذني الله ثم فلان؛ وليس له أن يقول: أنقذني الله وفلان؛ لأن هذا تشريك مع الله؛ ويدل لهذا . أي الاختيار أن يضيف الشيء إلى الله مقروناً بالسبب . أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دعا الغلام اليهودي للإسلام وكان هذا الغلام في سياق الموت، فعرض عليه النبي صلى الله عليه وسلم أن يسلم، فأسلم؛ لكنه أسلم بعد أن استشار أباه: التفت إليه ينظر إليه يستشيره؛ قال: "أطع أبا القاسم" . أمر ولده أن يسلم، وهو لم يسلم في تلك الحال، أما بعد فلا ندري، والله أعلم؛ فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: "الحمد لله الذي أنقذه بي من النار"(68) ، وهكذا ينبغي لنا إذا حصل شيء بسبب أن نضيفه إلى الله تعالى مقروناً ببيان السبب؛ وذلك؛ لأن السبب موصل فقط..
.8 . ومن فوائد الآية: بيان قدرة الله، وفضله بإخراج هذه الثمرات من الماء؛ أما القدرة فظاهر: تجد الأرض شهباء جدباء ليس فيها ورقة خضراء فينزل المطر، وفي مدة وجيزة يخرج هذا النبات من كل زوج بهيج بإذن الله عزّ وجلّ، كما قال تعالى: {ألم تر أن الله أنزل من السماء ماءاً فتصبح الأرض مخضرَّة} ؛ وأما الفضل فبما يمن الله به من الثمرات؛ ولذلك قال تعالى: { رزقاً لكم }..
.9 ومنها: أن الله عزّ وجلّ منعم على الإنسان كافراً كان، أو مؤمناً؛ لقوله تعالى: { لكم }، وهو يخاطب في الأول الناس عموماً؛ لكن فضل الله على المؤمن دائم متصل بفضل الآخرة؛ وفضل الله على الكافر منقطع بانقطاعه من الدنيا..
.10 ومنها: تحريم اتخاذ الأنداد لله؛ لقوله تعالى: { فلا تجعلوا لله أنداداً }؛ وهل الأنداد شرك أكبر، أو شرك أصغر؛ وهل هي شرك جلي، أو شرك خفي؛ هذا له تفصيل في علم التوحيد؛ خلاصته: إن اتخذ الأنداد في العبادة، أو جعلها شريكة لله في الخلق، والملك، والتدبير فهو شرك أكبر؛ وإن كان دون ذلك فهو شرك أصغر، كقول الرجل لصاحبه: "ما شاء الله وشئت"..
.11 . ومن فوائد الآية: أنه ينبغي لمن خاطب أحداً أن يبين له ما تقوم به عليه الحجة؛ لقوله تعالى: { فلا تجعلوا لله أنداداً وأنتم تعلمون }، ولقوله تعالى في صدر الآية الأولى: {اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم} ؛ فإن قوله تعالى: {الذي خلقكم والذين من قبلكم} فيه إقامة الحجة على وجوب عبادته وحده؛ لأنه الخالق وحده..
القـرآن
)وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (البقرة:23).
التفسير:
.{ 23 } قوله تعالى: { وإن كنتم... }: الخطاب لمن جعل لله أنداداً؛ لأنه تعالى قال: ( فلا تجعلوا لله أنداداً وأنتم تعلمون * وإن كنتم في ريب ).
وفي ذكر هذه الآية المتعلقة برسالة محمد صلى الله عليه وسلم إشارة إلى كلمتي التوحيد؛ وهما شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله؛ لكن شهادة أن لا إله إلا الله: توحيد القصد؛ والثاني: توحيد المتابعة؛ فكلاهما توحيد؛ لكن الأول توحيد القصد بأن يكون العمل خالصاً لله؛ والثاني توحيد المتابعة بأن لا يتابع في عبادته سوى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإذا تأملت القرآن وجدت هكذا: يأتي بما يدل على التوحيد، ثم بما يدل على الرسالة؛ ومن أمثلة ذلك قوله تعالى: {أفلم يدَّبروا القول أم جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين} ، ثم قال تعالى: {أم لم يعرفوا رسولهم فهم له منكرون} ؛ وهذا مطَّرد في القرآن الكريم..
قوله تعالى: { في ريب }: "الريب" يفسره كثير من الناس بالشك؛ ولا شك أنه قريب من معنى الشك، لكنه يختلف عنه بأن "الريب" يُشعر بقلق مع الشك، وأن الإنسان في قلق عظيم مما وقع فيه الشك؛ وذلك؛ لأن ما جاء به الرسول حق؛ والشاك فيه لا بد أن يعتريه قلق من أجل أنه شك في أمر لا بد من التصديق به؛ بخلاف الشك في الأمور الهينة، فلا يقال: "ريب"؛ وإنما يقال في الأمور العظيمة التي إذا شك فيها الإنسان وجد في داخل نفسه قلقاً، واضطراباً..
قوله تعالى: { مما نزَّلنا }: المراد به القرآن؛ لأن الله أنزله على محمد صلى الله عليه وسلم { على عبدنا }: هو محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم والله . تبارك وتعالى . وصف رسوله صلى الله عليه وسلم بالعبودية في المقامات العالية: في الدفاع عنه؛ وفي بيان تكريمه بالمعراج، والإسراء؛ وفي بيان تكريمه بإنزال القرآن، كما قال تعالى: {تبارك الذي نزل الفرقان على عبده} ، وقال تعالى: {سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً} ، وقال تعالى: {فأوحى إلى عبده ما أوحى} ، وقال تعالى: { وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا }: هذا في مقام التحدي، والمدافعة؛ وأفضل أوصاف الرسول صلى الله عليه وسلم هي العبودية، والرسالة؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم "إنما أنا عبد؛ فقولوا: عبد الله، ورسوله"(69) ؛ و "العبودية" : هي التذلل للمحبوب، والمعظم؛ ولهذا قال الشاعر في محبوبته:.
(لا تدعني إلا بيا عبدها فإنه أشرف أسمائي) يعني: لا تقل: فلان، وفلان؛ بل قل: يا عبد فلانة؛ لأن هذا عنده أشرف أوصافه، حيث انتمى إليها . نعوذ بالله من الخذلان..
قوله تعالى: { فأتوا بسورة }: أمر يقصد به التحدي . يعني: إذا كنتم في شك من هذا القرآن فإننا نتحداكم أن تأتوا بسورة واحدة؛ { من مثله }: يحتمل أن يكون الضمير عائداً إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ؛ والمعنى: من مثل محمد صلى الله عليه وسلم ويحتمل أن يكون عائداً إلى القرآن المنزل؛ والمعنى: من مثل ما نزلنا على عبدنا . أي من جنسه؛ وكلاهما صحيح..
قوله تعالى: { وادعوا شهداءكم } أي الذين تشهدون لهم بالألوهية، وتعبدونهم كما تعبدون الله، ادعوهم ليساعدوكم في الإتيان بمثله؛ وهذا غاية ما يكون من التحدي: أن يتحدى العابدَ والمعبودَ أن يأتوا بسورة مثله.
قوله تعالى: { من دون الله } أي مما سوى الله؛ { إن كنتم صادقين } أي في أن هذا القرآن مفترًى على الله؛ والجواب على هذا: أنه لا يمكن أن يأتوا بسورة مثله مهما أتوا من المعاونين، والمساعدين..
الفوائد:
.1 من فوائد الآية: دفاع الله سبحانه وتعالى عن رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لقوله تعالى: { فأتوا بسورة من مثله }؛ لأن الأمر هنا للتحدي؛ فالله عزّ وجلّ يتحدى هؤلاء بأن يأتوا بمعارضٍِ لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم..
.2 ومنها: فضيلة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لوصفه بالعبودية؛ والعبودية لله عزّ وجلّ هي غاية الحرية؛ لأن من لم يعبد الله فلا بد أن يعبد غيره؛ فإذا لم يعبد الله عزّ وجلّ . الذي هو مستحق للعبادة . عَبَدَ الشيطان، كما قال ابن القيم . رحمه الله . في النونية:.
(هربوا من الرق الذي خلقوا له وبلوا برق النفس والشيطان)
3. ومنها: أن القرآن كلام الله؛ لقوله تعالى: { مما نزلنا }؛ ووجه كونه كلام الله أن القرآن كلام؛ والكلام صفة للمتكلم، وليس شيئاً بائناً منه؛ وبهذا نعرف بطلان قول من زعم أن القرآن مخلوق..
.4 ومنها: إثبات علوّ الله عزّ وجلّ؛ لأنه إذا تقرر أن القرآن كلامه، وأنه منزل من عنده لزم من ذلك علوّ المتكلم به؛ وعلو الله عزّ وجلّ ثابت بالكتاب، والسنة، والإجماع، والعقل، والفطرة؛ وتفاصيل هذه الأدلة في كتب العقائد؛ ولولا خوض أهل البدعة في ذلك ما احتيج إلى كبير عناء في إثباته؛ لأنه أمر فطري؛ ولكن علماء أهل السنة يضطرون إلى مثل هذا لدحض حجج أهل البدع..
.5 ومن فوائد الآية: أن القرآن معجز حتى بسورة . ولو كانت قصيرة؛ لقوله تعالى: { فأتوا بسورة من مثله}..
.6 ومنها: تحدي هؤلاء العابدين للآلهة مع معبوديهم؛ وهذا أشد ذلاًّ مما لو تُحدوا وحدهم..
القـرآن
)فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ) (البقرة:24).
التفسير:
.{ 24 } قوله تعالى: { فإن لم تفعلوا } يعني فإن لم تأتوا بسورة من مثله..
ولما قال تعالى: { فإن لم تفعلوا } . وهي شرطية . قطع أطماعهم بقوله: { ولن تفعلوا } يعني: ولا يمكنكم أن تفعلوا؛ و{ لن } هنا للتأبيد؛ لأن المقام مقام تحدٍّ..
قوله تعالى: { فاتقوا النار }: الفاء هنا واقعة في جواب الشرط . وهو { إن لم تفعلوا } يعني: إن لم تفعلوا، وتعارضوا القرآن بمثله فالنار مثواكم؛ فاتقوا النار . ولن يجدوا ما يتقون به النار إلا أن يؤمنوا بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم
قوله تعالى: { التي وقودها الناس والحجارة }؛ { التي } اسم موصول صفة لـ{ النار }؛ و{ وقود } مبتدأ؛ و{ الناس } خبر المبتدأ؛ والجملة: صلة الموصول؛ و "الوقود" ما يوقد به الشيء، كالحطب . مثلاً . في نار الدنيا؛ في الآخرة وقود النار هم الناس، والحجارة؛ فالنار تحرقهم، وتلتهب بهم؛ و{ الحجارة }: قال بعض العلماء: إن المراد بها الحجارة المعبودة . يعني الأصنام؛ لأنهم يعبدون الأصنام؛ فأصنامهم هذه تكون معهم في النار، كما قال تعالى: {إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون} ؛ وقيل: هذا، وهذا . الحجارة المعبودة، والحجارة الموقودة التي خلقها عزّ وجلّ لتوقد بها النار..
قوله تعالى: { أعدت }: الضمير المستتر يعود على النار؛ والمعِدُّ لها هو الله عزّ وجلّ؛ ومعنى "الإعداد" التهيئة للشيء؛ { للكافرين } أي لكل كافر سواء كفر بالرسالة، أو كفر بالألوهية، أو بغير ذلك..
الفوائد:
.1 من فوائد الآية: أن من عارض القرآن فإن مأواه النار؛ لقوله تعالى: ( فاتقوا النار).
.2 ومنها: أن الناس وقود للنار كما توقد النار بالحطب؛ فهي في نفس الوقت تحرقهم، وهي أيضاً توقد بهم؛ فيجتمع العذاب عليهم من وجهين..
.3 ومنها: إهانة هؤلاء الكفار بإذلال آلهتهم، وطرحها في النار . على أحد الاحتمالين في قوله تعالى: { الحجارة }؛ لأن من المعلوم أن الإنسان يغار على من كان يعبده، ولا يريد أن يصيبه أذًى؛ فإذا أحرق هؤلاء المعبودون أمام العابدين فإن ذلك من تمام إذلالهم، وخزيهم..
.4 ومنها: أن النار موجودة الآن؛ لقوله تعالى: { أعدت }؛ ومعلوم أن الفعل هنا فعل ماض؛ والماضي يدل على وجود الشيء؛ وهذا أمر دلت عليه السنة أيضاً؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم عُرضت عليه الجنة، والنار، ورأى أهلها يعذبون فيها: رأى عمرو بن لحيّ الخزاعي يجر قصبه . أي أمعاءه . في النار؛ ورأى المرأة التي حبست الهرة حتى ماتت جوعاً: فلم تكن أطعمتها، ولا أرسلتها تأكل من خشاش الأرض؛ ورأى فيها صاحب المحجن . الذي كان يسرق الحُجَّاج بمحجنه . يعذب: وهو رجل معه محجن . أي عصا محنية الرأس . كان يسرق الحُجاج بهذا المحجن؛ إذا مر به الحجاج جذب متاعهم؛ فإن تفطن صاحب الرحل لذلك ادعى أن الذي جذبه المحجن؛ وإن لم يتفطن أخذه؛ فكان يعذب . والعياذ بالله . بمحجنه في نار جهنم(70) ..
مسألة:
هل النار باقية؛ أو تفنى؟ ذكر بعض العلماء إجماع السلف على أنها تبقى، ولا تفنى؛ وذكر بعضهم خلافاً عن بعض السلف أنها تفنى؛ والصواب أنها تبقى أبد الآبدين؛ والدليل على هذا من كتاب الله عزّ وجلّ في ثلاث آيات من القرآن: في سورة النساء، وسورة الأحزاب، وسورة الجن؛ فأما الآية التي في النساء فهي قوله تعالى: {إن الذين كفروا وظلموا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقاً * إلا طريق جهنم خالدين فيها أبداً} ؛ والتي في سورة الأحزاب قوله تعالى: {إن الله لعن الكافرين وأعد لهم سعيراً * خالدين فيها أبداً} ؛ والتي في سورة الجن قوله تعالى: { ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبداً } ؛ وليس بعد كلام الله كلام؛ حتى إني أذكر تعليقاً لشيخنا عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله على كتاب "شفاء العليل" لابن القيم؛ ذكر أن هذا من باب: "لكل جواد كبوة؛ ولكل صارم نبوة" . وهو صحيح؛ كيف إن المؤلف رحمه الله يستدل بهذه الأدلة على القول بفناء النار مع أن الأمر فيها واضح؟! غريب على ابن القيم رحمه الله أنه يسوق الأدلة بهذه القوة للقول بأن النار تفنى! وعلى كل حال، كما قال شيخنا في هذه المسألة: "لكل جواد كبوة؛ ولكل صارم نبوة"؛ والصواب الذي لا شك فيه . وهو عندي مقطوع به . أن النار باقية أبد الآبدين؛ لأنه إذا كان يخلد فيها تخليداً أبدياً لزم أن تكون هي مؤبدة؛ لأن ساكن الدار إذا كان سكونه أبدياً لابد أن تكون الدار أيضاً أبدية..
وأما قوله تعالى في أصحاب النار: {خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك} فهي كقوله تعالى في أصحاب الجنة: {خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك} لكن لما كان أهل الجنة نعيمهم، وثوابهم فضلاً ومنَّة، بيَّن أن هذا الفضل غير منقطع، فقال تعالى: {عطاءً غير مجذوذ} ؛ ولما كان عذاب أهل النار من باب العدل، والسلطان المطلق للرب عزّ وجلّ قال تعالى في آخر الآية: {إن ربك فعال لما يريد} ؛ وليس المعنى: {إن ربك فعال لما يريد} أنه سوف يخرجه من النار، أو سوف يُفني النار..
.5 ومن فوائد الآية: أن النار دار للكافرين؛ لقوله تعالى: { أعدت للكافرين }؛ وأما من دخلها من عصاة المؤمنين فإنهم لا يخلدون فيها؛ فهم فيها كالزوار؛ لا بد أن يَخرجوا منها؛ فلا تسمى النار داراً لهم؛ بل هي دار للكافر فقط؛ أما المؤمن العاصي . إذا لم يعف الله عنه . فإنه يعذب فيها ما شاء الله، ثم يخرج منها إما بشفاعة؛ أو بمنة من الله وفضل؛ أو بانتهاء العقوبة..
مسألة:
إذا قال قائل: ما وجه الإعجاز في القرآن؟ وكيف أعجز البشر؟..
الجواب: أنه معجز بجميع وجوه الإعجاز؛ لأنه كلام الله، وفيه من وجوه الإعجاز ما لا يدرك؛ فمن ذلك:.
أولاً: قوة الأسلوب، وجماله؛ والبلاغة، والفصاحة؛ وعدم الملل في قراءته؛ فالإنسان يقرأ القرآن صباحاً، ومساءً . وربما يختمه في اليومين، والثلاثة . ولا يمله إطلاقاً؛ لكن لو كرر متناً من المتون كما يكرر القرآن ملّ..
ثانياً: أنه معجز بحيث إن الإنسان كلما قرأه بتدبر ظهر له بالقراءة الثانية ما لم يظهر له بالقراءة الأولى..
ثالثاً: صدق أخباره بحيث يشهد لها الواقع؛ وكمال أحكامه التي تتضمن مصالح الدنيا، والآخرة؛ لقوله تعالى: {وتمت كلمة ربك صدقاً وعدلاً } (الأنعام: 115).
رابعاً: تأثيره على القلوب، والمناهج؛ وآثاره، حيث ملك به السلف الصالح مشارق الأرض، ومغاربها..
وأما كيفية الإعجاز فهي تحدي الجن، والإنس على أن يأتوا بمثله، ولم يستطيعوا..
مسألة:.ثـانية:.
حكى الله عزّ وجلّ عن الأنبياء، والرسل، ومن عاندهم أقوالاً؛ وهذه الحكاية تحكي قول من حُكيت عنه؛ فهل يكون قول هؤلاء معجزاً . يعني مثلاً: فرعون قال لموسى: {لئن اتخذت إلهاً غيري لأجعلنك من المسجونين} : هذا يحكيه الله عزّ وجلّ عن فرعون؛ فيكون القول قول فرعون؛ فكيف كان قول فرعون معجزاً والإعجاز إنما هو قول الله عزّ وجلّ؟
فالجواب: أن الله تعالى لم يحك كلامهم بلفظه؛ بل معناه؛ فصار المقروء في القرآن كلام الله عزّ وجلّ . وهو معجز..
التفسير:
.{ 19 } قوله تعالى: { أو كصيِّب من السماء }؛ { أو } هنا للتنويع؛ لأن المثل الثاني نوع آخر؛ والكاف اسم بمعنى "مِثل"؛ فالمعنى: أو مِثل صيب؛ ويجوز أن نقول: إن الكاف حرف تشبيه، والتقدير: أو مَثلهم كصيب؛ و "الصيِّب" المطر النازل من السماء؛ والمراد بـ{ السماء } هنا العلو..
قوله تعالى: { فيه ظلمات } أي معه ظلمات؛ لأن الظلمات تكون مصاحبة له؛ وهذه الظلمات ثلاث: ظلمة الليل؛ وظلمة السحاب؛ وظلمة المطر؛ والدليل على أنها ظلمة الليل قوله تعالى بعد ذلك: { يكاد البرق يخطف أبصارهم }، وقوله تعالى: { كلما أضاء لهم مشوا فيه }: وهذا لا يكون إلا في الليل؛ و الثاني: ظلمة السحاب؛ لأن السحاب الكثير يتراكم بعضه على بعض، فيَحدُث من ذلك ظلمةٌ فوق ظلمة؛ و الثالث: ظلمة المطر النازل ؛ لأن المطر النازل له كثافة تُحدِث ظلمةً؛ هذه ثلاث ظلمات؛ وربما تكون أكثر، كما لو كان في الجو غبار..
قوله تعالى: { ورعد وبرق }؛ "الرعد" هو الصوت الذي نسمعه من السحاب؛ أما "البرق" فهو النور الذي يلمع في السحاب..
فهؤلاء عندهم ظلمات في قلوبهم . فهي مملوءة ظلمة من الأصل؛ أصابها صيب . وهو القرآن . فيه رعد؛ والرعد هو وعيد القرآن؛ إلا أنه بالنسبة لهؤلاء المنافقين وخوفهم منه كأنه رعد شديد؛ وفيه برق . وهو وعد القرآن؛ إلا أنه بالنسبة لما فيه من نور، وهدى يكون كالبرق؛ لأن البرق ينير الأرض..
قوله تعالى: { يجعلون أصابعهم في آذانهم }؛ الضمير في { يجعلون } يعود على أصحاب الصيب؛ ففيها حذف المضاف؛ والتقدير: أصحاب الصيب؛ وإنما قلنا ذلك؛ لأنه ليس المشبه به هنا هو الصيب؛ وإنما المشبه به الذين أصابهم الصيب؛ و "أصابع" جمع أصبع، وفيه عشر لغات أشار إليها في قوله:.
(وهمزَ أنملةٍ ثلِّث وثالثَه التسعُ في إصبعٍ واختم بأصبوع) هذا وقد قيل: إن في الآية مجازاً من وجهين؛ الأول: أن الأصابع ليست كلها تجعل في الأذن؛ و الثاني: أنه ليس كل الأصبع يدخل في الأذن؛ والتحقيق: أنه ليس في الآية مجاز؛ أما الأول: فلأن "أصابع" جمع عائد على قوله تعالى: { يجعلون }، فيكون من باب توزيع الجمع على الجمع . أي يجعل كل واحد منهم أصبعه في أذنه؛ وأما الثاني: فلأن المخاطَب لا يمكن أن يفهم من جعْل الأصبع في الأذن أن جميع الأصبع تدخل في الأذن؛ وإذا كان لا يمكن ذلك امتنع أن تحمل الحقيقة على إدخال جميع الأصبع؛ بل الحقيقة أن ذلك إدخال بعض الأصبع؛ وحينئذ لا مجاز في الآية؛ على أن القول الراجح أنه لا مجاز في القرآن أصلاً؛ لأن معاني الآية تدرك بالسياق؛ وحقيقة الكلام: ما دلّ عليه السياق . وإن استعملت الكلمات في غير أصلها؛ وبحث ذلك مذكور في كتب البلاغة، وأصول الفقه، وأكبر دليل على امتناع المجاز في القرآن: أن من علامات المجاز صحة نفيه، وتبادر غيره لولا القرينة؛ وليس في القرآن ما يصح نفيه؛ وإذا وجدت القرينة صار الكلام بها حقيقة في المراد به..
قوله تعالى: { من الصواعق }؛ { من } سببية . أي يجعلونها بسبب الصواعق؛ و{ الصواعق } جمع صاعقة؛ وهي ما تَصعَق . أي تُهلك . مَنْ أصابته؛ هذه الصواعق معروفة بآثارها؛ فهي نار تنطلق من البرق؛ فإذا أصابت أحداً، أو شيئاً أحرقته؛ وغالباً تسقط على النخيل، وتحرقها؛ وترى فيها النار، والدخان؛ وأحياناً تسقط على المنازل وتهدمها؛ لأنها كتلة نارية تنطلق بشدة لها هواء تدفعه أمامها..
فيجعلون أصابعهم في آذانهم من هذه الصواعق لئلا يموتوا؛ ولكنهم لا ينجون منها بهذا الفعل؛ إلا أنهم كالنعامة إذا رأت الصياد أدخلت رأسها في الرمل لئلا تراه؛ وتظن أنها إذا لم تره تنجو منه! وكذلك الذين يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق لا يسلمون بهذا؛ إذا أراد الله تعالى أن يصيبهم أصابهم؛ ولهذا قال تعالى: { والله محيط بالكافرين }، فلن ينفعهم الحذر..
.{ 20 } ولما بَيَّن الله شدة الصوت، وأنهم لفرارهم منه، وعدم تحملهم إياه يجعلون أصابعهم في آذانهم بَيَّن شدة الضوء عليهم، فقال تعالى: { يكاد البرق يخطف أبصارهم } أي يقرب أن يخطف أبصارهم . أي يأخذها بسرعة، فتعمى؛ وذلك لقوته، وضعف أبصارهم..
قوله تعالى: { كلما أضاء لهم مشوا فيه }؛ فكأنهم ينتهزون فرصة الإضاءة، ولا يتأخرون عن الإضاءة طرفة عين؛ كلما أضاء لهم . ولو شيئاً يسيراً . مشوا فيه..
قوله تعالى: { وإذا أظلم عليهم } أي أصابهم بظلمة؛ وذلك أن الضوء إذا انطفأ بسرعة اشتدت الظلمة بعده؛ { قاموا } أي وقفوا..
قوله تعالى: { ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم } دون أن تحدث الصواعق، ودون أن يحدث البرق؛ لأن الله على كل شيء قدير؛ فهو قادر على أن يُذهب السمع والبصر بدون أسباب: فيذهب السمع بدون صواعق، والبصر بدون برق؛ { إن الله على كل شيء قدير }..
هذا المثل ينطبق على منافقين لم يؤمنوا أصلاً؛ بل كانوا كافرين من قبل، كاليهود؛ لأن المنافقين منهم عرب من الخزرج، والأوس؛ ومنهم يهود من بني إسرائيل؛ فاليهود لم يذوقوا طعم الإيمان أبداً؛ لأنهم كفار من الأصل؛ لكن أظهروا الإسلام خوفاً من النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن أعزه الله في بدر؛ فهؤلاء ليسوا على هدًى . كالأولين؛ الأولون استوقدوا النار، وصار عندهم شيء من النور بهذه النار، ثم . والعياذ بالله . انتكسوا؛ لكن هؤلاء من الأصل في ظلمات؛ فيكون هذا المثل غير المثل الأول؛ بل هو لقوم آخرين؛ والمنافقون أصناف بلا شك..
و "الصواعق" عبارة عما في القرآن من الإنذار، والخوف؛ ولهذا يقول الله سبحانه وتعالى عنهم في آية أخرى: {يحسبون كل صيحة عليهم} ؛ و "البرق" نور الإسلام، لكنه ليس نوراً يستمر؛ نور البرق ينقطع في لحظة؛ وميض؛ فهؤلاء لم يدخل الإيمان في قلوبهم أصلاً، ولا فكروا في ذلك؛ وإنما يرون هذا النور العظيم الذي شع، فينتفعون به لمجرد خطوة يخطونها فقط؛ وبعد ذلك يقفون؛ كذلك أيضاً يكاد البرق يخطف أبصارهم؛ لأنهم لا يتمكنون من رؤية النور الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم؛ بل لكبريائهم، وحسدهم للعرب يكاد هذا البرق يعمي أبصارهم؛ لأنه قوي عليهم لا يستطيعون مدافعته، ومقابلته..
فالظاهر أن القول الراجح أن هذين مثلان يتنَزلان على صنفين من المنافقين..
فإن قال قائل: الصنف الأول كيف نقول: إنه دخل الإيمان في قلوبهم؟
فالجواب: نقول: نعم؛ قال الله تعالى: {ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون} ؛ وهذا يدل على أنهم آمنوا أولاً، ثم كفروا ثانياً؛ لأن الإيمان لم يستقر في قلوبهم، ولم تستنر به؛ وإنما هو وميض ضوء ما لبث أن طفئ؛ وإلا فإن الإيمان إذا دخل القلب دخولاً حقيقياً فإنه لن يخرج منه بإذن الله؛ ولهذا سأل هرقل أبا سفيان عن أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم الذين يدخلون في الإسلام: "فَهَلْ يَرْتَدُّ أَحَدٌ مِنْهُمْ سَخْطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فيه؛ فقال: لا؛ فقال: وَكَذَلِكَ الْإِيْمَانُ حِينَ تُخَالِطُ بَشَاشَتُهُ القُلوبَ"(65) ؛ لكن الإيمان الهش - الذي لم يتمكن من القلب - هو الذي يُخشى على صاحبه..
الفوائد:
.1 من فوائد الآيتين: تهديد الكفار بأن الله محيط بهم؛ لقوله تعالى: { والله محيط بالكافرين }..
.2 ومنها: أن البرق الشديد يخطف البصر؛ ولهذا يُنهى الإنسان أن ينظر إلى البرق حال كون السماء تبرق؛ لئلا يُخطف بصره..
.3 ومنها: أن من طبيعة الإنسان اجتناب ما يهلكه؛ لقوله تعالى: (وإذا أظلم عليهم قاموا).
.4 ومنها: إثبات مشيئة الله؛ لقوله تعالى: ( ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم ).
.5 ومنها: أنه ينبغي للإنسان أن يلجأ إلى الله عزّ وجلّ أن يمتعه بسمعه، وبصره؛ لقوله تعالى: { ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم }؛ وفي الدعاء المأثور: "متعنا بأسماعنا، وأبصارنا، وقوتنا ما أحييتنا"(66) ..
.6 ومنها: أن من أسماء الله أنه قدير على كل شيء..
.7 ومنها: عموم قدرة الله تعالى على كل شيء؛ فهو جلّ وعلا قادر على إيجاد المعدوم، وإعدام الموجود، وعلى تغيير الصالح إلى فاسد، والفاسد إلى صالح، وغير ذلك..
القرآن
)يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة:21).
التفسير:
}.{ 21 } يا أيها الناس}: النداء هنا وجِّه لعموم الناس مع أن السورة مدنية؛ والغالب في السور المدنية أن النداء فيها يكون موجهاً للمؤمنين . والله أعلم بما أراد في كتابه؛ ولو قال قائل: لعل هذه آية مكية جعلت في السورة المدنية؟
فالجواب: أن الأصل عدم ذلك - أي عدم إدخال الآية المكية في السور المدنية، أو العكس؛ ولا يجوز العدول عن هذا الأصل إلا بدليل صحيح صريح؛ وعلى هذا فما نراه في عناوين بعض السور أنها مدنية إلا آية كذا، أو مكية إلا آية كذا غير مسلَّم حتى يثبت ذلك بدليل صحيح صريح؛ وإلا فالأصل أن السورة المدنية جميع آياتها مدنية، وأن السور المكية جميع آياتها مكية إلا بدليل ثابت..
قوله تعالى: { اعبدوا ربكم } أي تذللوا له بالطاعة؛ وذلك بفعل الأوامر، واجتناب النواهي ذلاً تاماً ناشئاً عن المحبة، والتعظيم؛ و "الرب" هو الخالق المالك المدبر لشؤون خلقه؛ { الذي خلقكم } أي أوجدكم من العدم؛ { والذين من قبلكم } معطوف على الكاف في قوله تعالى: { خلقكم } . يعني وخلق الذين من قبلكم؛ والمراد بـ "من قبلنا" : سائر الأمم الماضية..
وقوله تعالى: { الذي خلقكم } صفة كاشفة تبين بعض معنى الربوبية؛ وليست صفة احترازية؛ لأنه ليس لنا ربان أحدهما خالق، والثاني غير خالق؛ بل ربنا هو الخالق..
قوله تعالى: { لعلكم تتقون }؛ "لعل" هنا للتعليل . أي لتصلوا إلى التقوى؛ ومعلوم أن التقوى مرتبة عالية، حتى قال الله عزّ وجلّ في الجنة: {أعدت للمتقين} ، وقال تعالى: {إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون} ، وقال تعالى: {واعلموا أن الله مع المتقين} ..
الفوائد:
.1 من فوائد الآية: العناية بالعبادة؛ يستفاد هذا من وجهين؛ الوجه الأول: تصدير الأمر بها بالنداء؛ و الوجه الثاني: تعميم النداء لجميع الناس مما يدل على أن العبادة أهم شيء؛ بل إنّ الناس ما خُلقوا إلا للعبادة، كما قال تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} (الذاريات: 56)
.2 ومنها: أن الإقرار بتوحيد الربوبية مستلزم للإقرار بتوحيد الألوهية؛ لقوله تعالى: { اعبدوا ربكم }..
.3 ومنها: وجوب عبادة الله عزّ وجلّ وحده . وهي التي خُلق لها الجن، والإنس؛ و"العبادة" تطلق على معنيين؛ أحدهما: التعبد . وهو فعل العابد؛ و الثاني: المتعبَّد به . وهي كل قول، أو فعل ظاهر، أو باطن يقرب إلى الله عزّ وجلّ..
.4 ومنها: أن وجوب العبادة علينا مما يقتضيه العقل بالإضافة إلى الشرع؛ لقوله تعالى: { اعبدوا ربكم }؛ فإن الرب عزّ وجلّ يستحق أن يُعبد وحده، ولا يعبد غيره؛ والعجب أن هؤلاء المشركين الذين لم يمتثلوا هذا الأمر إذا أصابتهم ضراء، وتقطعت بهم الأسباب يتوجهون إلى الله، كما قال تعالى: {وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين} ؛ لأن فطرهم تحملهم على ذلك ولابد..
.5 . ومن فوائد الآية: إثبات أن الله عزّ وجلّ هو الخالق وحده، وأنه خالق الأولين، والآخرين؛ لقوله تعالى: ( الذي خلقكم والذين من قبلكم ).
.6 ومنها: أن من طريق القرآن أنه إذا ذَكر الحكم غالباً ذَكر العلة؛ الحكم: { اعبدوا ربكم }؛ والعلة: كونه رباً خالقاً لنا، ولمن قبلنا..
.7 ومنها: أن التقوى مرتبة عالية لا ينالها كل أحد إلا من أخلص العبادة لله عزّ وجلّ؛ لقوله تعالى: (لعلكم تتقون )..
.8 وربما يستفاد التحذير من البدع؛ وذلك؛ لأن عبادة الله لا تتحقق إلا بسلوك الطريق الذي شرعه للعباد؛ لأنه لا يمكن أن نعرف كيف نعبد الله إلا عن طريق الوحي والشرع: كيف نتوضأ، كيف نصلي... يعني ما الذي أدرانا أن الإنسان إذا قام للصلاة يقرأ، ثم يركع، ثم يسجد... إلخ، إلا بعد الوحي..
.9 ومنها: الحث على طلب العلم؛ إذ لا تمكن العبادة إلا بالعلم؛ ولهذا ترجم البخاري . رحمه الله . على هذه المسألة بقوله: "باب: العلم قبل القول، والعمل ..
القـرآن
)الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (البقرة:22).
التفسير:
.{ 22 } قوله تعالى: { الذي جعل لكم الأرض فراشاً... } هذا من باب تعديد أنواع من مخلوقاته عزّ وجلّ؛ جعل الله لنا الأرض فراشاً مُوَطَّأة يستقر الإنسان عليها استقراراً كاملاً مهيأة له يستريح فيها . ليست نشَزاً؛ وليست مؤلمة عند النوم عليها، أو عند السكون عليها، أو ما أشبه ذلك؛ والله تعالى قد وصف الأرض بأوصاف متعددة: وصفها بأنها فراش، وبأنها ذلول، وبأنها مهاد..
قوله تعالى: { والسماء بناءً } . كما قال تعالى: {وبنينا فوقكم سبعاً شداداً} : السماء جعلها الله بمنزلة البناء، وبمنزلة السقف، كما قال تعالى: {وجعلنا السماء سقفاً محفوظاً}(الأنبياء: 32).
قوله تعالى: { وأنزل من السماء ماءً }: ليست هي السماء الأولى؛ بل المراد بـ{ السماء } هنا العلو؛ لأن الماء . الذي هو المطر . ينزل من السحاب، والسحاب بين السماء، والأرض، كما قال الله تعالى: {ألم تر أن الله يزجي سحاباً ثم يؤلف بينه ثم يجعله ركاماً فترى الودق يخرج من خلاله} ، وقال تعالى: {إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار....} إلى قوله تعالى: {والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون} ؛ وبهذا نعرف أن السماء يطلق على معنيين؛ المعنى الأول: البناء الذي فوقنا؛ والمعنى الثاني: العلو..
قوله تعالى: { فأخرج به } أي بسببه؛ { من الثمرات } جمع ثمرة؛ وجمعت باعتبار أنواعها..
قوله تعالى: { رزقاً لكم } أي عطاء لكم؛ وهو مفعول لأجله..
قوله تعالى: { فلا تجعلوا } أي لا تُصَيِّروا { لله أنداداً } أي نظراء، ومشابهين في العبادة { وأنتم تعلمون } أنه لا نِد له في الخلق، والرزق، وإنزال المطر، وما أشبه ذلك من معاني الربوبية، ومقتضياتها؛ لأن المشركين يقرُّون بأن الخالق هو الله، والرازق هو الله، والمدبر للأمر هو الله إقراراً تاماً، ويعلمون أنه لا إله مع الله في هذا؛ لكن في العبادة ينكرون التوحيد: يشركون؛ يجعلون مع الله إلهاً آخر؛ وينكرون على من وحّد الله حتى قالوا في الرسول صلى الله عليه وسلم {أجعل الآلهة إلهاً واحداً إن هذا لشيء عجاب} ؛ وإقرارهم بالخلق، والرزق أن الله منفرد به يستلزم أن يجعلوا العبادة لله وحده؛ فإن لم يفعلوا فهم متناقضون؛ ولهذا قال العلماء . رحمهم الله .: توحيد الألوهية متضمن لتوحيد الربوبية؛ وتوحيد الربوبية مستلزم لتوحيد الألوهية؛ يعني من أقر بتوحيد الربوبية لزمه أن يقر بتوحيد الألوهية؛ ومن أقر بتوحيد الألوهية فإنه لم يقرَّ بها حتى كان قد أقر بتوحيد الربوبية..
الفوائد:
.1 من فوائد الآية: بيان رحمة الله تعالى، وحكمته في جعل الأرض فراشاً؛ إذ لو جعلها خشنة صلبة لا يمكن أن يستقر الإنسان عليها ما هدأ لأحد بال؛ لكن من رحمته، ولطفه، وإحسانه جعلها فراشاً..
.2 ومنها: جعْل السماء بناءً؛ وفائدتنا من جعل السماء بناءً أن نعلم بذلك قدرة الله عزّ وجلّ؛ لأن هذه السماء المحيطة بالأرض من كل الجوانب نعلم أنها كبيرة جداً، وواسعة، كما قال تعالى: {والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون} (الذاريات: 47).
.3 ومنها: بيان قدرة الله عزّ وجلّ بإنزال المطر من السماء؛ لقوله تعالى: { وأنزل من السماء ماء }؛ لو اجتمعت الخلائق على أن يخلقوا نقطة من الماء ما استطاعوا؛ والله تعالى ينزل هذا المطر العظيم بلحظة؛ وقصة الرجل الذي دخل والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة قال: ادع الله يغيثنا، فرفع (صلى الله عليه وسلم يديه، وقال: "اللهم أغثنا"(67) ، وما نزل من المنبر إلا والمطر يتحادر من لحيته..
.4 ومنها: حكمة الله سبحانه وتعالى، ورحمته بإنزال المطر من السماء؛ وجه ذلك: لو كان الماء الذي تحيى به الأرض يجري على الأرض لأضر الناس؛ ولو كان يجري على الأرض لحُرِم منه أراضٍ كثيرة . الأراضي المرتفعة لا يأتيها شيء؛ ولكن من نعمة الله أن ينزل من السماء؛ ثم هناك شيء آخر أيضاً: أنه ينزل رذاذاً . يعني قطرةً قطرةً؛ ولو نزل كأفواه القرب لأضر بالناس..
.5 ومنها: إثبات الأسباب؛ لقوله تعالى: ( فأخرج به من الثمرات رزقاً لكم )..
.6 ومنها: أن الأسباب لا تكون مؤثرة إلا بإرادة الله عزّ وجلّ؛ لقوله تعالى: ( فأخرج به )..
.7 ومنها: أنه ينبغي لمن أراد أن يضيف الشيء إلى سببه أن يضيفه إلى الله مقروناً بالسبب، مثل لو أن أحداً من الناس غرق، وجاء رجل فأخرجه . أنقذه من الغرق؛ فليقل: أنقذني الله بفلان؛ وله أن يقول: أنقذني فلان؛ لأنه فعلاً أنقذه؛ وله أن يقول: أنقذني الله ثم فلان؛ وليس له أن يقول: أنقذني الله وفلان؛ لأن هذا تشريك مع الله؛ ويدل لهذا . أي الاختيار أن يضيف الشيء إلى الله مقروناً بالسبب . أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دعا الغلام اليهودي للإسلام وكان هذا الغلام في سياق الموت، فعرض عليه النبي صلى الله عليه وسلم أن يسلم، فأسلم؛ لكنه أسلم بعد أن استشار أباه: التفت إليه ينظر إليه يستشيره؛ قال: "أطع أبا القاسم" . أمر ولده أن يسلم، وهو لم يسلم في تلك الحال، أما بعد فلا ندري، والله أعلم؛ فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: "الحمد لله الذي أنقذه بي من النار"(68) ، وهكذا ينبغي لنا إذا حصل شيء بسبب أن نضيفه إلى الله تعالى مقروناً ببيان السبب؛ وذلك؛ لأن السبب موصل فقط..
.8 . ومن فوائد الآية: بيان قدرة الله، وفضله بإخراج هذه الثمرات من الماء؛ أما القدرة فظاهر: تجد الأرض شهباء جدباء ليس فيها ورقة خضراء فينزل المطر، وفي مدة وجيزة يخرج هذا النبات من كل زوج بهيج بإذن الله عزّ وجلّ، كما قال تعالى: {ألم تر أن الله أنزل من السماء ماءاً فتصبح الأرض مخضرَّة} ؛ وأما الفضل فبما يمن الله به من الثمرات؛ ولذلك قال تعالى: { رزقاً لكم }..
.9 ومنها: أن الله عزّ وجلّ منعم على الإنسان كافراً كان، أو مؤمناً؛ لقوله تعالى: { لكم }، وهو يخاطب في الأول الناس عموماً؛ لكن فضل الله على المؤمن دائم متصل بفضل الآخرة؛ وفضل الله على الكافر منقطع بانقطاعه من الدنيا..
.10 ومنها: تحريم اتخاذ الأنداد لله؛ لقوله تعالى: { فلا تجعلوا لله أنداداً }؛ وهل الأنداد شرك أكبر، أو شرك أصغر؛ وهل هي شرك جلي، أو شرك خفي؛ هذا له تفصيل في علم التوحيد؛ خلاصته: إن اتخذ الأنداد في العبادة، أو جعلها شريكة لله في الخلق، والملك، والتدبير فهو شرك أكبر؛ وإن كان دون ذلك فهو شرك أصغر، كقول الرجل لصاحبه: "ما شاء الله وشئت"..
.11 . ومن فوائد الآية: أنه ينبغي لمن خاطب أحداً أن يبين له ما تقوم به عليه الحجة؛ لقوله تعالى: { فلا تجعلوا لله أنداداً وأنتم تعلمون }، ولقوله تعالى في صدر الآية الأولى: {اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم} ؛ فإن قوله تعالى: {الذي خلقكم والذين من قبلكم} فيه إقامة الحجة على وجوب عبادته وحده؛ لأنه الخالق وحده..
القـرآن
)وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (البقرة:23).
التفسير:
.{ 23 } قوله تعالى: { وإن كنتم... }: الخطاب لمن جعل لله أنداداً؛ لأنه تعالى قال: ( فلا تجعلوا لله أنداداً وأنتم تعلمون * وإن كنتم في ريب ).
وفي ذكر هذه الآية المتعلقة برسالة محمد صلى الله عليه وسلم إشارة إلى كلمتي التوحيد؛ وهما شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله؛ لكن شهادة أن لا إله إلا الله: توحيد القصد؛ والثاني: توحيد المتابعة؛ فكلاهما توحيد؛ لكن الأول توحيد القصد بأن يكون العمل خالصاً لله؛ والثاني توحيد المتابعة بأن لا يتابع في عبادته سوى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإذا تأملت القرآن وجدت هكذا: يأتي بما يدل على التوحيد، ثم بما يدل على الرسالة؛ ومن أمثلة ذلك قوله تعالى: {أفلم يدَّبروا القول أم جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين} ، ثم قال تعالى: {أم لم يعرفوا رسولهم فهم له منكرون} ؛ وهذا مطَّرد في القرآن الكريم..
قوله تعالى: { في ريب }: "الريب" يفسره كثير من الناس بالشك؛ ولا شك أنه قريب من معنى الشك، لكنه يختلف عنه بأن "الريب" يُشعر بقلق مع الشك، وأن الإنسان في قلق عظيم مما وقع فيه الشك؛ وذلك؛ لأن ما جاء به الرسول حق؛ والشاك فيه لا بد أن يعتريه قلق من أجل أنه شك في أمر لا بد من التصديق به؛ بخلاف الشك في الأمور الهينة، فلا يقال: "ريب"؛ وإنما يقال في الأمور العظيمة التي إذا شك فيها الإنسان وجد في داخل نفسه قلقاً، واضطراباً..
قوله تعالى: { مما نزَّلنا }: المراد به القرآن؛ لأن الله أنزله على محمد صلى الله عليه وسلم { على عبدنا }: هو محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم والله . تبارك وتعالى . وصف رسوله صلى الله عليه وسلم بالعبودية في المقامات العالية: في الدفاع عنه؛ وفي بيان تكريمه بالمعراج، والإسراء؛ وفي بيان تكريمه بإنزال القرآن، كما قال تعالى: {تبارك الذي نزل الفرقان على عبده} ، وقال تعالى: {سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً} ، وقال تعالى: {فأوحى إلى عبده ما أوحى} ، وقال تعالى: { وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا }: هذا في مقام التحدي، والمدافعة؛ وأفضل أوصاف الرسول صلى الله عليه وسلم هي العبودية، والرسالة؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم "إنما أنا عبد؛ فقولوا: عبد الله، ورسوله"(69) ؛ و "العبودية" : هي التذلل للمحبوب، والمعظم؛ ولهذا قال الشاعر في محبوبته:.
(لا تدعني إلا بيا عبدها فإنه أشرف أسمائي) يعني: لا تقل: فلان، وفلان؛ بل قل: يا عبد فلانة؛ لأن هذا عنده أشرف أوصافه، حيث انتمى إليها . نعوذ بالله من الخذلان..
قوله تعالى: { فأتوا بسورة }: أمر يقصد به التحدي . يعني: إذا كنتم في شك من هذا القرآن فإننا نتحداكم أن تأتوا بسورة واحدة؛ { من مثله }: يحتمل أن يكون الضمير عائداً إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ؛ والمعنى: من مثل محمد صلى الله عليه وسلم ويحتمل أن يكون عائداً إلى القرآن المنزل؛ والمعنى: من مثل ما نزلنا على عبدنا . أي من جنسه؛ وكلاهما صحيح..
قوله تعالى: { وادعوا شهداءكم } أي الذين تشهدون لهم بالألوهية، وتعبدونهم كما تعبدون الله، ادعوهم ليساعدوكم في الإتيان بمثله؛ وهذا غاية ما يكون من التحدي: أن يتحدى العابدَ والمعبودَ أن يأتوا بسورة مثله.
قوله تعالى: { من دون الله } أي مما سوى الله؛ { إن كنتم صادقين } أي في أن هذا القرآن مفترًى على الله؛ والجواب على هذا: أنه لا يمكن أن يأتوا بسورة مثله مهما أتوا من المعاونين، والمساعدين..
الفوائد:
.1 من فوائد الآية: دفاع الله سبحانه وتعالى عن رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لقوله تعالى: { فأتوا بسورة من مثله }؛ لأن الأمر هنا للتحدي؛ فالله عزّ وجلّ يتحدى هؤلاء بأن يأتوا بمعارضٍِ لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم..
.2 ومنها: فضيلة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لوصفه بالعبودية؛ والعبودية لله عزّ وجلّ هي غاية الحرية؛ لأن من لم يعبد الله فلا بد أن يعبد غيره؛ فإذا لم يعبد الله عزّ وجلّ . الذي هو مستحق للعبادة . عَبَدَ الشيطان، كما قال ابن القيم . رحمه الله . في النونية:.
(هربوا من الرق الذي خلقوا له وبلوا برق النفس والشيطان)
3. ومنها: أن القرآن كلام الله؛ لقوله تعالى: { مما نزلنا }؛ ووجه كونه كلام الله أن القرآن كلام؛ والكلام صفة للمتكلم، وليس شيئاً بائناً منه؛ وبهذا نعرف بطلان قول من زعم أن القرآن مخلوق..
.4 ومنها: إثبات علوّ الله عزّ وجلّ؛ لأنه إذا تقرر أن القرآن كلامه، وأنه منزل من عنده لزم من ذلك علوّ المتكلم به؛ وعلو الله عزّ وجلّ ثابت بالكتاب، والسنة، والإجماع، والعقل، والفطرة؛ وتفاصيل هذه الأدلة في كتب العقائد؛ ولولا خوض أهل البدعة في ذلك ما احتيج إلى كبير عناء في إثباته؛ لأنه أمر فطري؛ ولكن علماء أهل السنة يضطرون إلى مثل هذا لدحض حجج أهل البدع..
.5 ومن فوائد الآية: أن القرآن معجز حتى بسورة . ولو كانت قصيرة؛ لقوله تعالى: { فأتوا بسورة من مثله}..
.6 ومنها: تحدي هؤلاء العابدين للآلهة مع معبوديهم؛ وهذا أشد ذلاًّ مما لو تُحدوا وحدهم..
القـرآن
)فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ) (البقرة:24).
التفسير:
.{ 24 } قوله تعالى: { فإن لم تفعلوا } يعني فإن لم تأتوا بسورة من مثله..
ولما قال تعالى: { فإن لم تفعلوا } . وهي شرطية . قطع أطماعهم بقوله: { ولن تفعلوا } يعني: ولا يمكنكم أن تفعلوا؛ و{ لن } هنا للتأبيد؛ لأن المقام مقام تحدٍّ..
قوله تعالى: { فاتقوا النار }: الفاء هنا واقعة في جواب الشرط . وهو { إن لم تفعلوا } يعني: إن لم تفعلوا، وتعارضوا القرآن بمثله فالنار مثواكم؛ فاتقوا النار . ولن يجدوا ما يتقون به النار إلا أن يؤمنوا بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم
قوله تعالى: { التي وقودها الناس والحجارة }؛ { التي } اسم موصول صفة لـ{ النار }؛ و{ وقود } مبتدأ؛ و{ الناس } خبر المبتدأ؛ والجملة: صلة الموصول؛ و "الوقود" ما يوقد به الشيء، كالحطب . مثلاً . في نار الدنيا؛ في الآخرة وقود النار هم الناس، والحجارة؛ فالنار تحرقهم، وتلتهب بهم؛ و{ الحجارة }: قال بعض العلماء: إن المراد بها الحجارة المعبودة . يعني الأصنام؛ لأنهم يعبدون الأصنام؛ فأصنامهم هذه تكون معهم في النار، كما قال تعالى: {إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون} ؛ وقيل: هذا، وهذا . الحجارة المعبودة، والحجارة الموقودة التي خلقها عزّ وجلّ لتوقد بها النار..
قوله تعالى: { أعدت }: الضمير المستتر يعود على النار؛ والمعِدُّ لها هو الله عزّ وجلّ؛ ومعنى "الإعداد" التهيئة للشيء؛ { للكافرين } أي لكل كافر سواء كفر بالرسالة، أو كفر بالألوهية، أو بغير ذلك..
الفوائد:
.1 من فوائد الآية: أن من عارض القرآن فإن مأواه النار؛ لقوله تعالى: ( فاتقوا النار).
.2 ومنها: أن الناس وقود للنار كما توقد النار بالحطب؛ فهي في نفس الوقت تحرقهم، وهي أيضاً توقد بهم؛ فيجتمع العذاب عليهم من وجهين..
.3 ومنها: إهانة هؤلاء الكفار بإذلال آلهتهم، وطرحها في النار . على أحد الاحتمالين في قوله تعالى: { الحجارة }؛ لأن من المعلوم أن الإنسان يغار على من كان يعبده، ولا يريد أن يصيبه أذًى؛ فإذا أحرق هؤلاء المعبودون أمام العابدين فإن ذلك من تمام إذلالهم، وخزيهم..
.4 ومنها: أن النار موجودة الآن؛ لقوله تعالى: { أعدت }؛ ومعلوم أن الفعل هنا فعل ماض؛ والماضي يدل على وجود الشيء؛ وهذا أمر دلت عليه السنة أيضاً؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم عُرضت عليه الجنة، والنار، ورأى أهلها يعذبون فيها: رأى عمرو بن لحيّ الخزاعي يجر قصبه . أي أمعاءه . في النار؛ ورأى المرأة التي حبست الهرة حتى ماتت جوعاً: فلم تكن أطعمتها، ولا أرسلتها تأكل من خشاش الأرض؛ ورأى فيها صاحب المحجن . الذي كان يسرق الحُجَّاج بمحجنه . يعذب: وهو رجل معه محجن . أي عصا محنية الرأس . كان يسرق الحُجاج بهذا المحجن؛ إذا مر به الحجاج جذب متاعهم؛ فإن تفطن صاحب الرحل لذلك ادعى أن الذي جذبه المحجن؛ وإن لم يتفطن أخذه؛ فكان يعذب . والعياذ بالله . بمحجنه في نار جهنم(70) ..
مسألة:
هل النار باقية؛ أو تفنى؟ ذكر بعض العلماء إجماع السلف على أنها تبقى، ولا تفنى؛ وذكر بعضهم خلافاً عن بعض السلف أنها تفنى؛ والصواب أنها تبقى أبد الآبدين؛ والدليل على هذا من كتاب الله عزّ وجلّ في ثلاث آيات من القرآن: في سورة النساء، وسورة الأحزاب، وسورة الجن؛ فأما الآية التي في النساء فهي قوله تعالى: {إن الذين كفروا وظلموا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقاً * إلا طريق جهنم خالدين فيها أبداً} ؛ والتي في سورة الأحزاب قوله تعالى: {إن الله لعن الكافرين وأعد لهم سعيراً * خالدين فيها أبداً} ؛ والتي في سورة الجن قوله تعالى: { ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبداً } ؛ وليس بعد كلام الله كلام؛ حتى إني أذكر تعليقاً لشيخنا عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله على كتاب "شفاء العليل" لابن القيم؛ ذكر أن هذا من باب: "لكل جواد كبوة؛ ولكل صارم نبوة" . وهو صحيح؛ كيف إن المؤلف رحمه الله يستدل بهذه الأدلة على القول بفناء النار مع أن الأمر فيها واضح؟! غريب على ابن القيم رحمه الله أنه يسوق الأدلة بهذه القوة للقول بأن النار تفنى! وعلى كل حال، كما قال شيخنا في هذه المسألة: "لكل جواد كبوة؛ ولكل صارم نبوة"؛ والصواب الذي لا شك فيه . وهو عندي مقطوع به . أن النار باقية أبد الآبدين؛ لأنه إذا كان يخلد فيها تخليداً أبدياً لزم أن تكون هي مؤبدة؛ لأن ساكن الدار إذا كان سكونه أبدياً لابد أن تكون الدار أيضاً أبدية..
وأما قوله تعالى في أصحاب النار: {خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك} فهي كقوله تعالى في أصحاب الجنة: {خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك} لكن لما كان أهل الجنة نعيمهم، وثوابهم فضلاً ومنَّة، بيَّن أن هذا الفضل غير منقطع، فقال تعالى: {عطاءً غير مجذوذ} ؛ ولما كان عذاب أهل النار من باب العدل، والسلطان المطلق للرب عزّ وجلّ قال تعالى في آخر الآية: {إن ربك فعال لما يريد} ؛ وليس المعنى: {إن ربك فعال لما يريد} أنه سوف يخرجه من النار، أو سوف يُفني النار..
.5 ومن فوائد الآية: أن النار دار للكافرين؛ لقوله تعالى: { أعدت للكافرين }؛ وأما من دخلها من عصاة المؤمنين فإنهم لا يخلدون فيها؛ فهم فيها كالزوار؛ لا بد أن يَخرجوا منها؛ فلا تسمى النار داراً لهم؛ بل هي دار للكافر فقط؛ أما المؤمن العاصي . إذا لم يعف الله عنه . فإنه يعذب فيها ما شاء الله، ثم يخرج منها إما بشفاعة؛ أو بمنة من الله وفضل؛ أو بانتهاء العقوبة..
مسألة:
إذا قال قائل: ما وجه الإعجاز في القرآن؟ وكيف أعجز البشر؟..
الجواب: أنه معجز بجميع وجوه الإعجاز؛ لأنه كلام الله، وفيه من وجوه الإعجاز ما لا يدرك؛ فمن ذلك:.
أولاً: قوة الأسلوب، وجماله؛ والبلاغة، والفصاحة؛ وعدم الملل في قراءته؛ فالإنسان يقرأ القرآن صباحاً، ومساءً . وربما يختمه في اليومين، والثلاثة . ولا يمله إطلاقاً؛ لكن لو كرر متناً من المتون كما يكرر القرآن ملّ..
ثانياً: أنه معجز بحيث إن الإنسان كلما قرأه بتدبر ظهر له بالقراءة الثانية ما لم يظهر له بالقراءة الأولى..
ثالثاً: صدق أخباره بحيث يشهد لها الواقع؛ وكمال أحكامه التي تتضمن مصالح الدنيا، والآخرة؛ لقوله تعالى: {وتمت كلمة ربك صدقاً وعدلاً } (الأنعام: 115).
رابعاً: تأثيره على القلوب، والمناهج؛ وآثاره، حيث ملك به السلف الصالح مشارق الأرض، ومغاربها..
وأما كيفية الإعجاز فهي تحدي الجن، والإنس على أن يأتوا بمثله، ولم يستطيعوا..
مسألة:.ثـانية:.
حكى الله عزّ وجلّ عن الأنبياء، والرسل، ومن عاندهم أقوالاً؛ وهذه الحكاية تحكي قول من حُكيت عنه؛ فهل يكون قول هؤلاء معجزاً . يعني مثلاً: فرعون قال لموسى: {لئن اتخذت إلهاً غيري لأجعلنك من المسجونين} : هذا يحكيه الله عزّ وجلّ عن فرعون؛ فيكون القول قول فرعون؛ فكيف كان قول فرعون معجزاً والإعجاز إنما هو قول الله عزّ وجلّ؟
فالجواب: أن الله تعالى لم يحك كلامهم بلفظه؛ بل معناه؛ فصار المقروء في القرآن كلام الله عزّ وجلّ . وهو معجز..

التفاحة الحلوة22 :
)أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ) (البقرة:19) )يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (البقرة:20). التفسير: .{ 19 } قوله تعالى: { أو كصيِّب من السماء }؛ { أو } هنا للتنويع؛ لأن المثل الثاني نوع آخر؛ والكاف اسم بمعنى "مِثل"؛ فالمعنى: أو مِثل صيب؛ ويجوز أن نقول: إن الكاف حرف تشبيه، والتقدير: أو مَثلهم كصيب؛ و "الصيِّب" المطر النازل من السماء؛ والمراد بـ{ السماء } هنا العلو.. قوله تعالى: { فيه ظلمات } أي معه ظلمات؛ لأن الظلمات تكون مصاحبة له؛ وهذه الظلمات ثلاث: ظلمة الليل؛ وظلمة السحاب؛ وظلمة المطر؛ والدليل على أنها ظلمة الليل قوله تعالى بعد ذلك: { يكاد البرق يخطف أبصارهم }، وقوله تعالى: { كلما أضاء لهم مشوا فيه }: وهذا لا يكون إلا في الليل؛ و الثاني: ظلمة السحاب؛ لأن السحاب الكثير يتراكم بعضه على بعض، فيَحدُث من ذلك ظلمةٌ فوق ظلمة؛ و الثالث: ظلمة المطر النازل ؛ لأن المطر النازل له كثافة تُحدِث ظلمةً؛ هذه ثلاث ظلمات؛ وربما تكون أكثر، كما لو كان في الجو غبار.. قوله تعالى: { ورعد وبرق }؛ "الرعد" هو الصوت الذي نسمعه من السحاب؛ أما "البرق" فهو النور الذي يلمع في السحاب.. فهؤلاء عندهم ظلمات في قلوبهم . فهي مملوءة ظلمة من الأصل؛ أصابها صيب . وهو القرآن . فيه رعد؛ والرعد هو وعيد القرآن؛ إلا أنه بالنسبة لهؤلاء المنافقين وخوفهم منه كأنه رعد شديد؛ وفيه برق . وهو وعد القرآن؛ إلا أنه بالنسبة لما فيه من نور، وهدى يكون كالبرق؛ لأن البرق ينير الأرض.. قوله تعالى: { يجعلون أصابعهم في آذانهم }؛ الضمير في { يجعلون } يعود على أصحاب الصيب؛ ففيها حذف المضاف؛ والتقدير: أصحاب الصيب؛ وإنما قلنا ذلك؛ لأنه ليس المشبه به هنا هو الصيب؛ وإنما المشبه به الذين أصابهم الصيب؛ و "أصابع" جمع أصبع، وفيه عشر لغات أشار إليها في قوله:. (وهمزَ أنملةٍ ثلِّث وثالثَه التسعُ في إصبعٍ واختم بأصبوع) هذا وقد قيل: إن في الآية مجازاً من وجهين؛ الأول: أن الأصابع ليست كلها تجعل في الأذن؛ و الثاني: أنه ليس كل الأصبع يدخل في الأذن؛ والتحقيق: أنه ليس في الآية مجاز؛ أما الأول: فلأن "أصابع" جمع عائد على قوله تعالى: { يجعلون }، فيكون من باب توزيع الجمع على الجمع . أي يجعل كل واحد منهم أصبعه في أذنه؛ وأما الثاني: فلأن المخاطَب لا يمكن أن يفهم من جعْل الأصبع في الأذن أن جميع الأصبع تدخل في الأذن؛ وإذا كان لا يمكن ذلك امتنع أن تحمل الحقيقة على إدخال جميع الأصبع؛ بل الحقيقة أن ذلك إدخال بعض الأصبع؛ وحينئذ لا مجاز في الآية؛ على أن القول الراجح أنه لا مجاز في القرآن أصلاً؛ لأن معاني الآية تدرك بالسياق؛ وحقيقة الكلام: ما دلّ عليه السياق . وإن استعملت الكلمات في غير أصلها؛ وبحث ذلك مذكور في كتب البلاغة، وأصول الفقه، وأكبر دليل على امتناع المجاز في القرآن: أن من علامات المجاز صحة نفيه، وتبادر غيره لولا القرينة؛ وليس في القرآن ما يصح نفيه؛ وإذا وجدت القرينة صار الكلام بها حقيقة في المراد به.. قوله تعالى: { من الصواعق }؛ { من } سببية . أي يجعلونها بسبب الصواعق؛ و{ الصواعق } جمع صاعقة؛ وهي ما تَصعَق . أي تُهلك . مَنْ أصابته؛ هذه الصواعق معروفة بآثارها؛ فهي نار تنطلق من البرق؛ فإذا أصابت أحداً، أو شيئاً أحرقته؛ وغالباً تسقط على النخيل، وتحرقها؛ وترى فيها النار، والدخان؛ وأحياناً تسقط على المنازل وتهدمها؛ لأنها كتلة نارية تنطلق بشدة لها هواء تدفعه أمامها.. فيجعلون أصابعهم في آذانهم من هذه الصواعق لئلا يموتوا؛ ولكنهم لا ينجون منها بهذا الفعل؛ إلا أنهم كالنعامة إذا رأت الصياد أدخلت رأسها في الرمل لئلا تراه؛ وتظن أنها إذا لم تره تنجو منه! وكذلك الذين يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق لا يسلمون بهذا؛ إذا أراد الله تعالى أن يصيبهم أصابهم؛ ولهذا قال تعالى: { والله محيط بالكافرين }، فلن ينفعهم الحذر.. .{ 20 } ولما بَيَّن الله شدة الصوت، وأنهم لفرارهم منه، وعدم تحملهم إياه يجعلون أصابعهم في آذانهم بَيَّن شدة الضوء عليهم، فقال تعالى: { يكاد البرق يخطف أبصارهم } أي يقرب أن يخطف أبصارهم . أي يأخذها بسرعة، فتعمى؛ وذلك لقوته، وضعف أبصارهم.. قوله تعالى: { كلما أضاء لهم مشوا فيه }؛ فكأنهم ينتهزون فرصة الإضاءة، ولا يتأخرون عن الإضاءة طرفة عين؛ كلما أضاء لهم . ولو شيئاً يسيراً . مشوا فيه.. قوله تعالى: { وإذا أظلم عليهم } أي أصابهم بظلمة؛ وذلك أن الضوء إذا انطفأ بسرعة اشتدت الظلمة بعده؛ { قاموا } أي وقفوا.. قوله تعالى: { ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم } دون أن تحدث الصواعق، ودون أن يحدث البرق؛ لأن الله على كل شيء قدير؛ فهو قادر على أن يُذهب السمع والبصر بدون أسباب: فيذهب السمع بدون صواعق، والبصر بدون برق؛ { إن الله على كل شيء قدير }.. هذا المثل ينطبق على منافقين لم يؤمنوا أصلاً؛ بل كانوا كافرين من قبل، كاليهود؛ لأن المنافقين منهم عرب من الخزرج، والأوس؛ ومنهم يهود من بني إسرائيل؛ فاليهود لم يذوقوا طعم الإيمان أبداً؛ لأنهم كفار من الأصل؛ لكن أظهروا الإسلام خوفاً من النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن أعزه الله في بدر؛ فهؤلاء ليسوا على هدًى . كالأولين؛ الأولون استوقدوا النار، وصار عندهم شيء من النور بهذه النار، ثم . والعياذ بالله . انتكسوا؛ لكن هؤلاء من الأصل في ظلمات؛ فيكون هذا المثل غير المثل الأول؛ بل هو لقوم آخرين؛ والمنافقون أصناف بلا شك.. و "الصواعق" عبارة عما في القرآن من الإنذار، والخوف؛ ولهذا يقول الله سبحانه وتعالى عنهم في آية أخرى: {يحسبون كل صيحة عليهم} [المنافقون: 4] ؛ و "البرق" نور الإسلام، لكنه ليس نوراً يستمر؛ نور البرق ينقطع في لحظة؛ وميض؛ فهؤلاء لم يدخل الإيمان في قلوبهم أصلاً، ولا فكروا في ذلك؛ وإنما يرون هذا النور العظيم الذي شع، فينتفعون به لمجرد خطوة يخطونها فقط؛ وبعد ذلك يقفون؛ كذلك أيضاً يكاد البرق يخطف أبصارهم؛ لأنهم لا يتمكنون من رؤية النور الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم؛ بل لكبريائهم، وحسدهم للعرب يكاد هذا البرق يعمي أبصارهم؛ لأنه قوي عليهم لا يستطيعون مدافعته، ومقابلته.. فالظاهر أن القول الراجح أن هذين مثلان يتنَزلان على صنفين من المنافقين.. فإن قال قائل: الصنف الأول كيف نقول: إنه دخل الإيمان في قلوبهم؟ فالجواب: نقول: نعم؛ قال الله تعالى: {ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون} [المنافقون: 3] ؛ وهذا يدل على أنهم آمنوا أولاً، ثم كفروا ثانياً؛ لأن الإيمان لم يستقر في قلوبهم، ولم تستنر به؛ وإنما هو وميض ضوء ما لبث أن طفئ؛ وإلا فإن الإيمان إذا دخل القلب دخولاً حقيقياً فإنه لن يخرج منه بإذن الله؛ ولهذا سأل هرقل أبا سفيان عن أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم الذين يدخلون في الإسلام: "فَهَلْ يَرْتَدُّ أَحَدٌ مِنْهُمْ سَخْطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فيه؛ فقال: لا؛ فقال: وَكَذَلِكَ الْإِيْمَانُ حِينَ تُخَالِطُ بَشَاشَتُهُ القُلوبَ"(65) ؛ لكن الإيمان الهش - الذي لم يتمكن من القلب - هو الذي يُخشى على صاحبه.. الفوائد: .1 من فوائد الآيتين: تهديد الكفار بأن الله محيط بهم؛ لقوله تعالى: { والله محيط بالكافرين }.. .2 ومنها: أن البرق الشديد يخطف البصر؛ ولهذا يُنهى الإنسان أن ينظر إلى البرق حال كون السماء تبرق؛ لئلا يُخطف بصره.. .3 ومنها: أن من طبيعة الإنسان اجتناب ما يهلكه؛ لقوله تعالى: (وإذا أظلم عليهم قاموا). .4 ومنها: إثبات مشيئة الله؛ لقوله تعالى: ( ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم ). .5 ومنها: أنه ينبغي للإنسان أن يلجأ إلى الله عزّ وجلّ أن يمتعه بسمعه، وبصره؛ لقوله تعالى: { ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم }؛ وفي الدعاء المأثور: "متعنا بأسماعنا، وأبصارنا، وقوتنا ما أحييتنا"(66) .. .6 ومنها: أن من أسماء الله أنه قدير على كل شيء.. .7 ومنها: عموم قدرة الله تعالى على كل شيء؛ فهو جلّ وعلا قادر على إيجاد المعدوم، وإعدام الموجود، وعلى تغيير الصالح إلى فاسد، والفاسد إلى صالح، وغير ذلك.. القرآن )يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة:21). التفسير: }.{ 21 } يا أيها الناس}: النداء هنا وجِّه لعموم الناس مع أن السورة مدنية؛ والغالب في السور المدنية أن النداء فيها يكون موجهاً للمؤمنين . والله أعلم بما أراد في كتابه؛ ولو قال قائل: لعل هذه آية مكية جعلت في السورة المدنية؟ فالجواب: أن الأصل عدم ذلك - أي عدم إدخال الآية المكية في السور المدنية، أو العكس؛ ولا يجوز العدول عن هذا الأصل إلا بدليل صحيح صريح؛ وعلى هذا فما نراه في عناوين بعض السور أنها مدنية إلا آية كذا، أو مكية إلا آية كذا غير مسلَّم حتى يثبت ذلك بدليل صحيح صريح؛ وإلا فالأصل أن السورة المدنية جميع آياتها مدنية، وأن السور المكية جميع آياتها مكية إلا بدليل ثابت.. قوله تعالى: { اعبدوا ربكم } أي تذللوا له بالطاعة؛ وذلك بفعل الأوامر، واجتناب النواهي ذلاً تاماً ناشئاً عن المحبة، والتعظيم؛ و "الرب" هو الخالق المالك المدبر لشؤون خلقه؛ { الذي خلقكم } أي أوجدكم من العدم؛ { والذين من قبلكم } معطوف على الكاف في قوله تعالى: { خلقكم } . يعني وخلق الذين من قبلكم؛ والمراد بـ "من قبلنا" : سائر الأمم الماضية.. وقوله تعالى: { الذي خلقكم } صفة كاشفة تبين بعض معنى الربوبية؛ وليست صفة احترازية؛ لأنه ليس لنا ربان أحدهما خالق، والثاني غير خالق؛ بل ربنا هو الخالق.. قوله تعالى: { لعلكم تتقون }؛ "لعل" هنا للتعليل . أي لتصلوا إلى التقوى؛ ومعلوم أن التقوى مرتبة عالية، حتى قال الله عزّ وجلّ في الجنة: {أعدت للمتقين} [آل عمران: 133] ، وقال تعالى: {إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون} [النحل: 128] ، وقال تعالى: {واعلموا أن الله مع المتقين} [البقرة: 194] .. الفوائد: .1 من فوائد الآية: العناية بالعبادة؛ يستفاد هذا من وجهين؛ الوجه الأول: تصدير الأمر بها بالنداء؛ و الوجه الثاني: تعميم النداء لجميع الناس مما يدل على أن العبادة أهم شيء؛ بل إنّ الناس ما خُلقوا إلا للعبادة، كما قال تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} (الذاريات: 56) .2 ومنها: أن الإقرار بتوحيد الربوبية مستلزم للإقرار بتوحيد الألوهية؛ لقوله تعالى: { اعبدوا ربكم }.. .3 ومنها: وجوب عبادة الله عزّ وجلّ وحده . وهي التي خُلق لها الجن، والإنس؛ و"العبادة" تطلق على معنيين؛ أحدهما: التعبد . وهو فعل العابد؛ و الثاني: المتعبَّد به . وهي كل قول، أو فعل ظاهر، أو باطن يقرب إلى الله عزّ وجلّ.. .4 ومنها: أن وجوب العبادة علينا مما يقتضيه العقل بالإضافة إلى الشرع؛ لقوله تعالى: { اعبدوا ربكم }؛ فإن الرب عزّ وجلّ يستحق أن يُعبد وحده، ولا يعبد غيره؛ والعجب أن هؤلاء المشركين الذين لم يمتثلوا هذا الأمر إذا أصابتهم ضراء، وتقطعت بهم الأسباب يتوجهون إلى الله، كما قال تعالى: {وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين} [لقمان: 32] ؛ لأن فطرهم تحملهم على ذلك ولابد.. .5 . ومن فوائد الآية: إثبات أن الله عزّ وجلّ هو الخالق وحده، وأنه خالق الأولين، والآخرين؛ لقوله تعالى: ( الذي خلقكم والذين من قبلكم ). .6 ومنها: أن من طريق القرآن أنه إذا ذَكر الحكم غالباً ذَكر العلة؛ الحكم: { اعبدوا ربكم }؛ والعلة: كونه رباً خالقاً لنا، ولمن قبلنا.. .7 ومنها: أن التقوى مرتبة عالية لا ينالها كل أحد إلا من أخلص العبادة لله عزّ وجلّ؛ لقوله تعالى: (لعلكم تتقون ).. .8 وربما يستفاد التحذير من البدع؛ وذلك؛ لأن عبادة الله لا تتحقق إلا بسلوك الطريق الذي شرعه للعباد؛ لأنه لا يمكن أن نعرف كيف نعبد الله إلا عن طريق الوحي والشرع: كيف نتوضأ، كيف نصلي... يعني ما الذي أدرانا أن الإنسان إذا قام للصلاة يقرأ، ثم يركع، ثم يسجد... إلخ، إلا بعد الوحي.. .9 ومنها: الحث على طلب العلم؛ إذ لا تمكن العبادة إلا بالعلم؛ ولهذا ترجم البخاري . رحمه الله . على هذه المسألة بقوله: "باب: العلم قبل القول، والعمل .. القـرآن )الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (البقرة:22). التفسير: .{ 22 } قوله تعالى: { الذي جعل لكم الأرض فراشاً... } هذا من باب تعديد أنواع من مخلوقاته عزّ وجلّ؛ جعل الله لنا الأرض فراشاً مُوَطَّأة يستقر الإنسان عليها استقراراً كاملاً مهيأة له يستريح فيها . ليست نشَزاً؛ وليست مؤلمة عند النوم عليها، أو عند السكون عليها، أو ما أشبه ذلك؛ والله تعالى قد وصف الأرض بأوصاف متعددة: وصفها بأنها فراش، وبأنها ذلول، وبأنها مهاد.. قوله تعالى: { والسماء بناءً } . كما قال تعالى: {وبنينا فوقكم سبعاً شداداً} [النبأ: 12] : السماء جعلها الله بمنزلة البناء، وبمنزلة السقف، كما قال تعالى: {وجعلنا السماء سقفاً محفوظاً}(الأنبياء: 32). قوله تعالى: { وأنزل من السماء ماءً }: ليست هي السماء الأولى؛ بل المراد بـ{ السماء } هنا العلو؛ لأن الماء . الذي هو المطر . ينزل من السحاب، والسحاب بين السماء، والأرض، كما قال الله تعالى: {ألم تر أن الله يزجي سحاباً ثم يؤلف بينه ثم يجعله ركاماً فترى الودق يخرج من خلاله} [النور: 43] ، وقال تعالى: {إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار....} [البقرة: 164] إلى قوله تعالى: {والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون} [البقرة: 164] ؛ وبهذا نعرف أن السماء يطلق على معنيين؛ المعنى الأول: البناء الذي فوقنا؛ والمعنى الثاني: العلو.. قوله تعالى: { فأخرج به } أي بسببه؛ { من الثمرات } جمع ثمرة؛ وجمعت باعتبار أنواعها.. قوله تعالى: { رزقاً لكم } أي عطاء لكم؛ وهو مفعول لأجله.. قوله تعالى: { فلا تجعلوا } أي لا تُصَيِّروا { لله أنداداً } أي نظراء، ومشابهين في العبادة { وأنتم تعلمون } أنه لا نِد له في الخلق، والرزق، وإنزال المطر، وما أشبه ذلك من معاني الربوبية، ومقتضياتها؛ لأن المشركين يقرُّون بأن الخالق هو الله، والرازق هو الله، والمدبر للأمر هو الله إقراراً تاماً، ويعلمون أنه لا إله مع الله في هذا؛ لكن في العبادة ينكرون التوحيد: يشركون؛ يجعلون مع الله إلهاً آخر؛ وينكرون على من وحّد الله حتى قالوا في الرسول صلى الله عليه وسلم {أجعل الآلهة إلهاً واحداً إن هذا لشيء عجاب} [ص: 5] ؛ وإقرارهم بالخلق، والرزق أن الله منفرد به يستلزم أن يجعلوا العبادة لله وحده؛ فإن لم يفعلوا فهم متناقضون؛ ولهذا قال العلماء . رحمهم الله .: توحيد الألوهية متضمن لتوحيد الربوبية؛ وتوحيد الربوبية مستلزم لتوحيد الألوهية؛ يعني من أقر بتوحيد الربوبية لزمه أن يقر بتوحيد الألوهية؛ ومن أقر بتوحيد الألوهية فإنه لم يقرَّ بها حتى كان قد أقر بتوحيد الربوبية.. الفوائد: .1 من فوائد الآية: بيان رحمة الله تعالى، وحكمته في جعل الأرض فراشاً؛ إذ لو جعلها خشنة صلبة لا يمكن أن يستقر الإنسان عليها ما هدأ لأحد بال؛ لكن من رحمته، ولطفه، وإحسانه جعلها فراشاً.. .2 ومنها: جعْل السماء بناءً؛ وفائدتنا من جعل السماء بناءً أن نعلم بذلك قدرة الله عزّ وجلّ؛ لأن هذه السماء المحيطة بالأرض من كل الجوانب نعلم أنها كبيرة جداً، وواسعة، كما قال تعالى: {والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون} (الذاريات: 47). .3 ومنها: بيان قدرة الله عزّ وجلّ بإنزال المطر من السماء؛ لقوله تعالى: { وأنزل من السماء ماء }؛ لو اجتمعت الخلائق على أن يخلقوا نقطة من الماء ما استطاعوا؛ والله تعالى ينزل هذا المطر العظيم بلحظة؛ وقصة الرجل الذي دخل والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة قال: ادع الله يغيثنا، فرفع (صلى الله عليه وسلم يديه، وقال: "اللهم أغثنا"(67) ، وما نزل من المنبر إلا والمطر يتحادر من لحيته.. .4 ومنها: حكمة الله سبحانه وتعالى، ورحمته بإنزال المطر من السماء؛ وجه ذلك: لو كان الماء الذي تحيى به الأرض يجري على الأرض لأضر الناس؛ ولو كان يجري على الأرض لحُرِم منه أراضٍ كثيرة . الأراضي المرتفعة لا يأتيها شيء؛ ولكن من نعمة الله أن ينزل من السماء؛ ثم هناك شيء آخر أيضاً: أنه ينزل رذاذاً . يعني قطرةً قطرةً؛ ولو نزل كأفواه القرب لأضر بالناس.. .5 ومنها: إثبات الأسباب؛ لقوله تعالى: ( فأخرج به من الثمرات رزقاً لكم ).. .6 ومنها: أن الأسباب لا تكون مؤثرة إلا بإرادة الله عزّ وجلّ؛ لقوله تعالى: ( فأخرج به ).. .7 ومنها: أنه ينبغي لمن أراد أن يضيف الشيء إلى سببه أن يضيفه إلى الله مقروناً بالسبب، مثل لو أن أحداً من الناس غرق، وجاء رجل فأخرجه . أنقذه من الغرق؛ فليقل: أنقذني الله بفلان؛ وله أن يقول: أنقذني فلان؛ لأنه فعلاً أنقذه؛ وله أن يقول: أنقذني الله ثم فلان؛ وليس له أن يقول: أنقذني الله وفلان؛ لأن هذا تشريك مع الله؛ ويدل لهذا . أي الاختيار أن يضيف الشيء إلى الله مقروناً بالسبب . أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دعا الغلام اليهودي للإسلام وكان هذا الغلام في سياق الموت، فعرض عليه النبي صلى الله عليه وسلم أن يسلم، فأسلم؛ لكنه أسلم بعد أن استشار أباه: التفت إليه ينظر إليه يستشيره؛ قال: "أطع أبا القاسم" . أمر ولده أن يسلم، وهو لم يسلم في تلك الحال، أما بعد فلا ندري، والله أعلم؛ فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: "الحمد لله الذي أنقذه بي من النار"(68) ، وهكذا ينبغي لنا إذا حصل شيء بسبب أن نضيفه إلى الله تعالى مقروناً ببيان السبب؛ وذلك؛ لأن السبب موصل فقط.. .8 . ومن فوائد الآية: بيان قدرة الله، وفضله بإخراج هذه الثمرات من الماء؛ أما القدرة فظاهر: تجد الأرض شهباء جدباء ليس فيها ورقة خضراء فينزل المطر، وفي مدة وجيزة يخرج هذا النبات من كل زوج بهيج بإذن الله عزّ وجلّ، كما قال تعالى: {ألم تر أن الله أنزل من السماء ماءاً فتصبح الأرض مخضرَّة} [الحج: 63] ؛ وأما الفضل فبما يمن الله به من الثمرات؛ ولذلك قال تعالى: { رزقاً لكم }.. .9 ومنها: أن الله عزّ وجلّ منعم على الإنسان كافراً كان، أو مؤمناً؛ لقوله تعالى: { لكم }، وهو يخاطب في الأول الناس عموماً؛ لكن فضل الله على المؤمن دائم متصل بفضل الآخرة؛ وفضل الله على الكافر منقطع بانقطاعه من الدنيا.. .10 ومنها: تحريم اتخاذ الأنداد لله؛ لقوله تعالى: { فلا تجعلوا لله أنداداً }؛ وهل الأنداد شرك أكبر، أو شرك أصغر؛ وهل هي شرك جلي، أو شرك خفي؛ هذا له تفصيل في علم التوحيد؛ خلاصته: إن اتخذ الأنداد في العبادة، أو جعلها شريكة لله في الخلق، والملك، والتدبير فهو شرك أكبر؛ وإن كان دون ذلك فهو شرك أصغر، كقول الرجل لصاحبه: "ما شاء الله وشئت".. .11 . ومن فوائد الآية: أنه ينبغي لمن خاطب أحداً أن يبين له ما تقوم به عليه الحجة؛ لقوله تعالى: { فلا تجعلوا لله أنداداً وأنتم تعلمون }، ولقوله تعالى في صدر الآية الأولى: {اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم} [البقرة: 21] ؛ فإن قوله تعالى: {الذي خلقكم والذين من قبلكم} [البقرة: 21] فيه إقامة الحجة على وجوب عبادته وحده؛ لأنه الخالق وحده.. القـرآن )وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (البقرة:23). التفسير: .{ 23 } قوله تعالى: { وإن كنتم... }: الخطاب لمن جعل لله أنداداً؛ لأنه تعالى قال: ( فلا تجعلوا لله أنداداً وأنتم تعلمون * وإن كنتم في ريب ). وفي ذكر هذه الآية المتعلقة برسالة محمد صلى الله عليه وسلم إشارة إلى كلمتي التوحيد؛ وهما شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله؛ لكن شهادة أن لا إله إلا الله: توحيد القصد؛ والثاني: توحيد المتابعة؛ فكلاهما توحيد؛ لكن الأول توحيد القصد بأن يكون العمل خالصاً لله؛ والثاني توحيد المتابعة بأن لا يتابع في عبادته سوى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإذا تأملت القرآن وجدت هكذا: يأتي بما يدل على التوحيد، ثم بما يدل على الرسالة؛ ومن أمثلة ذلك قوله تعالى: {أفلم يدَّبروا القول أم جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين} [المؤمنون: 68] ، ثم قال تعالى: {أم لم يعرفوا رسولهم فهم له منكرون} [المؤمنون: 69] ؛ وهذا مطَّرد في القرآن الكريم.. قوله تعالى: { في ريب }: "الريب" يفسره كثير من الناس بالشك؛ ولا شك أنه قريب من معنى الشك، لكنه يختلف عنه بأن "الريب" يُشعر بقلق مع الشك، وأن الإنسان في قلق عظيم مما وقع فيه الشك؛ وذلك؛ لأن ما جاء به الرسول حق؛ والشاك فيه لا بد أن يعتريه قلق من أجل أنه شك في أمر لا بد من التصديق به؛ بخلاف الشك في الأمور الهينة، فلا يقال: "ريب"؛ وإنما يقال في الأمور العظيمة التي إذا شك فيها الإنسان وجد في داخل نفسه قلقاً، واضطراباً.. قوله تعالى: { مما نزَّلنا }: المراد به القرآن؛ لأن الله أنزله على محمد صلى الله عليه وسلم { على عبدنا }: هو محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم والله . تبارك وتعالى . وصف رسوله صلى الله عليه وسلم بالعبودية في المقامات العالية: في الدفاع عنه؛ وفي بيان تكريمه بالمعراج، والإسراء؛ وفي بيان تكريمه بإنزال القرآن، كما قال تعالى: {تبارك الذي نزل الفرقان على عبده} [الفرقان: 1] ، وقال تعالى: {سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً} [الإسراء: 1] ، وقال تعالى: {فأوحى إلى عبده ما أوحى} [النجم: 10] ، وقال تعالى: { وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا }: هذا في مقام التحدي، والمدافعة؛ وأفضل أوصاف الرسول صلى الله عليه وسلم هي العبودية، والرسالة؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم "إنما أنا عبد؛ فقولوا: عبد الله، ورسوله"(69) ؛ و "العبودية" : هي التذلل للمحبوب، والمعظم؛ ولهذا قال الشاعر في محبوبته:. (لا تدعني إلا بيا عبدها فإنه أشرف أسمائي) يعني: لا تقل: فلان، وفلان؛ بل قل: يا عبد فلانة؛ لأن هذا عنده أشرف أوصافه، حيث انتمى إليها . نعوذ بالله من الخذلان.. قوله تعالى: { فأتوا بسورة }: أمر يقصد به التحدي . يعني: إذا كنتم في شك من هذا القرآن فإننا نتحداكم أن تأتوا بسورة واحدة؛ { من مثله }: يحتمل أن يكون الضمير عائداً إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ؛ والمعنى: من مثل محمد صلى الله عليه وسلم ويحتمل أن يكون عائداً إلى القرآن المنزل؛ والمعنى: من مثل ما نزلنا على عبدنا . أي من جنسه؛ وكلاهما صحيح.. قوله تعالى: { وادعوا شهداءكم } أي الذين تشهدون لهم بالألوهية، وتعبدونهم كما تعبدون الله، ادعوهم ليساعدوكم في الإتيان بمثله؛ وهذا غاية ما يكون من التحدي: أن يتحدى العابدَ والمعبودَ أن يأتوا بسورة مثله. قوله تعالى: { من دون الله } أي مما سوى الله؛ { إن كنتم صادقين } أي في أن هذا القرآن مفترًى على الله؛ والجواب على هذا: أنه لا يمكن أن يأتوا بسورة مثله مهما أتوا من المعاونين، والمساعدين.. الفوائد: .1 من فوائد الآية: دفاع الله سبحانه وتعالى عن رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لقوله تعالى: { فأتوا بسورة من مثله }؛ لأن الأمر هنا للتحدي؛ فالله عزّ وجلّ يتحدى هؤلاء بأن يأتوا بمعارضٍِ لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم.. .2 ومنها: فضيلة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لوصفه بالعبودية؛ والعبودية لله عزّ وجلّ هي غاية الحرية؛ لأن من لم يعبد الله فلا بد أن يعبد غيره؛ فإذا لم يعبد الله عزّ وجلّ . الذي هو مستحق للعبادة . عَبَدَ الشيطان، كما قال ابن القيم . رحمه الله . في النونية:. (هربوا من الرق الذي خلقوا له وبلوا برق النفس والشيطان) 3. ومنها: أن القرآن كلام الله؛ لقوله تعالى: { مما نزلنا }؛ ووجه كونه كلام الله أن القرآن كلام؛ والكلام صفة للمتكلم، وليس شيئاً بائناً منه؛ وبهذا نعرف بطلان قول من زعم أن القرآن مخلوق.. .4 ومنها: إثبات علوّ الله عزّ وجلّ؛ لأنه إذا تقرر أن القرآن كلامه، وأنه منزل من عنده لزم من ذلك علوّ المتكلم به؛ وعلو الله عزّ وجلّ ثابت بالكتاب، والسنة، والإجماع، والعقل، والفطرة؛ وتفاصيل هذه الأدلة في كتب العقائد؛ ولولا خوض أهل البدعة في ذلك ما احتيج إلى كبير عناء في إثباته؛ لأنه أمر فطري؛ ولكن علماء أهل السنة يضطرون إلى مثل هذا لدحض حجج أهل البدع.. .5 ومن فوائد الآية: أن القرآن معجز حتى بسورة . ولو كانت قصيرة؛ لقوله تعالى: { فأتوا بسورة من مثله}.. .6 ومنها: تحدي هؤلاء العابدين للآلهة مع معبوديهم؛ وهذا أشد ذلاًّ مما لو تُحدوا وحدهم.. القـرآن )فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ) (البقرة:24). التفسير: .{ 24 } قوله تعالى: { فإن لم تفعلوا } يعني فإن لم تأتوا بسورة من مثله.. ولما قال تعالى: { فإن لم تفعلوا } . وهي شرطية . قطع أطماعهم بقوله: { ولن تفعلوا } يعني: ولا يمكنكم أن تفعلوا؛ و{ لن } هنا للتأبيد؛ لأن المقام مقام تحدٍّ.. قوله تعالى: { فاتقوا النار }: الفاء هنا واقعة في جواب الشرط . وهو { إن لم تفعلوا } يعني: إن لم تفعلوا، وتعارضوا القرآن بمثله فالنار مثواكم؛ فاتقوا النار . ولن يجدوا ما يتقون به النار إلا أن يؤمنوا بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: { التي وقودها الناس والحجارة }؛ { التي } اسم موصول صفة لـ{ النار }؛ و{ وقود } مبتدأ؛ و{ الناس } خبر المبتدأ؛ والجملة: صلة الموصول؛ و "الوقود" ما يوقد به الشيء، كالحطب . مثلاً . في نار الدنيا؛ في الآخرة وقود النار هم الناس، والحجارة؛ فالنار تحرقهم، وتلتهب بهم؛ و{ الحجارة }: قال بعض العلماء: إن المراد بها الحجارة المعبودة . يعني الأصنام؛ لأنهم يعبدون الأصنام؛ فأصنامهم هذه تكون معهم في النار، كما قال تعالى: {إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون} [الأنبياء: 98]؛ وقيل: هذا، وهذا . الحجارة المعبودة، والحجارة الموقودة التي خلقها عزّ وجلّ لتوقد بها النار.. قوله تعالى: { أعدت }: الضمير المستتر يعود على النار؛ والمعِدُّ لها هو الله عزّ وجلّ؛ ومعنى "الإعداد" التهيئة للشيء؛ { للكافرين } أي لكل كافر سواء كفر بالرسالة، أو كفر بالألوهية، أو بغير ذلك.. الفوائد: .1 من فوائد الآية: أن من عارض القرآن فإن مأواه النار؛ لقوله تعالى: ( فاتقوا النار). .2 ومنها: أن الناس وقود للنار كما توقد النار بالحطب؛ فهي في نفس الوقت تحرقهم، وهي أيضاً توقد بهم؛ فيجتمع العذاب عليهم من وجهين.. .3 ومنها: إهانة هؤلاء الكفار بإذلال آلهتهم، وطرحها في النار . على أحد الاحتمالين في قوله تعالى: { الحجارة }؛ لأن من المعلوم أن الإنسان يغار على من كان يعبده، ولا يريد أن يصيبه أذًى؛ فإذا أحرق هؤلاء المعبودون أمام العابدين فإن ذلك من تمام إذلالهم، وخزيهم.. .4 ومنها: أن النار موجودة الآن؛ لقوله تعالى: { أعدت }؛ ومعلوم أن الفعل هنا فعل ماض؛ والماضي يدل على وجود الشيء؛ وهذا أمر دلت عليه السنة أيضاً؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم عُرضت عليه الجنة، والنار، ورأى أهلها يعذبون فيها: رأى عمرو بن لحيّ الخزاعي يجر قصبه . أي أمعاءه . في النار؛ ورأى المرأة التي حبست الهرة حتى ماتت جوعاً: فلم تكن أطعمتها، ولا أرسلتها تأكل من خشاش الأرض؛ ورأى فيها صاحب المحجن . الذي كان يسرق الحُجَّاج بمحجنه . يعذب: وهو رجل معه محجن . أي عصا محنية الرأس . كان يسرق الحُجاج بهذا المحجن؛ إذا مر به الحجاج جذب متاعهم؛ فإن تفطن صاحب الرحل لذلك ادعى أن الذي جذبه المحجن؛ وإن لم يتفطن أخذه؛ فكان يعذب . والعياذ بالله . بمحجنه في نار جهنم(70) .. مسألة: هل النار باقية؛ أو تفنى؟ ذكر بعض العلماء إجماع السلف على أنها تبقى، ولا تفنى؛ وذكر بعضهم خلافاً عن بعض السلف أنها تفنى؛ والصواب أنها تبقى أبد الآبدين؛ والدليل على هذا من كتاب الله عزّ وجلّ في ثلاث آيات من القرآن: في سورة النساء، وسورة الأحزاب، وسورة الجن؛ فأما الآية التي في النساء فهي قوله تعالى: {إن الذين كفروا وظلموا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقاً * إلا طريق جهنم خالدين فيها أبداً} [النساء: 168، 169] ؛ والتي في سورة الأحزاب قوله تعالى: {إن الله لعن الكافرين وأعد لهم سعيراً * خالدين فيها أبداً} [الأحزاب: 64، 65] ؛ والتي في سورة الجن قوله تعالى: { ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبداً } [الجن: 23] ؛ وليس بعد كلام الله كلام؛ حتى إني أذكر تعليقاً لشيخنا عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله على كتاب "شفاء العليل" لابن القيم؛ ذكر أن هذا من باب: "لكل جواد كبوة؛ ولكل صارم نبوة" . وهو صحيح؛ كيف إن المؤلف رحمه الله يستدل بهذه الأدلة على القول بفناء النار مع أن الأمر فيها واضح؟! غريب على ابن القيم رحمه الله أنه يسوق الأدلة بهذه القوة للقول بأن النار تفنى! وعلى كل حال، كما قال شيخنا في هذه المسألة: "لكل جواد كبوة؛ ولكل صارم نبوة"؛ والصواب الذي لا شك فيه . وهو عندي مقطوع به . أن النار باقية أبد الآبدين؛ لأنه إذا كان يخلد فيها تخليداً أبدياً لزم أن تكون هي مؤبدة؛ لأن ساكن الدار إذا كان سكونه أبدياً لابد أن تكون الدار أيضاً أبدية.. وأما قوله تعالى في أصحاب النار: {خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك} [هود: 107] فهي كقوله تعالى في أصحاب الجنة: {خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك} [هود: 108] لكن لما كان أهل الجنة نعيمهم، وثوابهم فضلاً ومنَّة، بيَّن أن هذا الفضل غير منقطع، فقال تعالى: {عطاءً غير مجذوذ} [هود: 108] ؛ ولما كان عذاب أهل النار من باب العدل، والسلطان المطلق للرب عزّ وجلّ قال تعالى في آخر الآية: {إن ربك فعال لما يريد} [هود: 107] ؛ وليس المعنى: {إن ربك فعال لما يريد} [هود: 107] أنه سوف يخرجه من النار، أو سوف يُفني النار.. .5 ومن فوائد الآية: أن النار دار للكافرين؛ لقوله تعالى: { أعدت للكافرين }؛ وأما من دخلها من عصاة المؤمنين فإنهم لا يخلدون فيها؛ فهم فيها كالزوار؛ لا بد أن يَخرجوا منها؛ فلا تسمى النار داراً لهم؛ بل هي دار للكافر فقط؛ أما المؤمن العاصي . إذا لم يعف الله عنه . فإنه يعذب فيها ما شاء الله، ثم يخرج منها إما بشفاعة؛ أو بمنة من الله وفضل؛ أو بانتهاء العقوبة.. مسألة: إذا قال قائل: ما وجه الإعجاز في القرآن؟ وكيف أعجز البشر؟.. الجواب: أنه معجز بجميع وجوه الإعجاز؛ لأنه كلام الله، وفيه من وجوه الإعجاز ما لا يدرك؛ فمن ذلك:. أولاً: قوة الأسلوب، وجماله؛ والبلاغة، والفصاحة؛ وعدم الملل في قراءته؛ فالإنسان يقرأ القرآن صباحاً، ومساءً . وربما يختمه في اليومين، والثلاثة . ولا يمله إطلاقاً؛ لكن لو كرر متناً من المتون كما يكرر القرآن ملّ.. ثانياً: أنه معجز بحيث إن الإنسان كلما قرأه بتدبر ظهر له بالقراءة الثانية ما لم يظهر له بالقراءة الأولى.. ثالثاً: صدق أخباره بحيث يشهد لها الواقع؛ وكمال أحكامه التي تتضمن مصالح الدنيا، والآخرة؛ لقوله تعالى: {وتمت كلمة ربك صدقاً وعدلاً } (الأنعام: 115). رابعاً: تأثيره على القلوب، والمناهج؛ وآثاره، حيث ملك به السلف الصالح مشارق الأرض، ومغاربها.. وأما كيفية الإعجاز فهي تحدي الجن، والإنس على أن يأتوا بمثله، ولم يستطيعوا.. مسألة:.ثـانية:. حكى الله عزّ وجلّ عن الأنبياء، والرسل، ومن عاندهم أقوالاً؛ وهذه الحكاية تحكي قول من حُكيت عنه؛ فهل يكون قول هؤلاء معجزاً . يعني مثلاً: فرعون قال لموسى: {لئن اتخذت إلهاً غيري لأجعلنك من المسجونين} [الشعراء: 29] : هذا يحكيه الله عزّ وجلّ عن فرعون؛ فيكون القول قول فرعون؛ فكيف كان قول فرعون معجزاً والإعجاز إنما هو قول الله عزّ وجلّ؟ فالجواب: أن الله تعالى لم يحك كلامهم بلفظه؛ بل معناه؛ فصار المقروء في القرآن كلام الله عزّ وجلّ . وهو معجز..)أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي...
)وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهاً وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (البقرة:25).
التفسير:
.{ 25 } مناسبة الآية لما قبلها أن الله لما ذكر وعيد الكافرين المكذبين للرسول صلى الله عليه وسلم ذكر وعد المؤمنين به، فقال تعالى: { وبشر... } الآية؛ و "البشارة" هي الإخبار بما يسر؛ وسميت بذلك لتغير بَشَرة المخاطَب بالسرور؛ لأن الإنسان إذا أُخبر بما يُسِرُّه استنار وجهه، وطابت نفسه، وانشرح صدره؛ وقد تستعمل "البشارة" في الإخبار بما يسوء، كقوله تعالى: { فبشرهم بعذاب أليم } : إمَّا تهكماً بهم؛ وإما لأنهم يحصل لهم من الإخبار بهذا ما تتغير به بشرتهم، وتَسودَّ به وجوههم، وتُظلِم، كقوله تعالى في عذابهم يوم القيامة: {ثم صبوا فوق رأسه من عذاب الحميم * ذق إنك أنت العزيز الكريم} ..
والخطاب في قوله تعالى: { بشِّر } إما للرسول صلى الله عليه وسلم؛ أو لكل من يتوجه إليه الخطاب . يعني بشِّر أيها النبي؛ أو بشِّر أيها المخاطَب من اتصفوا بهذه الصفات بأن لهم جنات..
قوله تعالى: { الذين آمنوا } أي بما يجب الإيمان به مما أخبر الله به، ورسوله؛ وقد بيَّن الرسول صلى الله عليه وسلم أصول الإيمان بأنها الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره؛ لكن ليس الإيمان بهذه الأشياء مجرد التصديق بها؛ بل لا بد من قبول، وإذعان؛ وإلا لما صح الإيمان..
قوله تعالى: { وعملوا الصالحات } أي عملوا الأعمال الصالحات . وهي الصادرة عن محبة، وتعظيم لله عزّ وجلّ المتضمنة للإخلاص لله، والمتابعة لرسول الله؛ فما لا إخلاص فيه فهو فاسد؛ لقول الله تعالى في الحديث القدسي: "أنا أغنى الشركاء عن الشرك؛ من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه"(71) ؛ وما لم يكن على الاتِّباع فهو مردود لا يقبل؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم (: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد(72)" ..
قوله تعالى: { أن لهم جنات }: هذا المبشر به: أن لهم عند الله عزّ وجلّ { جنات... }: جمع "جنَّة"؛ وهي في اللغة: البستان كثير الأشجار بحيث تغطي الأشجار أرضه، فتجتن بها؛ والمراد بها شرعاً: الدار التي أعدها الله للمتقين، فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر..
قوله تعالى: { تجري من تحتها الأنهار } أي تسيح من تحتها الأنهار؛ و{ الأنهار } فاعل { تجري }؛ و{ من تحتها } قال العلماء: من تحت أشجارها، وقصورها؛ وليس من تحت سطحها؛ لأن جريانها من تحت سطحها لا فائدة منه؛ وما أحسن جري هذه الأنهار إذا كانت من تحت الأشجار، والقصور! يجد الإنسان فيها لذة في المنظر قبل أن يتناولها..
وقد بيّن الله تعالى أنها أربعة أنواع، كما قال تعالى: {مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفَّى} (محمد: 15) .
قوله تعالى: { كلما رزقوا } أي أعطوا؛ { منها} أي من الجنات؛ {من ثمرة} أي من أيّ ثمرة؛ { قالوا هذا الذي رزقنا من قبل } لأنه يشبه ما سبقه في حجمه، ولونه، وملمسه، وغير ذلك من صفاته؛ فيظنون أنه هو الأول؛ ولكنه يختلف عنه في الطعم والمذاق اختلافاً عظيماً؛ ولهذا قال تعالى: { وأتوا به متشابهاً }؛ وما أجمل وألذّ للإنسان إذا رأى هذه الفاكهة يراها وكأنها شيء واحد؛ فإذا ذاقها وإذا الطعم يختلف اختلافاً عظيماً! تجده يجد في نفسه حركةً لهذا الفاكهة، ولذةً، وتعجباً؛ كيف يكون هذا الاختلاف المتباين العظيم والشكل واحد! ولهذا لو قُدم لك فاكهة ألوانها سواء، وأحجامها سواء، وملمسها سواء، ثم إذا ذقتها وإذا هذه حلو خالص، وهذه مُز . أي حلو مقرون بالحموضة . وهذه حامضة؛ تجد لذة أكثر مما لو كانت على حد سواء، أو كانت مختلفة..
قوله تعالى: { وأتوا به متشابهاً }؛ { أتوا } من "أتى" التي بمعنى جاء؛ فالمعنى: جيء إليهم به متشابهاً يشبه بعضه بعضاً . كما سبق..
قوله تعالى: { ولهم فيها أزواج }؛ لما ذكر الله الفاكهة ذكر الأزواج؛ لأن في كل منهما تفكهاً، لكن كل واحد من نوع غير الآخر: هذا تفكه في المذاق، والمطعم؛ وهذا تفكه آخر من نوع ثان؛ لأن بذلك يتم النعيم؛ و{ أزواج } جمع زوج؛ وهو شامل للأزواج من الحور، ومن نساء الدنيا؛ ويطلق "الزوج" على الذكر، والأنثى؛ ولهذا يقال للرجل: "زوج"، وللمرأة: "زوج"؛ لكن في اصطلاح الفرضيين صاروا يلحقون التاء للأنثى فرقاً بينها وبين الرجل عند قسمة الميراث..
قوله تعالى: { مطهرة } يشمل طهارة الظاهر، والباطن؛ فهي مطهرة من الأذى القذر: لا بول، ولا غائط، ولا حيض، ولا نفاس، ولا استحاضة، ولا عرق، ولا بخر، مطهرة من كل شيء ظاهر حسي؛ مطهرة أيضاً من الأقذار الباطنة، كالغل، والحقد، والكراهية، والبغضاء، وغير ذلك..
قوله تعالى: { هم فيها خالدون } أي ماكثون لا يخرجون منها..
الفوائد:
.1 من فوائد الآية: مشروعية تبشير الإنسان بما يسر؛ لقوله تعالى: {وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات}؛ ولقول الله تبارك وتعالى: {وبشرناه بإسحاق نبيًّا من الصالحين} ، وقوله تعالى: {وبشروه بغلام عليم} ، وقوله تعالى: {فبشرناه بغلام حليم} ؛ فالبشارة بما يسر الإنسان من سنن المرسلين . عليهم الصلاة والسلام؛ وهل من ذلك أن تبشره بمواسم العبادة، كما لو أدرك رمضان، فقلت: هنّاك الله بهذا الشهر؟ الجواب: نعم؛ وكذلك أيضاً لو أتم الصوم، فقلت: هنّأك الله بهذا العيد، وتقبل منك عبادتك وما أشبه ذلك؛ فإنه لا بأس به، وقد كان من عادة السلف..
.2 ومن فوائد الآية: أن الجنات لا تكون إلا لمن جمع هذين: الإيمان، والعمل الصالح..
فإن قال قائل: في القرآن الكريم ما يدل على أن الأوصاف أربعة: الإيمان؛ والعمل الصالح؛ والتواصي بالحق؛ والتواصي بالصبر؟
فالجواب: أن التواصي بالحق، والتواصي بالصبر من العمل الصالح، لكن أحياناً يُذكر بعض أفراد العام لعلة من العلل، وسبب من الأسباب..
.3 ومنها: أن جزاء المؤمنين العاملين للصالحات أكبر بكثير مما عملوا، وأعظم؛ لأنهم مهما آمنوا، وعملوا فالعمر محدود، وينتهي؛ لكن الجزاء لا ينتهي أبداً؛ هم مخلدون فيه أبد الآباد؛ كذلك أيضاً الأعمال التي يقدمونها قد يشوبها كسل؛ قد يشوبها تعب؛ قد يشوبها أشياء تنقصها، لكن إذا منّ الله عليه، فدخل الجنة فالنعيم كامل..
.4 ومنها: أن الجنات أنواع؛ لقوله تعالى: { جنات }؛ وقد دل على ذلك القرآن، والسنة؛ فقال الله تعالى: {ولمن خاف مقام ربه جنتان} ، ثم قال تعالى: {ومن دونهما جنتان} ؛ وقال النبي صلى الله عليه وسلم "جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما؛ وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما(73)" ..
.5 ومنها: تمام قدرة الله عزّ وجلّ بخلق هذه الأنهار بغير سبب معلوم، بخلاف أنهار الدنيا؛ لأن أنهار الماء في الدنيا معروفة أسبابها؛ وليس في الدنيا أنهار من لبن، ولا من عسل، ولا من خمر؛ وقد جاء في الأثر(74) أنها أنهار تجري من غير أخدود . يعني لم يحفر لها حفر، ولا يقام لها أعضاد تمنعها؛ بل النهر يجري، ويتصرف فيه الإنسان بما شاء . يوجهه حيث شاء؛ قال ابن القيم رحمه الله في النونية:.
(أنهارها في غير أخدود جرت سبحان ممسكها عن الفيضان)
6 . ومن فوائد الآية: أن من تمام نعيم أهل الجنة أنهم يؤتون بالرزق متشابهاً؛ وكلما رزقوا منها من ثمرة رزقاً قالوا: هذا الذي رُزقنا من قبل؛ وهذا من تمام النعيم، والتلذذ بما يأكلون..
.7 ومنها: إثبات الأزواج في الآخرة، وأنه من كمال النعيم؛ وعلى هذا يكون جماع، ولكن بدون الأذى الذي يحصل بجماع نساء الدنيا؛ ولهذا ليس في الجنة مَنِيّ، ولا مَنِيَّة؛ والمنيّ الذي خلق في الدنيا إنما خُلق لبقاء النسل؛ لأن هذا المنيّ مشتمل على المادة التي يتكون منها الجنين، فيخرج بإذن الله تعالى ولداً؛ لكن في الآخرة لا يحتاجون إلى ذلك؛ لأنه لا حاجة لبقاء النسل؛ إذ إن الموجودين سوف يبقون أبد الآبدين لا يفنى منهم أحد؛ ثم هم ليسوا بحاجة إلى أحد يعينهم، ويخدمهم؛ الوِلدان تطوف عليهم بأكواب، وأباريق، وكأس من معين؛ ثم هم لا يحتاجون إلى أحد يصعد الشجرة ليجني ثمارها؛ بل الأمر فيها كما قال الله تعالى: {وجنى الجنتين دان} ، وقال تعالى: {قطوفها دانية} ؛ حتى ذكر العلماء أن الرجل ينظر إلى الثمرة في الشجرة، فيحسّ أنه يشتهيها، فيدنو منه الغصن حتى يأخذها؛ ولا تستغرب هذا؛ فنحن في الدنيا نشاهد أن الشيء يدنو من الشيء بغير سلطة محسوسة؛ وما في الآخرة أبلغ، وأبلغ..
.8 ومن فوائد الآية: أن أهل الجنة خالدون فيها أبد الآباد؛ لا يمكن أن تفنى، ولا يمكن أن يفنى من فيها؛ وقد أجمع على ذلك أهل السنة والجماعة..
القـرآن
)إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ) (البقرة:26).
التفسير:
.{ 26 } قوله تعالى: { إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلاً ما } أي لا يمنعه الحياء من أن يضرب مثلاً ولو كان مثلاً حقيراً ما دام يثبت به الحق؛ فالعبرة بالغاية؛ و{ ما } يقولون: إنها نكرة واصفة . أي: مثلاً أيَّ مثل..
قوله تعالى: { بعوضة }: عطف بيان لـ{ ما } أي: مثلاً بعوضة؛ والبعوضة معروفة؛ ويضرب بها المثل في الحقارة؛ وقد ذكروا أن سبب نزول هذه الآية أن المشركين اعترضوا: كيف يضرب الله المثل بالذباب في قوله تبارك وتعالى: {يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له} : قالوا: الذباب يذكره الله في مقام المحاجة! فبيَّن الله عزّ وجلّ أنه لا يستحيي من الحق حتى وإن ضرب المثل بالبعوضة، فما فوقها..
قوله تعالى: { فما فوقها }: هل المراد بما فوق . أي فما فوقها في الحقارة، فيكون المعنى أدنى من البعوضة؛ أو فما فوقها في الارتفاع، فيكون المراد ما هو أعلى من البعوضة؟ فأيهما أعلى خلقة: الذباب، أو البعوضة؟ الجواب: الذباب أكبر، وأقوى . لا شك؛ لكن مع ذلك يمكن أن يكون معنى الآية: { فما فوقها } أي فما دونها؛ لأن الفوقية تكون للأدنى، وللأعلى، كما أن الوراء تكون للأمام، وللخلف، كما في قوله تعالى: {وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصباً} أي كان أمامهم..
قوله تعالى: { فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه } أي المثل الذي ضربه الله { الحق من ربهم }، ويؤمنون به، ويرون أن فيه آيات بينات..
قوله تعالى: { وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلاً } لأنه لم يتبين لهم الحق لإعراضهم عنه، وقد قال الله تعالى: {إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين * كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون} (المطففين: 13، 14 )..
وقوله تعالى: { ماذا }: "ما" هنا اسم استفهام مبتدأ؛ و "ذا" اسم موصول بمعنى "الذي" خبر المبتدأ . أي: ما الذي أراد الله بهذا مثلاً، كما قال ابن مالك:.
(ومثل ما ذا بعد ما استفهام أو مَن إذا لم تلغ في الكلام) قوله تعالى: { يضل به كثيراً }: الجملة استئنافية لبيان الحكمة من ضرب المثل بالشيء الحقير؛ ولهذا ينبغي الوقوف على قوله تعالى: { ماذا أراد الله بهذا مثلاً }؛ و{ يضل به } أي بالمثل؛ { كثيراً } أي من الناس؛ { ويهدي به كثيراً وما يضل به إلا الفاسقين } أي الخارجين عن طاعة الله؛ والمراد هنا الخروج المطلق الذي هو الكفر؛ لأن الفسق قد يراد به الكفر؛ وقد يراد به ما دونه؛ ففي قوله تبارك وتعالى: { وأما الذين فسقوا فمأواهم النار } : المراد به في هذه الآية الكفر؛ وكذلك هنا..
الفوائد:
.1 من فوائد الآية: إثبات الحياء لله عزّ وجلّ؛ لقوله تعالى: ( إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلاً ما ).
ووجه الدلالة: أن نفي الاستحياء عن الله في هذه الحال دليل على ثبوته فيما يقابلها؛ وقد جاء ذلك صريحاً في السنة، كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن ربكم حييّ كريم يستحيي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صِفراً"(75) ؛ والحياء الثابت لله ليس كحياء المخلوق؛ لأن حياء المخلوق انكسار لما يَدْهَمُ الإنسان ويعجز عن مقاومته؛ فتجده ينكسر، ولا يتكلم، أو لا يفعل الشيء الذي يُستحيا منه؛ وهو صفة ضعف ونقص إذا حصل في غير محله..
.2 ومن فوائد الآية: أن الله تعالى يضرب الأمثال؛ لأن الأمثال أمور محسوسة يستدل بها على الأمور المعقولة؛ انظر إلى قوله تعالى: {مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتاً} ؛ وهذا البيت لا يقيها من حَرّ، ولا برد، ولا مطر، ولا رياح {وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت} ؛ وقال تعالى: {والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه} : إنسان بسط كفيه إلى غدير مثلاً، أو نهر يريد أن يصل الماء إلى فمه! هذا لا يمكن؛ هؤلاء الذين يمدون أيديهم إلى الأصنام كالذي يمد يديه إلى النهر ليبلغ فاه؛ فالأمثال لا شك أنها تقرب المعاني إلى الإنسان إما لفهم المعنى؛ وإما لحكمتها، وبيان وجه هذا المثل..
.3 ومن فوائد الآية: أن البعوضة من أحقر المخلوقات؛ لقوله تعالى: { بعوضة فما فوقها }؛ ومع كونها من أحقر المخلوقات فإنها تقض مضاجع الجبابرة؛ وربما تهلك: لو سُلطت على الإنسان لأهلكته وهي هذه الحشرة الصغيرة المهينة..
.4 ومنها: رحمة الله تعالى بعباده حيث يقرر لهم المعاني المعقولة بضرب الأمثال المحسوسة لتتقرر المعاني في عقولهم..
.5 ومنها: أن القياس حجة؛ لأن كل مثل ضربه الله في القرآن، فهو دليل على ثبوت القياس..
.6 ومنها: فضيلة الإيمان، وأن المؤمن لا يمكن أن يعارض ما أنزل الله عزّ وجلّ بعقله؛ لقوله تعالى: {فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم}، ولا يعترضون، ولا يقولون: لِم؟، ولا: كيف؟؛ يقولون: سمعنا، وأطعنا، وصدقنا؛ لأنهم يؤمنون بأن الله عزّ وجلّ له الحكمة البالغة فيما شرع، وفيما قدر..
.7 ومنها: إثبات الربوبية الخاصة؛ لقوله تعالى: { من ربهم }؛ واعلم أن ربوبية الله تعالى تنقسم إلى قسمين: عامة؛ وخاصة؛ فالعامة هي الشاملة لجميع الخلق، وتقتضي التصرف المطلق في العباد؛ والخاصة هي التي تختص بمن أضيفت له، وتقتضي عناية خاصة؛ وقد اجتمعتا في قوله تعالى: {قالوا آمنا برب العالمين * رب موسى وهارون} : فالأولى ربوبية عامة؛ والثانية خاصة بموسى، وهارون؛ كما أن مقابل ذلك "العبودية" تنقسم إلى عبودية عامة، كما في قوله تبارك وتعالى: {إن كل من في السموات والأرض إلا آتي الرحمن عبداً} ؛ وخاصة كما في قوله تعالى: {تبارك الذي نزل الفرقان على عبده} ؛ والفرق بينهما أن العامة هي الخضوع للأمر الكوني؛ والخاصة هي الخضوع للأمر الشرعي؛ وعلى هذا فالكافر عبد لله بالعبودية العامة؛ والمؤمن عبد لله بالعبودية العامة، والخاصة..
.8ومن فوائد الآية: أن ديدن الكافرين الاعتراض على حكم الله، وعلى حكمة الله؛ لقوله تعالى: { وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلاً }؛ وكل من اعترض ولو على جزء من الشريعة ففيه شبه بالكفار؛ فمثلاً لو قال قائل: لماذا ينتقض الوضوء بأكل لحم الإبل، ولا ينتقض بأكل لحم الخنزير إذا جاز أكله للضرورة مع أن الخنزير خبيث نجس؟
فالجواب: أن هذا اعتراض على حكم الله عزّ وجلّ؛ وهو دليل على نقص الإيمان؛ لأن لازم الإيمان التام التسليم التام لحكم الله عزّ وجلّ . إلا أن يقول ذلك على سبيل الاسترشاد، والاطلاع على الحكمة؛ فهذا لا بأس به..
.9 ومن فوائد الآية: أن لفظ الكثير لا يدل على الأكثر؛ لقوله تعالى: { يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً }؛ فلو أخذنا بظاهر الآية لكان الضالون، والمهتدون سواءً؛ وليس كذلك؛ لأن بني آدم تسعمائة وتسعة وتسعون من الألف ضالون؛ وواحد من الألف مهتدٍ؛ فكلمة: { كثيراً } لا تعني الأكثر؛ وعلى هذا لو قال إنسان: عندي لك دراهم كثيرة، وأعطاه ثلاثة لم يلزمه غيرها؛ لأن "كثير" يطلق على القليل، وعلى الأكثر..
.10 ومن فوائد الآية: أن إضلال من ضل ليس لمجرد المشيئة؛ بل لوجود العلة التي كانت سبباً في إضلال الله العبد؛ لقوله تعالى: { وما يضل به إلا الفاسقين }؛ وهذا كقوله تعالى: {فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم والله لا يهدي القوم الفاسقين} (الصف: 5) ..
.11 ومنها: الرد على القدرية الذين قالوا: إن العبد مستقل بعمله . لا علاقة لإرادة الله تعالى به؛ لقوله تعالى: ( وما يضل به إلا الفاسقين )..
القـرآن
)الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) (البقرة:27).
التفسير:
.{ 27 } قوله تعالى: { الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه } أي العهد الذي بينهم وبين الله عزّ وجلّ؛ وهو الإيمان به، وبرسله؛ فإن هذا مأخوذ على كل إنسان؛ إذا جاء رسول بالآيات فإن الواجب على كل إنسان أن يؤمن به؛ فهؤلاء نقضوا عهد الله، ولم يؤمنوا به، وبرسله؛ والنقض حَلّ الشيء بعد إبرامه؛ وقد بين الله عزّ وجلّ هذا العهد في قوله تعالى: {ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيباً وقال الله إني معكم لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضاً حسناً لأكفرن عنكم سيئاتكم ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضل سواء السبيل} ..
قوله تعالى: { ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل } أي يقطعون كل ما أمر الله به أن يوصل، كالأرحام، ونصرة الرسل، ونصرة الحق، والدفاع عن الحق..
قوله تعالى: { ويفسدون في الأرض } أي يسعون لما به فساد الأرض فساداً معنوياً كالمعاصي؛ وفساداً حسياً كتخريب الديار، وقتل الأنفس..
قوله تعالى: { أولئك هم الخاسرون }: جملة اسمية مؤكَّدة بضمير الفصل: { هم }؛ لأن ضمير الفصل له ثلاث فوائد؛ الفائدة الأولى: التوكيد؛ والفائدة الثانية : الحصر؛ والفائدة الثالثة: إزالة اللبس بين الصفة، والخبر؛ مثال ذلك: تقول: "زيد الفاضل": كلمة "الفاضل" يحتمل أن تكون خبراً؛ ويحتمل أن تكون وصفاً، فتقول: "زيد الفاضل محبوب"؛ إذا قلت: "زيد الفاضل محبوب" تعين أن تكون صفة؛ وإذا قلت: "زيد الفاضل" يحتمل أن تكون صفة، والخبر لم يأت بعد؛ ويحتمل أن تكون خبراً؛ فإذا قلت: "زيد هو الفاضل" تعين أن تكون خبراً لوجود ضمير الفصل؛ ولهذا سُمي ضمير فصل . لفصله بين الوصف والخبر؛ الفائدة الثانية: التوكيد ؛ إذا قلت: "زيد هو الفاضل" كان أبلغ من قولك: "زيد الفاضل"؛ و الفائدة الثالثة: الحصر ؛ فإنك إذا قلت: "زيد هو الفاضل" فقد حصرت هذا الوصف فيه دون غيره؛ وضمير الفصل ليس له محل من الإعراب، كما في قوله تعالى: {لعلنا نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين} ؛ ولو كان له محل من الإعراب لكانت: "هم الغالبون"؛ وربما يضاف إليه اللام، كما في قوله تعالى: {إن هذا لهو القصص الحق} ؛ فيكون في إضافة اللام إليه زيادة توكيد..
وقوله تعالى: { الخاسرون }؛ "الخاسر" هو الذي فاته الربح؛ وذلك؛ لأن هؤلاء فاتهم الربح الذي ربحه من لم ينقض عهد الله من بعد ميثاقه، ولم يقطع ما أمر الله به أن يوصل..
الفوائد:
.1 من فوائد الآية: أن نقض عهد الله من الفسق؛ لقوله تعالى: { الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه } فكلما رأيت شخصاً قد فرط في واجب، أو فعل محرماً فإن هذا نقض للعهد من بعد الميثاق..
.2 ومنها: التحذير من نقض عهد الله من بعد ميثاقه؛ لأن ذلك يكون سبباً للفسق..
.3 ومنها: التحذير من قطع ما أمر الله به أن يوصل من الأرحام . أي الأقارب . وغيرهم؛ لأن الله ذكر ذلك في مقام الذم؛ وقطع الأرحام من كبائر الذنوب؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم لا يدخل الجنة قاطع"(76)، يعني قاطع رحم..
.4 ومنها: أن المعاصي والفسوق سبب للفساد في الأرض، كما قال تعالى: {ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون} ؛ ولهذا إذا قحط المطر، وأجدبت الأرض، ورجع الناس إلى ربهم، وأقاموا صلاة الاستسقاء، وتضرعوا إليه سبحانه وتعالى، وتابوا إليه، أغاثهم الله عزّ وجلّ؛ وقد قال نوح عليه السلام لقومه: {فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفاراً * يرسل السماء عليكم مدراراً * ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهاراً} ..
فإن قال قائل: أليس يوجد في الأرض من هم صلحاء قائمون بأمر الله مؤدون لحقوق عباد الله ومع ذلك نجد الفساد في الأرض؟
فالجواب: أن هذا الإيراد أوردته أم المؤمنين زينب رضي الله عنها على النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: "ويل للعرب من شر قد اقترب" ؛ قالت: أنهلك وفينا الصالحون؟! قال صلى الله عليه وسلم: "نعم، إذا كثر الخبث"(77) ؛ وقوله صلى الله عليه وسلم "إذا كثر الخبث" يشمل معنيين:.
أحدهما: أن يكثر الخبث في العاملين بحيث يكون عامة الناس على هذا الوصف..
و الثاني: أن يكثر فعل الخبث بأنواعه من فئة قليلة، لكن لا تقوم الفئة الصالحة بإنكاره؛ فمثلاً إذا كثر الكفار في أرض كان ذلك سبباً للشر، والبلاء؛ لأن الكفار نجس؛ فكثرتهم كثرة خبث؛ وإذا كثرت أفعال المعاصي كان ذلك سبباً أيضاً للشر، والبلاء؛ لأن المعاصي خبث..
.5ومن فوائد الآية: أن هؤلاء الذين اعترضوا على الله فيما ضرب من الأمثال، ونقضوا عهده، وقطعوا ما أمر الله به أن يوصل، وأفسدوا في الأرض هم الخاسرون . وإن ظنوا أنهم يحسنون صنعاً..
القـرآن
)كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (البقرة:28).
التفسير:
.{ 28 } قوله تعالى: { كيف تكفرون بالله... }: الاستفهام هنا للإنكار، والتعجيب؛ والكفر بالله هو الإنكار، والتكذيب مأخوذ من: كَفَر الشيء: إذا ستره؛ ومنه الكُفُرّى: لغلاف طلع النخل؛ والمعنى: كيف تجحدونه، وتكذبون به، وتستكبرون عن عبادته، وتنكرون البعث مع أنكم تعلمون نشأتكم؟!..
قوله تعالى: { وكنتم أمواتاً }: وذلك: قبل نفخ الروح في الإنسان هو ميت؛ جماد؛ { فأحياكم } أي بنفخ الروح؛ { ثم يميتكم } ثانية؛ وذلك بعد أن يخرج إلى الدنيا؛ { ثم يحييكم } الحياة الآخرة التي لا موت بعدها؛ { ثم إليه ترجعون }: بعد الإحياء الثاني ترجعون إلى الله، فينبئكم بأعمالكم، ويجازيكم عليها..
الفوائد:
.1 من فوائد الآية: شدة الإنكار حتى يصل إلى حد التعجب ممن يكفر وهو يعلم حاله، ومآله..
.2 ومنها: أن الموت يطلق على ما لا روح فيه . وإن لم تسبقه حياة .؛ يعني: لا يشترط للوصف بالموت تقدم الحياة؛ لقوله تعالى: { كنتم أمواتاً فأحياكم }؛ أما ظن بعض الناس أنه لا يقال: "ميت" إلا لمن سبقت حياته؛ فهذا ليس بصحيح؛ بل إن الله تعالى أطلق وصف الموت على الجمادات؛ قال تعالى في الأصنام: {أموات غير أحياء} ..
.3 ومنها: أن الجنين لو خرج قبل أن تنفخ فيه الروح فإنه لا يثبت له حكم الحي؛ ولهذا لا يُغَسَّل، ولا يكفن، ولا يصلي عليه، ولا يرث، ولا يورث؛ لأنه ميت جماد لا يستحق شيئاً مما يستحقه الأحياء؛ وإنما يدفن في أيّ مكان في المقبرة، أو غيرها..
.4 ومنها: تمام قدرة الله عزّ وجلّ؛ فإن هذا الجسد الميت ينفخ الله فيه الروح، فيحيى، ويكون إنساناً يتحرك، ويتكلم، ويقوم، ويقعد، ويفعل ما أراد الله عزّ وجلّ..
.5 ومنها: إثبات البعث؛ لقوله تعالى: { ثم يحييكم ثم إليه ترجعون }؛ والبعث أنكره من أنكره من الناس، واستبعده، وقال: {من يحيي العظام وهي رميم} ؛ فأقام الله . تبارك وتعالى . على إمكان ذلك ثمانية أدلة في آخر سورة "يس":.
الدليل الأول: قوله تعالى: {قل يحييها الذي أنشأها أول مرة} : هذا دليل على أنه يمكن أن يحيي العظام وهي رميم؛ وقوله تعالى: {أنشأها أول مرة} دليل قاطع، وبرهان جليّ على إمكان إعادته كما قال الله تعالى: {وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه} ..
الدليل الثاني: قوله تعالى: {وهو بكل خلق عليم} يعني: كيف يعجز عن إعادتها وهو سبحانه وتعالى بكل خلق عليم: يعلم كيف يخلق الأشياء، وكيف يكونها؛ فلا يعجز عن إعادة الخلق..
الدليل الثالث: قوله تعالى: {الذي جعل لكم من الشجر الأخضر ناراً فإذا أنتم منه توقدون } : الشجر الأخضر فيه البرودة، وفيه الرطوبة؛ والنار فيها الحرارة، واليبوسة؛ هذه النار الحارة اليابسة تخرج من شجر بارد رطب؛ وكان الناس فيما سبق يضربون أغصاناً من أشجار معينة بالزند؛ فإذا ضربوها انقدحت النار، ويكون عندهم شيء قابل للاشتعال بسرعة؛ ولهذا قال تعالى: {فإذا أنتم منه توقدون} تحقيقاً لذلك..
ووجه الدلالة: أن القادر على إخراج النار الحارة اليابسة من الشجر الأخضر مع ما بينهما من تضاد قادر على إحياء العظام وهي رميم..
الدليل الرابع: قوله تعالى: {أو ليس الذي خلق السموات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى} (يس: 81).
ووجه الدلالة: أن خلْق السموات والأرض أكبر من خلق الناس؛ والقادر على الأكبر قادر على ما دونه..
الدليل الخامس: قوله تعالى: {وهو الخلَّاق العليم} ؛ فـ {الخلاق } صفته، ووصفه الدائم؛ وإذا كان خلَّاقاً، ووصفه الدائم هو الخلق فلن يعجز عن إحياء العظام وهي رميم..
الدليل السادس: قوله تعالى: {إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون} : إذا أراد شيئاً مهما كان؛ و {شيئاً} : نكرة في سياق الشرط، فتكون للعموم؛ {أمره} أي شأنه في ذلك أن يقول له كن فيكون؛ أو {أمره} الذي هو واحد "أوامر"؛ ويكون المعنى: إنما أمره أن يقول: "كن"، فيعيده مرة أخرى..
ووجه الدلالة: أن الله سبحانه وتعالى لا يستعصي عليه شيء أراده..
الدليل السابع: قوله تعالى: {فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء} : كل شيء فهو مملوك لله عزّ وجلّ: الموجود يعدمه؛ والمعدوم يوجده؛ لأنه رب كل شيء..
ووجه الدلالة: أن الله سبحانه وتعالى نزه نفسه؛ وهذا يشمل تنزيهه عن العجز عن إحياء العظام وهي رميم
الدليل الثامن: قوله تعالى: ( وإليه ترجعون )..
ووجه الدلالة: أنه ليس من الحكمة أن يخلق الله هذه الخليقة، ويأمرها، وينهاها، ويرسل إليها الرسل، ويحصل ما يحصل من القتال بين المؤمن، والكافر، ثم يكون الأمر هكذا يذهب سدًى؛ بل لابد من الرجوع؛ وهذا دليل عقلي..
فهذه ثمانية أدلة على قدرة الله على إحياء العظام وهي رميم جمعها الله عزّ وجلّ في موضع واحد؛ وهناك أدلة أخرى في مواضع كثيرة في القرآن؛ وكذلك في السنة..
.6ومن فوائد الآية: أن الخلق مآلهم، ورجوعهم إلى الله عزّ وجلّ..
القـرآن
)هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (البقرة:29).
التفسير:
لما ذكر جلّ وعلا أنه قادر على الإحياء والإماتة، بيَّن منَّته على العباد بأنه خلق لهم ما في الأرض جميعاً
.{ 29 } قوله تعالى: { هو الذي خلق لكم } أي أوجد عن علم وتقدير على ما اقتضته حكمته جلّ وعلا، وعلمه؛ و{ لكم }: اللام هنا لها معنيان؛ المعنى الأول: الإباحة، كما تقول: "أبحت لك"؛ والمعنى الثاني: التعليل: أي خلق لأجلكم..
قوله تعالى: { ما في الأرض جميعاً }؛ { ما } اسم موصول تعُمّ: كل ما في الأرض فهو مخلوق لنا من الأشجار، والزروع، والأنهار، والجبال... كل شيء..
قوله تعالى: { ثم } أي بعد أن خلق لنا ما في الأرض جميعاً { استوى إلى السماء } أي علا إلى السماء؛ هذا ما فسرها به ابن جرير . رحمه الله؛ وقيل: أي قصد إليها؛ وهذا ما اختاره ابن كثير . رحمه الله؛ فللعلماء في تفسير { استوى إلى } قولان: الأول: أن الاستواء هنا بمعنى القصد؛ وإذا كان القصد تاماً قيل: استوى؛ لأن الاستواء كله يدل على الكمال، كما قال تعالى: {ولما بلغ أشده واستوى} أي كمل؛ فمن نظر إلى أن هذا الفعل عُدّي بـ { إلى } قال: إن { استوى } هنا ضُمِّن معنى قصد؛ ومن نظر إلى أن الاستواء لا يكون إلا في علوّ جعل { إلى } بمعنى "على"؛ لكن هذا ضعيف؛ لأن الله تعالى لم يستوِ على السماء أبداً؛ وإنما استوى على العرش؛ فالصواب ما ذهب إليه ابن كثير رحمه الله وهو أن الاستواء هنا بمعنى القصد التام، والإرادة الجازمة؛ و{ السماء } أي العلوّ؛ وكانت السماء دخاناً . أي مثل الدخان؛
{ فسواهن سبع سموات } أي جعلها سوية طباقاً غير متناثرة قوية متينة..
قوله تعالى: { وهو بكل شيء عليم }؛ ومن علمه عزّ وجلّ أنه علم كيف يخلق هذه السماء..
الفوائد:
.1 من فوائد الآية: منّة الله تعالى على عباده بأن خلق لهم ما في الأرض جميعاً؛ فكل شيء في الأرض فإنه لنا . والحمد لله . والعجب أن من الناس من سخر نفسه لما سخره الله له؛ فخدم الدنيا، ولم تخدمه؛ وصار أكبر همه الدنيا: جمع المال، وتحصيل الجاه، وما أشبه ذلك..
.2 ومنها: أن الأصل في كل ما في الأرض الحلّ . من أشجار، ومياه، وثمار، وحيوان، وغير ذلك؛ وهذه قاعدة عظيمة؛ وبناءً على هذا لو أن إنساناً أكل شيئاً من الأشجار، فقال له بعض الناس: "هذا حرام"؛ فالمحرِّم يطالَب بالدليل؛ ولو أن إنساناً وجد طائراً يطير، فرماه، وأصابه، ومات، وأكله، فقال له الآخر: "هذا حرام"؛ فالمحرِّم يطالب بالدليل؛ ولهذا لا يَحْرم شيء في الأرض إلا ما قام عليه الدليل..
.3 ومن فوائد الآية: تأكيد هذا العموم بقوله تعالى: { جميعاً } مع أن { ما } موصولة تفيد العموم؛ لكنه سبحانه وتعالى أكده حتى لا يتوهم واهم بأن شيئاً من أفراد هذا العموم قد خرج من الأصل..
.4 ومنها: إثبات الأفعال لله عزّ وجلّ . أي أنه يفعل ما يشاء؛ لقوله تعالى: { ثم استوى إلى السماء }: و{ استوى } فعل؛ فهو جلّ وعلا يفعل ما يشاء، ويقوم به من الأفعال ما لا يحصيه إلا الله، كما أنه يقوم به من الأقوال ما لا يحصيه إلا الله..
.5 ومنها: أن السموات سبع؛ لقوله تعالى: ( سبع سموات ).
.6 ومنها: كمال خلق السموات؛ لقوله تعالى: ( فسواهن )..
.7ومنها: إثبات عموم علم الله؛ لقوله تعالى: ( وهو بكل شيء عليم ).
.8ومنها: أن نشكر الله على هذه النعمة . وهي أنه تعالى خلق لنا ما في الأرض جميعاً؛ لأن الله لم يبينها لنا لمجرد الخبر؛ ولكن لنعرف نعمته بذلك، فنشكره عليها..
.9 ومنها: أن نخشى، ونخاف؛ لأن الله تعالى بكل شيء عليم؛ فإذا كان الله عليماً بكل شيء . حتى ما نخفي في صدورنا . أوجب لنا ذلك أن نحترس مما يغضب الله عزّ وجلّ سواء في أفعالنا، أو في أقوالنا، أو في ضمائر قلوبنا..
القـرآن
)وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ) (البقرة:30).
التفسير:
.{ 30 } قوله تعالى: { وإذ قال ربك }: قال المعربون: { إذ } مفعول لفعل محذوف؛ والتقدير: اذكر إذ قال؛ والخطاب في قوله تعالى: { ربك } للنبي صلى الله عليه وسلم؛ ولما كان الخطاب له صارت الربوبية هنا من أقسام الربوبية الخاصة..
قوله تعالى: { للملائكة }: اللام للتعدية . أي تعدية القول للمقول له؛ و "الملائكة" جمع "مَلْئَك"، وأصله "مألك"؛ لأنه مشتق من الأَلُوكة . وهي الرسالة؛ لكن صار فيها إعلال بالنقل . أي نقل حرف مكان حرف آخر؛ مثل أشياء أصلها: "شيئاء"؛ و "الملائكة" عالم غيبي خلقهم الله تعالى من نور، وجعل لهم وظائف، وأعمالاً مختلفة؛ فمنهم الموكل بالوحي كجبريل؛ وبالقطر، والنبات كميكائيل؛ وبالنفخ في الصور كإسرافيل؛ وبأرواح بني أدم كملَك الموت... إلى غير ذلك من الوظائف، والأعمال..
قوله تعالى: { إني جاعل في الأرض خليفة }؛ خليفة يخلف الله؛ أو يخلف من سبقه؛ أو يخلف بعضهم بعضاً يتناسلون . على أقوال:.
أما الأول: فيحتمل أن الله أراد من هذه الخليقة . آدم، وبنيه . أن يجعل منهم الخلفاء يخلفون الله تعالى في عباده بإبلاغ شريعته، والدعوة إليها، والحكم بين عباده؛ لا عن جهل بالله سبحانه وتعالى . وحاشاه من ذلك، ولا عن عجز؛ ولكنه يمنّ على من يشاء من عباده، كما قال تعالى: {يا داوود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس} : هو خليفة يخلف الله عزّ وجلّ في الحكم بين عباده..
والثاني: أنهم يخلفون من سبقهم؛ لأن الأرض كانت معمورة قبل آدم؛ وعلى هذا الاحتمال تكون { خليفة } هنا بمعنى الفاعل؛ وعلى الأول بمعنى المفعول..
والثالث: أنه يخلف بعضهم بعضاً؛ بمعنى: أنهم يتناسلون: هذا يموت، وهذا يحيى؛ وعلى هذا التفسير تكون { خليفة } صالحة لاسم الفاعل، واسم المفعول..
كل هذا محتمل؛ وكل هذا واقع؛ لكن قول الملائكة: { أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء } يرجح أنهم خليفة لمن سبقهم، وأنه كان على الأرض مخلوقات قبل ذلك تسفك الدماء، وتفسد فيها، فسألت الملائكة ربها عزّ وجلّ: { أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء } كما فعل من قبلهم . واستفهام الملائكة للاستطلاع، والاستعلام، وليس للاعتراض؛ قال تعالى: { إني أعلم ما لا تعلمون } يعني: وستتغير الحال؛ ولا تكون كالتي سبقت..
قوله تعالى: { ونحن نسبح } أي نُنَزِّه؛ والذي يُنَزَّه الله عنه شيئان؛ أولاً: النقص؛ والثاني: النقص في كماله؛ وزد ثالثاً إن شئت: مماثلة المخلوقين؛ كل هذا يُنَزَّه الله عنه؛ النقص: مطلقاً؛ يعني أن كل صفة نقص لا يمكن أن يوصف الله بها أبداً . لا وصفاً دائماً، ولا خبراً؛ والنقص في كماله: فلا يمكن أن يكون في كماله نقص؛ قدرته: لا يمكن أن يعتريها عجز؛ قوته: لا يمكن أن يعتريها ضعف؛ علمه: لا يمكن أن يعتريه نسيان... وهلم جراً؛ ولهذا قال عزّ وجلّ: {ولقد خلقنا السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب} أي تعب، وإعياء؛ فهو عزّ وجلّ كامل الصفات لا يمكن أن يعتري كماله نقص؛ ومماثلة المخلوقين: هذه إن شئنا أفردناها بالذكر؛ لأن الله تعالى أفردها بالذكر، فقال: {ليس كمثله شيء} . وقال تعالى: {وله المثل الأعلى} ، وقال تعالى: { فلا تضربوا لله الأمثال } ؛ وإن شئنا جعلناها داخلة في القسم الأول . النقص . لأن تمثيل الخالق بالمخلوق يعني النقص؛ بل المفاضلة بين الكامل والناقص تجعل الكامل ناقصاً، كما قال القائل:.
(ألم تر أن السيف ينقص قدره إذا قيل إن السيف أمضى من العصا) لو قلت: فلان عنده سيف أمضى من العصا تبين أن السيف هذا رديء، وليس بشيء؛ فربما نفرد هذا القسم الثالث، وربما ندخله في القسم الأول؛ على كل حال التسبيح ينبغي لنا . عندما نقول: "سبحان الله"، أو: "أسبح الله"، أو ما أشبه ذلك . أن نستحضر هذه المعاني..
التفسير:
.{ 25 } مناسبة الآية لما قبلها أن الله لما ذكر وعيد الكافرين المكذبين للرسول صلى الله عليه وسلم ذكر وعد المؤمنين به، فقال تعالى: { وبشر... } الآية؛ و "البشارة" هي الإخبار بما يسر؛ وسميت بذلك لتغير بَشَرة المخاطَب بالسرور؛ لأن الإنسان إذا أُخبر بما يُسِرُّه استنار وجهه، وطابت نفسه، وانشرح صدره؛ وقد تستعمل "البشارة" في الإخبار بما يسوء، كقوله تعالى: { فبشرهم بعذاب أليم } : إمَّا تهكماً بهم؛ وإما لأنهم يحصل لهم من الإخبار بهذا ما تتغير به بشرتهم، وتَسودَّ به وجوههم، وتُظلِم، كقوله تعالى في عذابهم يوم القيامة: {ثم صبوا فوق رأسه من عذاب الحميم * ذق إنك أنت العزيز الكريم} ..
والخطاب في قوله تعالى: { بشِّر } إما للرسول صلى الله عليه وسلم؛ أو لكل من يتوجه إليه الخطاب . يعني بشِّر أيها النبي؛ أو بشِّر أيها المخاطَب من اتصفوا بهذه الصفات بأن لهم جنات..
قوله تعالى: { الذين آمنوا } أي بما يجب الإيمان به مما أخبر الله به، ورسوله؛ وقد بيَّن الرسول صلى الله عليه وسلم أصول الإيمان بأنها الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره؛ لكن ليس الإيمان بهذه الأشياء مجرد التصديق بها؛ بل لا بد من قبول، وإذعان؛ وإلا لما صح الإيمان..
قوله تعالى: { وعملوا الصالحات } أي عملوا الأعمال الصالحات . وهي الصادرة عن محبة، وتعظيم لله عزّ وجلّ المتضمنة للإخلاص لله، والمتابعة لرسول الله؛ فما لا إخلاص فيه فهو فاسد؛ لقول الله تعالى في الحديث القدسي: "أنا أغنى الشركاء عن الشرك؛ من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه"(71) ؛ وما لم يكن على الاتِّباع فهو مردود لا يقبل؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم (: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد(72)" ..
قوله تعالى: { أن لهم جنات }: هذا المبشر به: أن لهم عند الله عزّ وجلّ { جنات... }: جمع "جنَّة"؛ وهي في اللغة: البستان كثير الأشجار بحيث تغطي الأشجار أرضه، فتجتن بها؛ والمراد بها شرعاً: الدار التي أعدها الله للمتقين، فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر..
قوله تعالى: { تجري من تحتها الأنهار } أي تسيح من تحتها الأنهار؛ و{ الأنهار } فاعل { تجري }؛ و{ من تحتها } قال العلماء: من تحت أشجارها، وقصورها؛ وليس من تحت سطحها؛ لأن جريانها من تحت سطحها لا فائدة منه؛ وما أحسن جري هذه الأنهار إذا كانت من تحت الأشجار، والقصور! يجد الإنسان فيها لذة في المنظر قبل أن يتناولها..
وقد بيّن الله تعالى أنها أربعة أنواع، كما قال تعالى: {مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفَّى} (محمد: 15) .
قوله تعالى: { كلما رزقوا } أي أعطوا؛ { منها} أي من الجنات؛ {من ثمرة} أي من أيّ ثمرة؛ { قالوا هذا الذي رزقنا من قبل } لأنه يشبه ما سبقه في حجمه، ولونه، وملمسه، وغير ذلك من صفاته؛ فيظنون أنه هو الأول؛ ولكنه يختلف عنه في الطعم والمذاق اختلافاً عظيماً؛ ولهذا قال تعالى: { وأتوا به متشابهاً }؛ وما أجمل وألذّ للإنسان إذا رأى هذه الفاكهة يراها وكأنها شيء واحد؛ فإذا ذاقها وإذا الطعم يختلف اختلافاً عظيماً! تجده يجد في نفسه حركةً لهذا الفاكهة، ولذةً، وتعجباً؛ كيف يكون هذا الاختلاف المتباين العظيم والشكل واحد! ولهذا لو قُدم لك فاكهة ألوانها سواء، وأحجامها سواء، وملمسها سواء، ثم إذا ذقتها وإذا هذه حلو خالص، وهذه مُز . أي حلو مقرون بالحموضة . وهذه حامضة؛ تجد لذة أكثر مما لو كانت على حد سواء، أو كانت مختلفة..
قوله تعالى: { وأتوا به متشابهاً }؛ { أتوا } من "أتى" التي بمعنى جاء؛ فالمعنى: جيء إليهم به متشابهاً يشبه بعضه بعضاً . كما سبق..
قوله تعالى: { ولهم فيها أزواج }؛ لما ذكر الله الفاكهة ذكر الأزواج؛ لأن في كل منهما تفكهاً، لكن كل واحد من نوع غير الآخر: هذا تفكه في المذاق، والمطعم؛ وهذا تفكه آخر من نوع ثان؛ لأن بذلك يتم النعيم؛ و{ أزواج } جمع زوج؛ وهو شامل للأزواج من الحور، ومن نساء الدنيا؛ ويطلق "الزوج" على الذكر، والأنثى؛ ولهذا يقال للرجل: "زوج"، وللمرأة: "زوج"؛ لكن في اصطلاح الفرضيين صاروا يلحقون التاء للأنثى فرقاً بينها وبين الرجل عند قسمة الميراث..
قوله تعالى: { مطهرة } يشمل طهارة الظاهر، والباطن؛ فهي مطهرة من الأذى القذر: لا بول، ولا غائط، ولا حيض، ولا نفاس، ولا استحاضة، ولا عرق، ولا بخر، مطهرة من كل شيء ظاهر حسي؛ مطهرة أيضاً من الأقذار الباطنة، كالغل، والحقد، والكراهية، والبغضاء، وغير ذلك..
قوله تعالى: { هم فيها خالدون } أي ماكثون لا يخرجون منها..
الفوائد:
.1 من فوائد الآية: مشروعية تبشير الإنسان بما يسر؛ لقوله تعالى: {وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات}؛ ولقول الله تبارك وتعالى: {وبشرناه بإسحاق نبيًّا من الصالحين} ، وقوله تعالى: {وبشروه بغلام عليم} ، وقوله تعالى: {فبشرناه بغلام حليم} ؛ فالبشارة بما يسر الإنسان من سنن المرسلين . عليهم الصلاة والسلام؛ وهل من ذلك أن تبشره بمواسم العبادة، كما لو أدرك رمضان، فقلت: هنّاك الله بهذا الشهر؟ الجواب: نعم؛ وكذلك أيضاً لو أتم الصوم، فقلت: هنّأك الله بهذا العيد، وتقبل منك عبادتك وما أشبه ذلك؛ فإنه لا بأس به، وقد كان من عادة السلف..
.2 ومن فوائد الآية: أن الجنات لا تكون إلا لمن جمع هذين: الإيمان، والعمل الصالح..
فإن قال قائل: في القرآن الكريم ما يدل على أن الأوصاف أربعة: الإيمان؛ والعمل الصالح؛ والتواصي بالحق؛ والتواصي بالصبر؟
فالجواب: أن التواصي بالحق، والتواصي بالصبر من العمل الصالح، لكن أحياناً يُذكر بعض أفراد العام لعلة من العلل، وسبب من الأسباب..
.3 ومنها: أن جزاء المؤمنين العاملين للصالحات أكبر بكثير مما عملوا، وأعظم؛ لأنهم مهما آمنوا، وعملوا فالعمر محدود، وينتهي؛ لكن الجزاء لا ينتهي أبداً؛ هم مخلدون فيه أبد الآباد؛ كذلك أيضاً الأعمال التي يقدمونها قد يشوبها كسل؛ قد يشوبها تعب؛ قد يشوبها أشياء تنقصها، لكن إذا منّ الله عليه، فدخل الجنة فالنعيم كامل..
.4 ومنها: أن الجنات أنواع؛ لقوله تعالى: { جنات }؛ وقد دل على ذلك القرآن، والسنة؛ فقال الله تعالى: {ولمن خاف مقام ربه جنتان} ، ثم قال تعالى: {ومن دونهما جنتان} ؛ وقال النبي صلى الله عليه وسلم "جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما؛ وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما(73)" ..
.5 ومنها: تمام قدرة الله عزّ وجلّ بخلق هذه الأنهار بغير سبب معلوم، بخلاف أنهار الدنيا؛ لأن أنهار الماء في الدنيا معروفة أسبابها؛ وليس في الدنيا أنهار من لبن، ولا من عسل، ولا من خمر؛ وقد جاء في الأثر(74) أنها أنهار تجري من غير أخدود . يعني لم يحفر لها حفر، ولا يقام لها أعضاد تمنعها؛ بل النهر يجري، ويتصرف فيه الإنسان بما شاء . يوجهه حيث شاء؛ قال ابن القيم رحمه الله في النونية:.
(أنهارها في غير أخدود جرت سبحان ممسكها عن الفيضان)
6 . ومن فوائد الآية: أن من تمام نعيم أهل الجنة أنهم يؤتون بالرزق متشابهاً؛ وكلما رزقوا منها من ثمرة رزقاً قالوا: هذا الذي رُزقنا من قبل؛ وهذا من تمام النعيم، والتلذذ بما يأكلون..
.7 ومنها: إثبات الأزواج في الآخرة، وأنه من كمال النعيم؛ وعلى هذا يكون جماع، ولكن بدون الأذى الذي يحصل بجماع نساء الدنيا؛ ولهذا ليس في الجنة مَنِيّ، ولا مَنِيَّة؛ والمنيّ الذي خلق في الدنيا إنما خُلق لبقاء النسل؛ لأن هذا المنيّ مشتمل على المادة التي يتكون منها الجنين، فيخرج بإذن الله تعالى ولداً؛ لكن في الآخرة لا يحتاجون إلى ذلك؛ لأنه لا حاجة لبقاء النسل؛ إذ إن الموجودين سوف يبقون أبد الآبدين لا يفنى منهم أحد؛ ثم هم ليسوا بحاجة إلى أحد يعينهم، ويخدمهم؛ الوِلدان تطوف عليهم بأكواب، وأباريق، وكأس من معين؛ ثم هم لا يحتاجون إلى أحد يصعد الشجرة ليجني ثمارها؛ بل الأمر فيها كما قال الله تعالى: {وجنى الجنتين دان} ، وقال تعالى: {قطوفها دانية} ؛ حتى ذكر العلماء أن الرجل ينظر إلى الثمرة في الشجرة، فيحسّ أنه يشتهيها، فيدنو منه الغصن حتى يأخذها؛ ولا تستغرب هذا؛ فنحن في الدنيا نشاهد أن الشيء يدنو من الشيء بغير سلطة محسوسة؛ وما في الآخرة أبلغ، وأبلغ..
.8 ومن فوائد الآية: أن أهل الجنة خالدون فيها أبد الآباد؛ لا يمكن أن تفنى، ولا يمكن أن يفنى من فيها؛ وقد أجمع على ذلك أهل السنة والجماعة..
القـرآن
)إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ) (البقرة:26).
التفسير:
.{ 26 } قوله تعالى: { إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلاً ما } أي لا يمنعه الحياء من أن يضرب مثلاً ولو كان مثلاً حقيراً ما دام يثبت به الحق؛ فالعبرة بالغاية؛ و{ ما } يقولون: إنها نكرة واصفة . أي: مثلاً أيَّ مثل..
قوله تعالى: { بعوضة }: عطف بيان لـ{ ما } أي: مثلاً بعوضة؛ والبعوضة معروفة؛ ويضرب بها المثل في الحقارة؛ وقد ذكروا أن سبب نزول هذه الآية أن المشركين اعترضوا: كيف يضرب الله المثل بالذباب في قوله تبارك وتعالى: {يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له} : قالوا: الذباب يذكره الله في مقام المحاجة! فبيَّن الله عزّ وجلّ أنه لا يستحيي من الحق حتى وإن ضرب المثل بالبعوضة، فما فوقها..
قوله تعالى: { فما فوقها }: هل المراد بما فوق . أي فما فوقها في الحقارة، فيكون المعنى أدنى من البعوضة؛ أو فما فوقها في الارتفاع، فيكون المراد ما هو أعلى من البعوضة؟ فأيهما أعلى خلقة: الذباب، أو البعوضة؟ الجواب: الذباب أكبر، وأقوى . لا شك؛ لكن مع ذلك يمكن أن يكون معنى الآية: { فما فوقها } أي فما دونها؛ لأن الفوقية تكون للأدنى، وللأعلى، كما أن الوراء تكون للأمام، وللخلف، كما في قوله تعالى: {وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصباً} أي كان أمامهم..
قوله تعالى: { فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه } أي المثل الذي ضربه الله { الحق من ربهم }، ويؤمنون به، ويرون أن فيه آيات بينات..
قوله تعالى: { وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلاً } لأنه لم يتبين لهم الحق لإعراضهم عنه، وقد قال الله تعالى: {إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين * كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون} (المطففين: 13، 14 )..
وقوله تعالى: { ماذا }: "ما" هنا اسم استفهام مبتدأ؛ و "ذا" اسم موصول بمعنى "الذي" خبر المبتدأ . أي: ما الذي أراد الله بهذا مثلاً، كما قال ابن مالك:.
(ومثل ما ذا بعد ما استفهام أو مَن إذا لم تلغ في الكلام) قوله تعالى: { يضل به كثيراً }: الجملة استئنافية لبيان الحكمة من ضرب المثل بالشيء الحقير؛ ولهذا ينبغي الوقوف على قوله تعالى: { ماذا أراد الله بهذا مثلاً }؛ و{ يضل به } أي بالمثل؛ { كثيراً } أي من الناس؛ { ويهدي به كثيراً وما يضل به إلا الفاسقين } أي الخارجين عن طاعة الله؛ والمراد هنا الخروج المطلق الذي هو الكفر؛ لأن الفسق قد يراد به الكفر؛ وقد يراد به ما دونه؛ ففي قوله تبارك وتعالى: { وأما الذين فسقوا فمأواهم النار } : المراد به في هذه الآية الكفر؛ وكذلك هنا..
الفوائد:
.1 من فوائد الآية: إثبات الحياء لله عزّ وجلّ؛ لقوله تعالى: ( إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلاً ما ).
ووجه الدلالة: أن نفي الاستحياء عن الله في هذه الحال دليل على ثبوته فيما يقابلها؛ وقد جاء ذلك صريحاً في السنة، كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن ربكم حييّ كريم يستحيي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صِفراً"(75) ؛ والحياء الثابت لله ليس كحياء المخلوق؛ لأن حياء المخلوق انكسار لما يَدْهَمُ الإنسان ويعجز عن مقاومته؛ فتجده ينكسر، ولا يتكلم، أو لا يفعل الشيء الذي يُستحيا منه؛ وهو صفة ضعف ونقص إذا حصل في غير محله..
.2 ومن فوائد الآية: أن الله تعالى يضرب الأمثال؛ لأن الأمثال أمور محسوسة يستدل بها على الأمور المعقولة؛ انظر إلى قوله تعالى: {مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتاً} ؛ وهذا البيت لا يقيها من حَرّ، ولا برد، ولا مطر، ولا رياح {وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت} ؛ وقال تعالى: {والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه} : إنسان بسط كفيه إلى غدير مثلاً، أو نهر يريد أن يصل الماء إلى فمه! هذا لا يمكن؛ هؤلاء الذين يمدون أيديهم إلى الأصنام كالذي يمد يديه إلى النهر ليبلغ فاه؛ فالأمثال لا شك أنها تقرب المعاني إلى الإنسان إما لفهم المعنى؛ وإما لحكمتها، وبيان وجه هذا المثل..
.3 ومن فوائد الآية: أن البعوضة من أحقر المخلوقات؛ لقوله تعالى: { بعوضة فما فوقها }؛ ومع كونها من أحقر المخلوقات فإنها تقض مضاجع الجبابرة؛ وربما تهلك: لو سُلطت على الإنسان لأهلكته وهي هذه الحشرة الصغيرة المهينة..
.4 ومنها: رحمة الله تعالى بعباده حيث يقرر لهم المعاني المعقولة بضرب الأمثال المحسوسة لتتقرر المعاني في عقولهم..
.5 ومنها: أن القياس حجة؛ لأن كل مثل ضربه الله في القرآن، فهو دليل على ثبوت القياس..
.6 ومنها: فضيلة الإيمان، وأن المؤمن لا يمكن أن يعارض ما أنزل الله عزّ وجلّ بعقله؛ لقوله تعالى: {فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم}، ولا يعترضون، ولا يقولون: لِم؟، ولا: كيف؟؛ يقولون: سمعنا، وأطعنا، وصدقنا؛ لأنهم يؤمنون بأن الله عزّ وجلّ له الحكمة البالغة فيما شرع، وفيما قدر..
.7 ومنها: إثبات الربوبية الخاصة؛ لقوله تعالى: { من ربهم }؛ واعلم أن ربوبية الله تعالى تنقسم إلى قسمين: عامة؛ وخاصة؛ فالعامة هي الشاملة لجميع الخلق، وتقتضي التصرف المطلق في العباد؛ والخاصة هي التي تختص بمن أضيفت له، وتقتضي عناية خاصة؛ وقد اجتمعتا في قوله تعالى: {قالوا آمنا برب العالمين * رب موسى وهارون} : فالأولى ربوبية عامة؛ والثانية خاصة بموسى، وهارون؛ كما أن مقابل ذلك "العبودية" تنقسم إلى عبودية عامة، كما في قوله تبارك وتعالى: {إن كل من في السموات والأرض إلا آتي الرحمن عبداً} ؛ وخاصة كما في قوله تعالى: {تبارك الذي نزل الفرقان على عبده} ؛ والفرق بينهما أن العامة هي الخضوع للأمر الكوني؛ والخاصة هي الخضوع للأمر الشرعي؛ وعلى هذا فالكافر عبد لله بالعبودية العامة؛ والمؤمن عبد لله بالعبودية العامة، والخاصة..
.8ومن فوائد الآية: أن ديدن الكافرين الاعتراض على حكم الله، وعلى حكمة الله؛ لقوله تعالى: { وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلاً }؛ وكل من اعترض ولو على جزء من الشريعة ففيه شبه بالكفار؛ فمثلاً لو قال قائل: لماذا ينتقض الوضوء بأكل لحم الإبل، ولا ينتقض بأكل لحم الخنزير إذا جاز أكله للضرورة مع أن الخنزير خبيث نجس؟
فالجواب: أن هذا اعتراض على حكم الله عزّ وجلّ؛ وهو دليل على نقص الإيمان؛ لأن لازم الإيمان التام التسليم التام لحكم الله عزّ وجلّ . إلا أن يقول ذلك على سبيل الاسترشاد، والاطلاع على الحكمة؛ فهذا لا بأس به..
.9 ومن فوائد الآية: أن لفظ الكثير لا يدل على الأكثر؛ لقوله تعالى: { يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً }؛ فلو أخذنا بظاهر الآية لكان الضالون، والمهتدون سواءً؛ وليس كذلك؛ لأن بني آدم تسعمائة وتسعة وتسعون من الألف ضالون؛ وواحد من الألف مهتدٍ؛ فكلمة: { كثيراً } لا تعني الأكثر؛ وعلى هذا لو قال إنسان: عندي لك دراهم كثيرة، وأعطاه ثلاثة لم يلزمه غيرها؛ لأن "كثير" يطلق على القليل، وعلى الأكثر..
.10 ومن فوائد الآية: أن إضلال من ضل ليس لمجرد المشيئة؛ بل لوجود العلة التي كانت سبباً في إضلال الله العبد؛ لقوله تعالى: { وما يضل به إلا الفاسقين }؛ وهذا كقوله تعالى: {فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم والله لا يهدي القوم الفاسقين} (الصف: 5) ..
.11 ومنها: الرد على القدرية الذين قالوا: إن العبد مستقل بعمله . لا علاقة لإرادة الله تعالى به؛ لقوله تعالى: ( وما يضل به إلا الفاسقين )..
القـرآن
)الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) (البقرة:27).
التفسير:
.{ 27 } قوله تعالى: { الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه } أي العهد الذي بينهم وبين الله عزّ وجلّ؛ وهو الإيمان به، وبرسله؛ فإن هذا مأخوذ على كل إنسان؛ إذا جاء رسول بالآيات فإن الواجب على كل إنسان أن يؤمن به؛ فهؤلاء نقضوا عهد الله، ولم يؤمنوا به، وبرسله؛ والنقض حَلّ الشيء بعد إبرامه؛ وقد بين الله عزّ وجلّ هذا العهد في قوله تعالى: {ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيباً وقال الله إني معكم لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضاً حسناً لأكفرن عنكم سيئاتكم ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضل سواء السبيل} ..
قوله تعالى: { ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل } أي يقطعون كل ما أمر الله به أن يوصل، كالأرحام، ونصرة الرسل، ونصرة الحق، والدفاع عن الحق..
قوله تعالى: { ويفسدون في الأرض } أي يسعون لما به فساد الأرض فساداً معنوياً كالمعاصي؛ وفساداً حسياً كتخريب الديار، وقتل الأنفس..
قوله تعالى: { أولئك هم الخاسرون }: جملة اسمية مؤكَّدة بضمير الفصل: { هم }؛ لأن ضمير الفصل له ثلاث فوائد؛ الفائدة الأولى: التوكيد؛ والفائدة الثانية : الحصر؛ والفائدة الثالثة: إزالة اللبس بين الصفة، والخبر؛ مثال ذلك: تقول: "زيد الفاضل": كلمة "الفاضل" يحتمل أن تكون خبراً؛ ويحتمل أن تكون وصفاً، فتقول: "زيد الفاضل محبوب"؛ إذا قلت: "زيد الفاضل محبوب" تعين أن تكون صفة؛ وإذا قلت: "زيد الفاضل" يحتمل أن تكون صفة، والخبر لم يأت بعد؛ ويحتمل أن تكون خبراً؛ فإذا قلت: "زيد هو الفاضل" تعين أن تكون خبراً لوجود ضمير الفصل؛ ولهذا سُمي ضمير فصل . لفصله بين الوصف والخبر؛ الفائدة الثانية: التوكيد ؛ إذا قلت: "زيد هو الفاضل" كان أبلغ من قولك: "زيد الفاضل"؛ و الفائدة الثالثة: الحصر ؛ فإنك إذا قلت: "زيد هو الفاضل" فقد حصرت هذا الوصف فيه دون غيره؛ وضمير الفصل ليس له محل من الإعراب، كما في قوله تعالى: {لعلنا نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين} ؛ ولو كان له محل من الإعراب لكانت: "هم الغالبون"؛ وربما يضاف إليه اللام، كما في قوله تعالى: {إن هذا لهو القصص الحق} ؛ فيكون في إضافة اللام إليه زيادة توكيد..
وقوله تعالى: { الخاسرون }؛ "الخاسر" هو الذي فاته الربح؛ وذلك؛ لأن هؤلاء فاتهم الربح الذي ربحه من لم ينقض عهد الله من بعد ميثاقه، ولم يقطع ما أمر الله به أن يوصل..
الفوائد:
.1 من فوائد الآية: أن نقض عهد الله من الفسق؛ لقوله تعالى: { الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه } فكلما رأيت شخصاً قد فرط في واجب، أو فعل محرماً فإن هذا نقض للعهد من بعد الميثاق..
.2 ومنها: التحذير من نقض عهد الله من بعد ميثاقه؛ لأن ذلك يكون سبباً للفسق..
.3 ومنها: التحذير من قطع ما أمر الله به أن يوصل من الأرحام . أي الأقارب . وغيرهم؛ لأن الله ذكر ذلك في مقام الذم؛ وقطع الأرحام من كبائر الذنوب؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم لا يدخل الجنة قاطع"(76)، يعني قاطع رحم..
.4 ومنها: أن المعاصي والفسوق سبب للفساد في الأرض، كما قال تعالى: {ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون} ؛ ولهذا إذا قحط المطر، وأجدبت الأرض، ورجع الناس إلى ربهم، وأقاموا صلاة الاستسقاء، وتضرعوا إليه سبحانه وتعالى، وتابوا إليه، أغاثهم الله عزّ وجلّ؛ وقد قال نوح عليه السلام لقومه: {فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفاراً * يرسل السماء عليكم مدراراً * ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهاراً} ..
فإن قال قائل: أليس يوجد في الأرض من هم صلحاء قائمون بأمر الله مؤدون لحقوق عباد الله ومع ذلك نجد الفساد في الأرض؟
فالجواب: أن هذا الإيراد أوردته أم المؤمنين زينب رضي الله عنها على النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: "ويل للعرب من شر قد اقترب" ؛ قالت: أنهلك وفينا الصالحون؟! قال صلى الله عليه وسلم: "نعم، إذا كثر الخبث"(77) ؛ وقوله صلى الله عليه وسلم "إذا كثر الخبث" يشمل معنيين:.
أحدهما: أن يكثر الخبث في العاملين بحيث يكون عامة الناس على هذا الوصف..
و الثاني: أن يكثر فعل الخبث بأنواعه من فئة قليلة، لكن لا تقوم الفئة الصالحة بإنكاره؛ فمثلاً إذا كثر الكفار في أرض كان ذلك سبباً للشر، والبلاء؛ لأن الكفار نجس؛ فكثرتهم كثرة خبث؛ وإذا كثرت أفعال المعاصي كان ذلك سبباً أيضاً للشر، والبلاء؛ لأن المعاصي خبث..
.5ومن فوائد الآية: أن هؤلاء الذين اعترضوا على الله فيما ضرب من الأمثال، ونقضوا عهده، وقطعوا ما أمر الله به أن يوصل، وأفسدوا في الأرض هم الخاسرون . وإن ظنوا أنهم يحسنون صنعاً..
القـرآن
)كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (البقرة:28).
التفسير:
.{ 28 } قوله تعالى: { كيف تكفرون بالله... }: الاستفهام هنا للإنكار، والتعجيب؛ والكفر بالله هو الإنكار، والتكذيب مأخوذ من: كَفَر الشيء: إذا ستره؛ ومنه الكُفُرّى: لغلاف طلع النخل؛ والمعنى: كيف تجحدونه، وتكذبون به، وتستكبرون عن عبادته، وتنكرون البعث مع أنكم تعلمون نشأتكم؟!..
قوله تعالى: { وكنتم أمواتاً }: وذلك: قبل نفخ الروح في الإنسان هو ميت؛ جماد؛ { فأحياكم } أي بنفخ الروح؛ { ثم يميتكم } ثانية؛ وذلك بعد أن يخرج إلى الدنيا؛ { ثم يحييكم } الحياة الآخرة التي لا موت بعدها؛ { ثم إليه ترجعون }: بعد الإحياء الثاني ترجعون إلى الله، فينبئكم بأعمالكم، ويجازيكم عليها..
الفوائد:
.1 من فوائد الآية: شدة الإنكار حتى يصل إلى حد التعجب ممن يكفر وهو يعلم حاله، ومآله..
.2 ومنها: أن الموت يطلق على ما لا روح فيه . وإن لم تسبقه حياة .؛ يعني: لا يشترط للوصف بالموت تقدم الحياة؛ لقوله تعالى: { كنتم أمواتاً فأحياكم }؛ أما ظن بعض الناس أنه لا يقال: "ميت" إلا لمن سبقت حياته؛ فهذا ليس بصحيح؛ بل إن الله تعالى أطلق وصف الموت على الجمادات؛ قال تعالى في الأصنام: {أموات غير أحياء} ..
.3 ومنها: أن الجنين لو خرج قبل أن تنفخ فيه الروح فإنه لا يثبت له حكم الحي؛ ولهذا لا يُغَسَّل، ولا يكفن، ولا يصلي عليه، ولا يرث، ولا يورث؛ لأنه ميت جماد لا يستحق شيئاً مما يستحقه الأحياء؛ وإنما يدفن في أيّ مكان في المقبرة، أو غيرها..
.4 ومنها: تمام قدرة الله عزّ وجلّ؛ فإن هذا الجسد الميت ينفخ الله فيه الروح، فيحيى، ويكون إنساناً يتحرك، ويتكلم، ويقوم، ويقعد، ويفعل ما أراد الله عزّ وجلّ..
.5 ومنها: إثبات البعث؛ لقوله تعالى: { ثم يحييكم ثم إليه ترجعون }؛ والبعث أنكره من أنكره من الناس، واستبعده، وقال: {من يحيي العظام وهي رميم} ؛ فأقام الله . تبارك وتعالى . على إمكان ذلك ثمانية أدلة في آخر سورة "يس":.
الدليل الأول: قوله تعالى: {قل يحييها الذي أنشأها أول مرة} : هذا دليل على أنه يمكن أن يحيي العظام وهي رميم؛ وقوله تعالى: {أنشأها أول مرة} دليل قاطع، وبرهان جليّ على إمكان إعادته كما قال الله تعالى: {وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه} ..
الدليل الثاني: قوله تعالى: {وهو بكل خلق عليم} يعني: كيف يعجز عن إعادتها وهو سبحانه وتعالى بكل خلق عليم: يعلم كيف يخلق الأشياء، وكيف يكونها؛ فلا يعجز عن إعادة الخلق..
الدليل الثالث: قوله تعالى: {الذي جعل لكم من الشجر الأخضر ناراً فإذا أنتم منه توقدون } : الشجر الأخضر فيه البرودة، وفيه الرطوبة؛ والنار فيها الحرارة، واليبوسة؛ هذه النار الحارة اليابسة تخرج من شجر بارد رطب؛ وكان الناس فيما سبق يضربون أغصاناً من أشجار معينة بالزند؛ فإذا ضربوها انقدحت النار، ويكون عندهم شيء قابل للاشتعال بسرعة؛ ولهذا قال تعالى: {فإذا أنتم منه توقدون} تحقيقاً لذلك..
ووجه الدلالة: أن القادر على إخراج النار الحارة اليابسة من الشجر الأخضر مع ما بينهما من تضاد قادر على إحياء العظام وهي رميم..
الدليل الرابع: قوله تعالى: {أو ليس الذي خلق السموات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى} (يس: 81).
ووجه الدلالة: أن خلْق السموات والأرض أكبر من خلق الناس؛ والقادر على الأكبر قادر على ما دونه..
الدليل الخامس: قوله تعالى: {وهو الخلَّاق العليم} ؛ فـ {الخلاق } صفته، ووصفه الدائم؛ وإذا كان خلَّاقاً، ووصفه الدائم هو الخلق فلن يعجز عن إحياء العظام وهي رميم..
الدليل السادس: قوله تعالى: {إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون} : إذا أراد شيئاً مهما كان؛ و {شيئاً} : نكرة في سياق الشرط، فتكون للعموم؛ {أمره} أي شأنه في ذلك أن يقول له كن فيكون؛ أو {أمره} الذي هو واحد "أوامر"؛ ويكون المعنى: إنما أمره أن يقول: "كن"، فيعيده مرة أخرى..
ووجه الدلالة: أن الله سبحانه وتعالى لا يستعصي عليه شيء أراده..
الدليل السابع: قوله تعالى: {فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء} : كل شيء فهو مملوك لله عزّ وجلّ: الموجود يعدمه؛ والمعدوم يوجده؛ لأنه رب كل شيء..
ووجه الدلالة: أن الله سبحانه وتعالى نزه نفسه؛ وهذا يشمل تنزيهه عن العجز عن إحياء العظام وهي رميم
الدليل الثامن: قوله تعالى: ( وإليه ترجعون )..
ووجه الدلالة: أنه ليس من الحكمة أن يخلق الله هذه الخليقة، ويأمرها، وينهاها، ويرسل إليها الرسل، ويحصل ما يحصل من القتال بين المؤمن، والكافر، ثم يكون الأمر هكذا يذهب سدًى؛ بل لابد من الرجوع؛ وهذا دليل عقلي..
فهذه ثمانية أدلة على قدرة الله على إحياء العظام وهي رميم جمعها الله عزّ وجلّ في موضع واحد؛ وهناك أدلة أخرى في مواضع كثيرة في القرآن؛ وكذلك في السنة..
.6ومن فوائد الآية: أن الخلق مآلهم، ورجوعهم إلى الله عزّ وجلّ..
القـرآن
)هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (البقرة:29).
التفسير:
لما ذكر جلّ وعلا أنه قادر على الإحياء والإماتة، بيَّن منَّته على العباد بأنه خلق لهم ما في الأرض جميعاً
.{ 29 } قوله تعالى: { هو الذي خلق لكم } أي أوجد عن علم وتقدير على ما اقتضته حكمته جلّ وعلا، وعلمه؛ و{ لكم }: اللام هنا لها معنيان؛ المعنى الأول: الإباحة، كما تقول: "أبحت لك"؛ والمعنى الثاني: التعليل: أي خلق لأجلكم..
قوله تعالى: { ما في الأرض جميعاً }؛ { ما } اسم موصول تعُمّ: كل ما في الأرض فهو مخلوق لنا من الأشجار، والزروع، والأنهار، والجبال... كل شيء..
قوله تعالى: { ثم } أي بعد أن خلق لنا ما في الأرض جميعاً { استوى إلى السماء } أي علا إلى السماء؛ هذا ما فسرها به ابن جرير . رحمه الله؛ وقيل: أي قصد إليها؛ وهذا ما اختاره ابن كثير . رحمه الله؛ فللعلماء في تفسير { استوى إلى } قولان: الأول: أن الاستواء هنا بمعنى القصد؛ وإذا كان القصد تاماً قيل: استوى؛ لأن الاستواء كله يدل على الكمال، كما قال تعالى: {ولما بلغ أشده واستوى} أي كمل؛ فمن نظر إلى أن هذا الفعل عُدّي بـ { إلى } قال: إن { استوى } هنا ضُمِّن معنى قصد؛ ومن نظر إلى أن الاستواء لا يكون إلا في علوّ جعل { إلى } بمعنى "على"؛ لكن هذا ضعيف؛ لأن الله تعالى لم يستوِ على السماء أبداً؛ وإنما استوى على العرش؛ فالصواب ما ذهب إليه ابن كثير رحمه الله وهو أن الاستواء هنا بمعنى القصد التام، والإرادة الجازمة؛ و{ السماء } أي العلوّ؛ وكانت السماء دخاناً . أي مثل الدخان؛
{ فسواهن سبع سموات } أي جعلها سوية طباقاً غير متناثرة قوية متينة..
قوله تعالى: { وهو بكل شيء عليم }؛ ومن علمه عزّ وجلّ أنه علم كيف يخلق هذه السماء..
الفوائد:
.1 من فوائد الآية: منّة الله تعالى على عباده بأن خلق لهم ما في الأرض جميعاً؛ فكل شيء في الأرض فإنه لنا . والحمد لله . والعجب أن من الناس من سخر نفسه لما سخره الله له؛ فخدم الدنيا، ولم تخدمه؛ وصار أكبر همه الدنيا: جمع المال، وتحصيل الجاه، وما أشبه ذلك..
.2 ومنها: أن الأصل في كل ما في الأرض الحلّ . من أشجار، ومياه، وثمار، وحيوان، وغير ذلك؛ وهذه قاعدة عظيمة؛ وبناءً على هذا لو أن إنساناً أكل شيئاً من الأشجار، فقال له بعض الناس: "هذا حرام"؛ فالمحرِّم يطالَب بالدليل؛ ولو أن إنساناً وجد طائراً يطير، فرماه، وأصابه، ومات، وأكله، فقال له الآخر: "هذا حرام"؛ فالمحرِّم يطالب بالدليل؛ ولهذا لا يَحْرم شيء في الأرض إلا ما قام عليه الدليل..
.3 ومن فوائد الآية: تأكيد هذا العموم بقوله تعالى: { جميعاً } مع أن { ما } موصولة تفيد العموم؛ لكنه سبحانه وتعالى أكده حتى لا يتوهم واهم بأن شيئاً من أفراد هذا العموم قد خرج من الأصل..
.4 ومنها: إثبات الأفعال لله عزّ وجلّ . أي أنه يفعل ما يشاء؛ لقوله تعالى: { ثم استوى إلى السماء }: و{ استوى } فعل؛ فهو جلّ وعلا يفعل ما يشاء، ويقوم به من الأفعال ما لا يحصيه إلا الله، كما أنه يقوم به من الأقوال ما لا يحصيه إلا الله..
.5 ومنها: أن السموات سبع؛ لقوله تعالى: ( سبع سموات ).
.6 ومنها: كمال خلق السموات؛ لقوله تعالى: ( فسواهن )..
.7ومنها: إثبات عموم علم الله؛ لقوله تعالى: ( وهو بكل شيء عليم ).
.8ومنها: أن نشكر الله على هذه النعمة . وهي أنه تعالى خلق لنا ما في الأرض جميعاً؛ لأن الله لم يبينها لنا لمجرد الخبر؛ ولكن لنعرف نعمته بذلك، فنشكره عليها..
.9 ومنها: أن نخشى، ونخاف؛ لأن الله تعالى بكل شيء عليم؛ فإذا كان الله عليماً بكل شيء . حتى ما نخفي في صدورنا . أوجب لنا ذلك أن نحترس مما يغضب الله عزّ وجلّ سواء في أفعالنا، أو في أقوالنا، أو في ضمائر قلوبنا..
القـرآن
)وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ) (البقرة:30).
التفسير:
.{ 30 } قوله تعالى: { وإذ قال ربك }: قال المعربون: { إذ } مفعول لفعل محذوف؛ والتقدير: اذكر إذ قال؛ والخطاب في قوله تعالى: { ربك } للنبي صلى الله عليه وسلم؛ ولما كان الخطاب له صارت الربوبية هنا من أقسام الربوبية الخاصة..
قوله تعالى: { للملائكة }: اللام للتعدية . أي تعدية القول للمقول له؛ و "الملائكة" جمع "مَلْئَك"، وأصله "مألك"؛ لأنه مشتق من الأَلُوكة . وهي الرسالة؛ لكن صار فيها إعلال بالنقل . أي نقل حرف مكان حرف آخر؛ مثل أشياء أصلها: "شيئاء"؛ و "الملائكة" عالم غيبي خلقهم الله تعالى من نور، وجعل لهم وظائف، وأعمالاً مختلفة؛ فمنهم الموكل بالوحي كجبريل؛ وبالقطر، والنبات كميكائيل؛ وبالنفخ في الصور كإسرافيل؛ وبأرواح بني أدم كملَك الموت... إلى غير ذلك من الوظائف، والأعمال..
قوله تعالى: { إني جاعل في الأرض خليفة }؛ خليفة يخلف الله؛ أو يخلف من سبقه؛ أو يخلف بعضهم بعضاً يتناسلون . على أقوال:.
أما الأول: فيحتمل أن الله أراد من هذه الخليقة . آدم، وبنيه . أن يجعل منهم الخلفاء يخلفون الله تعالى في عباده بإبلاغ شريعته، والدعوة إليها، والحكم بين عباده؛ لا عن جهل بالله سبحانه وتعالى . وحاشاه من ذلك، ولا عن عجز؛ ولكنه يمنّ على من يشاء من عباده، كما قال تعالى: {يا داوود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس} : هو خليفة يخلف الله عزّ وجلّ في الحكم بين عباده..
والثاني: أنهم يخلفون من سبقهم؛ لأن الأرض كانت معمورة قبل آدم؛ وعلى هذا الاحتمال تكون { خليفة } هنا بمعنى الفاعل؛ وعلى الأول بمعنى المفعول..
والثالث: أنه يخلف بعضهم بعضاً؛ بمعنى: أنهم يتناسلون: هذا يموت، وهذا يحيى؛ وعلى هذا التفسير تكون { خليفة } صالحة لاسم الفاعل، واسم المفعول..
كل هذا محتمل؛ وكل هذا واقع؛ لكن قول الملائكة: { أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء } يرجح أنهم خليفة لمن سبقهم، وأنه كان على الأرض مخلوقات قبل ذلك تسفك الدماء، وتفسد فيها، فسألت الملائكة ربها عزّ وجلّ: { أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء } كما فعل من قبلهم . واستفهام الملائكة للاستطلاع، والاستعلام، وليس للاعتراض؛ قال تعالى: { إني أعلم ما لا تعلمون } يعني: وستتغير الحال؛ ولا تكون كالتي سبقت..
قوله تعالى: { ونحن نسبح } أي نُنَزِّه؛ والذي يُنَزَّه الله عنه شيئان؛ أولاً: النقص؛ والثاني: النقص في كماله؛ وزد ثالثاً إن شئت: مماثلة المخلوقين؛ كل هذا يُنَزَّه الله عنه؛ النقص: مطلقاً؛ يعني أن كل صفة نقص لا يمكن أن يوصف الله بها أبداً . لا وصفاً دائماً، ولا خبراً؛ والنقص في كماله: فلا يمكن أن يكون في كماله نقص؛ قدرته: لا يمكن أن يعتريها عجز؛ قوته: لا يمكن أن يعتريها ضعف؛ علمه: لا يمكن أن يعتريه نسيان... وهلم جراً؛ ولهذا قال عزّ وجلّ: {ولقد خلقنا السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب} أي تعب، وإعياء؛ فهو عزّ وجلّ كامل الصفات لا يمكن أن يعتري كماله نقص؛ ومماثلة المخلوقين: هذه إن شئنا أفردناها بالذكر؛ لأن الله تعالى أفردها بالذكر، فقال: {ليس كمثله شيء} . وقال تعالى: {وله المثل الأعلى} ، وقال تعالى: { فلا تضربوا لله الأمثال } ؛ وإن شئنا جعلناها داخلة في القسم الأول . النقص . لأن تمثيل الخالق بالمخلوق يعني النقص؛ بل المفاضلة بين الكامل والناقص تجعل الكامل ناقصاً، كما قال القائل:.
(ألم تر أن السيف ينقص قدره إذا قيل إن السيف أمضى من العصا) لو قلت: فلان عنده سيف أمضى من العصا تبين أن السيف هذا رديء، وليس بشيء؛ فربما نفرد هذا القسم الثالث، وربما ندخله في القسم الأول؛ على كل حال التسبيح ينبغي لنا . عندما نقول: "سبحان الله"، أو: "أسبح الله"، أو ما أشبه ذلك . أن نستحضر هذه المعاني..

التفاحة الحلوة22 :
)وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهاً وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (البقرة:25). التفسير: .{ 25 } مناسبة الآية لما قبلها أن الله لما ذكر وعيد الكافرين المكذبين للرسول صلى الله عليه وسلم ذكر وعد المؤمنين به، فقال تعالى: { وبشر... } الآية؛ و "البشارة" هي الإخبار بما يسر؛ وسميت بذلك لتغير بَشَرة المخاطَب بالسرور؛ لأن الإنسان إذا أُخبر بما يُسِرُّه استنار وجهه، وطابت نفسه، وانشرح صدره؛ وقد تستعمل "البشارة" في الإخبار بما يسوء، كقوله تعالى: { فبشرهم بعذاب أليم } [آل عمران: 21] : إمَّا تهكماً بهم؛ وإما لأنهم يحصل لهم من الإخبار بهذا ما تتغير به بشرتهم، وتَسودَّ به وجوههم، وتُظلِم، كقوله تعالى في عذابهم يوم القيامة: {ثم صبوا فوق رأسه من عذاب الحميم * ذق إنك أنت العزيز الكريم} [الدخان: 48، 49] .. والخطاب في قوله تعالى: { بشِّر } إما للرسول صلى الله عليه وسلم؛ أو لكل من يتوجه إليه الخطاب . يعني بشِّر أيها النبي؛ أو بشِّر أيها المخاطَب من اتصفوا بهذه الصفات بأن لهم جنات.. قوله تعالى: { الذين آمنوا } أي بما يجب الإيمان به مما أخبر الله به، ورسوله؛ وقد بيَّن الرسول صلى الله عليه وسلم أصول الإيمان بأنها الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره؛ لكن ليس الإيمان بهذه الأشياء مجرد التصديق بها؛ بل لا بد من قبول، وإذعان؛ وإلا لما صح الإيمان.. قوله تعالى: { وعملوا الصالحات } أي عملوا الأعمال الصالحات . وهي الصادرة عن محبة، وتعظيم لله عزّ وجلّ المتضمنة للإخلاص لله، والمتابعة لرسول الله؛ فما لا إخلاص فيه فهو فاسد؛ لقول الله تعالى في الحديث القدسي: "أنا أغنى الشركاء عن الشرك؛ من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه"(71) ؛ وما لم يكن على الاتِّباع فهو مردود لا يقبل؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم (: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد(72)" .. قوله تعالى: { أن لهم جنات }: هذا المبشر به: أن لهم عند الله عزّ وجلّ { جنات... }: جمع "جنَّة"؛ وهي في اللغة: البستان كثير الأشجار بحيث تغطي الأشجار أرضه، فتجتن بها؛ والمراد بها شرعاً: الدار التي أعدها الله للمتقين، فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.. قوله تعالى: { تجري من تحتها الأنهار } أي تسيح من تحتها الأنهار؛ و{ الأنهار } فاعل { تجري }؛ و{ من تحتها } قال العلماء: من تحت أشجارها، وقصورها؛ وليس من تحت سطحها؛ لأن جريانها من تحت سطحها لا فائدة منه؛ وما أحسن جري هذه الأنهار إذا كانت من تحت الأشجار، والقصور! يجد الإنسان فيها لذة في المنظر قبل أن يتناولها.. وقد بيّن الله تعالى أنها أربعة أنواع، كما قال تعالى: {مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفَّى} (محمد: 15) . قوله تعالى: { كلما رزقوا } أي أعطوا؛ { منها} أي من الجنات؛ {من ثمرة} أي من أيّ ثمرة؛ { قالوا هذا الذي رزقنا من قبل } لأنه يشبه ما سبقه في حجمه، ولونه، وملمسه، وغير ذلك من صفاته؛ فيظنون أنه هو الأول؛ ولكنه يختلف عنه في الطعم والمذاق اختلافاً عظيماً؛ ولهذا قال تعالى: { وأتوا به متشابهاً }؛ وما أجمل وألذّ للإنسان إذا رأى هذه الفاكهة يراها وكأنها شيء واحد؛ فإذا ذاقها وإذا الطعم يختلف اختلافاً عظيماً! تجده يجد في نفسه حركةً لهذا الفاكهة، ولذةً، وتعجباً؛ كيف يكون هذا الاختلاف المتباين العظيم والشكل واحد! ولهذا لو قُدم لك فاكهة ألوانها سواء، وأحجامها سواء، وملمسها سواء، ثم إذا ذقتها وإذا هذه حلو خالص، وهذه مُز . أي حلو مقرون بالحموضة . وهذه حامضة؛ تجد لذة أكثر مما لو كانت على حد سواء، أو كانت مختلفة.. قوله تعالى: { وأتوا به متشابهاً }؛ { أتوا } من "أتى" التي بمعنى جاء؛ فالمعنى: جيء إليهم به متشابهاً يشبه بعضه بعضاً . كما سبق.. قوله تعالى: { ولهم فيها أزواج }؛ لما ذكر الله الفاكهة ذكر الأزواج؛ لأن في كل منهما تفكهاً، لكن كل واحد من نوع غير الآخر: هذا تفكه في المذاق، والمطعم؛ وهذا تفكه آخر من نوع ثان؛ لأن بذلك يتم النعيم؛ و{ أزواج } جمع زوج؛ وهو شامل للأزواج من الحور، ومن نساء الدنيا؛ ويطلق "الزوج" على الذكر، والأنثى؛ ولهذا يقال للرجل: "زوج"، وللمرأة: "زوج"؛ لكن في اصطلاح الفرضيين صاروا يلحقون التاء للأنثى فرقاً بينها وبين الرجل عند قسمة الميراث.. قوله تعالى: { مطهرة } يشمل طهارة الظاهر، والباطن؛ فهي مطهرة من الأذى القذر: لا بول، ولا غائط، ولا حيض، ولا نفاس، ولا استحاضة، ولا عرق، ولا بخر، مطهرة من كل شيء ظاهر حسي؛ مطهرة أيضاً من الأقذار الباطنة، كالغل، والحقد، والكراهية، والبغضاء، وغير ذلك.. قوله تعالى: { هم فيها خالدون } أي ماكثون لا يخرجون منها.. الفوائد: .1 من فوائد الآية: مشروعية تبشير الإنسان بما يسر؛ لقوله تعالى: {وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات}؛ ولقول الله تبارك وتعالى: {وبشرناه بإسحاق نبيًّا من الصالحين} [الصافات: 112] ، وقوله تعالى: {وبشروه بغلام عليم} [الذاريات: 28] ، وقوله تعالى: {فبشرناه بغلام حليم} [الصافات: 101] ؛ فالبشارة بما يسر الإنسان من سنن المرسلين . عليهم الصلاة والسلام؛ وهل من ذلك أن تبشره بمواسم العبادة، كما لو أدرك رمضان، فقلت: هنّاك الله بهذا الشهر؟ الجواب: نعم؛ وكذلك أيضاً لو أتم الصوم، فقلت: هنّأك الله بهذا العيد، وتقبل منك عبادتك وما أشبه ذلك؛ فإنه لا بأس به، وقد كان من عادة السلف.. .2 ومن فوائد الآية: أن الجنات لا تكون إلا لمن جمع هذين: الإيمان، والعمل الصالح.. فإن قال قائل: في القرآن الكريم ما يدل على أن الأوصاف أربعة: الإيمان؛ والعمل الصالح؛ والتواصي بالحق؛ والتواصي بالصبر؟ فالجواب: أن التواصي بالحق، والتواصي بالصبر من العمل الصالح، لكن أحياناً يُذكر بعض أفراد العام لعلة من العلل، وسبب من الأسباب.. .3 ومنها: أن جزاء المؤمنين العاملين للصالحات أكبر بكثير مما عملوا، وأعظم؛ لأنهم مهما آمنوا، وعملوا فالعمر محدود، وينتهي؛ لكن الجزاء لا ينتهي أبداً؛ هم مخلدون فيه أبد الآباد؛ كذلك أيضاً الأعمال التي يقدمونها قد يشوبها كسل؛ قد يشوبها تعب؛ قد يشوبها أشياء تنقصها، لكن إذا منّ الله عليه، فدخل الجنة فالنعيم كامل.. .4 ومنها: أن الجنات أنواع؛ لقوله تعالى: { جنات }؛ وقد دل على ذلك القرآن، والسنة؛ فقال الله تعالى: {ولمن خاف مقام ربه جنتان} [الرحمن: 46] ، ثم قال تعالى: {ومن دونهما جنتان} [الرحمن: 62] ؛ وقال النبي صلى الله عليه وسلم "جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما؛ وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما(73)" .. .5 ومنها: تمام قدرة الله عزّ وجلّ بخلق هذه الأنهار بغير سبب معلوم، بخلاف أنهار الدنيا؛ لأن أنهار الماء في الدنيا معروفة أسبابها؛ وليس في الدنيا أنهار من لبن، ولا من عسل، ولا من خمر؛ وقد جاء في الأثر(74) أنها أنهار تجري من غير أخدود . يعني لم يحفر لها حفر، ولا يقام لها أعضاد تمنعها؛ بل النهر يجري، ويتصرف فيه الإنسان بما شاء . يوجهه حيث شاء؛ قال ابن القيم رحمه الله في النونية:. (أنهارها في غير أخدود جرت سبحان ممسكها عن الفيضان) 6 . ومن فوائد الآية: أن من تمام نعيم أهل الجنة أنهم يؤتون بالرزق متشابهاً؛ وكلما رزقوا منها من ثمرة رزقاً قالوا: هذا الذي رُزقنا من قبل؛ وهذا من تمام النعيم، والتلذذ بما يأكلون.. .7 ومنها: إثبات الأزواج في الآخرة، وأنه من كمال النعيم؛ وعلى هذا يكون جماع، ولكن بدون الأذى الذي يحصل بجماع نساء الدنيا؛ ولهذا ليس في الجنة مَنِيّ، ولا مَنِيَّة؛ والمنيّ الذي خلق في الدنيا إنما خُلق لبقاء النسل؛ لأن هذا المنيّ مشتمل على المادة التي يتكون منها الجنين، فيخرج بإذن الله تعالى ولداً؛ لكن في الآخرة لا يحتاجون إلى ذلك؛ لأنه لا حاجة لبقاء النسل؛ إذ إن الموجودين سوف يبقون أبد الآبدين لا يفنى منهم أحد؛ ثم هم ليسوا بحاجة إلى أحد يعينهم، ويخدمهم؛ الوِلدان تطوف عليهم بأكواب، وأباريق، وكأس من معين؛ ثم هم لا يحتاجون إلى أحد يصعد الشجرة ليجني ثمارها؛ بل الأمر فيها كما قال الله تعالى: {وجنى الجنتين دان} [الرحمن: 54] ، وقال تعالى: {قطوفها دانية} [الحاقة: 23] ؛ حتى ذكر العلماء أن الرجل ينظر إلى الثمرة في الشجرة، فيحسّ أنه يشتهيها، فيدنو منه الغصن حتى يأخذها؛ ولا تستغرب هذا؛ فنحن في الدنيا نشاهد أن الشيء يدنو من الشيء بغير سلطة محسوسة؛ وما في الآخرة أبلغ، وأبلغ.. .8 ومن فوائد الآية: أن أهل الجنة خالدون فيها أبد الآباد؛ لا يمكن أن تفنى، ولا يمكن أن يفنى من فيها؛ وقد أجمع على ذلك أهل السنة والجماعة.. القـرآن )إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ) (البقرة:26). التفسير: .{ 26 } قوله تعالى: { إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلاً ما } أي لا يمنعه الحياء من أن يضرب مثلاً ولو كان مثلاً حقيراً ما دام يثبت به الحق؛ فالعبرة بالغاية؛ و{ ما } يقولون: إنها نكرة واصفة . أي: مثلاً أيَّ مثل.. قوله تعالى: { بعوضة }: عطف بيان لـ{ ما } أي: مثلاً بعوضة؛ والبعوضة معروفة؛ ويضرب بها المثل في الحقارة؛ وقد ذكروا أن سبب نزول هذه الآية أن المشركين اعترضوا: كيف يضرب الله المثل بالذباب في قوله تبارك وتعالى: {يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له} [الحج: 73] : قالوا: الذباب يذكره الله في مقام المحاجة! فبيَّن الله عزّ وجلّ أنه لا يستحيي من الحق حتى وإن ضرب المثل بالبعوضة، فما فوقها.. قوله تعالى: { فما فوقها }: هل المراد بما فوق . أي فما فوقها في الحقارة، فيكون المعنى أدنى من البعوضة؛ أو فما فوقها في الارتفاع، فيكون المراد ما هو أعلى من البعوضة؟ فأيهما أعلى خلقة: الذباب، أو البعوضة؟ الجواب: الذباب أكبر، وأقوى . لا شك؛ لكن مع ذلك يمكن أن يكون معنى الآية: { فما فوقها } أي فما دونها؛ لأن الفوقية تكون للأدنى، وللأعلى، كما أن الوراء تكون للأمام، وللخلف، كما في قوله تعالى: {وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصباً} [الكهف: 79] أي كان أمامهم.. قوله تعالى: { فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه } أي المثل الذي ضربه الله { الحق من ربهم }، ويؤمنون به، ويرون أن فيه آيات بينات.. قوله تعالى: { وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلاً } لأنه لم يتبين لهم الحق لإعراضهم عنه، وقد قال الله تعالى: {إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين * كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون} (المطففين: 13، 14 ).. وقوله تعالى: { ماذا }: "ما" هنا اسم استفهام مبتدأ؛ و "ذا" اسم موصول بمعنى "الذي" خبر المبتدأ . أي: ما الذي أراد الله بهذا مثلاً، كما قال ابن مالك:. (ومثل ما ذا بعد ما استفهام أو مَن إذا لم تلغ في الكلام) قوله تعالى: { يضل به كثيراً }: الجملة استئنافية لبيان الحكمة من ضرب المثل بالشيء الحقير؛ ولهذا ينبغي الوقوف على قوله تعالى: { ماذا أراد الله بهذا مثلاً }؛ و{ يضل به } أي بالمثل؛ { كثيراً } أي من الناس؛ { ويهدي به كثيراً وما يضل به إلا الفاسقين } أي الخارجين عن طاعة الله؛ والمراد هنا الخروج المطلق الذي هو الكفر؛ لأن الفسق قد يراد به الكفر؛ وقد يراد به ما دونه؛ ففي قوله تبارك وتعالى: { وأما الذين فسقوا فمأواهم النار } [السجدة: 20] : المراد به في هذه الآية الكفر؛ وكذلك هنا.. الفوائد: .1 من فوائد الآية: إثبات الحياء لله عزّ وجلّ؛ لقوله تعالى: ( إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلاً ما ). ووجه الدلالة: أن نفي الاستحياء عن الله في هذه الحال دليل على ثبوته فيما يقابلها؛ وقد جاء ذلك صريحاً في السنة، كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن ربكم حييّ كريم يستحيي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صِفراً"(75) ؛ والحياء الثابت لله ليس كحياء المخلوق؛ لأن حياء المخلوق انكسار لما يَدْهَمُ الإنسان ويعجز عن مقاومته؛ فتجده ينكسر، ولا يتكلم، أو لا يفعل الشيء الذي يُستحيا منه؛ وهو صفة ضعف ونقص إذا حصل في غير محله.. .2 ومن فوائد الآية: أن الله تعالى يضرب الأمثال؛ لأن الأمثال أمور محسوسة يستدل بها على الأمور المعقولة؛ انظر إلى قوله تعالى: {مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتاً} [العنكبوت: 41] ؛ وهذا البيت لا يقيها من حَرّ، ولا برد، ولا مطر، ولا رياح {وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت} [العنكبوت: 41] ؛ وقال تعالى: {والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه} [الرعد: 14] : إنسان بسط كفيه إلى غدير مثلاً، أو نهر يريد أن يصل الماء إلى فمه! هذا لا يمكن؛ هؤلاء الذين يمدون أيديهم إلى الأصنام كالذي يمد يديه إلى النهر ليبلغ فاه؛ فالأمثال لا شك أنها تقرب المعاني إلى الإنسان إما لفهم المعنى؛ وإما لحكمتها، وبيان وجه هذا المثل.. .3 ومن فوائد الآية: أن البعوضة من أحقر المخلوقات؛ لقوله تعالى: { بعوضة فما فوقها }؛ ومع كونها من أحقر المخلوقات فإنها تقض مضاجع الجبابرة؛ وربما تهلك: لو سُلطت على الإنسان لأهلكته وهي هذه الحشرة الصغيرة المهينة.. .4 ومنها: رحمة الله تعالى بعباده حيث يقرر لهم المعاني المعقولة بضرب الأمثال المحسوسة لتتقرر المعاني في عقولهم.. .5 ومنها: أن القياس حجة؛ لأن كل مثل ضربه الله في القرآن، فهو دليل على ثبوت القياس.. .6 ومنها: فضيلة الإيمان، وأن المؤمن لا يمكن أن يعارض ما أنزل الله عزّ وجلّ بعقله؛ لقوله تعالى: {فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم}، ولا يعترضون، ولا يقولون: لِم؟، ولا: كيف؟؛ يقولون: سمعنا، وأطعنا، وصدقنا؛ لأنهم يؤمنون بأن الله عزّ وجلّ له الحكمة البالغة فيما شرع، وفيما قدر.. .7 ومنها: إثبات الربوبية الخاصة؛ لقوله تعالى: { من ربهم }؛ واعلم أن ربوبية الله تعالى تنقسم إلى قسمين: عامة؛ وخاصة؛ فالعامة هي الشاملة لجميع الخلق، وتقتضي التصرف المطلق في العباد؛ والخاصة هي التي تختص بمن أضيفت له، وتقتضي عناية خاصة؛ وقد اجتمعتا في قوله تعالى: {قالوا آمنا برب العالمين * رب موسى وهارون} [الأعراف: 121، 122] : فالأولى ربوبية عامة؛ والثانية خاصة بموسى، وهارون؛ كما أن مقابل ذلك "العبودية" تنقسم إلى عبودية عامة، كما في قوله تبارك وتعالى: {إن كل من في السموات والأرض إلا آتي الرحمن عبداً} [مريم: 93] ؛ وخاصة كما في قوله تعالى: {تبارك الذي نزل الفرقان على عبده} [الفرقان: 1] ؛ والفرق بينهما أن العامة هي الخضوع للأمر الكوني؛ والخاصة هي الخضوع للأمر الشرعي؛ وعلى هذا فالكافر عبد لله بالعبودية العامة؛ والمؤمن عبد لله بالعبودية العامة، والخاصة.. .8ومن فوائد الآية: أن ديدن الكافرين الاعتراض على حكم الله، وعلى حكمة الله؛ لقوله تعالى: { وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلاً }؛ وكل من اعترض ولو على جزء من الشريعة ففيه شبه بالكفار؛ فمثلاً لو قال قائل: لماذا ينتقض الوضوء بأكل لحم الإبل، ولا ينتقض بأكل لحم الخنزير إذا جاز أكله للضرورة مع أن الخنزير خبيث نجس؟ فالجواب: أن هذا اعتراض على حكم الله عزّ وجلّ؛ وهو دليل على نقص الإيمان؛ لأن لازم الإيمان التام التسليم التام لحكم الله عزّ وجلّ . إلا أن يقول ذلك على سبيل الاسترشاد، والاطلاع على الحكمة؛ فهذا لا بأس به.. .9 ومن فوائد الآية: أن لفظ الكثير لا يدل على الأكثر؛ لقوله تعالى: { يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً }؛ فلو أخذنا بظاهر الآية لكان الضالون، والمهتدون سواءً؛ وليس كذلك؛ لأن بني آدم تسعمائة وتسعة وتسعون من الألف ضالون؛ وواحد من الألف مهتدٍ؛ فكلمة: { كثيراً } لا تعني الأكثر؛ وعلى هذا لو قال إنسان: عندي لك دراهم كثيرة، وأعطاه ثلاثة لم يلزمه غيرها؛ لأن "كثير" يطلق على القليل، وعلى الأكثر.. .10 ومن فوائد الآية: أن إضلال من ضل ليس لمجرد المشيئة؛ بل لوجود العلة التي كانت سبباً في إضلال الله العبد؛ لقوله تعالى: { وما يضل به إلا الفاسقين }؛ وهذا كقوله تعالى: {فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم والله لا يهدي القوم الفاسقين} (الصف: 5) .. .11 ومنها: الرد على القدرية الذين قالوا: إن العبد مستقل بعمله . لا علاقة لإرادة الله تعالى به؛ لقوله تعالى: ( وما يضل به إلا الفاسقين ).. القـرآن )الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) (البقرة:27). التفسير: .{ 27 } قوله تعالى: { الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه } أي العهد الذي بينهم وبين الله عزّ وجلّ؛ وهو الإيمان به، وبرسله؛ فإن هذا مأخوذ على كل إنسان؛ إذا جاء رسول بالآيات فإن الواجب على كل إنسان أن يؤمن به؛ فهؤلاء نقضوا عهد الله، ولم يؤمنوا به، وبرسله؛ والنقض حَلّ الشيء بعد إبرامه؛ وقد بين الله عزّ وجلّ هذا العهد في قوله تعالى: {ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيباً وقال الله إني معكم لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضاً حسناً لأكفرن عنكم سيئاتكم ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضل سواء السبيل} [المائدة: 12] .. قوله تعالى: { ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل } أي يقطعون كل ما أمر الله به أن يوصل، كالأرحام، ونصرة الرسل، ونصرة الحق، والدفاع عن الحق.. قوله تعالى: { ويفسدون في الأرض } أي يسعون لما به فساد الأرض فساداً معنوياً كالمعاصي؛ وفساداً حسياً كتخريب الديار، وقتل الأنفس.. قوله تعالى: { أولئك هم الخاسرون }: جملة اسمية مؤكَّدة بضمير الفصل: { هم }؛ لأن ضمير الفصل له ثلاث فوائد؛ الفائدة الأولى: التوكيد؛ والفائدة الثانية : الحصر؛ والفائدة الثالثة: إزالة اللبس بين الصفة، والخبر؛ مثال ذلك: تقول: "زيد الفاضل": كلمة "الفاضل" يحتمل أن تكون خبراً؛ ويحتمل أن تكون وصفاً، فتقول: "زيد الفاضل محبوب"؛ إذا قلت: "زيد الفاضل محبوب" تعين أن تكون صفة؛ وإذا قلت: "زيد الفاضل" يحتمل أن تكون صفة، والخبر لم يأت بعد؛ ويحتمل أن تكون خبراً؛ فإذا قلت: "زيد هو الفاضل" تعين أن تكون خبراً لوجود ضمير الفصل؛ ولهذا سُمي ضمير فصل . لفصله بين الوصف والخبر؛ الفائدة الثانية: التوكيد ؛ إذا قلت: "زيد هو الفاضل" كان أبلغ من قولك: "زيد الفاضل"؛ و الفائدة الثالثة: الحصر ؛ فإنك إذا قلت: "زيد هو الفاضل" فقد حصرت هذا الوصف فيه دون غيره؛ وضمير الفصل ليس له محل من الإعراب، كما في قوله تعالى: {لعلنا نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين} [الشعراء: 40] ؛ ولو كان له محل من الإعراب لكانت: "هم الغالبون"؛ وربما يضاف إليه اللام، كما في قوله تعالى: {إن هذا لهو القصص الحق} [آل عمران: 62] ؛ فيكون في إضافة اللام إليه زيادة توكيد.. وقوله تعالى: { الخاسرون }؛ "الخاسر" هو الذي فاته الربح؛ وذلك؛ لأن هؤلاء فاتهم الربح الذي ربحه من لم ينقض عهد الله من بعد ميثاقه، ولم يقطع ما أمر الله به أن يوصل.. الفوائد: .1 من فوائد الآية: أن نقض عهد الله من الفسق؛ لقوله تعالى: { الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه } فكلما رأيت شخصاً قد فرط في واجب، أو فعل محرماً فإن هذا نقض للعهد من بعد الميثاق.. .2 ومنها: التحذير من نقض عهد الله من بعد ميثاقه؛ لأن ذلك يكون سبباً للفسق.. .3 ومنها: التحذير من قطع ما أمر الله به أن يوصل من الأرحام . أي الأقارب . وغيرهم؛ لأن الله ذكر ذلك في مقام الذم؛ وقطع الأرحام من كبائر الذنوب؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم لا يدخل الجنة قاطع"(76)، يعني قاطع رحم.. .4 ومنها: أن المعاصي والفسوق سبب للفساد في الأرض، كما قال تعالى: {ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون} [الروم: 41] ؛ ولهذا إذا قحط المطر، وأجدبت الأرض، ورجع الناس إلى ربهم، وأقاموا صلاة الاستسقاء، وتضرعوا إليه سبحانه وتعالى، وتابوا إليه، أغاثهم الله عزّ وجلّ؛ وقد قال نوح عليه السلام لقومه: {فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفاراً * يرسل السماء عليكم مدراراً * ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهاراً} [نوح: 10 . 12] .. فإن قال قائل: أليس يوجد في الأرض من هم صلحاء قائمون بأمر الله مؤدون لحقوق عباد الله ومع ذلك نجد الفساد في الأرض؟ فالجواب: أن هذا الإيراد أوردته أم المؤمنين زينب رضي الله عنها على النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: "ويل للعرب من شر قد اقترب" ؛ قالت: أنهلك وفينا الصالحون؟! قال صلى الله عليه وسلم: "نعم، إذا كثر الخبث"(77) ؛ وقوله صلى الله عليه وسلم "إذا كثر الخبث" يشمل معنيين:. أحدهما: أن يكثر الخبث في العاملين بحيث يكون عامة الناس على هذا الوصف.. و الثاني: أن يكثر فعل الخبث بأنواعه من فئة قليلة، لكن لا تقوم الفئة الصالحة بإنكاره؛ فمثلاً إذا كثر الكفار في أرض كان ذلك سبباً للشر، والبلاء؛ لأن الكفار نجس؛ فكثرتهم كثرة خبث؛ وإذا كثرت أفعال المعاصي كان ذلك سبباً أيضاً للشر، والبلاء؛ لأن المعاصي خبث.. .5ومن فوائد الآية: أن هؤلاء الذين اعترضوا على الله فيما ضرب من الأمثال، ونقضوا عهده، وقطعوا ما أمر الله به أن يوصل، وأفسدوا في الأرض هم الخاسرون . وإن ظنوا أنهم يحسنون صنعاً.. القـرآن )كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (البقرة:28). التفسير: .{ 28 } قوله تعالى: { كيف تكفرون بالله... }: الاستفهام هنا للإنكار، والتعجيب؛ والكفر بالله هو الإنكار، والتكذيب مأخوذ من: كَفَر الشيء: إذا ستره؛ ومنه الكُفُرّى: لغلاف طلع النخل؛ والمعنى: كيف تجحدونه، وتكذبون به، وتستكبرون عن عبادته، وتنكرون البعث مع أنكم تعلمون نشأتكم؟!.. قوله تعالى: { وكنتم أمواتاً }: وذلك: قبل نفخ الروح في الإنسان هو ميت؛ جماد؛ { فأحياكم } أي بنفخ الروح؛ { ثم يميتكم } ثانية؛ وذلك بعد أن يخرج إلى الدنيا؛ { ثم يحييكم } الحياة الآخرة التي لا موت بعدها؛ { ثم إليه ترجعون }: بعد الإحياء الثاني ترجعون إلى الله، فينبئكم بأعمالكم، ويجازيكم عليها.. الفوائد: .1 من فوائد الآية: شدة الإنكار حتى يصل إلى حد التعجب ممن يكفر وهو يعلم حاله، ومآله.. .2 ومنها: أن الموت يطلق على ما لا روح فيه . وإن لم تسبقه حياة .؛ يعني: لا يشترط للوصف بالموت تقدم الحياة؛ لقوله تعالى: { كنتم أمواتاً فأحياكم }؛ أما ظن بعض الناس أنه لا يقال: "ميت" إلا لمن سبقت حياته؛ فهذا ليس بصحيح؛ بل إن الله تعالى أطلق وصف الموت على الجمادات؛ قال تعالى في الأصنام: {أموات غير أحياء} [النحل: 21] .. .3 ومنها: أن الجنين لو خرج قبل أن تنفخ فيه الروح فإنه لا يثبت له حكم الحي؛ ولهذا لا يُغَسَّل، ولا يكفن، ولا يصلي عليه، ولا يرث، ولا يورث؛ لأنه ميت جماد لا يستحق شيئاً مما يستحقه الأحياء؛ وإنما يدفن في أيّ مكان في المقبرة، أو غيرها.. .4 ومنها: تمام قدرة الله عزّ وجلّ؛ فإن هذا الجسد الميت ينفخ الله فيه الروح، فيحيى، ويكون إنساناً يتحرك، ويتكلم، ويقوم، ويقعد، ويفعل ما أراد الله عزّ وجلّ.. .5 ومنها: إثبات البعث؛ لقوله تعالى: { ثم يحييكم ثم إليه ترجعون }؛ والبعث أنكره من أنكره من الناس، واستبعده، وقال: {من يحيي العظام وهي رميم} [يس: 78] ؛ فأقام الله . تبارك وتعالى . على إمكان ذلك ثمانية أدلة في آخر سورة "يس":. الدليل الأول: قوله تعالى: {قل يحييها الذي أنشأها أول مرة} [يس: 79] : هذا دليل على أنه يمكن أن يحيي العظام وهي رميم؛ وقوله تعالى: {أنشأها أول مرة} دليل قاطع، وبرهان جليّ على إمكان إعادته كما قال الله تعالى: {وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه} [الروم: 27] .. الدليل الثاني: قوله تعالى: {وهو بكل خلق عليم} [يس: 79] يعني: كيف يعجز عن إعادتها وهو سبحانه وتعالى بكل خلق عليم: يعلم كيف يخلق الأشياء، وكيف يكونها؛ فلا يعجز عن إعادة الخلق.. الدليل الثالث: قوله تعالى: {الذي جعل لكم من الشجر الأخضر ناراً فإذا أنتم منه توقدون } [يس: 80] : الشجر الأخضر فيه البرودة، وفيه الرطوبة؛ والنار فيها الحرارة، واليبوسة؛ هذه النار الحارة اليابسة تخرج من شجر بارد رطب؛ وكان الناس فيما سبق يضربون أغصاناً من أشجار معينة بالزند؛ فإذا ضربوها انقدحت النار، ويكون عندهم شيء قابل للاشتعال بسرعة؛ ولهذا قال تعالى: {فإذا أنتم منه توقدون} [يس: 80] تحقيقاً لذلك.. ووجه الدلالة: أن القادر على إخراج النار الحارة اليابسة من الشجر الأخضر مع ما بينهما من تضاد قادر على إحياء العظام وهي رميم.. الدليل الرابع: قوله تعالى: {أو ليس الذي خلق السموات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى} (يس: 81). ووجه الدلالة: أن خلْق السموات والأرض أكبر من خلق الناس؛ والقادر على الأكبر قادر على ما دونه.. الدليل الخامس: قوله تعالى: {وهو الخلَّاق العليم} [يس: 81] ؛ فـ {الخلاق } صفته، ووصفه الدائم؛ وإذا كان خلَّاقاً، ووصفه الدائم هو الخلق فلن يعجز عن إحياء العظام وهي رميم.. الدليل السادس: قوله تعالى: {إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون} [يس: 82] : إذا أراد شيئاً مهما كان؛ و {شيئاً} : نكرة في سياق الشرط، فتكون للعموم؛ {أمره} أي شأنه في ذلك أن يقول له كن فيكون؛ أو {أمره} الذي هو واحد "أوامر"؛ ويكون المعنى: إنما أمره أن يقول: "كن"، فيعيده مرة أخرى.. ووجه الدلالة: أن الله سبحانه وتعالى لا يستعصي عليه شيء أراده.. الدليل السابع: قوله تعالى: {فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء} : كل شيء فهو مملوك لله عزّ وجلّ: الموجود يعدمه؛ والمعدوم يوجده؛ لأنه رب كل شيء.. ووجه الدلالة: أن الله سبحانه وتعالى نزه نفسه؛ وهذا يشمل تنزيهه عن العجز عن إحياء العظام وهي رميم الدليل الثامن: قوله تعالى: ( وإليه ترجعون ).. ووجه الدلالة: أنه ليس من الحكمة أن يخلق الله هذه الخليقة، ويأمرها، وينهاها، ويرسل إليها الرسل، ويحصل ما يحصل من القتال بين المؤمن، والكافر، ثم يكون الأمر هكذا يذهب سدًى؛ بل لابد من الرجوع؛ وهذا دليل عقلي.. فهذه ثمانية أدلة على قدرة الله على إحياء العظام وهي رميم جمعها الله عزّ وجلّ في موضع واحد؛ وهناك أدلة أخرى في مواضع كثيرة في القرآن؛ وكذلك في السنة.. .6ومن فوائد الآية: أن الخلق مآلهم، ورجوعهم إلى الله عزّ وجلّ.. القـرآن )هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (البقرة:29). التفسير: لما ذكر جلّ وعلا أنه قادر على الإحياء والإماتة، بيَّن منَّته على العباد بأنه خلق لهم ما في الأرض جميعاً .{ 29 } قوله تعالى: { هو الذي خلق لكم } أي أوجد عن علم وتقدير على ما اقتضته حكمته جلّ وعلا، وعلمه؛ و{ لكم }: اللام هنا لها معنيان؛ المعنى الأول: الإباحة، كما تقول: "أبحت لك"؛ والمعنى الثاني: التعليل: أي خلق لأجلكم.. قوله تعالى: { ما في الأرض جميعاً }؛ { ما } اسم موصول تعُمّ: كل ما في الأرض فهو مخلوق لنا من الأشجار، والزروع، والأنهار، والجبال... كل شيء.. قوله تعالى: { ثم } أي بعد أن خلق لنا ما في الأرض جميعاً { استوى إلى السماء } أي علا إلى السماء؛ هذا ما فسرها به ابن جرير . رحمه الله؛ وقيل: أي قصد إليها؛ وهذا ما اختاره ابن كثير . رحمه الله؛ فللعلماء في تفسير { استوى إلى } قولان: الأول: أن الاستواء هنا بمعنى القصد؛ وإذا كان القصد تاماً قيل: استوى؛ لأن الاستواء كله يدل على الكمال، كما قال تعالى: {ولما بلغ أشده واستوى} [القصص: 14] أي كمل؛ فمن نظر إلى أن هذا الفعل عُدّي بـ { إلى } قال: إن { استوى } هنا ضُمِّن معنى قصد؛ ومن نظر إلى أن الاستواء لا يكون إلا في علوّ جعل { إلى } بمعنى "على"؛ لكن هذا ضعيف؛ لأن الله تعالى لم يستوِ على السماء أبداً؛ وإنما استوى على العرش؛ فالصواب ما ذهب إليه ابن كثير رحمه الله وهو أن الاستواء هنا بمعنى القصد التام، والإرادة الجازمة؛ و{ السماء } أي العلوّ؛ وكانت السماء دخاناً . أي مثل الدخان؛ { فسواهن سبع سموات } أي جعلها سوية طباقاً غير متناثرة قوية متينة.. قوله تعالى: { وهو بكل شيء عليم }؛ ومن علمه عزّ وجلّ أنه علم كيف يخلق هذه السماء.. الفوائد: .1 من فوائد الآية: منّة الله تعالى على عباده بأن خلق لهم ما في الأرض جميعاً؛ فكل شيء في الأرض فإنه لنا . والحمد لله . والعجب أن من الناس من سخر نفسه لما سخره الله له؛ فخدم الدنيا، ولم تخدمه؛ وصار أكبر همه الدنيا: جمع المال، وتحصيل الجاه، وما أشبه ذلك.. .2 ومنها: أن الأصل في كل ما في الأرض الحلّ . من أشجار، ومياه، وثمار، وحيوان، وغير ذلك؛ وهذه قاعدة عظيمة؛ وبناءً على هذا لو أن إنساناً أكل شيئاً من الأشجار، فقال له بعض الناس: "هذا حرام"؛ فالمحرِّم يطالَب بالدليل؛ ولو أن إنساناً وجد طائراً يطير، فرماه، وأصابه، ومات، وأكله، فقال له الآخر: "هذا حرام"؛ فالمحرِّم يطالب بالدليل؛ ولهذا لا يَحْرم شيء في الأرض إلا ما قام عليه الدليل.. .3 ومن فوائد الآية: تأكيد هذا العموم بقوله تعالى: { جميعاً } مع أن { ما } موصولة تفيد العموم؛ لكنه سبحانه وتعالى أكده حتى لا يتوهم واهم بأن شيئاً من أفراد هذا العموم قد خرج من الأصل.. .4 ومنها: إثبات الأفعال لله عزّ وجلّ . أي أنه يفعل ما يشاء؛ لقوله تعالى: { ثم استوى إلى السماء }: و{ استوى } فعل؛ فهو جلّ وعلا يفعل ما يشاء، ويقوم به من الأفعال ما لا يحصيه إلا الله، كما أنه يقوم به من الأقوال ما لا يحصيه إلا الله.. .5 ومنها: أن السموات سبع؛ لقوله تعالى: ( سبع سموات ). .6 ومنها: كمال خلق السموات؛ لقوله تعالى: ( فسواهن ).. .7ومنها: إثبات عموم علم الله؛ لقوله تعالى: ( وهو بكل شيء عليم ). .8ومنها: أن نشكر الله على هذه النعمة . وهي أنه تعالى خلق لنا ما في الأرض جميعاً؛ لأن الله لم يبينها لنا لمجرد الخبر؛ ولكن لنعرف نعمته بذلك، فنشكره عليها.. .9 ومنها: أن نخشى، ونخاف؛ لأن الله تعالى بكل شيء عليم؛ فإذا كان الله عليماً بكل شيء . حتى ما نخفي في صدورنا . أوجب لنا ذلك أن نحترس مما يغضب الله عزّ وجلّ سواء في أفعالنا، أو في أقوالنا، أو في ضمائر قلوبنا.. القـرآن )وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ) (البقرة:30). التفسير: .{ 30 } قوله تعالى: { وإذ قال ربك }: قال المعربون: { إذ } مفعول لفعل محذوف؛ والتقدير: اذكر إذ قال؛ والخطاب في قوله تعالى: { ربك } للنبي صلى الله عليه وسلم؛ ولما كان الخطاب له صارت الربوبية هنا من أقسام الربوبية الخاصة.. قوله تعالى: { للملائكة }: اللام للتعدية . أي تعدية القول للمقول له؛ و "الملائكة" جمع "مَلْئَك"، وأصله "مألك"؛ لأنه مشتق من الأَلُوكة . وهي الرسالة؛ لكن صار فيها إعلال بالنقل . أي نقل حرف مكان حرف آخر؛ مثل أشياء أصلها: "شيئاء"؛ و "الملائكة" عالم غيبي خلقهم الله تعالى من نور، وجعل لهم وظائف، وأعمالاً مختلفة؛ فمنهم الموكل بالوحي كجبريل؛ وبالقطر، والنبات كميكائيل؛ وبالنفخ في الصور كإسرافيل؛ وبأرواح بني أدم كملَك الموت... إلى غير ذلك من الوظائف، والأعمال.. قوله تعالى: { إني جاعل في الأرض خليفة }؛ خليفة يخلف الله؛ أو يخلف من سبقه؛ أو يخلف بعضهم بعضاً يتناسلون . على أقوال:. أما الأول: فيحتمل أن الله أراد من هذه الخليقة . آدم، وبنيه . أن يجعل منهم الخلفاء يخلفون الله تعالى في عباده بإبلاغ شريعته، والدعوة إليها، والحكم بين عباده؛ لا عن جهل بالله سبحانه وتعالى . وحاشاه من ذلك، ولا عن عجز؛ ولكنه يمنّ على من يشاء من عباده، كما قال تعالى: {يا داوود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس} [ص: 26] : هو خليفة يخلف الله عزّ وجلّ في الحكم بين عباده.. والثاني: أنهم يخلفون من سبقهم؛ لأن الأرض كانت معمورة قبل آدم؛ وعلى هذا الاحتمال تكون { خليفة } هنا بمعنى الفاعل؛ وعلى الأول بمعنى المفعول.. والثالث: أنه يخلف بعضهم بعضاً؛ بمعنى: أنهم يتناسلون: هذا يموت، وهذا يحيى؛ وعلى هذا التفسير تكون { خليفة } صالحة لاسم الفاعل، واسم المفعول.. كل هذا محتمل؛ وكل هذا واقع؛ لكن قول الملائكة: { أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء } يرجح أنهم خليفة لمن سبقهم، وأنه كان على الأرض مخلوقات قبل ذلك تسفك الدماء، وتفسد فيها، فسألت الملائكة ربها عزّ وجلّ: { أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء } كما فعل من قبلهم . واستفهام الملائكة للاستطلاع، والاستعلام، وليس للاعتراض؛ قال تعالى: { إني أعلم ما لا تعلمون } يعني: وستتغير الحال؛ ولا تكون كالتي سبقت.. قوله تعالى: { ونحن نسبح } أي نُنَزِّه؛ والذي يُنَزَّه الله عنه شيئان؛ أولاً: النقص؛ والثاني: النقص في كماله؛ وزد ثالثاً إن شئت: مماثلة المخلوقين؛ كل هذا يُنَزَّه الله عنه؛ النقص: مطلقاً؛ يعني أن كل صفة نقص لا يمكن أن يوصف الله بها أبداً . لا وصفاً دائماً، ولا خبراً؛ والنقص في كماله: فلا يمكن أن يكون في كماله نقص؛ قدرته: لا يمكن أن يعتريها عجز؛ قوته: لا يمكن أن يعتريها ضعف؛ علمه: لا يمكن أن يعتريه نسيان... وهلم جراً؛ ولهذا قال عزّ وجلّ: {ولقد خلقنا السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب} [ق: 38] أي تعب، وإعياء؛ فهو عزّ وجلّ كامل الصفات لا يمكن أن يعتري كماله نقص؛ ومماثلة المخلوقين: هذه إن شئنا أفردناها بالذكر؛ لأن الله تعالى أفردها بالذكر، فقال: {ليس كمثله شيء} [الشورى: 11] . وقال تعالى: {وله المثل الأعلى} ، وقال تعالى: { فلا تضربوا لله الأمثال } [النحل: 74] ؛ وإن شئنا جعلناها داخلة في القسم الأول . النقص . لأن تمثيل الخالق بالمخلوق يعني النقص؛ بل المفاضلة بين الكامل والناقص تجعل الكامل ناقصاً، كما قال القائل:. (ألم تر أن السيف ينقص قدره إذا قيل إن السيف أمضى من العصا) لو قلت: فلان عنده سيف أمضى من العصا تبين أن السيف هذا رديء، وليس بشيء؛ فربما نفرد هذا القسم الثالث، وربما ندخله في القسم الأول؛ على كل حال التسبيح ينبغي لنا . عندما نقول: "سبحان الله"، أو: "أسبح الله"، أو ما أشبه ذلك . أن نستحضر هذه المعاني..)وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ...
قوله تعالى: و{ بحمدك }: قال العلماء: الباء هنا للمصاحبة . أي تسبيحاً مصحوباً بالحمد مقروناً به؛ فتكون الجملة متضمنة لتنزيه الله عن النقص، وإثبات الكمال لله بالحمد؛ لأن الحمد: وصف المحمود بالكمال محبة، وتعظيماً؛ فإن وصفتَ مرة أخرى بكمال فسَمِّه ثناءً؛ والدليل على هذا ما جاء في الحديث الصحيح أن الله تعالى قال: "قَسَمْتُ الصلاة بيني وبين عبدي نصفين؛ فإذ قال: {الحمد لله رب العالمين} قال تعالى: حمدني عبدي؛ وإذا قال: {الرحمن الرحيم} قال تعالى: أثنى عليّ عبدي"(78) ؛ لأن نفي النقص يكون قبل إثبات الكمال من أجل أن يَرِد الكمال على محل خالٍ من النقص..
قوله تعالى: { ونقدس }: "التقديس" معناه التطهير؛ وهو أمر زائد على "التنْزيه"؛ لأن "التنزيه" تبرئة، وتخلية؛ و"التطهير" أمر زائد؛ ولهذا نقول في دعاء الاستفتاح: "اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب؛ اللهم نقني من خطاياي كما ينقَّى الثوب الأبيض من الدنس؛ اللهم اغسلني من خطاياي بالماء، والثلج، والبَرد"(79) : فالأول: طلبُ المباعدة؛ والثاني: طلب التنقية . يعني: التخلية بعد المباعدة؛ والثالث: طلب الغسل بعد التنقية حتى يزول الأثر بالكلية؛ فيجمع الإنسان بين تنْزيه الله عزّ وجلّ عن كل عيب ونقص، وتطهيره . أنه لا أثر إطلاقاً لما يمكن أن يعلق بالذهن من نقص..
قوله تعالى: { لك } اللام هنا للاختصاص؛ فتفيد الإخلاص؛ وهي أيضاً للاستحقاق؛ لأن الله . جلّ وعلا . أهل لأن يقدس..
أجابهم الله تعالى: { قال إني أعلم ما لا تعلمون } أي من أمر هذه الخليفة التي سيكون منها النبيون، والصدِّيقون، والشهداء، والصالحون..
الفوائد:
.1 من فوائد الآية: إثبات القول لله عزّ وجلّ، وأنه بحرف، وصوت؛ وهذا مذهب السلف الصالح من الصحابة، والتابعين، وأئمة الهدى من بعدهم؛ يؤخذ كونه بحرف من قوله تعالى: { إني جاعل في الأرض خليفة }؛ لأن هذه حروف؛ ويؤخذ كونه بصوت من أنه خاطب الملائكة بما يسمعونه؛ وإثبات القول لله على هذا الوجه من كماله سبحانه وتعالى؛ بل هو من أعظم صفات الكمال: أن يكون عزّ وجلّ متكلماً بما شاء كوناً، وشرعاً؛ متى شاء؛ وكيف شاء؛ فكل ما يحدث في الكون فهو كائن بكلمة { كن }؛ لقوله تعالى: {إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون} ؛ وكل الكون مراد له قدراً؛ وأما قوله الشرعي: فهو وحيه الذي أوحاه إلى رسله، وأنبيائه..
.2 ومن فوائد الآية: أن الملائكة ذوو عقول؛ ووجهه أن الله تعالى وجه إليهم الخطاب، وأجابوا؛ ولا يمكن أن يوجه الخطاب إلا إلى من يعقله؛ ولا يمكن أن يجيبه إلا من يعقل الكلامَ، والجوابَ عليه؛ وإنما نبَّهْنا على ذلك؛ لأن بعض أهل الزيغ قالوا: إن الملائكة ليسوا عقلاء..
.3 ومنها: إثبات الأفعال لله عزّ وجلّ أي أنه تعالى يفعل ما شاء متى شاء كيف شاء؛ ومن أهل البدع من ينكر ذلك زعماً منه أن الأفعال حوادث؛ والحوادث لا تقوم إلا بحادث فلا يجيء، ولا يستوي على العرش، ولا ينْزل، ولا يتكلم، ولا يضحك، ولا يفرح، ولا يعجب؛ وهذه دعوى فاسدة من وجوه:.
الأول: أنها في مقابلة نص؛ وما كان في مقابلة نص فهو مردود على صاحبه..
الثاني: أنها دعوى غير مسلَّمة؛ فإن الحوادث قد تقوم بالأول الذي ليس قبله شيء..
الثالث: أن كونه تعالى فعالاً لما يريد من كماله، وتمام صفاته؛ لأن من لا يفعل إما أن يكون غير عالم، ولا مريد؛ وإما أن يكون عاجزاً؛ وكلاهما وصفان ممتنعان عن الله سبحانه وتعالى..
فتَعَجَّبْ كيف أُتي هؤلاء من حيث ظنوا أنه تنزيه لله عن النقص؛ وهو في الحقيقة غاية النقص!!! فاحمد ربك على العافية، واسأله أن يعافي هؤلاء مما ابتلاهم به من سفه في العقول، وتحريف للمنقول..
.4 ومن فوائد الآية: أن بني آدم يخلف بعضهم بعضاً . على أحد الأقوال في معنى { خليفة }؛ وهذا هو الواقع؛ فتجد من له مائة مع من له سنة واحدة، وما بينهما؛ وهذا من حكمة الله عزّ وجلّ؛ لأن الناس لو من وُلِد بقي لضاقت الأرض بما رحبت، ولما استقامت الأحوال، ولا حصلت الرحمة للصغار، ولا الولاية عليهم إلى غير ذلك من المصالح العظيمة..
.5 ومنها: قيام الملائكة بعبادة الله عزّ وجلّ؛ لقوله تعالى: ( ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك )
.6 ومنها: كراهة الملائكة للإفساد في الأرض؛ لقولهم: ( أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ).
.7 ومنها: أن وصف الإنسان نفسه بما فيه من الخير لا بأس به إذا كان المقصود مجرد الخبر دون الفخر؛ لقولهم: { ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك }؛ ويؤيد ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: "أنا سيد ولد آدم ولا فخر"(80) ؛ وأما إذا كان المقصود الفخر، وتزكية النفس بهذا فلا يجوز؛ لقوله تعالى: { فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى } ..
.8 ومنها: شدة تعظيم الملائكة لله عزّ وجلّ، حيث قالوا: (ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك).
القـرآن
)وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (البقرة:31).
)قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) (البقرة:32).
التفسير:
.{ 31 } قوله تعالى: { وعلم آدم }: الفاعل هو الله عزّ وجلّ؛ و{ آدم } هو أبو البشر؛ و{ الأسماء } جمع "اسم"؛ و "أل" فيها للعموم بدليل قوله تعالى: { كلها }؛ وهل هذه الأسماء أسماء لمسميات حاضرة؛ أو لكل الأسماء؟ للعلماء في ذلك قولان؛ والأظهر أنها أسماء لمسميات حاضرة بدليل قوله تعالى: { ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء }؛ وهذه الأسماء . والله أعلم . ما يحتاج إليها آدم، وبنوه في ذلك الوقت..
قوله تعالى: { ثم عرضهم } أي عرض المسميات؛ بدليل قوله تعالى: { أنبئوني بأسماء هؤلاء }، ولأن الميم علامة جمع العاقل؛ فلم تعلم الملائكة أسماء تلك المسميات؛ بل كان جوابهم: { سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا }، ثم قال تعالى: { يا آدم أنبئهم بأسمائهم }: وأراد عزّ وجلّ بذلك أن يعرف الملائكة أنهم ليسوا محيطين بكل شيء علماً، وأنهم يفوتهم أشياء يفضلهم آدم فيها..
قوله تعالى: { أنبئوني }: هل هو فعل أمر يراد به قيام المأمور بما وُجّه إليه، أو هو تحَدٍّ؟
الجواب: الظاهر الثاني: أنه تحدٍّ؛ بدليل قوله تعالى: { إن كنتم صادقين } أن لديكم علماً بالأشياء فأنبئوني بأسماء هؤلاء؛ لأن الملائكة قالت فيما سبق: {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك} ، فقال تعالى: { إني أعلم ما لا تعلمون }، ثم امتحنهم الله بهذا..
.{ 32 } قوله تعالى: { سبحانك } أي تنزيهاً لك عما لا يليق بجلالك؛ فأنت يا ربنا لم تفعل هذا إلا لحكمة بالغة..
قوله تعالى: { لا علم لنا إلا ما علمتنا }: اعتراف من الملائكة أنهم ليسوا يعلمون إلا ما علمهم الله، هذا مع أنهم ملائكة مقرَّبون إلى الله عزّ وجلّ..
قوله تعالى: { إنك أنت العليم الحكيم }: هذه الجملة مؤكدة بـ "إن" ، وضمير الفصل: { أنت }؛ والمعنى: إنك ذو العلم الواسع الشامل المحيط بالماضي والحاضر، والمستقبل؛ و{ الحكيم } يعني ذا الحكمة، والحكم؛ لأن الحكيم مشتقة من الحكم، والحكمة؛ فهذان اسمان من أسماء الله عزّ وجلّ: { العليم }، و(الحكيم).
الفوائد:
.1 من فوائد الآيتين: بيان أن الله تعالى قد يمنّ على بعض عباده بعلم لا يعلمه الآخرون؛ وجهه: أن الله علم آدم أسماء مسميات كانت حاضرة، والملائكة تجهل ذلك..
.2 ومنها: أن اللغات توقيفية . وليست تجريبية؛ "توقيفية" بمعنى أن الله هو الذي علم الناس إياها؛ ولولا تعليم الله الناسَ إياها ما فهموها؛ وقيل: إنها "تجريبية" بمعنى أن الناس كوَّنوا هذه الحروف والأصوات من التجارب، فصار الإنسان أولاً أبكم لا يدري ماذا يتكلم، لكن يسمع صوت الرعد، يسمع حفيف الأشجار، يسمع صوت الماء وهو يسيح على الأرض، وما أشبه ذلك؛ فاتخذ مما يسمع أصواتاً تدل على مراده؛ ولكن هذا غير صحيح؛ والصواب أن اللغات مبدؤها توقيفي؛ وكثير منها كسبي تجريبي يعرفه الناس من مجريات الأحداث؛ ولذلك تجد أن أشياء تحدث ليس لها أسماء من قبل، ثم يحدث الناس لها أسماء؛ إما من التجارب، أو غير ذلك من الأشياء..
.3 ومن فوائد الآيتين: جواز امتحان الإنسان بما يدعي أنه مُجيد فيه..
.4 ومنها: جواز التحدي بالعبارات التي يكون فيها شيء من الشدة؛ لقوله تعالى: { أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين}..
.5 ومنها: أن الملائكة تتكلم؛ لقوله تعالى: ( أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين * قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم )..
.6 ومنها: اعتراف الملائكة . عليهم الصلاة والسلام . بأنهم لا علم لهم إلا ما علمهم الله عزّ وجلّ..
ويتفرع على ذلك أنه ينبغي للإنسان أن يعرف قدر نفسه، فلا يدَّعي علم ما لم يعلم..
.7 ومنها: شدة تعظيم الملائكة لله عزّ وجلّ، حيث اعترفوا بكماله، وتنزيهه عن الجهل بقولهم: {سبحانك}؛ واعترفوا لأنفسهم بأنهم لا علم عندهم؛ واعترفوا لله بالفضل في قولهم: { إلا ما علمتنا }..
.8 ومنها: إثبات اسمين من أسماء الله؛ وهما { العليم }، و{ الحكيم }؛ فـ { العليم }: ذو العلم الواسع المحيط بكل شيء جملة وتفصيلاً لما كان، وما يكون من أفعاله، وأفعال خلقه..
و{ الحكيم }: ذو الحكمة البالغة التي تعجز عن إدراكها عقول العقلاء وإن كانت قد تدرك شيئاً منها؛ و "الحكمة" هي وضع الشيء في موضعه اللائق به؛ وتكون في شرع الله، وفي قدر الله؛ أما الحكمة في شرعه فإن جميع الشرائع مطابقة للحكمة في زمانها، ومكانها، وأحوال أممها؛ فما أمر الله بشيء، فقال العقل الصريح: "ليته لم يأمر به"؛ وما نهى عن شيء، فقال: "ليته لم ينهَ عنه"؛ وأما الحكمة في قدره فما من شيء يقدره الله إلا وهو مشتمل على الحكمة إما عامة؛ وإما خاصة..
واعلم أن الحكمة تكون في نفس الشيء: فوقوعه على الوجه الذي حكم الله تعالى به في غاية الحكمة؛ وتكون في الغاية المقصودة منه: فأحكام الله الكونية، والشرعية كلها لغايات محمودة قد تكون معلومة لنا، وقد تكون مجهولة؛ والأمثلة على هذا كثيرة واضحة..
ولـ { الحكيم } معنًى آخر؛ وهو ذو الحكم، والسلطان التام؛ فلا معقب لحكمه؛ وحكمه تعالى نوعان: شرعي، وقدري؛ فأما الشرعي فوحيه الذي جاءت به رسله؛ ومنه قوله تعالى: { أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون } ، وقوله تعالى في سورة الممتحنة: { ذلكم حكم الله يحكم بينكم والله عليم حكيم } ؛ وأما حكمه القدري فهو ما قضى به قدراً على عباده من شدة، ورخاء، وحزن، وسرور، وغير ذلك؛ ومنه قوله تعالى عن أحد إخوة يوسف: { فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي أو يحكم الله لي وهو خير الحاكمين } (يوسف: 80).
والفرق بين الحكم الشرعي، والكوني: أن الشرعي لا يلزم وقوعه ممن حُكِم عليه به؛ ولهذا يكون العصاة من بني آدم، وغيرهم المخالفون لحكم الله الشرعي؛ وأما الحكم القدري فلا معارض له، ولا يخرج أحد عنه؛ بل هو نافذ في عباده على كل حال..
القـرآن
)قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) (البقرة:33).
التفسير:
.{ 33 } قوله تعالى: { قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم }؛ القائل هو الله عزّ وجلّ؛ و{ آدم } هو أبو البشر؛ والظاهر أن هذا اسم له، وليس وصفاً؛ وهو مشتق لغة من الأُدْمة؛ وهي لون بين البياض الخالص والسواد
قوله تعالى: { فلما أنبأهم بأسمائهم } أي أنبأ الملائكة؛ { قال } أي قال الله؛ { ألم أقل لكم }: الاستفهام هنا للتقرير؛ والمعنى: قلت لكم، كقوله تعالى: {ألم نشرح لك صدرك} : والمعنى: قد شرحنا لك صدرك؛ { إني أعلم غيب السموات والأرض } أي ما غاب فيهما . وهو نوعان: نسبي؛ وعام؛ فأما النسبي فهو ما غاب عن بعض الخلق دون بعض؛ وأما العام فهو ما غاب عن الخلق عموماً..
قوله تعالى: { وأعلم ما تبدون } أي ما تظهرون؛ { وما كنتم تكتمون } أي تخفون..
الفوائد:
.1 من فوائد الآية: إثبات القول لله عزّ وجلّ لقوله تعالى: { يا آدم }؛ وأنه بحرف، وصوت مسموع؛ لأن آدم سمعه، وفهمه، فأنبأ الملائكة به؛ وهذا الذي عليه أهل السنة والجماعة، والسلف الصالح . أن الله يتكلم بكلام مسموع مترتب بعضه سابق لبعض..
.2 ومنها: أن آدم . عليه الصلاة والسلام . امتثل، وأطاع، ولم يتوقف؛ لقوله تعالى: { فلما أنبأهم }؛ ولهذا طوى ذكر قوله: "فأنبأهم" إشارة إلى أنه بادر، وأنبأ الملائكة..
.3 ومنها: جواز تقرير المخاطب بما لا يمكنه دفعه؛ والتقرير لا يكون إلا هكذا . أي بأمر لا يمكن دفعه؛ وذلك لقوله تعالى: { ألم أقل لكم إني أعلم غيب السموات والأرض }..
.4 ومنها: بيان عموم علم الله عزّ وجلّ، وأنه يتعلق بالمشاهد، والغائب؛ لقوله تعالى: ( أعلم غيب السموات والأرض )..
.5 ومنها: أن السموات ذات عدد؛ لقوله تعالى: { السموات }؛ و "الأرض" جاءت مفردة، والمراد بها الجنس؛ لأن الله تعالى قال: {الله الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن} أي في العدد..
.6 ومنها: أن الملائكة لها إرادات تُبدى، وتكتم؛ لقوله تعالى: { وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون }..
.7 ومنها: أن الله تعالى عالم بما في القلوب سواء أُبدي أم أُخفي؛ لقوله تعالى: ( ما تبدون وما كنتم تكتمون).
فإن قال قائل: ما الدليل على أن الملائكة لها قلوب؟..
فالجواب: قوله تعالى: {حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير} .
القـرآن
)وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ) (البقرة:34).
التفسير:
.{ 34 } قوله تعالى: { وإذ قلنا } يعني اذكر إذ قلنا؛ ومثل هذا التعبير يتكرر كثيراً في القرآن، والعلماء يقدرون لفظ: "اذكر"، وهم بحاجة إلى هذا التقدير؛ لأن "إذ" ظرفية؛ والظرف لا بد له من شيء يتعلق به إما مذكوراً؛ وإما محذوفاً؛ وفي نظم الجُمل:.
لا بد للجار من التعلق بفعل أو معناه نحو مرتقي ومثله الظرف؛ وجاء الضمير في { قلنا } بضمير الجمع من باب التعظيم . لا التعدد . كما هو معلوم..
قوله تعالى: { للملائكة }: سبق الكلام على ذكر الملائكة، ومن أين اشتق هذا اللفظ..
قوله تعالى: { اسجدوا لآدم }: "السجود" هو السجود على الأرض بأن يضع الساجد جبهته على الأرض خضوعاً، وخشوعاً؛ وليس المراد به هنا الركوع؛ لأن الله تعالى فرَّق بين الركوع والسجود، كما في قوله تعالى: {تراهم ركعاً سجداً} ، وقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا} ..
قوله تعالى: { فسجدوا } أي من غير تأخير؛ فالفاء هنا للترتيب، والتعقيب؛ { إلا إبليس } هو الشيطان؛ وسمي إبليساً لأنه أَبلَسَ من رحمة الله . أي أَيِسَ منها يأساً لا رجاء بعده . { أبى } أي امتنع؛ { واستكبر } أي صار ذا كبر؛ { وكان من الكافرين }: زعم بعض العلماء أن المراد: كان من الكافرين في علم الله بناءً على أن { كان } فعل ماضٍ؛ والمضي يدل على شيء سابق؛ لكن هناك تخريجاً أحسن من هذا: أن نقول: إن "كان" تأتي أحياناً مسلوبة الزمان، ويراد بها تحقق اتصاف الموصوف بهذه الصفة؛ ومن ذلك قوله تعالى: {وكان الله غفوراً رحيماً} ، وقوله تعالى: {وكان الله عزيزاً حكيماً} ، وقوله تعالى: {وكان الله سميعاً بصيراً} ، وما أشبهها؛ هذه ليس المعنى أنه كان فيما مضى؛ بل لا يزال؛ فتكون { كان } هنا مسلوبة الزمان، ويراد بها تحقيق اتصاف الموصوف بما دلت عليه الجملة؛ وهذا هو الأقرب، وليس فيه تأويل؛ ويُجرى الكلام على ظاهره..
الفوائد:
.1 من فوائد الآية: بيان فضل آدم على الملائكة؛ وجهه أن الله أمر الملائكة أن يسجدوا له تعظيماً له..
.2 ومنها: أن السجود لغير الله إذا كان بأمر الله فهو عبادة؛ لأن لله تعالى أن يحكم بما شاء؛ ولذلك لما امتنع إبليس عن هذا كان من الكافرين؛ وقد استدل بعض العلماء بهذه الآية على كفر تارك الصلاة؛ قال: لأنه إذا كان إبليس كفر بترك سجدة واحدة أُمر بها، فكيف عن ترك الصلاة كاملة؟! وهذا الاستدلال إن استقام فهو هو؛ وإن لم يستقم فقد دلت نصوص أخرى من الكتاب، والسنة، وأقوال الصحابة على كفر تارك الصلاة كفراً أكبر مخرجاً عن الملة..
ويدل على أن المحرَّم إذا أمر الله تعالى به كان عبادة قصة إبراهيم عليه السلام، حين أمره الله أن يذبح ابنه إسماعيل فامتثل أمر الله؛ ولكن الله رحمه، ورحم ابنه برفع ذلك عنهما، حيث قال تعالى: {فلما أسلما وتلَّه للجبين * وناديناه أن يا إبراهيم * قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين} ؛ ومن المعلوم أن قتل الابن من كبائر الذنوب، لكن لما أمر الله عزّ وجلّ به كان امتثاله عبادة..
.3 ومن فوائد الآية: أن إبليس . والعياذ بالله . جمع صفات الذم كلها: الإباء عن الأمر؛ والاستكبار عن الحق، وعلى الخلق؛ والكفر؛ إبليس استكبر عن الحق؛ لأنه لم يمتثل أمر الله؛ واستكبر على الخلق؛ لأنه قال: {أنا خير منه} ؛ فاستكبر في نفسه، وحقر غيره؛ و"الكبر" بطر الحق، وغمط الناس..
تنبــــــــيه:
إن قال قائل: في الآية إشكال . وهو أن الله تعالى لما ذكر أمر الملائكة بالسجود، وذكر أنهم سجدوا إلا إبليس؛ كان ظاهرها أن إبليس منهم؛ والأمر ليس كذلك؟..
والجواب: أن إبليس كان مشاركاً لهم في أعمالهم ظاهراً، فكان توجيه الأمر شاملاً له بحسب الظاهر؛ وقد يقال: إن الاستثناء منقطع؛ والاستثناء المنقطع لا يكون فيه المستثنى من جنس المستثنى منه..
القـرآن
)وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ) (البقرة:35).
التفسير:
.{ 35 } قوله تعالى: { قلنا } فاعل القول هو الله عزّ وجلّ؛ { اسكن أنت وزوجك }: "زوج" معطوف على الفاعل في { اسكن }؛ لأن { أنت } توكيد للفاعل؛ وليست هي الفاعل؛ لأن { اسكن } فعل أمر؛ وفعل الأمر لا يمكن أن يظهر فيه الفاعل؛ لأنه مستتر وجوباً؛ وعلى هذا فـ { أنت } الضمير المنفصل توكيد للضمير المستتر؛ و{ زوجك } هي حواء، كما ثبت ذلك في صحيح البخاري، وغيره..
قوله تعالى:{ الجنة } هي البستان الكثير الأشجار، وسمي بذلك لأنه مستتر بأشجاره؛ وهل المراد بـ { الجنة جنة الخلد؛ أم هي جنة سوى جنة الخلد؟..
الجواب: ظاهر الكتاب، والسنة أنها جنة الخلد، وليست سواها؛ لأن "أل" هنا للعهد الذهني..
فإن قيل: كيف يكون القول الصحيح أنها جنة الخلد مع أن من دخلها لا يخرج منها . وهذه أُخرج منها آدم؟
فالجواب: أن من دخل جنة الخلد لا يخرج منها: بعد البعث؛ وفي هذا يقول ابن القيم في الميمية المشهورة.
(فحيَّ على جنات عدن فإنها منازلك الأولى وفيها المخيم) قال: "منازلك الأولى"؛ لأن أبانا آدم نزلها..
قوله تعالى: { وكُلا }: أمر بمعنى الإباحة، والإكرام؛ { منها } أي من هذه الجنة؛ { رغداً } أي أكلاً هنياً ليس فيه تنغيص؛ { حيث شئتما } أي في أيّ مكان من هذه الجنة، ونقول أيضاً: وفي أيّ زمان؛ لأن قوله تعالى: { كُلا } فعل مطلق لم يقيد بزمن..
قوله تعالى: { ولا تقربا هذه الشجرة } أشار الله تعالى إلى الشجرة بعينها، و "أل" فيها للعهد الحضوري؛ لأن كل ما جاء بـ "أل" بعد اسم الإشارة فهو للعهد الحضوري؛ إذ إن اسم الإشارة يعني الإشارة إلى شيء قريب؛ وهذه الشجرة غير معلومة النوع، فتبقى على إبهامها..
قوله تعالى: { فتكونا }: وقعت جواباً للطلب . وهو قوله تعالى: { لا تقربا }؛ فالفاء هنا للسببية؛ والفعل بعدها منصوب بـ "أن" مضمرة بعد فاء السببية؛ وقيل: إن الفعل منصوب بنفس الفاء؛ القول الأول للبصريين، والثاني للكوفيين؛ والثاني هو المختار عندنا بناءً على القاعدة أنه متى اختلف علماء النحو في إعراب كلمة أو جملة فإننا: نأخذ بالأسهل ما دام المعنى يحتمله..
قوله تعالى: { من الظالمين } أي من المعتدين لمخالفة الأمر..
الفوائد:
.1من فوائد الآية: إثبات القول لله عزّ وجلّ؛ لقوله تعالى: ( وقلنا يا آدم )..
.2 ومنها: أن قول الله يكون بصوت مسموع، وحروف مرتبة؛ لقوله تعالى: { يا آدم اسكن... } إلخ؛ ولولا أن آدم يسمعه لم يكن في ذلك فائدة؛ وأيضاً هو مرتب؛ لقوله تعالى: { يا آدم اسكن أنت وزوجك }: وهذه حروف مرتبة، كما هو ظاهر؛ وإنما قلنا ذلك لأن بعض أهل البدع يقول: إن كلام الله تعالى هو المعنى القائم بنفسه، وليس بصوت، ولا حروف مرتبة؛ ولهم في ذلك آراء مبتدعة أوصلها بعضهم إلى ثمانية أقوال
.3 ومن فوائد الآية: منّة الله عزّ وجلّ على آدم، وحواء حيث أسكنهما الجنة..
.4 ومنها: أن النكاح سنة قديمة منذ خلق الله آدم، وبقيت في بنيه من الرسل، والأنبياء، ومن دونهم، كما قوله تعالى: {ولقد أرسلنا رسلاً من قبلك وجعلنا لهم أزواجاً وذرية} (الرعد: 38)
فإن قال قائل: زوجته بنت من؟..
فالجواب: أنها خلقت من ضلعه..
فإن قال: إذاً تكون بنتاً له، فكيف يتزوج ابنته؟..
فالجواب: أن لله تعالى أن يحكم بما شاء؛ فكما أباح أن يتزوج الأخ أخته من بني آدم الأولين؛ فكذلك أباح أن يتزوج آدم من خلقها الله من ضلعه..
.5 ومن فوائد الآية: أن الأمر يأتي للإباحة؛ لقوله تعالى: { وكُلا منها }؛ فإن هذه للإباحة بدليل قوله تعالى: { حيث شئتما }: خيَّرهما أن يأكلا من أيّ مكان؛ ولا شك أن الأمر يأتي للإباحة؛ ولكن الأصل فيه أنه للطلب حتى يقوم دليل أنه للإباحة..
.6 ومنها: أن ظاهر النص أن ثمار الجنة ليس له وقت محدود؛ بل هو موجود في كل وقت؛ لقوله تعالى: { حيث شئتما }؛ فالتعميم في المكان يقتضي التعميم في الزمان؛ وقد قال الله تعالى في فاكهة الجنة: {وفاكهة كثيرة لا مقطوعة ولا ممنوعة} (الواقعة: 32، 33)
.7 ومنها: أن الله تعالى قد يمتحن العبد، فينهاه عن شيء قد تتعلق به نفسه؛ لقوله تعالى: { ولا تقربا هذه الشجرة }؛ ووجه ذلك أنه لولا أن النفس تتعلق بها ما احتيج إلى النهي عن قربانها..
.8 ومنها: أنه قد يُنهى عن قربان الشيء والمراد النهي عن فعله؛ للمبالغة في التحذير منه؛ فإن قوله تعالى: { ولا تقربا هذه الشجرة }: المراد: لا تأكلا منها، لكن لما كان القرب منها قد يؤدي إلى الأكل نُهي عن قربها..
.9 ومنها: إثبات الأسباب؛ لقوله تعالى: { ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين}..
.10 ومنها: أن معصية الله تعالى ظلم للنفس، وعدوان عليها؛ لقوله تعالى: ( ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين..).
القـرآن
)فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ) (البقرة:36).
التفسير:
.{ 36 } قوله تعالى: { فازلهما الشيطان }؛ وفي قراءة: { فأزالهما }؛ والفرق بينهما أن { أزلهما } بمعنى أوقعهما في الزلل؛ و{ أزالهما } بمعنى نحَّاهما؛ فعلى القراءة الأولى يكون الشيطان أوقعهما في الزلل، فزالا عنها، وأُخرجا منها؛ وعلى الثانية يكون الشيطان سبباً في تنحيتهما؛ و{ الشيطان } الظاهر أنه الشيطان الذي أبى أن يسجد لآدم: وسوس لهما ليقوما بمعصية الله كما فعل هو حين أبى أن يسجد لآدم..
قوله تعالى: { عنها } أي عن الجنة؛ ولهذا قال تعالى: { فأخرجهما مما كانا فيه } من النعيم؛ لأنهما كانا في أحسن ما يكون من الأماكن..
قوله تعالى: { وقلنا } أي قال الله لهما؛ { اهبطوا }: الضمير للجمع، والمراد آدم، وحواء، وإبليس؛ ولهذا قال تعالى: { بعضكم لبعض عدو }: الشيطان عدو لآدم، وحواء..
قوله تعالى: { ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين } يعني أنكم سوف تستقرون في الأرض، وسوف تتمتعون بها بما أعطاكم الله من النعم، ولكن لا على وجه الدوام؛ بل إلى حين . وهو قيام الساعة..
الفوائد:
.1من فوائد الآية: الحذر من وقوع الزلل الذي يمليه الشيطان؛ لقوله تعالى: ( فأزلهما الشيطان عنها ).
.2 ومنها: أن الشيطان يغرّ بني آدم كما غرّ أباهم حين وسوس لآدم، وحواء، وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين، وقال: يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى؛ فالشيطان قد يأتي الإنسان، فيوسوس له، فيصغر المعصية في عينه؛ ثم إن كانت كبيرة لم يتمكن من تصغيرها؛ منّاه أن يتوب منها، فيسهل عليه الإقدام؛ ولذلك احذر عدوك أن يغرك..
.3ومنها: إضافة الفعل إلى المتسبب له؛ لقوله تعالى: { فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه }؛ وقد ذكر الفقهاء . رحمهم الله . أن المتسبب كالمباشر في الضمان، لكن إذا اجتمع متسبب ومباشر تمكن إحالة الضمان عليه فالضمان على المباشر؛ وإن لم تمكن فالضمان على المتسبب؛ مثال الأول؛ أن يحفر بئراً، فيأتي شخص، فيدفع فيها إنساناً، فيهلك: فالضمان على الدافع؛ ومثال الثاني: أن يلقي شخصاً بين يدي أسد، فيأكله: فالضمان على الملقي . لا على الأسد..
.4 ومن فوائد الآية: أن الشيطان عدو للإنسان؛ لقوله تعالى: { بعضكم لبعض عدو }؛ وقد صرح الله تعالى بذلك في قوله تعالى: { إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدواً } (فاطر: 6).
.5 ومنها: أن قول الله تعالى يكون شرعياً، ويكون قدرياً؛ فقوله تعالى: { يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها }: هذا شرعي؛ وقوله تعالى: { وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو }: الظاهر أنه كوني؛ لأنه سبحانه وتعالى يعلم أنه لو عاد الأمر إليهما لما هبطا؛ ويحتمل أن يكون قولاً شرعياً؛ لكن الأقرب عندي أنه قول كوني . والله أعلم..
.6 ومنها: أن الجنة في مكان عالٍ؛ لقوله تعالى: { اهبطوا }؛ والهبوط يكون من أعلى إلى أسفل..
.7 ومنها: أنه لا يمكن العيش إلا في الأرض لبني آدم؛ لقوله تعالى: { ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين }؛ ويؤيد هذا قوله تعالى: {فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون} ؛ وبناءً على ذلك نعلم أن محاولة الكفار أن يعيشوا في غير الأرض إما في بعض الكواكب، أو في بعض المراكب محاولة يائسة؛ لأنه لابد أن يكون مستقرهم الأرض..
.8 ومنها: أنه لا دوام لبني آدم في الدنيا؛ لقوله تعالى: { ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين }..
القرآن
)فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (البقرة:37).
التفسير:
.{ 37 } قوله تعالى: { فتلقى آدم من ربه } يعني أخذ، وقَبِل، ورضي من الله كلمات حينما ألقى الله إليه هذه الكلمات؛ وهذه الكلمات هي قوله تعالى: {ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين} ؛ فالكلمات اعتراف آدم وحواء بأنهما أذنبا، وظلما أنفسهما، وتضرعهما إلى الله سبحانه وتعالى بأنه إن لم يغفر لهما ويرحمهما لكانا من الخاسرين؛ و{ من ربه } فيه إضافة الربوبية إلى آدم؛ وهي الربوبية الخاصة..
قوله تعالى: { فتاب عليه }: الفاعل هو الله . يعني فتاب ربه عليه؛ و"التوبة" هي رفع المؤاخذة، والعفو عن المذنب إذا رجع إلى ربه عزّ وجلّ..
قوله تعالى: { إنه هو التواب الرحيم }: هذه الجملة تعليل لقوله تعالى: { فتاب عليه }؛ لأن التوبة مقتضى هذين الاسمين العظيمين: { التواب الرحيم }؛ و{ هو } ضمير فصل يفيد هنا الحصر، والتوكيد؛ و{ التواب } صيغة مبالغة من "تاب"؛ وذلك لكثرة التائبين، وكثرة توبة الله؛ ولذلك سمى الله نفسه "التواب" ؛ و{ الرحيم } أي ذو الرحمة الواسعة الواصلة إلى من شاء من عباده..
الفوائد:
.1 من فوائد الآية: منة الله سبحانه وتعالى على أبينا آدم حين وفقه لهذه الكلمات التي كانت بها التوبة؛ لقوله تعالى: { فتلقى آدم من ربه كلمات }..
.2 ومنها: أن منة الله على أبينا هي منة علينا في الحقيقة؛ لأن كل إنسان يشعر بأن الله إذا منَّ على أحد أجداده كان مانّاً عليه..
.3 ومنها: أن قول الإنسان: "ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين" سبب لقبول توبة الله على عبده؛ لأنها اعتراف بالذنب؛ وفي قول الإنسان: "ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين" أربعة أنواع من التوسل؛ الأول: التوسل بالربوبية؛ الثاني: التوسل بحال العبد: {ظلمنا أنفسنا} ؛ الثالث: تفويض الأمر إلى الله؛ لقوله: {وإن لم تغفر لنا...} إلخ؛ الرابع: ذكر حال العبد إذا لم تحصل له مغفرة الله ورحمته؛ لقوله تعالى: {لنكونن من الخاسرين} ، وهي تشبه التوسل بحال العبد؛ بل هي توسل بحال العبد؛ وعليه فيكون توسل العبد بحاله توسلاً بحاله قبل الدعاء، وبحاله بعد الدعاء إذا لم يحصل مقصوده..
.4 ومن فوائد الآية: أن الله تعالى يتكلم بصوت مسموع؛ وجه ذلك أن آدم تلقى منه كلمات؛ وتلقي الكلمات لا يكون إلا بسماع الصوت؛ وهذا الذي عليه أهل السنة والجماعة أن الله يتكلم بكلام بصوت مسموع، وحروف مرتبة..
.5 ومنها: منة الله عزّ وجلّ على آدم بقبول التوبة؛ فيكون في ذلك منَّتان؛ الأولى: التوفيق للتوبة، حيث تلقَّى الكلمات من الله؛ و الثانية: قبول التوبة، حيث قال تعالى: { فتاب عليه }..
واعلم أن لله تعالى على عبده منتين؛ التوبة الأولى قبل توبة العبد؛ وهي التوفيق للتوبة؛ والتوبة الثانية بعد توبة العبد؛ وهي قبول التوبة؛ وكلاهما في القرآن؛ قال الله . تبارك وتعالى: {وعلى الثلاثة الذين خُلِّفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا} : فقوله تعالى: {ثم تاب عليهم} أي وفقهم للتوبة، وقوله تعالى: {ليتوبوا} أي يقوموا بالتوبة إلى الله؛ وأما توبة القبول ففي قوله تعالى: {وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات} (الشورى: 25).
.6 ومن فوائد الآية: أن الإنسان إذا صدق في تفويض الأمر إلى الله، ورجوعه إلى طاعة الله فإن الله تعالى يتوب عليه؛ وهذا له شواهد كثيرة أن الله أكرم من عبده؛ من تقرب إليه ذراعاً تقرب الله إليه باعاً، ومن أتاه يمشي أتاه الله هرولة؛ فكرم الله عزّ وجلّ أعلى، وأبلغ من كرم الإنسان..
.7 ومنها: إثبات هذين الاسمين الكريمين: { التواب }، و{ الرحيم }؛ وما تضمناه من صفة، وفعل..
.8 ومنها: اختصاص الله بالتوبة، والرحمة؛ بدليل ضمير الفصل؛ ولكن المراد اختصاصه بالتوبة التي لا يقدر عليها غيره؛ لأن الإنسان قد يتوب على ابنه، وأخيه، وصاحبه، وما أشبه ذلك؛ لكن التوبة التي لا يقدر عليها إلا الله . وهي المذكورة في قوله تعالى: {ومن يغفر الذنوب إلا الله} . هذه خاصة بالله..
كذلك الرحمة المراد بها الرحمة التي لا تكون إلا لله؛ أما رحمة الخلق بعضهم لبعض فهذا ثابت . لا يختص بالله عزّ وجلّ؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الراحمون يرحمهم الرحمن"(81) ..
القـرآن
(قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (البقرة:38).
التفسير:
.{ 38 } قوله تعالى: { قلنا اهبطوا منها جميعاً }: الواو ضمير جمع، وعبر به عن اثنين لأن آدم، وحواء هما أبَوَا بني آدم؛ فوجه الخطاب إليهما بصيغة الجمع باعتبارهما مع الذرية؛ هذا هو الظاهر؛ وأما حمله على أن أقل الجمع اثنين، وأن ضمير الجمع هنا بمعنى ضمير التثنية فبعيد؛ لأن كون أقل الجمع اثنين شاذ في اللغة العربية؛ وأما قوله تعالى: {إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما} فإن الأفصح في المتعدد إذا أضيف إلى متعدد أن يكون بلفظ الجمع . وإن كان المراد به اثنين؛ و{ جميعاً } منصوبة على الحال من الواو في قوله تعالى: ( اهبطوا ).
قوله تعالى: { فإما } أصلها: "فإنْ ما" : أدغمت النون في "ما" ؛ و "إن" شرطية، و "ما" زائدة للتوكيد؛ و{ يأتينكم } فعل مضارع مؤكد بنون التوكيد؛ ولذلك لم يكن مجزوماً؛ بل كان مبنياً على الفتح؛ لاتصاله بنون التوكيد لفظاً، وتقديراً..
قوله تعالى: { مني هدًى } أي علماً: وذلك بالوحي الذي يوحيه الله تعالى إلى أنبيائه، ورسله..
قوله تعالى: { فمن تبع }: الفاء هنا رابطة لجواب الشرط؛ لأن الجملة بعد الفاء هي جواب الشرط؛ والجملة هنا اسمية؛ و "مَنْ" شرطية؛ و "تبع" فعل الشرط؛ والفاء في قوله تعالى: { فلا خوف } رابطة للجواب أيضاً، و "لا" نافية، و "خوف" مبتدأ؛ وجملة: { فمن تبع هداي فلا خوف} جواب "إنْ" في قوله تعالى: {فإما يأتينكم }؛ وجملة: { فلا خوف } جواب { فمن تبع }..
وقوله تعالى: { فمن تبع هداي } أي أخذ به تصديقاً بأخباره، وامتثالاً لأحكامه؛ وأضافه الله لنفسه لأنه الذي شرعه لعباده، ولأنه موصل إليه..
قوله تعالى: { فلا خوف عليهم } أي فيما يستقبل؛ لأنهم آمنون؛ { ولا هم يحزنون } أي على ما مضى؛ لأنهم قد اغتنموه، وقاموا فيه بالعمل الصالح؛ بل هم مطمئنون غاية الطمأنينة..
الفوائد:
.1 من فوائد الآية أن الجنة التي أُسكنها آدم أولاً كانت عالية؛ لقوله تعالى: { اهبطوا }؛ والهبوط لا يكون إلا من أعلى..
.2 ومنها: إثبات كلام الله؛ لقوله تعالى: ( قلنا )..
.3 منها: أنه بصوت مسموع، وحروف مرتبة؛ لقوله تعالى: { اهبطوا منها جميعاً }؛ فلولا أنهم سمعوا ذلك ما صح توجيه الأمر إليهم..
.4 ومنها: أن التوكيد في الأسلوب العربي فصيح، ومن البلاغة؛ لقوله تعالى: { جميعاً }؛ وهو توكيد معنوي: لأنه حال من حيث الإعراب؛ لأن الشيء إذا كان هاماً فينبغي أن يؤكد؛ فتقول للرجل إذا أردت أن تحثه على الشيء: "يا فلان عجل عجل عجل" ثلاث مرات؛ والمقصود التوكيد، والحث..
.5 ومنها: أن الهدى من عند الله؛ لقوله تعالى: ( فإما يأتينكم مني هدًى ).
فإن قال قائل: "إنْ" في قوله تعالى: { فإما } لا تدل على الوقوع؛ لأنها ليست كـ "إذا" ؟ قلنا: نعم، هي لا تدل على الوقوع، لكنها لا تنافيه؛ والواقع يدل على الوقوع . أنه ما من أمة إلا خلا فيها نذير؛ وممكن أن نقول: في هذه الصيغة . { فإما يأتينكم } . ما يدل على الوقوع؛ وهو توكيد الفعل..
ويتفرع على هذه الفائدة: أنك لا تسأل الهدى إلا من الله عزّ وجلّ؛ لأنه هو الذي يأتي به..
.6 ومن فوائد الآية: أن من اتبع هدى الله فإنه آمن من بين يديه، ومن خلفه؛ لقوله تعالى:
( فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون).
.7 ومنها: أنه لا يتعبد لله إلا بما شرع؛ لقوله تعالى: (فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ).
.8 ومنها: أن من تعبد لله بغير ما شرع فهو على غير هدى؛ فيكون ضالاً كما شهدت بذلك السنة؛ فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم في خطبة الجمعة يقول: "وشر الأمور محدثاتها؛ وكل محدثة بدعة؛ وكل بدعة ضلالة(82).
قوله تعالى: { ونقدس }: "التقديس" معناه التطهير؛ وهو أمر زائد على "التنْزيه"؛ لأن "التنزيه" تبرئة، وتخلية؛ و"التطهير" أمر زائد؛ ولهذا نقول في دعاء الاستفتاح: "اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب؛ اللهم نقني من خطاياي كما ينقَّى الثوب الأبيض من الدنس؛ اللهم اغسلني من خطاياي بالماء، والثلج، والبَرد"(79) : فالأول: طلبُ المباعدة؛ والثاني: طلب التنقية . يعني: التخلية بعد المباعدة؛ والثالث: طلب الغسل بعد التنقية حتى يزول الأثر بالكلية؛ فيجمع الإنسان بين تنْزيه الله عزّ وجلّ عن كل عيب ونقص، وتطهيره . أنه لا أثر إطلاقاً لما يمكن أن يعلق بالذهن من نقص..
قوله تعالى: { لك } اللام هنا للاختصاص؛ فتفيد الإخلاص؛ وهي أيضاً للاستحقاق؛ لأن الله . جلّ وعلا . أهل لأن يقدس..
أجابهم الله تعالى: { قال إني أعلم ما لا تعلمون } أي من أمر هذه الخليفة التي سيكون منها النبيون، والصدِّيقون، والشهداء، والصالحون..
الفوائد:
.1 من فوائد الآية: إثبات القول لله عزّ وجلّ، وأنه بحرف، وصوت؛ وهذا مذهب السلف الصالح من الصحابة، والتابعين، وأئمة الهدى من بعدهم؛ يؤخذ كونه بحرف من قوله تعالى: { إني جاعل في الأرض خليفة }؛ لأن هذه حروف؛ ويؤخذ كونه بصوت من أنه خاطب الملائكة بما يسمعونه؛ وإثبات القول لله على هذا الوجه من كماله سبحانه وتعالى؛ بل هو من أعظم صفات الكمال: أن يكون عزّ وجلّ متكلماً بما شاء كوناً، وشرعاً؛ متى شاء؛ وكيف شاء؛ فكل ما يحدث في الكون فهو كائن بكلمة { كن }؛ لقوله تعالى: {إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون} ؛ وكل الكون مراد له قدراً؛ وأما قوله الشرعي: فهو وحيه الذي أوحاه إلى رسله، وأنبيائه..
.2 ومن فوائد الآية: أن الملائكة ذوو عقول؛ ووجهه أن الله تعالى وجه إليهم الخطاب، وأجابوا؛ ولا يمكن أن يوجه الخطاب إلا إلى من يعقله؛ ولا يمكن أن يجيبه إلا من يعقل الكلامَ، والجوابَ عليه؛ وإنما نبَّهْنا على ذلك؛ لأن بعض أهل الزيغ قالوا: إن الملائكة ليسوا عقلاء..
.3 ومنها: إثبات الأفعال لله عزّ وجلّ أي أنه تعالى يفعل ما شاء متى شاء كيف شاء؛ ومن أهل البدع من ينكر ذلك زعماً منه أن الأفعال حوادث؛ والحوادث لا تقوم إلا بحادث فلا يجيء، ولا يستوي على العرش، ولا ينْزل، ولا يتكلم، ولا يضحك، ولا يفرح، ولا يعجب؛ وهذه دعوى فاسدة من وجوه:.
الأول: أنها في مقابلة نص؛ وما كان في مقابلة نص فهو مردود على صاحبه..
الثاني: أنها دعوى غير مسلَّمة؛ فإن الحوادث قد تقوم بالأول الذي ليس قبله شيء..
الثالث: أن كونه تعالى فعالاً لما يريد من كماله، وتمام صفاته؛ لأن من لا يفعل إما أن يكون غير عالم، ولا مريد؛ وإما أن يكون عاجزاً؛ وكلاهما وصفان ممتنعان عن الله سبحانه وتعالى..
فتَعَجَّبْ كيف أُتي هؤلاء من حيث ظنوا أنه تنزيه لله عن النقص؛ وهو في الحقيقة غاية النقص!!! فاحمد ربك على العافية، واسأله أن يعافي هؤلاء مما ابتلاهم به من سفه في العقول، وتحريف للمنقول..
.4 ومن فوائد الآية: أن بني آدم يخلف بعضهم بعضاً . على أحد الأقوال في معنى { خليفة }؛ وهذا هو الواقع؛ فتجد من له مائة مع من له سنة واحدة، وما بينهما؛ وهذا من حكمة الله عزّ وجلّ؛ لأن الناس لو من وُلِد بقي لضاقت الأرض بما رحبت، ولما استقامت الأحوال، ولا حصلت الرحمة للصغار، ولا الولاية عليهم إلى غير ذلك من المصالح العظيمة..
.5 ومنها: قيام الملائكة بعبادة الله عزّ وجلّ؛ لقوله تعالى: ( ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك )
.6 ومنها: كراهة الملائكة للإفساد في الأرض؛ لقولهم: ( أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ).
.7 ومنها: أن وصف الإنسان نفسه بما فيه من الخير لا بأس به إذا كان المقصود مجرد الخبر دون الفخر؛ لقولهم: { ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك }؛ ويؤيد ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: "أنا سيد ولد آدم ولا فخر"(80) ؛ وأما إذا كان المقصود الفخر، وتزكية النفس بهذا فلا يجوز؛ لقوله تعالى: { فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى } ..
.8 ومنها: شدة تعظيم الملائكة لله عزّ وجلّ، حيث قالوا: (ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك).
القـرآن
)وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (البقرة:31).
)قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) (البقرة:32).
التفسير:
.{ 31 } قوله تعالى: { وعلم آدم }: الفاعل هو الله عزّ وجلّ؛ و{ آدم } هو أبو البشر؛ و{ الأسماء } جمع "اسم"؛ و "أل" فيها للعموم بدليل قوله تعالى: { كلها }؛ وهل هذه الأسماء أسماء لمسميات حاضرة؛ أو لكل الأسماء؟ للعلماء في ذلك قولان؛ والأظهر أنها أسماء لمسميات حاضرة بدليل قوله تعالى: { ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء }؛ وهذه الأسماء . والله أعلم . ما يحتاج إليها آدم، وبنوه في ذلك الوقت..
قوله تعالى: { ثم عرضهم } أي عرض المسميات؛ بدليل قوله تعالى: { أنبئوني بأسماء هؤلاء }، ولأن الميم علامة جمع العاقل؛ فلم تعلم الملائكة أسماء تلك المسميات؛ بل كان جوابهم: { سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا }، ثم قال تعالى: { يا آدم أنبئهم بأسمائهم }: وأراد عزّ وجلّ بذلك أن يعرف الملائكة أنهم ليسوا محيطين بكل شيء علماً، وأنهم يفوتهم أشياء يفضلهم آدم فيها..
قوله تعالى: { أنبئوني }: هل هو فعل أمر يراد به قيام المأمور بما وُجّه إليه، أو هو تحَدٍّ؟
الجواب: الظاهر الثاني: أنه تحدٍّ؛ بدليل قوله تعالى: { إن كنتم صادقين } أن لديكم علماً بالأشياء فأنبئوني بأسماء هؤلاء؛ لأن الملائكة قالت فيما سبق: {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك} ، فقال تعالى: { إني أعلم ما لا تعلمون }، ثم امتحنهم الله بهذا..
.{ 32 } قوله تعالى: { سبحانك } أي تنزيهاً لك عما لا يليق بجلالك؛ فأنت يا ربنا لم تفعل هذا إلا لحكمة بالغة..
قوله تعالى: { لا علم لنا إلا ما علمتنا }: اعتراف من الملائكة أنهم ليسوا يعلمون إلا ما علمهم الله، هذا مع أنهم ملائكة مقرَّبون إلى الله عزّ وجلّ..
قوله تعالى: { إنك أنت العليم الحكيم }: هذه الجملة مؤكدة بـ "إن" ، وضمير الفصل: { أنت }؛ والمعنى: إنك ذو العلم الواسع الشامل المحيط بالماضي والحاضر، والمستقبل؛ و{ الحكيم } يعني ذا الحكمة، والحكم؛ لأن الحكيم مشتقة من الحكم، والحكمة؛ فهذان اسمان من أسماء الله عزّ وجلّ: { العليم }، و(الحكيم).
الفوائد:
.1 من فوائد الآيتين: بيان أن الله تعالى قد يمنّ على بعض عباده بعلم لا يعلمه الآخرون؛ وجهه: أن الله علم آدم أسماء مسميات كانت حاضرة، والملائكة تجهل ذلك..
.2 ومنها: أن اللغات توقيفية . وليست تجريبية؛ "توقيفية" بمعنى أن الله هو الذي علم الناس إياها؛ ولولا تعليم الله الناسَ إياها ما فهموها؛ وقيل: إنها "تجريبية" بمعنى أن الناس كوَّنوا هذه الحروف والأصوات من التجارب، فصار الإنسان أولاً أبكم لا يدري ماذا يتكلم، لكن يسمع صوت الرعد، يسمع حفيف الأشجار، يسمع صوت الماء وهو يسيح على الأرض، وما أشبه ذلك؛ فاتخذ مما يسمع أصواتاً تدل على مراده؛ ولكن هذا غير صحيح؛ والصواب أن اللغات مبدؤها توقيفي؛ وكثير منها كسبي تجريبي يعرفه الناس من مجريات الأحداث؛ ولذلك تجد أن أشياء تحدث ليس لها أسماء من قبل، ثم يحدث الناس لها أسماء؛ إما من التجارب، أو غير ذلك من الأشياء..
.3 ومن فوائد الآيتين: جواز امتحان الإنسان بما يدعي أنه مُجيد فيه..
.4 ومنها: جواز التحدي بالعبارات التي يكون فيها شيء من الشدة؛ لقوله تعالى: { أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين}..
.5 ومنها: أن الملائكة تتكلم؛ لقوله تعالى: ( أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين * قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم )..
.6 ومنها: اعتراف الملائكة . عليهم الصلاة والسلام . بأنهم لا علم لهم إلا ما علمهم الله عزّ وجلّ..
ويتفرع على ذلك أنه ينبغي للإنسان أن يعرف قدر نفسه، فلا يدَّعي علم ما لم يعلم..
.7 ومنها: شدة تعظيم الملائكة لله عزّ وجلّ، حيث اعترفوا بكماله، وتنزيهه عن الجهل بقولهم: {سبحانك}؛ واعترفوا لأنفسهم بأنهم لا علم عندهم؛ واعترفوا لله بالفضل في قولهم: { إلا ما علمتنا }..
.8 ومنها: إثبات اسمين من أسماء الله؛ وهما { العليم }، و{ الحكيم }؛ فـ { العليم }: ذو العلم الواسع المحيط بكل شيء جملة وتفصيلاً لما كان، وما يكون من أفعاله، وأفعال خلقه..
و{ الحكيم }: ذو الحكمة البالغة التي تعجز عن إدراكها عقول العقلاء وإن كانت قد تدرك شيئاً منها؛ و "الحكمة" هي وضع الشيء في موضعه اللائق به؛ وتكون في شرع الله، وفي قدر الله؛ أما الحكمة في شرعه فإن جميع الشرائع مطابقة للحكمة في زمانها، ومكانها، وأحوال أممها؛ فما أمر الله بشيء، فقال العقل الصريح: "ليته لم يأمر به"؛ وما نهى عن شيء، فقال: "ليته لم ينهَ عنه"؛ وأما الحكمة في قدره فما من شيء يقدره الله إلا وهو مشتمل على الحكمة إما عامة؛ وإما خاصة..
واعلم أن الحكمة تكون في نفس الشيء: فوقوعه على الوجه الذي حكم الله تعالى به في غاية الحكمة؛ وتكون في الغاية المقصودة منه: فأحكام الله الكونية، والشرعية كلها لغايات محمودة قد تكون معلومة لنا، وقد تكون مجهولة؛ والأمثلة على هذا كثيرة واضحة..
ولـ { الحكيم } معنًى آخر؛ وهو ذو الحكم، والسلطان التام؛ فلا معقب لحكمه؛ وحكمه تعالى نوعان: شرعي، وقدري؛ فأما الشرعي فوحيه الذي جاءت به رسله؛ ومنه قوله تعالى: { أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون } ، وقوله تعالى في سورة الممتحنة: { ذلكم حكم الله يحكم بينكم والله عليم حكيم } ؛ وأما حكمه القدري فهو ما قضى به قدراً على عباده من شدة، ورخاء، وحزن، وسرور، وغير ذلك؛ ومنه قوله تعالى عن أحد إخوة يوسف: { فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي أو يحكم الله لي وهو خير الحاكمين } (يوسف: 80).
والفرق بين الحكم الشرعي، والكوني: أن الشرعي لا يلزم وقوعه ممن حُكِم عليه به؛ ولهذا يكون العصاة من بني آدم، وغيرهم المخالفون لحكم الله الشرعي؛ وأما الحكم القدري فلا معارض له، ولا يخرج أحد عنه؛ بل هو نافذ في عباده على كل حال..
القـرآن
)قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) (البقرة:33).
التفسير:
.{ 33 } قوله تعالى: { قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم }؛ القائل هو الله عزّ وجلّ؛ و{ آدم } هو أبو البشر؛ والظاهر أن هذا اسم له، وليس وصفاً؛ وهو مشتق لغة من الأُدْمة؛ وهي لون بين البياض الخالص والسواد
قوله تعالى: { فلما أنبأهم بأسمائهم } أي أنبأ الملائكة؛ { قال } أي قال الله؛ { ألم أقل لكم }: الاستفهام هنا للتقرير؛ والمعنى: قلت لكم، كقوله تعالى: {ألم نشرح لك صدرك} : والمعنى: قد شرحنا لك صدرك؛ { إني أعلم غيب السموات والأرض } أي ما غاب فيهما . وهو نوعان: نسبي؛ وعام؛ فأما النسبي فهو ما غاب عن بعض الخلق دون بعض؛ وأما العام فهو ما غاب عن الخلق عموماً..
قوله تعالى: { وأعلم ما تبدون } أي ما تظهرون؛ { وما كنتم تكتمون } أي تخفون..
الفوائد:
.1 من فوائد الآية: إثبات القول لله عزّ وجلّ لقوله تعالى: { يا آدم }؛ وأنه بحرف، وصوت مسموع؛ لأن آدم سمعه، وفهمه، فأنبأ الملائكة به؛ وهذا الذي عليه أهل السنة والجماعة، والسلف الصالح . أن الله يتكلم بكلام مسموع مترتب بعضه سابق لبعض..
.2 ومنها: أن آدم . عليه الصلاة والسلام . امتثل، وأطاع، ولم يتوقف؛ لقوله تعالى: { فلما أنبأهم }؛ ولهذا طوى ذكر قوله: "فأنبأهم" إشارة إلى أنه بادر، وأنبأ الملائكة..
.3 ومنها: جواز تقرير المخاطب بما لا يمكنه دفعه؛ والتقرير لا يكون إلا هكذا . أي بأمر لا يمكن دفعه؛ وذلك لقوله تعالى: { ألم أقل لكم إني أعلم غيب السموات والأرض }..
.4 ومنها: بيان عموم علم الله عزّ وجلّ، وأنه يتعلق بالمشاهد، والغائب؛ لقوله تعالى: ( أعلم غيب السموات والأرض )..
.5 ومنها: أن السموات ذات عدد؛ لقوله تعالى: { السموات }؛ و "الأرض" جاءت مفردة، والمراد بها الجنس؛ لأن الله تعالى قال: {الله الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن} أي في العدد..
.6 ومنها: أن الملائكة لها إرادات تُبدى، وتكتم؛ لقوله تعالى: { وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون }..
.7 ومنها: أن الله تعالى عالم بما في القلوب سواء أُبدي أم أُخفي؛ لقوله تعالى: ( ما تبدون وما كنتم تكتمون).
فإن قال قائل: ما الدليل على أن الملائكة لها قلوب؟..
فالجواب: قوله تعالى: {حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير} .
القـرآن
)وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ) (البقرة:34).
التفسير:
.{ 34 } قوله تعالى: { وإذ قلنا } يعني اذكر إذ قلنا؛ ومثل هذا التعبير يتكرر كثيراً في القرآن، والعلماء يقدرون لفظ: "اذكر"، وهم بحاجة إلى هذا التقدير؛ لأن "إذ" ظرفية؛ والظرف لا بد له من شيء يتعلق به إما مذكوراً؛ وإما محذوفاً؛ وفي نظم الجُمل:.
لا بد للجار من التعلق بفعل أو معناه نحو مرتقي ومثله الظرف؛ وجاء الضمير في { قلنا } بضمير الجمع من باب التعظيم . لا التعدد . كما هو معلوم..
قوله تعالى: { للملائكة }: سبق الكلام على ذكر الملائكة، ومن أين اشتق هذا اللفظ..
قوله تعالى: { اسجدوا لآدم }: "السجود" هو السجود على الأرض بأن يضع الساجد جبهته على الأرض خضوعاً، وخشوعاً؛ وليس المراد به هنا الركوع؛ لأن الله تعالى فرَّق بين الركوع والسجود، كما في قوله تعالى: {تراهم ركعاً سجداً} ، وقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا} ..
قوله تعالى: { فسجدوا } أي من غير تأخير؛ فالفاء هنا للترتيب، والتعقيب؛ { إلا إبليس } هو الشيطان؛ وسمي إبليساً لأنه أَبلَسَ من رحمة الله . أي أَيِسَ منها يأساً لا رجاء بعده . { أبى } أي امتنع؛ { واستكبر } أي صار ذا كبر؛ { وكان من الكافرين }: زعم بعض العلماء أن المراد: كان من الكافرين في علم الله بناءً على أن { كان } فعل ماضٍ؛ والمضي يدل على شيء سابق؛ لكن هناك تخريجاً أحسن من هذا: أن نقول: إن "كان" تأتي أحياناً مسلوبة الزمان، ويراد بها تحقق اتصاف الموصوف بهذه الصفة؛ ومن ذلك قوله تعالى: {وكان الله غفوراً رحيماً} ، وقوله تعالى: {وكان الله عزيزاً حكيماً} ، وقوله تعالى: {وكان الله سميعاً بصيراً} ، وما أشبهها؛ هذه ليس المعنى أنه كان فيما مضى؛ بل لا يزال؛ فتكون { كان } هنا مسلوبة الزمان، ويراد بها تحقيق اتصاف الموصوف بما دلت عليه الجملة؛ وهذا هو الأقرب، وليس فيه تأويل؛ ويُجرى الكلام على ظاهره..
الفوائد:
.1 من فوائد الآية: بيان فضل آدم على الملائكة؛ وجهه أن الله أمر الملائكة أن يسجدوا له تعظيماً له..
.2 ومنها: أن السجود لغير الله إذا كان بأمر الله فهو عبادة؛ لأن لله تعالى أن يحكم بما شاء؛ ولذلك لما امتنع إبليس عن هذا كان من الكافرين؛ وقد استدل بعض العلماء بهذه الآية على كفر تارك الصلاة؛ قال: لأنه إذا كان إبليس كفر بترك سجدة واحدة أُمر بها، فكيف عن ترك الصلاة كاملة؟! وهذا الاستدلال إن استقام فهو هو؛ وإن لم يستقم فقد دلت نصوص أخرى من الكتاب، والسنة، وأقوال الصحابة على كفر تارك الصلاة كفراً أكبر مخرجاً عن الملة..
ويدل على أن المحرَّم إذا أمر الله تعالى به كان عبادة قصة إبراهيم عليه السلام، حين أمره الله أن يذبح ابنه إسماعيل فامتثل أمر الله؛ ولكن الله رحمه، ورحم ابنه برفع ذلك عنهما، حيث قال تعالى: {فلما أسلما وتلَّه للجبين * وناديناه أن يا إبراهيم * قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين} ؛ ومن المعلوم أن قتل الابن من كبائر الذنوب، لكن لما أمر الله عزّ وجلّ به كان امتثاله عبادة..
.3 ومن فوائد الآية: أن إبليس . والعياذ بالله . جمع صفات الذم كلها: الإباء عن الأمر؛ والاستكبار عن الحق، وعلى الخلق؛ والكفر؛ إبليس استكبر عن الحق؛ لأنه لم يمتثل أمر الله؛ واستكبر على الخلق؛ لأنه قال: {أنا خير منه} ؛ فاستكبر في نفسه، وحقر غيره؛ و"الكبر" بطر الحق، وغمط الناس..
تنبــــــــيه:
إن قال قائل: في الآية إشكال . وهو أن الله تعالى لما ذكر أمر الملائكة بالسجود، وذكر أنهم سجدوا إلا إبليس؛ كان ظاهرها أن إبليس منهم؛ والأمر ليس كذلك؟..
والجواب: أن إبليس كان مشاركاً لهم في أعمالهم ظاهراً، فكان توجيه الأمر شاملاً له بحسب الظاهر؛ وقد يقال: إن الاستثناء منقطع؛ والاستثناء المنقطع لا يكون فيه المستثنى من جنس المستثنى منه..
القـرآن
)وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ) (البقرة:35).
التفسير:
.{ 35 } قوله تعالى: { قلنا } فاعل القول هو الله عزّ وجلّ؛ { اسكن أنت وزوجك }: "زوج" معطوف على الفاعل في { اسكن }؛ لأن { أنت } توكيد للفاعل؛ وليست هي الفاعل؛ لأن { اسكن } فعل أمر؛ وفعل الأمر لا يمكن أن يظهر فيه الفاعل؛ لأنه مستتر وجوباً؛ وعلى هذا فـ { أنت } الضمير المنفصل توكيد للضمير المستتر؛ و{ زوجك } هي حواء، كما ثبت ذلك في صحيح البخاري، وغيره..
قوله تعالى:{ الجنة } هي البستان الكثير الأشجار، وسمي بذلك لأنه مستتر بأشجاره؛ وهل المراد بـ { الجنة جنة الخلد؛ أم هي جنة سوى جنة الخلد؟..
الجواب: ظاهر الكتاب، والسنة أنها جنة الخلد، وليست سواها؛ لأن "أل" هنا للعهد الذهني..
فإن قيل: كيف يكون القول الصحيح أنها جنة الخلد مع أن من دخلها لا يخرج منها . وهذه أُخرج منها آدم؟
فالجواب: أن من دخل جنة الخلد لا يخرج منها: بعد البعث؛ وفي هذا يقول ابن القيم في الميمية المشهورة.
(فحيَّ على جنات عدن فإنها منازلك الأولى وفيها المخيم) قال: "منازلك الأولى"؛ لأن أبانا آدم نزلها..
قوله تعالى: { وكُلا }: أمر بمعنى الإباحة، والإكرام؛ { منها } أي من هذه الجنة؛ { رغداً } أي أكلاً هنياً ليس فيه تنغيص؛ { حيث شئتما } أي في أيّ مكان من هذه الجنة، ونقول أيضاً: وفي أيّ زمان؛ لأن قوله تعالى: { كُلا } فعل مطلق لم يقيد بزمن..
قوله تعالى: { ولا تقربا هذه الشجرة } أشار الله تعالى إلى الشجرة بعينها، و "أل" فيها للعهد الحضوري؛ لأن كل ما جاء بـ "أل" بعد اسم الإشارة فهو للعهد الحضوري؛ إذ إن اسم الإشارة يعني الإشارة إلى شيء قريب؛ وهذه الشجرة غير معلومة النوع، فتبقى على إبهامها..
قوله تعالى: { فتكونا }: وقعت جواباً للطلب . وهو قوله تعالى: { لا تقربا }؛ فالفاء هنا للسببية؛ والفعل بعدها منصوب بـ "أن" مضمرة بعد فاء السببية؛ وقيل: إن الفعل منصوب بنفس الفاء؛ القول الأول للبصريين، والثاني للكوفيين؛ والثاني هو المختار عندنا بناءً على القاعدة أنه متى اختلف علماء النحو في إعراب كلمة أو جملة فإننا: نأخذ بالأسهل ما دام المعنى يحتمله..
قوله تعالى: { من الظالمين } أي من المعتدين لمخالفة الأمر..
الفوائد:
.1من فوائد الآية: إثبات القول لله عزّ وجلّ؛ لقوله تعالى: ( وقلنا يا آدم )..
.2 ومنها: أن قول الله يكون بصوت مسموع، وحروف مرتبة؛ لقوله تعالى: { يا آدم اسكن... } إلخ؛ ولولا أن آدم يسمعه لم يكن في ذلك فائدة؛ وأيضاً هو مرتب؛ لقوله تعالى: { يا آدم اسكن أنت وزوجك }: وهذه حروف مرتبة، كما هو ظاهر؛ وإنما قلنا ذلك لأن بعض أهل البدع يقول: إن كلام الله تعالى هو المعنى القائم بنفسه، وليس بصوت، ولا حروف مرتبة؛ ولهم في ذلك آراء مبتدعة أوصلها بعضهم إلى ثمانية أقوال
.3 ومن فوائد الآية: منّة الله عزّ وجلّ على آدم، وحواء حيث أسكنهما الجنة..
.4 ومنها: أن النكاح سنة قديمة منذ خلق الله آدم، وبقيت في بنيه من الرسل، والأنبياء، ومن دونهم، كما قوله تعالى: {ولقد أرسلنا رسلاً من قبلك وجعلنا لهم أزواجاً وذرية} (الرعد: 38)
فإن قال قائل: زوجته بنت من؟..
فالجواب: أنها خلقت من ضلعه..
فإن قال: إذاً تكون بنتاً له، فكيف يتزوج ابنته؟..
فالجواب: أن لله تعالى أن يحكم بما شاء؛ فكما أباح أن يتزوج الأخ أخته من بني آدم الأولين؛ فكذلك أباح أن يتزوج آدم من خلقها الله من ضلعه..
.5 ومن فوائد الآية: أن الأمر يأتي للإباحة؛ لقوله تعالى: { وكُلا منها }؛ فإن هذه للإباحة بدليل قوله تعالى: { حيث شئتما }: خيَّرهما أن يأكلا من أيّ مكان؛ ولا شك أن الأمر يأتي للإباحة؛ ولكن الأصل فيه أنه للطلب حتى يقوم دليل أنه للإباحة..
.6 ومنها: أن ظاهر النص أن ثمار الجنة ليس له وقت محدود؛ بل هو موجود في كل وقت؛ لقوله تعالى: { حيث شئتما }؛ فالتعميم في المكان يقتضي التعميم في الزمان؛ وقد قال الله تعالى في فاكهة الجنة: {وفاكهة كثيرة لا مقطوعة ولا ممنوعة} (الواقعة: 32، 33)
.7 ومنها: أن الله تعالى قد يمتحن العبد، فينهاه عن شيء قد تتعلق به نفسه؛ لقوله تعالى: { ولا تقربا هذه الشجرة }؛ ووجه ذلك أنه لولا أن النفس تتعلق بها ما احتيج إلى النهي عن قربانها..
.8 ومنها: أنه قد يُنهى عن قربان الشيء والمراد النهي عن فعله؛ للمبالغة في التحذير منه؛ فإن قوله تعالى: { ولا تقربا هذه الشجرة }: المراد: لا تأكلا منها، لكن لما كان القرب منها قد يؤدي إلى الأكل نُهي عن قربها..
.9 ومنها: إثبات الأسباب؛ لقوله تعالى: { ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين}..
.10 ومنها: أن معصية الله تعالى ظلم للنفس، وعدوان عليها؛ لقوله تعالى: ( ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين..).
القـرآن
)فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ) (البقرة:36).
التفسير:
.{ 36 } قوله تعالى: { فازلهما الشيطان }؛ وفي قراءة: { فأزالهما }؛ والفرق بينهما أن { أزلهما } بمعنى أوقعهما في الزلل؛ و{ أزالهما } بمعنى نحَّاهما؛ فعلى القراءة الأولى يكون الشيطان أوقعهما في الزلل، فزالا عنها، وأُخرجا منها؛ وعلى الثانية يكون الشيطان سبباً في تنحيتهما؛ و{ الشيطان } الظاهر أنه الشيطان الذي أبى أن يسجد لآدم: وسوس لهما ليقوما بمعصية الله كما فعل هو حين أبى أن يسجد لآدم..
قوله تعالى: { عنها } أي عن الجنة؛ ولهذا قال تعالى: { فأخرجهما مما كانا فيه } من النعيم؛ لأنهما كانا في أحسن ما يكون من الأماكن..
قوله تعالى: { وقلنا } أي قال الله لهما؛ { اهبطوا }: الضمير للجمع، والمراد آدم، وحواء، وإبليس؛ ولهذا قال تعالى: { بعضكم لبعض عدو }: الشيطان عدو لآدم، وحواء..
قوله تعالى: { ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين } يعني أنكم سوف تستقرون في الأرض، وسوف تتمتعون بها بما أعطاكم الله من النعم، ولكن لا على وجه الدوام؛ بل إلى حين . وهو قيام الساعة..
الفوائد:
.1من فوائد الآية: الحذر من وقوع الزلل الذي يمليه الشيطان؛ لقوله تعالى: ( فأزلهما الشيطان عنها ).
.2 ومنها: أن الشيطان يغرّ بني آدم كما غرّ أباهم حين وسوس لآدم، وحواء، وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين، وقال: يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى؛ فالشيطان قد يأتي الإنسان، فيوسوس له، فيصغر المعصية في عينه؛ ثم إن كانت كبيرة لم يتمكن من تصغيرها؛ منّاه أن يتوب منها، فيسهل عليه الإقدام؛ ولذلك احذر عدوك أن يغرك..
.3ومنها: إضافة الفعل إلى المتسبب له؛ لقوله تعالى: { فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه }؛ وقد ذكر الفقهاء . رحمهم الله . أن المتسبب كالمباشر في الضمان، لكن إذا اجتمع متسبب ومباشر تمكن إحالة الضمان عليه فالضمان على المباشر؛ وإن لم تمكن فالضمان على المتسبب؛ مثال الأول؛ أن يحفر بئراً، فيأتي شخص، فيدفع فيها إنساناً، فيهلك: فالضمان على الدافع؛ ومثال الثاني: أن يلقي شخصاً بين يدي أسد، فيأكله: فالضمان على الملقي . لا على الأسد..
.4 ومن فوائد الآية: أن الشيطان عدو للإنسان؛ لقوله تعالى: { بعضكم لبعض عدو }؛ وقد صرح الله تعالى بذلك في قوله تعالى: { إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدواً } (فاطر: 6).
.5 ومنها: أن قول الله تعالى يكون شرعياً، ويكون قدرياً؛ فقوله تعالى: { يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها }: هذا شرعي؛ وقوله تعالى: { وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو }: الظاهر أنه كوني؛ لأنه سبحانه وتعالى يعلم أنه لو عاد الأمر إليهما لما هبطا؛ ويحتمل أن يكون قولاً شرعياً؛ لكن الأقرب عندي أنه قول كوني . والله أعلم..
.6 ومنها: أن الجنة في مكان عالٍ؛ لقوله تعالى: { اهبطوا }؛ والهبوط يكون من أعلى إلى أسفل..
.7 ومنها: أنه لا يمكن العيش إلا في الأرض لبني آدم؛ لقوله تعالى: { ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين }؛ ويؤيد هذا قوله تعالى: {فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون} ؛ وبناءً على ذلك نعلم أن محاولة الكفار أن يعيشوا في غير الأرض إما في بعض الكواكب، أو في بعض المراكب محاولة يائسة؛ لأنه لابد أن يكون مستقرهم الأرض..
.8 ومنها: أنه لا دوام لبني آدم في الدنيا؛ لقوله تعالى: { ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين }..
القرآن
)فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (البقرة:37).
التفسير:
.{ 37 } قوله تعالى: { فتلقى آدم من ربه } يعني أخذ، وقَبِل، ورضي من الله كلمات حينما ألقى الله إليه هذه الكلمات؛ وهذه الكلمات هي قوله تعالى: {ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين} ؛ فالكلمات اعتراف آدم وحواء بأنهما أذنبا، وظلما أنفسهما، وتضرعهما إلى الله سبحانه وتعالى بأنه إن لم يغفر لهما ويرحمهما لكانا من الخاسرين؛ و{ من ربه } فيه إضافة الربوبية إلى آدم؛ وهي الربوبية الخاصة..
قوله تعالى: { فتاب عليه }: الفاعل هو الله . يعني فتاب ربه عليه؛ و"التوبة" هي رفع المؤاخذة، والعفو عن المذنب إذا رجع إلى ربه عزّ وجلّ..
قوله تعالى: { إنه هو التواب الرحيم }: هذه الجملة تعليل لقوله تعالى: { فتاب عليه }؛ لأن التوبة مقتضى هذين الاسمين العظيمين: { التواب الرحيم }؛ و{ هو } ضمير فصل يفيد هنا الحصر، والتوكيد؛ و{ التواب } صيغة مبالغة من "تاب"؛ وذلك لكثرة التائبين، وكثرة توبة الله؛ ولذلك سمى الله نفسه "التواب" ؛ و{ الرحيم } أي ذو الرحمة الواسعة الواصلة إلى من شاء من عباده..
الفوائد:
.1 من فوائد الآية: منة الله سبحانه وتعالى على أبينا آدم حين وفقه لهذه الكلمات التي كانت بها التوبة؛ لقوله تعالى: { فتلقى آدم من ربه كلمات }..
.2 ومنها: أن منة الله على أبينا هي منة علينا في الحقيقة؛ لأن كل إنسان يشعر بأن الله إذا منَّ على أحد أجداده كان مانّاً عليه..
.3 ومنها: أن قول الإنسان: "ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين" سبب لقبول توبة الله على عبده؛ لأنها اعتراف بالذنب؛ وفي قول الإنسان: "ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين" أربعة أنواع من التوسل؛ الأول: التوسل بالربوبية؛ الثاني: التوسل بحال العبد: {ظلمنا أنفسنا} ؛ الثالث: تفويض الأمر إلى الله؛ لقوله: {وإن لم تغفر لنا...} إلخ؛ الرابع: ذكر حال العبد إذا لم تحصل له مغفرة الله ورحمته؛ لقوله تعالى: {لنكونن من الخاسرين} ، وهي تشبه التوسل بحال العبد؛ بل هي توسل بحال العبد؛ وعليه فيكون توسل العبد بحاله توسلاً بحاله قبل الدعاء، وبحاله بعد الدعاء إذا لم يحصل مقصوده..
.4 ومن فوائد الآية: أن الله تعالى يتكلم بصوت مسموع؛ وجه ذلك أن آدم تلقى منه كلمات؛ وتلقي الكلمات لا يكون إلا بسماع الصوت؛ وهذا الذي عليه أهل السنة والجماعة أن الله يتكلم بكلام بصوت مسموع، وحروف مرتبة..
.5 ومنها: منة الله عزّ وجلّ على آدم بقبول التوبة؛ فيكون في ذلك منَّتان؛ الأولى: التوفيق للتوبة، حيث تلقَّى الكلمات من الله؛ و الثانية: قبول التوبة، حيث قال تعالى: { فتاب عليه }..
واعلم أن لله تعالى على عبده منتين؛ التوبة الأولى قبل توبة العبد؛ وهي التوفيق للتوبة؛ والتوبة الثانية بعد توبة العبد؛ وهي قبول التوبة؛ وكلاهما في القرآن؛ قال الله . تبارك وتعالى: {وعلى الثلاثة الذين خُلِّفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا} : فقوله تعالى: {ثم تاب عليهم} أي وفقهم للتوبة، وقوله تعالى: {ليتوبوا} أي يقوموا بالتوبة إلى الله؛ وأما توبة القبول ففي قوله تعالى: {وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات} (الشورى: 25).
.6 ومن فوائد الآية: أن الإنسان إذا صدق في تفويض الأمر إلى الله، ورجوعه إلى طاعة الله فإن الله تعالى يتوب عليه؛ وهذا له شواهد كثيرة أن الله أكرم من عبده؛ من تقرب إليه ذراعاً تقرب الله إليه باعاً، ومن أتاه يمشي أتاه الله هرولة؛ فكرم الله عزّ وجلّ أعلى، وأبلغ من كرم الإنسان..
.7 ومنها: إثبات هذين الاسمين الكريمين: { التواب }، و{ الرحيم }؛ وما تضمناه من صفة، وفعل..
.8 ومنها: اختصاص الله بالتوبة، والرحمة؛ بدليل ضمير الفصل؛ ولكن المراد اختصاصه بالتوبة التي لا يقدر عليها غيره؛ لأن الإنسان قد يتوب على ابنه، وأخيه، وصاحبه، وما أشبه ذلك؛ لكن التوبة التي لا يقدر عليها إلا الله . وهي المذكورة في قوله تعالى: {ومن يغفر الذنوب إلا الله} . هذه خاصة بالله..
كذلك الرحمة المراد بها الرحمة التي لا تكون إلا لله؛ أما رحمة الخلق بعضهم لبعض فهذا ثابت . لا يختص بالله عزّ وجلّ؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الراحمون يرحمهم الرحمن"(81) ..
القـرآن
(قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (البقرة:38).
التفسير:
.{ 38 } قوله تعالى: { قلنا اهبطوا منها جميعاً }: الواو ضمير جمع، وعبر به عن اثنين لأن آدم، وحواء هما أبَوَا بني آدم؛ فوجه الخطاب إليهما بصيغة الجمع باعتبارهما مع الذرية؛ هذا هو الظاهر؛ وأما حمله على أن أقل الجمع اثنين، وأن ضمير الجمع هنا بمعنى ضمير التثنية فبعيد؛ لأن كون أقل الجمع اثنين شاذ في اللغة العربية؛ وأما قوله تعالى: {إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما} فإن الأفصح في المتعدد إذا أضيف إلى متعدد أن يكون بلفظ الجمع . وإن كان المراد به اثنين؛ و{ جميعاً } منصوبة على الحال من الواو في قوله تعالى: ( اهبطوا ).
قوله تعالى: { فإما } أصلها: "فإنْ ما" : أدغمت النون في "ما" ؛ و "إن" شرطية، و "ما" زائدة للتوكيد؛ و{ يأتينكم } فعل مضارع مؤكد بنون التوكيد؛ ولذلك لم يكن مجزوماً؛ بل كان مبنياً على الفتح؛ لاتصاله بنون التوكيد لفظاً، وتقديراً..
قوله تعالى: { مني هدًى } أي علماً: وذلك بالوحي الذي يوحيه الله تعالى إلى أنبيائه، ورسله..
قوله تعالى: { فمن تبع }: الفاء هنا رابطة لجواب الشرط؛ لأن الجملة بعد الفاء هي جواب الشرط؛ والجملة هنا اسمية؛ و "مَنْ" شرطية؛ و "تبع" فعل الشرط؛ والفاء في قوله تعالى: { فلا خوف } رابطة للجواب أيضاً، و "لا" نافية، و "خوف" مبتدأ؛ وجملة: { فمن تبع هداي فلا خوف} جواب "إنْ" في قوله تعالى: {فإما يأتينكم }؛ وجملة: { فلا خوف } جواب { فمن تبع }..
وقوله تعالى: { فمن تبع هداي } أي أخذ به تصديقاً بأخباره، وامتثالاً لأحكامه؛ وأضافه الله لنفسه لأنه الذي شرعه لعباده، ولأنه موصل إليه..
قوله تعالى: { فلا خوف عليهم } أي فيما يستقبل؛ لأنهم آمنون؛ { ولا هم يحزنون } أي على ما مضى؛ لأنهم قد اغتنموه، وقاموا فيه بالعمل الصالح؛ بل هم مطمئنون غاية الطمأنينة..
الفوائد:
.1 من فوائد الآية أن الجنة التي أُسكنها آدم أولاً كانت عالية؛ لقوله تعالى: { اهبطوا }؛ والهبوط لا يكون إلا من أعلى..
.2 ومنها: إثبات كلام الله؛ لقوله تعالى: ( قلنا )..
.3 منها: أنه بصوت مسموع، وحروف مرتبة؛ لقوله تعالى: { اهبطوا منها جميعاً }؛ فلولا أنهم سمعوا ذلك ما صح توجيه الأمر إليهم..
.4 ومنها: أن التوكيد في الأسلوب العربي فصيح، ومن البلاغة؛ لقوله تعالى: { جميعاً }؛ وهو توكيد معنوي: لأنه حال من حيث الإعراب؛ لأن الشيء إذا كان هاماً فينبغي أن يؤكد؛ فتقول للرجل إذا أردت أن تحثه على الشيء: "يا فلان عجل عجل عجل" ثلاث مرات؛ والمقصود التوكيد، والحث..
.5 ومنها: أن الهدى من عند الله؛ لقوله تعالى: ( فإما يأتينكم مني هدًى ).
فإن قال قائل: "إنْ" في قوله تعالى: { فإما } لا تدل على الوقوع؛ لأنها ليست كـ "إذا" ؟ قلنا: نعم، هي لا تدل على الوقوع، لكنها لا تنافيه؛ والواقع يدل على الوقوع . أنه ما من أمة إلا خلا فيها نذير؛ وممكن أن نقول: في هذه الصيغة . { فإما يأتينكم } . ما يدل على الوقوع؛ وهو توكيد الفعل..
ويتفرع على هذه الفائدة: أنك لا تسأل الهدى إلا من الله عزّ وجلّ؛ لأنه هو الذي يأتي به..
.6 ومن فوائد الآية: أن من اتبع هدى الله فإنه آمن من بين يديه، ومن خلفه؛ لقوله تعالى:
( فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون).
.7 ومنها: أنه لا يتعبد لله إلا بما شرع؛ لقوله تعالى: (فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ).
.8 ومنها: أن من تعبد لله بغير ما شرع فهو على غير هدى؛ فيكون ضالاً كما شهدت بذلك السنة؛ فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم في خطبة الجمعة يقول: "وشر الأمور محدثاتها؛ وكل محدثة بدعة؛ وكل بدعة ضلالة(82).

التفاحة الحلوة22 :
قوله تعالى: و{ بحمدك }: قال العلماء: الباء هنا للمصاحبة . أي تسبيحاً مصحوباً بالحمد مقروناً به؛ فتكون الجملة متضمنة لتنزيه الله عن النقص، وإثبات الكمال لله بالحمد؛ لأن الحمد: وصف المحمود بالكمال محبة، وتعظيماً؛ فإن وصفتَ مرة أخرى بكمال فسَمِّه ثناءً؛ والدليل على هذا ما جاء في الحديث الصحيح أن الله تعالى قال: "قَسَمْتُ الصلاة بيني وبين عبدي نصفين؛ فإذ قال: {الحمد لله رب العالمين} قال تعالى: حمدني عبدي؛ وإذا قال: {الرحمن الرحيم} قال تعالى: أثنى عليّ عبدي"(78) ؛ لأن نفي النقص يكون قبل إثبات الكمال من أجل أن يَرِد الكمال على محل خالٍ من النقص.. قوله تعالى: { ونقدس }: "التقديس" معناه التطهير؛ وهو أمر زائد على "التنْزيه"؛ لأن "التنزيه" تبرئة، وتخلية؛ و"التطهير" أمر زائد؛ ولهذا نقول في دعاء الاستفتاح: "اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب؛ اللهم نقني من خطاياي كما ينقَّى الثوب الأبيض من الدنس؛ اللهم اغسلني من خطاياي بالماء، والثلج، والبَرد"(79) : فالأول: طلبُ المباعدة؛ والثاني: طلب التنقية . يعني: التخلية بعد المباعدة؛ والثالث: طلب الغسل بعد التنقية حتى يزول الأثر بالكلية؛ فيجمع الإنسان بين تنْزيه الله عزّ وجلّ عن كل عيب ونقص، وتطهيره . أنه لا أثر إطلاقاً لما يمكن أن يعلق بالذهن من نقص.. قوله تعالى: { لك } اللام هنا للاختصاص؛ فتفيد الإخلاص؛ وهي أيضاً للاستحقاق؛ لأن الله . جلّ وعلا . أهل لأن يقدس.. أجابهم الله تعالى: { قال إني أعلم ما لا تعلمون } أي من أمر هذه الخليفة التي سيكون منها النبيون، والصدِّيقون، والشهداء، والصالحون.. الفوائد: .1 من فوائد الآية: إثبات القول لله عزّ وجلّ، وأنه بحرف، وصوت؛ وهذا مذهب السلف الصالح من الصحابة، والتابعين، وأئمة الهدى من بعدهم؛ يؤخذ كونه بحرف من قوله تعالى: { إني جاعل في الأرض خليفة }؛ لأن هذه حروف؛ ويؤخذ كونه بصوت من أنه خاطب الملائكة بما يسمعونه؛ وإثبات القول لله على هذا الوجه من كماله سبحانه وتعالى؛ بل هو من أعظم صفات الكمال: أن يكون عزّ وجلّ متكلماً بما شاء كوناً، وشرعاً؛ متى شاء؛ وكيف شاء؛ فكل ما يحدث في الكون فهو كائن بكلمة { كن }؛ لقوله تعالى: {إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون} [يس: 82] ؛ وكل الكون مراد له قدراً؛ وأما قوله الشرعي: فهو وحيه الذي أوحاه إلى رسله، وأنبيائه.. .2 ومن فوائد الآية: أن الملائكة ذوو عقول؛ ووجهه أن الله تعالى وجه إليهم الخطاب، وأجابوا؛ ولا يمكن أن يوجه الخطاب إلا إلى من يعقله؛ ولا يمكن أن يجيبه إلا من يعقل الكلامَ، والجوابَ عليه؛ وإنما نبَّهْنا على ذلك؛ لأن بعض أهل الزيغ قالوا: إن الملائكة ليسوا عقلاء.. .3 ومنها: إثبات الأفعال لله عزّ وجلّ أي أنه تعالى يفعل ما شاء متى شاء كيف شاء؛ ومن أهل البدع من ينكر ذلك زعماً منه أن الأفعال حوادث؛ والحوادث لا تقوم إلا بحادث فلا يجيء، ولا يستوي على العرش، ولا ينْزل، ولا يتكلم، ولا يضحك، ولا يفرح، ولا يعجب؛ وهذه دعوى فاسدة من وجوه:. الأول: أنها في مقابلة نص؛ وما كان في مقابلة نص فهو مردود على صاحبه.. الثاني: أنها دعوى غير مسلَّمة؛ فإن الحوادث قد تقوم بالأول الذي ليس قبله شيء.. الثالث: أن كونه تعالى فعالاً لما يريد من كماله، وتمام صفاته؛ لأن من لا يفعل إما أن يكون غير عالم، ولا مريد؛ وإما أن يكون عاجزاً؛ وكلاهما وصفان ممتنعان عن الله سبحانه وتعالى.. فتَعَجَّبْ كيف أُتي هؤلاء من حيث ظنوا أنه تنزيه لله عن النقص؛ وهو في الحقيقة غاية النقص!!! فاحمد ربك على العافية، واسأله أن يعافي هؤلاء مما ابتلاهم به من سفه في العقول، وتحريف للمنقول.. .4 ومن فوائد الآية: أن بني آدم يخلف بعضهم بعضاً . على أحد الأقوال في معنى { خليفة }؛ وهذا هو الواقع؛ فتجد من له مائة مع من له سنة واحدة، وما بينهما؛ وهذا من حكمة الله عزّ وجلّ؛ لأن الناس لو من وُلِد بقي لضاقت الأرض بما رحبت، ولما استقامت الأحوال، ولا حصلت الرحمة للصغار، ولا الولاية عليهم إلى غير ذلك من المصالح العظيمة.. .5 ومنها: قيام الملائكة بعبادة الله عزّ وجلّ؛ لقوله تعالى: ( ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك ) .6 ومنها: كراهة الملائكة للإفساد في الأرض؛ لقولهم: ( أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ). .7 ومنها: أن وصف الإنسان نفسه بما فيه من الخير لا بأس به إذا كان المقصود مجرد الخبر دون الفخر؛ لقولهم: { ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك }؛ ويؤيد ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: "أنا سيد ولد آدم ولا فخر"(80) ؛ وأما إذا كان المقصود الفخر، وتزكية النفس بهذا فلا يجوز؛ لقوله تعالى: { فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى } [النجم: 32] .. .8 ومنها: شدة تعظيم الملائكة لله عزّ وجلّ، حيث قالوا: (ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك). القـرآن )وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (البقرة:31). )قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) (البقرة:32). التفسير: .{ 31 } قوله تعالى: { وعلم آدم }: الفاعل هو الله عزّ وجلّ؛ و{ آدم } هو أبو البشر؛ و{ الأسماء } جمع "اسم"؛ و "أل" فيها للعموم بدليل قوله تعالى: { كلها }؛ وهل هذه الأسماء أسماء لمسميات حاضرة؛ أو لكل الأسماء؟ للعلماء في ذلك قولان؛ والأظهر أنها أسماء لمسميات حاضرة بدليل قوله تعالى: { ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء }؛ وهذه الأسماء . والله أعلم . ما يحتاج إليها آدم، وبنوه في ذلك الوقت.. قوله تعالى: { ثم عرضهم } أي عرض المسميات؛ بدليل قوله تعالى: { أنبئوني بأسماء هؤلاء }، ولأن الميم علامة جمع العاقل؛ فلم تعلم الملائكة أسماء تلك المسميات؛ بل كان جوابهم: { سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا }، ثم قال تعالى: { يا آدم أنبئهم بأسمائهم }: وأراد عزّ وجلّ بذلك أن يعرف الملائكة أنهم ليسوا محيطين بكل شيء علماً، وأنهم يفوتهم أشياء يفضلهم آدم فيها.. قوله تعالى: { أنبئوني }: هل هو فعل أمر يراد به قيام المأمور بما وُجّه إليه، أو هو تحَدٍّ؟ الجواب: الظاهر الثاني: أنه تحدٍّ؛ بدليل قوله تعالى: { إن كنتم صادقين } أن لديكم علماً بالأشياء فأنبئوني بأسماء هؤلاء؛ لأن الملائكة قالت فيما سبق: {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك} [البقرة: 30] ، فقال تعالى: { إني أعلم ما لا تعلمون }، ثم امتحنهم الله بهذا.. .{ 32 } قوله تعالى: { سبحانك } أي تنزيهاً لك عما لا يليق بجلالك؛ فأنت يا ربنا لم تفعل هذا إلا لحكمة بالغة.. قوله تعالى: { لا علم لنا إلا ما علمتنا }: اعتراف من الملائكة أنهم ليسوا يعلمون إلا ما علمهم الله، هذا مع أنهم ملائكة مقرَّبون إلى الله عزّ وجلّ.. قوله تعالى: { إنك أنت العليم الحكيم }: هذه الجملة مؤكدة بـ "إن" ، وضمير الفصل: { أنت }؛ والمعنى: إنك ذو العلم الواسع الشامل المحيط بالماضي والحاضر، والمستقبل؛ و{ الحكيم } يعني ذا الحكمة، والحكم؛ لأن الحكيم مشتقة من الحكم، والحكمة؛ فهذان اسمان من أسماء الله عزّ وجلّ: { العليم }، و(الحكيم). الفوائد: .1 من فوائد الآيتين: بيان أن الله تعالى قد يمنّ على بعض عباده بعلم لا يعلمه الآخرون؛ وجهه: أن الله علم آدم أسماء مسميات كانت حاضرة، والملائكة تجهل ذلك.. .2 ومنها: أن اللغات توقيفية . وليست تجريبية؛ "توقيفية" بمعنى أن الله هو الذي علم الناس إياها؛ ولولا تعليم الله الناسَ إياها ما فهموها؛ وقيل: إنها "تجريبية" بمعنى أن الناس كوَّنوا هذه الحروف والأصوات من التجارب، فصار الإنسان أولاً أبكم لا يدري ماذا يتكلم، لكن يسمع صوت الرعد، يسمع حفيف الأشجار، يسمع صوت الماء وهو يسيح على الأرض، وما أشبه ذلك؛ فاتخذ مما يسمع أصواتاً تدل على مراده؛ ولكن هذا غير صحيح؛ والصواب أن اللغات مبدؤها توقيفي؛ وكثير منها كسبي تجريبي يعرفه الناس من مجريات الأحداث؛ ولذلك تجد أن أشياء تحدث ليس لها أسماء من قبل، ثم يحدث الناس لها أسماء؛ إما من التجارب، أو غير ذلك من الأشياء.. .3 ومن فوائد الآيتين: جواز امتحان الإنسان بما يدعي أنه مُجيد فيه.. .4 ومنها: جواز التحدي بالعبارات التي يكون فيها شيء من الشدة؛ لقوله تعالى: { أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين}.. .5 ومنها: أن الملائكة تتكلم؛ لقوله تعالى: ( أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين * قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ).. .6 ومنها: اعتراف الملائكة . عليهم الصلاة والسلام . بأنهم لا علم لهم إلا ما علمهم الله عزّ وجلّ.. ويتفرع على ذلك أنه ينبغي للإنسان أن يعرف قدر نفسه، فلا يدَّعي علم ما لم يعلم.. .7 ومنها: شدة تعظيم الملائكة لله عزّ وجلّ، حيث اعترفوا بكماله، وتنزيهه عن الجهل بقولهم: {سبحانك}؛ واعترفوا لأنفسهم بأنهم لا علم عندهم؛ واعترفوا لله بالفضل في قولهم: { إلا ما علمتنا }.. .8 ومنها: إثبات اسمين من أسماء الله؛ وهما { العليم }، و{ الحكيم }؛ فـ { العليم }: ذو العلم الواسع المحيط بكل شيء جملة وتفصيلاً لما كان، وما يكون من أفعاله، وأفعال خلقه.. و{ الحكيم }: ذو الحكمة البالغة التي تعجز عن إدراكها عقول العقلاء وإن كانت قد تدرك شيئاً منها؛ و "الحكمة" هي وضع الشيء في موضعه اللائق به؛ وتكون في شرع الله، وفي قدر الله؛ أما الحكمة في شرعه فإن جميع الشرائع مطابقة للحكمة في زمانها، ومكانها، وأحوال أممها؛ فما أمر الله بشيء، فقال العقل الصريح: "ليته لم يأمر به"؛ وما نهى عن شيء، فقال: "ليته لم ينهَ عنه"؛ وأما الحكمة في قدره فما من شيء يقدره الله إلا وهو مشتمل على الحكمة إما عامة؛ وإما خاصة.. واعلم أن الحكمة تكون في نفس الشيء: فوقوعه على الوجه الذي حكم الله تعالى به في غاية الحكمة؛ وتكون في الغاية المقصودة منه: فأحكام الله الكونية، والشرعية كلها لغايات محمودة قد تكون معلومة لنا، وقد تكون مجهولة؛ والأمثلة على هذا كثيرة واضحة.. ولـ { الحكيم } معنًى آخر؛ وهو ذو الحكم، والسلطان التام؛ فلا معقب لحكمه؛ وحكمه تعالى نوعان: شرعي، وقدري؛ فأما الشرعي فوحيه الذي جاءت به رسله؛ ومنه قوله تعالى: { أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون } [المائدة: 50] ، وقوله تعالى في سورة الممتحنة: { ذلكم حكم الله يحكم بينكم والله عليم حكيم } [الممتحنة: 10] ؛ وأما حكمه القدري فهو ما قضى به قدراً على عباده من شدة، ورخاء، وحزن، وسرور، وغير ذلك؛ ومنه قوله تعالى عن أحد إخوة يوسف: { فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي أو يحكم الله لي وهو خير الحاكمين } (يوسف: 80). والفرق بين الحكم الشرعي، والكوني: أن الشرعي لا يلزم وقوعه ممن حُكِم عليه به؛ ولهذا يكون العصاة من بني آدم، وغيرهم المخالفون لحكم الله الشرعي؛ وأما الحكم القدري فلا معارض له، ولا يخرج أحد عنه؛ بل هو نافذ في عباده على كل حال.. القـرآن )قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) (البقرة:33). التفسير: .{ 33 } قوله تعالى: { قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم }؛ القائل هو الله عزّ وجلّ؛ و{ آدم } هو أبو البشر؛ والظاهر أن هذا اسم له، وليس وصفاً؛ وهو مشتق لغة من الأُدْمة؛ وهي لون بين البياض الخالص والسواد قوله تعالى: { فلما أنبأهم بأسمائهم } أي أنبأ الملائكة؛ { قال } أي قال الله؛ { ألم أقل لكم }: الاستفهام هنا للتقرير؛ والمعنى: قلت لكم، كقوله تعالى: {ألم نشرح لك صدرك} [الشرح: 1] : والمعنى: قد شرحنا لك صدرك؛ { إني أعلم غيب السموات والأرض } أي ما غاب فيهما . وهو نوعان: نسبي؛ وعام؛ فأما النسبي فهو ما غاب عن بعض الخلق دون بعض؛ وأما العام فهو ما غاب عن الخلق عموماً.. قوله تعالى: { وأعلم ما تبدون } أي ما تظهرون؛ { وما كنتم تكتمون } أي تخفون.. الفوائد: .1 من فوائد الآية: إثبات القول لله عزّ وجلّ لقوله تعالى: { يا آدم }؛ وأنه بحرف، وصوت مسموع؛ لأن آدم سمعه، وفهمه، فأنبأ الملائكة به؛ وهذا الذي عليه أهل السنة والجماعة، والسلف الصالح . أن الله يتكلم بكلام مسموع مترتب بعضه سابق لبعض.. .2 ومنها: أن آدم . عليه الصلاة والسلام . امتثل، وأطاع، ولم يتوقف؛ لقوله تعالى: { فلما أنبأهم }؛ ولهذا طوى ذكر قوله: "فأنبأهم" إشارة إلى أنه بادر، وأنبأ الملائكة.. .3 ومنها: جواز تقرير المخاطب بما لا يمكنه دفعه؛ والتقرير لا يكون إلا هكذا . أي بأمر لا يمكن دفعه؛ وذلك لقوله تعالى: { ألم أقل لكم إني أعلم غيب السموات والأرض }.. .4 ومنها: بيان عموم علم الله عزّ وجلّ، وأنه يتعلق بالمشاهد، والغائب؛ لقوله تعالى: ( أعلم غيب السموات والأرض ).. .5 ومنها: أن السموات ذات عدد؛ لقوله تعالى: { السموات }؛ و "الأرض" جاءت مفردة، والمراد بها الجنس؛ لأن الله تعالى قال: {الله الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن} [الطلاق: 12] أي في العدد.. .6 ومنها: أن الملائكة لها إرادات تُبدى، وتكتم؛ لقوله تعالى: { وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون }.. .7 ومنها: أن الله تعالى عالم بما في القلوب سواء أُبدي أم أُخفي؛ لقوله تعالى: ( ما تبدون وما كنتم تكتمون). فإن قال قائل: ما الدليل على أن الملائكة لها قلوب؟.. فالجواب: قوله تعالى: {حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير} [سبأ: 23]. القـرآن )وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ) (البقرة:34). التفسير: .{ 34 } قوله تعالى: { وإذ قلنا } يعني اذكر إذ قلنا؛ ومثل هذا التعبير يتكرر كثيراً في القرآن، والعلماء يقدرون لفظ: "اذكر"، وهم بحاجة إلى هذا التقدير؛ لأن "إذ" ظرفية؛ والظرف لا بد له من شيء يتعلق به إما مذكوراً؛ وإما محذوفاً؛ وفي نظم الجُمل:. لا بد للجار من التعلق بفعل أو معناه نحو مرتقي ومثله الظرف؛ وجاء الضمير في { قلنا } بضمير الجمع من باب التعظيم . لا التعدد . كما هو معلوم.. قوله تعالى: { للملائكة }: سبق الكلام على ذكر الملائكة، ومن أين اشتق هذا اللفظ.. قوله تعالى: { اسجدوا لآدم }: "السجود" هو السجود على الأرض بأن يضع الساجد جبهته على الأرض خضوعاً، وخشوعاً؛ وليس المراد به هنا الركوع؛ لأن الله تعالى فرَّق بين الركوع والسجود، كما في قوله تعالى: {تراهم ركعاً سجداً} [الفتح: 29] ، وقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا} [الحج: 77] .. قوله تعالى: { فسجدوا } أي من غير تأخير؛ فالفاء هنا للترتيب، والتعقيب؛ { إلا إبليس } هو الشيطان؛ وسمي إبليساً لأنه أَبلَسَ من رحمة الله . أي أَيِسَ منها يأساً لا رجاء بعده . { أبى } أي امتنع؛ { واستكبر } أي صار ذا كبر؛ { وكان من الكافرين }: زعم بعض العلماء أن المراد: كان من الكافرين في علم الله بناءً على أن { كان } فعل ماضٍ؛ والمضي يدل على شيء سابق؛ لكن هناك تخريجاً أحسن من هذا: أن نقول: إن "كان" تأتي أحياناً مسلوبة الزمان، ويراد بها تحقق اتصاف الموصوف بهذه الصفة؛ ومن ذلك قوله تعالى: {وكان الله غفوراً رحيماً} [النساء: 96] ، وقوله تعالى: {وكان الله عزيزاً حكيماً} [النساء: 158] ، وقوله تعالى: {وكان الله سميعاً بصيراً} [النساء: 134] ، وما أشبهها؛ هذه ليس المعنى أنه كان فيما مضى؛ بل لا يزال؛ فتكون { كان } هنا مسلوبة الزمان، ويراد بها تحقيق اتصاف الموصوف بما دلت عليه الجملة؛ وهذا هو الأقرب، وليس فيه تأويل؛ ويُجرى الكلام على ظاهره.. الفوائد: .1 من فوائد الآية: بيان فضل آدم على الملائكة؛ وجهه أن الله أمر الملائكة أن يسجدوا له تعظيماً له.. .2 ومنها: أن السجود لغير الله إذا كان بأمر الله فهو عبادة؛ لأن لله تعالى أن يحكم بما شاء؛ ولذلك لما امتنع إبليس عن هذا كان من الكافرين؛ وقد استدل بعض العلماء بهذه الآية على كفر تارك الصلاة؛ قال: لأنه إذا كان إبليس كفر بترك سجدة واحدة أُمر بها، فكيف عن ترك الصلاة كاملة؟! وهذا الاستدلال إن استقام فهو هو؛ وإن لم يستقم فقد دلت نصوص أخرى من الكتاب، والسنة، وأقوال الصحابة على كفر تارك الصلاة كفراً أكبر مخرجاً عن الملة.. ويدل على أن المحرَّم إذا أمر الله تعالى به كان عبادة قصة إبراهيم عليه السلام، حين أمره الله أن يذبح ابنه إسماعيل فامتثل أمر الله؛ ولكن الله رحمه، ورحم ابنه برفع ذلك عنهما، حيث قال تعالى: {فلما أسلما وتلَّه للجبين * وناديناه أن يا إبراهيم * قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين} [الصافات: 103 . 105] ؛ ومن المعلوم أن قتل الابن من كبائر الذنوب، لكن لما أمر الله عزّ وجلّ به كان امتثاله عبادة.. .3 ومن فوائد الآية: أن إبليس . والعياذ بالله . جمع صفات الذم كلها: الإباء عن الأمر؛ والاستكبار عن الحق، وعلى الخلق؛ والكفر؛ إبليس استكبر عن الحق؛ لأنه لم يمتثل أمر الله؛ واستكبر على الخلق؛ لأنه قال: {أنا خير منه} [الأعراف: 12] ؛ فاستكبر في نفسه، وحقر غيره؛ و"الكبر" بطر الحق، وغمط الناس.. تنبــــــــيه: إن قال قائل: في الآية إشكال . وهو أن الله تعالى لما ذكر أمر الملائكة بالسجود، وذكر أنهم سجدوا إلا إبليس؛ كان ظاهرها أن إبليس منهم؛ والأمر ليس كذلك؟.. والجواب: أن إبليس كان مشاركاً لهم في أعمالهم ظاهراً، فكان توجيه الأمر شاملاً له بحسب الظاهر؛ وقد يقال: إن الاستثناء منقطع؛ والاستثناء المنقطع لا يكون فيه المستثنى من جنس المستثنى منه.. القـرآن )وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ) (البقرة:35). التفسير: .{ 35 } قوله تعالى: { قلنا } فاعل القول هو الله عزّ وجلّ؛ { اسكن أنت وزوجك }: "زوج" معطوف على الفاعل في { اسكن }؛ لأن { أنت } توكيد للفاعل؛ وليست هي الفاعل؛ لأن { اسكن } فعل أمر؛ وفعل الأمر لا يمكن أن يظهر فيه الفاعل؛ لأنه مستتر وجوباً؛ وعلى هذا فـ { أنت } الضمير المنفصل توكيد للضمير المستتر؛ و{ زوجك } هي حواء، كما ثبت ذلك في صحيح البخاري، وغيره.. قوله تعالى:{ الجنة } هي البستان الكثير الأشجار، وسمي بذلك لأنه مستتر بأشجاره؛ وهل المراد بـ { الجنة جنة الخلد؛ أم هي جنة سوى جنة الخلد؟.. الجواب: ظاهر الكتاب، والسنة أنها جنة الخلد، وليست سواها؛ لأن "أل" هنا للعهد الذهني.. فإن قيل: كيف يكون القول الصحيح أنها جنة الخلد مع أن من دخلها لا يخرج منها . وهذه أُخرج منها آدم؟ فالجواب: أن من دخل جنة الخلد لا يخرج منها: بعد البعث؛ وفي هذا يقول ابن القيم في الميمية المشهورة. (فحيَّ على جنات عدن فإنها منازلك الأولى وفيها المخيم) قال: "منازلك الأولى"؛ لأن أبانا آدم نزلها.. قوله تعالى: { وكُلا }: أمر بمعنى الإباحة، والإكرام؛ { منها } أي من هذه الجنة؛ { رغداً } أي أكلاً هنياً ليس فيه تنغيص؛ { حيث شئتما } أي في أيّ مكان من هذه الجنة، ونقول أيضاً: وفي أيّ زمان؛ لأن قوله تعالى: { كُلا } فعل مطلق لم يقيد بزمن.. قوله تعالى: { ولا تقربا هذه الشجرة } أشار الله تعالى إلى الشجرة بعينها، و "أل" فيها للعهد الحضوري؛ لأن كل ما جاء بـ "أل" بعد اسم الإشارة فهو للعهد الحضوري؛ إذ إن اسم الإشارة يعني الإشارة إلى شيء قريب؛ وهذه الشجرة غير معلومة النوع، فتبقى على إبهامها.. قوله تعالى: { فتكونا }: وقعت جواباً للطلب . وهو قوله تعالى: { لا تقربا }؛ فالفاء هنا للسببية؛ والفعل بعدها منصوب بـ "أن" مضمرة بعد فاء السببية؛ وقيل: إن الفعل منصوب بنفس الفاء؛ القول الأول للبصريين، والثاني للكوفيين؛ والثاني هو المختار عندنا بناءً على القاعدة أنه متى اختلف علماء النحو في إعراب كلمة أو جملة فإننا: نأخذ بالأسهل ما دام المعنى يحتمله.. قوله تعالى: { من الظالمين } أي من المعتدين لمخالفة الأمر.. الفوائد: .1من فوائد الآية: إثبات القول لله عزّ وجلّ؛ لقوله تعالى: ( وقلنا يا آدم ).. .2 ومنها: أن قول الله يكون بصوت مسموع، وحروف مرتبة؛ لقوله تعالى: { يا آدم اسكن... } إلخ؛ ولولا أن آدم يسمعه لم يكن في ذلك فائدة؛ وأيضاً هو مرتب؛ لقوله تعالى: { يا آدم اسكن أنت وزوجك }: وهذه حروف مرتبة، كما هو ظاهر؛ وإنما قلنا ذلك لأن بعض أهل البدع يقول: إن كلام الله تعالى هو المعنى القائم بنفسه، وليس بصوت، ولا حروف مرتبة؛ ولهم في ذلك آراء مبتدعة أوصلها بعضهم إلى ثمانية أقوال .3 ومن فوائد الآية: منّة الله عزّ وجلّ على آدم، وحواء حيث أسكنهما الجنة.. .4 ومنها: أن النكاح سنة قديمة منذ خلق الله آدم، وبقيت في بنيه من الرسل، والأنبياء، ومن دونهم، كما قوله تعالى: {ولقد أرسلنا رسلاً من قبلك وجعلنا لهم أزواجاً وذرية} (الرعد: 38) فإن قال قائل: زوجته بنت من؟.. فالجواب: أنها خلقت من ضلعه.. فإن قال: إذاً تكون بنتاً له، فكيف يتزوج ابنته؟.. فالجواب: أن لله تعالى أن يحكم بما شاء؛ فكما أباح أن يتزوج الأخ أخته من بني آدم الأولين؛ فكذلك أباح أن يتزوج آدم من خلقها الله من ضلعه.. .5 ومن فوائد الآية: أن الأمر يأتي للإباحة؛ لقوله تعالى: { وكُلا منها }؛ فإن هذه للإباحة بدليل قوله تعالى: { حيث شئتما }: خيَّرهما أن يأكلا من أيّ مكان؛ ولا شك أن الأمر يأتي للإباحة؛ ولكن الأصل فيه أنه للطلب حتى يقوم دليل أنه للإباحة.. .6 ومنها: أن ظاهر النص أن ثمار الجنة ليس له وقت محدود؛ بل هو موجود في كل وقت؛ لقوله تعالى: { حيث شئتما }؛ فالتعميم في المكان يقتضي التعميم في الزمان؛ وقد قال الله تعالى في فاكهة الجنة: {وفاكهة كثيرة لا مقطوعة ولا ممنوعة} (الواقعة: 32، 33) .7 ومنها: أن الله تعالى قد يمتحن العبد، فينهاه عن شيء قد تتعلق به نفسه؛ لقوله تعالى: { ولا تقربا هذه الشجرة }؛ ووجه ذلك أنه لولا أن النفس تتعلق بها ما احتيج إلى النهي عن قربانها.. .8 ومنها: أنه قد يُنهى عن قربان الشيء والمراد النهي عن فعله؛ للمبالغة في التحذير منه؛ فإن قوله تعالى: { ولا تقربا هذه الشجرة }: المراد: لا تأكلا منها، لكن لما كان القرب منها قد يؤدي إلى الأكل نُهي عن قربها.. .9 ومنها: إثبات الأسباب؛ لقوله تعالى: { ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين}.. .10 ومنها: أن معصية الله تعالى ظلم للنفس، وعدوان عليها؛ لقوله تعالى: ( ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين..). القـرآن )فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ) (البقرة:36). التفسير: .{ 36 } قوله تعالى: { فازلهما الشيطان }؛ وفي قراءة: { فأزالهما }؛ والفرق بينهما أن { أزلهما } بمعنى أوقعهما في الزلل؛ و{ أزالهما } بمعنى نحَّاهما؛ فعلى القراءة الأولى يكون الشيطان أوقعهما في الزلل، فزالا عنها، وأُخرجا منها؛ وعلى الثانية يكون الشيطان سبباً في تنحيتهما؛ و{ الشيطان } الظاهر أنه الشيطان الذي أبى أن يسجد لآدم: وسوس لهما ليقوما بمعصية الله كما فعل هو حين أبى أن يسجد لآدم.. قوله تعالى: { عنها } أي عن الجنة؛ ولهذا قال تعالى: { فأخرجهما مما كانا فيه } من النعيم؛ لأنهما كانا في أحسن ما يكون من الأماكن.. قوله تعالى: { وقلنا } أي قال الله لهما؛ { اهبطوا }: الضمير للجمع، والمراد آدم، وحواء، وإبليس؛ ولهذا قال تعالى: { بعضكم لبعض عدو }: الشيطان عدو لآدم، وحواء.. قوله تعالى: { ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين } يعني أنكم سوف تستقرون في الأرض، وسوف تتمتعون بها بما أعطاكم الله من النعم، ولكن لا على وجه الدوام؛ بل إلى حين . وهو قيام الساعة.. الفوائد: .1من فوائد الآية: الحذر من وقوع الزلل الذي يمليه الشيطان؛ لقوله تعالى: ( فأزلهما الشيطان عنها ). .2 ومنها: أن الشيطان يغرّ بني آدم كما غرّ أباهم حين وسوس لآدم، وحواء، وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين، وقال: يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى؛ فالشيطان قد يأتي الإنسان، فيوسوس له، فيصغر المعصية في عينه؛ ثم إن كانت كبيرة لم يتمكن من تصغيرها؛ منّاه أن يتوب منها، فيسهل عليه الإقدام؛ ولذلك احذر عدوك أن يغرك.. .3ومنها: إضافة الفعل إلى المتسبب له؛ لقوله تعالى: { فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه }؛ وقد ذكر الفقهاء . رحمهم الله . أن المتسبب كالمباشر في الضمان، لكن إذا اجتمع متسبب ومباشر تمكن إحالة الضمان عليه فالضمان على المباشر؛ وإن لم تمكن فالضمان على المتسبب؛ مثال الأول؛ أن يحفر بئراً، فيأتي شخص، فيدفع فيها إنساناً، فيهلك: فالضمان على الدافع؛ ومثال الثاني: أن يلقي شخصاً بين يدي أسد، فيأكله: فالضمان على الملقي . لا على الأسد.. .4 ومن فوائد الآية: أن الشيطان عدو للإنسان؛ لقوله تعالى: { بعضكم لبعض عدو }؛ وقد صرح الله تعالى بذلك في قوله تعالى: { إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدواً } (فاطر: 6). .5 ومنها: أن قول الله تعالى يكون شرعياً، ويكون قدرياً؛ فقوله تعالى: { يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها }: هذا شرعي؛ وقوله تعالى: { وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو }: الظاهر أنه كوني؛ لأنه سبحانه وتعالى يعلم أنه لو عاد الأمر إليهما لما هبطا؛ ويحتمل أن يكون قولاً شرعياً؛ لكن الأقرب عندي أنه قول كوني . والله أعلم.. .6 ومنها: أن الجنة في مكان عالٍ؛ لقوله تعالى: { اهبطوا }؛ والهبوط يكون من أعلى إلى أسفل.. .7 ومنها: أنه لا يمكن العيش إلا في الأرض لبني آدم؛ لقوله تعالى: { ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين }؛ ويؤيد هذا قوله تعالى: {فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون} [الأعراف: 25] ؛ وبناءً على ذلك نعلم أن محاولة الكفار أن يعيشوا في غير الأرض إما في بعض الكواكب، أو في بعض المراكب محاولة يائسة؛ لأنه لابد أن يكون مستقرهم الأرض.. .8 ومنها: أنه لا دوام لبني آدم في الدنيا؛ لقوله تعالى: { ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين }.. القرآن )فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (البقرة:37). التفسير: .{ 37 } قوله تعالى: { فتلقى آدم من ربه } يعني أخذ، وقَبِل، ورضي من الله كلمات حينما ألقى الله إليه هذه الكلمات؛ وهذه الكلمات هي قوله تعالى: {ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين} [الأعراف: 23] ؛ فالكلمات اعتراف آدم وحواء بأنهما أذنبا، وظلما أنفسهما، وتضرعهما إلى الله سبحانه وتعالى بأنه إن لم يغفر لهما ويرحمهما لكانا من الخاسرين؛ و{ من ربه } فيه إضافة الربوبية إلى آدم؛ وهي الربوبية الخاصة.. قوله تعالى: { فتاب عليه }: الفاعل هو الله . يعني فتاب ربه عليه؛ و"التوبة" هي رفع المؤاخذة، والعفو عن المذنب إذا رجع إلى ربه عزّ وجلّ.. قوله تعالى: { إنه هو التواب الرحيم }: هذه الجملة تعليل لقوله تعالى: { فتاب عليه }؛ لأن التوبة مقتضى هذين الاسمين العظيمين: { التواب الرحيم }؛ و{ هو } ضمير فصل يفيد هنا الحصر، والتوكيد؛ و{ التواب } صيغة مبالغة من "تاب"؛ وذلك لكثرة التائبين، وكثرة توبة الله؛ ولذلك سمى الله نفسه "التواب" ؛ و{ الرحيم } أي ذو الرحمة الواسعة الواصلة إلى من شاء من عباده.. الفوائد: .1 من فوائد الآية: منة الله سبحانه وتعالى على أبينا آدم حين وفقه لهذه الكلمات التي كانت بها التوبة؛ لقوله تعالى: { فتلقى آدم من ربه كلمات }.. .2 ومنها: أن منة الله على أبينا هي منة علينا في الحقيقة؛ لأن كل إنسان يشعر بأن الله إذا منَّ على أحد أجداده كان مانّاً عليه.. .3 ومنها: أن قول الإنسان: "ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين" سبب لقبول توبة الله على عبده؛ لأنها اعتراف بالذنب؛ وفي قول الإنسان: "ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين" أربعة أنواع من التوسل؛ الأول: التوسل بالربوبية؛ الثاني: التوسل بحال العبد: {ظلمنا أنفسنا} ؛ الثالث: تفويض الأمر إلى الله؛ لقوله: {وإن لم تغفر لنا...} إلخ؛ الرابع: ذكر حال العبد إذا لم تحصل له مغفرة الله ورحمته؛ لقوله تعالى: {لنكونن من الخاسرين} ، وهي تشبه التوسل بحال العبد؛ بل هي توسل بحال العبد؛ وعليه فيكون توسل العبد بحاله توسلاً بحاله قبل الدعاء، وبحاله بعد الدعاء إذا لم يحصل مقصوده.. .4 ومن فوائد الآية: أن الله تعالى يتكلم بصوت مسموع؛ وجه ذلك أن آدم تلقى منه كلمات؛ وتلقي الكلمات لا يكون إلا بسماع الصوت؛ وهذا الذي عليه أهل السنة والجماعة أن الله يتكلم بكلام بصوت مسموع، وحروف مرتبة.. .5 ومنها: منة الله عزّ وجلّ على آدم بقبول التوبة؛ فيكون في ذلك منَّتان؛ الأولى: التوفيق للتوبة، حيث تلقَّى الكلمات من الله؛ و الثانية: قبول التوبة، حيث قال تعالى: { فتاب عليه }.. واعلم أن لله تعالى على عبده منتين؛ التوبة الأولى قبل توبة العبد؛ وهي التوفيق للتوبة؛ والتوبة الثانية بعد توبة العبد؛ وهي قبول التوبة؛ وكلاهما في القرآن؛ قال الله . تبارك وتعالى: {وعلى الثلاثة الذين خُلِّفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا} [التوبة: 118] : فقوله تعالى: {ثم تاب عليهم} أي وفقهم للتوبة، وقوله تعالى: {ليتوبوا} أي يقوموا بالتوبة إلى الله؛ وأما توبة القبول ففي قوله تعالى: {وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات} (الشورى: 25). .6 ومن فوائد الآية: أن الإنسان إذا صدق في تفويض الأمر إلى الله، ورجوعه إلى طاعة الله فإن الله تعالى يتوب عليه؛ وهذا له شواهد كثيرة أن الله أكرم من عبده؛ من تقرب إليه ذراعاً تقرب الله إليه باعاً، ومن أتاه يمشي أتاه الله هرولة؛ فكرم الله عزّ وجلّ أعلى، وأبلغ من كرم الإنسان.. .7 ومنها: إثبات هذين الاسمين الكريمين: { التواب }، و{ الرحيم }؛ وما تضمناه من صفة، وفعل.. .8 ومنها: اختصاص الله بالتوبة، والرحمة؛ بدليل ضمير الفصل؛ ولكن المراد اختصاصه بالتوبة التي لا يقدر عليها غيره؛ لأن الإنسان قد يتوب على ابنه، وأخيه، وصاحبه، وما أشبه ذلك؛ لكن التوبة التي لا يقدر عليها إلا الله . وهي المذكورة في قوله تعالى: {ومن يغفر الذنوب إلا الله} [آل عمران: 135] . هذه خاصة بالله.. كذلك الرحمة المراد بها الرحمة التي لا تكون إلا لله؛ أما رحمة الخلق بعضهم لبعض فهذا ثابت . لا يختص بالله عزّ وجلّ؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الراحمون يرحمهم الرحمن"(81) .. القـرآن (قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (البقرة:38). التفسير: .{ 38 } قوله تعالى: { قلنا اهبطوا منها جميعاً }: الواو ضمير جمع، وعبر به عن اثنين لأن آدم، وحواء هما أبَوَا بني آدم؛ فوجه الخطاب إليهما بصيغة الجمع باعتبارهما مع الذرية؛ هذا هو الظاهر؛ وأما حمله على أن أقل الجمع اثنين، وأن ضمير الجمع هنا بمعنى ضمير التثنية فبعيد؛ لأن كون أقل الجمع اثنين شاذ في اللغة العربية؛ وأما قوله تعالى: {إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما} [التحريم: 4] فإن الأفصح في المتعدد إذا أضيف إلى متعدد أن يكون بلفظ الجمع . وإن كان المراد به اثنين؛ و{ جميعاً } منصوبة على الحال من الواو في قوله تعالى: ( اهبطوا ). قوله تعالى: { فإما } أصلها: "فإنْ ما" : أدغمت النون في "ما" ؛ و "إن" شرطية، و "ما" زائدة للتوكيد؛ و{ يأتينكم } فعل مضارع مؤكد بنون التوكيد؛ ولذلك لم يكن مجزوماً؛ بل كان مبنياً على الفتح؛ لاتصاله بنون التوكيد لفظاً، وتقديراً.. قوله تعالى: { مني هدًى } أي علماً: وذلك بالوحي الذي يوحيه الله تعالى إلى أنبيائه، ورسله.. قوله تعالى: { فمن تبع }: الفاء هنا رابطة لجواب الشرط؛ لأن الجملة بعد الفاء هي جواب الشرط؛ والجملة هنا اسمية؛ و "مَنْ" شرطية؛ و "تبع" فعل الشرط؛ والفاء في قوله تعالى: { فلا خوف } رابطة للجواب أيضاً، و "لا" نافية، و "خوف" مبتدأ؛ وجملة: { فمن تبع هداي فلا خوف} جواب "إنْ" في قوله تعالى: {فإما يأتينكم }؛ وجملة: { فلا خوف } جواب { فمن تبع }.. وقوله تعالى: { فمن تبع هداي } أي أخذ به تصديقاً بأخباره، وامتثالاً لأحكامه؛ وأضافه الله لنفسه لأنه الذي شرعه لعباده، ولأنه موصل إليه.. قوله تعالى: { فلا خوف عليهم } أي فيما يستقبل؛ لأنهم آمنون؛ { ولا هم يحزنون } أي على ما مضى؛ لأنهم قد اغتنموه، وقاموا فيه بالعمل الصالح؛ بل هم مطمئنون غاية الطمأنينة.. الفوائد: .1 من فوائد الآية أن الجنة التي أُسكنها آدم أولاً كانت عالية؛ لقوله تعالى: { اهبطوا }؛ والهبوط لا يكون إلا من أعلى.. .2 ومنها: إثبات كلام الله؛ لقوله تعالى: ( قلنا ).. .3 منها: أنه بصوت مسموع، وحروف مرتبة؛ لقوله تعالى: { اهبطوا منها جميعاً }؛ فلولا أنهم سمعوا ذلك ما صح توجيه الأمر إليهم.. .4 ومنها: أن التوكيد في الأسلوب العربي فصيح، ومن البلاغة؛ لقوله تعالى: { جميعاً }؛ وهو توكيد معنوي: لأنه حال من حيث الإعراب؛ لأن الشيء إذا كان هاماً فينبغي أن يؤكد؛ فتقول للرجل إذا أردت أن تحثه على الشيء: "يا فلان عجل عجل عجل" ثلاث مرات؛ والمقصود التوكيد، والحث.. .5 ومنها: أن الهدى من عند الله؛ لقوله تعالى: ( فإما يأتينكم مني هدًى ). فإن قال قائل: "إنْ" في قوله تعالى: { فإما } لا تدل على الوقوع؛ لأنها ليست كـ "إذا" ؟ قلنا: نعم، هي لا تدل على الوقوع، لكنها لا تنافيه؛ والواقع يدل على الوقوع . أنه ما من أمة إلا خلا فيها نذير؛ وممكن أن نقول: في هذه الصيغة . { فإما يأتينكم } . ما يدل على الوقوع؛ وهو توكيد الفعل.. ويتفرع على هذه الفائدة: أنك لا تسأل الهدى إلا من الله عزّ وجلّ؛ لأنه هو الذي يأتي به.. .6 ومن فوائد الآية: أن من اتبع هدى الله فإنه آمن من بين يديه، ومن خلفه؛ لقوله تعالى: ( فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون). .7 ومنها: أنه لا يتعبد لله إلا بما شرع؛ لقوله تعالى: (فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ). .8 ومنها: أن من تعبد لله بغير ما شرع فهو على غير هدى؛ فيكون ضالاً كما شهدت بذلك السنة؛ فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم في خطبة الجمعة يقول: "وشر الأمور محدثاتها؛ وكل محدثة بدعة؛ وكل بدعة ضلالة(82).قوله تعالى: و{ بحمدك }: قال العلماء: الباء هنا للمصاحبة . أي تسبيحاً مصحوباً بالحمد مقروناً به؛...
)وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (البقرة:39).
التفسير:
.{ 39 } قوله تعالى: { الذين كفروا } مبتدأ؛ وجملة: { أولئك أصحاب النار } خبر المبتدأ؛ وجملة: { هم فيها خالدون } في موضع نصب على الحال . يعني حال كونهم خالدين . ويجوز أن تكون استئنافية لبيان مآلهم..
قوله تعالى: { الذين كفروا } أي بالأمر؛ { وكذبوا } أي بالخبر؛ فعندهم جحود، واستكبار؛ وهذان هما الأساسان للكفر؛ لأن الكفر يدور على شيئين: إما استكبار؛ وإما جحود؛ فكفر إبليس: كفر استكبار؛ لأنه مقر بالله، لكنه استكبر؛ وكفر فرعون، وقومه: كفر جحود؛ لقوله تعالى: { وجحدوا بها }: فهم في ألسنتهم مكذبون، لكنهم في نفوسهم مصدقون؛ لقوله تعالى: { واستيقنتها أنفسهم } ..
فقوله تعالى: { والذين كفروا } أي كفروا بالله، فاستكبروا عن طاعته، ولم ينقادوا لها؛ { وكذبوا بآياتنا }أي بالآيات الشرعية؛ وإن انضاف إلى ذلك الآيات الكونية زاد الأمر شدة؛ لكن المهم الآيات الشرعية؛ لأن من المكذبين الكافرين من آمنوا بالآيات الكونية دون الشرعية؛ فمثلاً كفار قريش مؤمنون بالآيات الكونية مقرون بأن الله خالق السموات، والأرض، وأنه المحيي، وأنه المميت، وأنه المدبر لجميع الأمور؛ لكنهم كافرون بالآيات الشرعية..
قوله تعالى: { أولئك } أي المذكورون؛ وأشار إليهم بإشارة البعيد لانحطاط رتبتهم لا ترفيعاً لهم، وتعلية لهم؛ { أصحاب النار } أي الملازمون لها؛ ولهذا لا تأتي "أصحاب النار" إلا في الكفار؛ لا تأتي في المؤمنين أبداً؛ لأن المراد الذين هم مصاحبون لها؛ والمصاحب لابد أن يلازم من صاحبه؛ { هم فيها خالدون } أي ماكثون؛ والمراد بذلك المكث، الدائم الأبدي؛ ودليل ذلك ثلاث آيات في كتاب الله؛ آية في النساء، وآية في الأحزاب، وآية في الجن؛ أما آية النساء فقوله تعالى: {إن الذين كفروا وظلموا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقاً * إلا طريق جهنم خالدين فيها أبداً} ؛ وأما آية الأحزاب فقوله تعالى: {إن الله لعن الكافرين وأعد لهم سعيراً * خالدين فيها أبداً} ؛ وأما آية الجن فقوله تعالى: {ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبداً} ..
الفوائد:
.1 من فوائد الآية: أن الذين جمعوا بين هذين الوصفين . الكفر، والتكذيب . هم أصحاب النار مخلدون فيها أبداً . كما سبق؛ فإن اتصفوا بأحدهما فقد دل الدليل على أن المكذب خالد في النار؛ وأما الكافر فمن كان كفره مخرجاً عن الملة فهو خالد في النار؛ ومن كان كفره لا يخرج من الملة فإنه غير مخلد في النار..
.2 ومنها: أن الله تعالى قد بين الحق بالآيات التي تقطع الحجة، وتبين المحجة..
.3 ومنها: انحطاط رتبة من اتصفوا بهذين الوصفين . الكفر، والتكذيب..
.4 ومنها: إثبات النار؛ وقد ثبت بالدليل القطعي أنها موجودة الآن، كما في قوله تعالى: { واتقوا النار التي أعدت للكافرين } (آل عمران: 131).
القـرآن
)يَا بَنِي إِسْرائيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) (البقرة:40).
التفسير:
.{ 40 } قوله تعالى: { يا بني إسرائيل } أي يا أولاد إسرائيل؛ والأصل في "بني" أن تكون للذكور، لكن إذا كانت لقبيلة، أو لأمة شملت الذكور، والإناث، كقوله تعالى: { يا بني آدم }، وقوله تعالى: { يا بني إسرائيل }؛ و{ إسرائيل } لقب يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل؛ ومعناه . على ما قيل . عبد الله؛ وبنوه هم اليهود، والنصارى، ورسلهم؛ لكن النداء في هذه الآية لليهود والنصارى الموجودين في عهد النبي صلى الله عليه وسلم؛ ووجه الله تعالى النداء لبني إسرائيل؛ لأن السورة مدنية؛ وكان من بني إسرائيل ثلاث قبائل من اليهود في المدينة وهم: بنو قينقاع، وبنو النضير، وبنو قريظة؛ سكنوا المدينة ترقباً للنبي صلى الله عليه وسلم الذي علموا أنه سيكون مهاجره المدينة ليؤمنوا به، ويتبعوه؛ لكن لما جاءهم ما عرفوا كفروا به..
قوله تعالى: { اذكروا نعمتي } أي اذكروها بقلوبكم، واذكروها بألسنتكم، واذكروها بجوارحكم؛ وذلك؛ لأن الشكر يكون في الأمور الثلاثة: في القلب، واللسان، والجوارح..
وقوله تعالى: { نعمتي } مفرد مضاف، فيعم جميع النعم الدينية، والدنيوية؛ وقد أنعم الله تعالى على بني إسرائيل بنعم كثيرة..
قوله تعالى: { التي أنعمت عليكم }: أشار بهذه الجملة إلى أن هذه النعم فضل محض من الله عزّ وجلّ..
قوله تعالى: { وأوفوا بعهدي } أي ائتوا به وافياً؛ وعهده سبحانه وتعالى أنه عهد إليهم أن يقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، ويؤمنوا برسله، كما قال تعالى: {ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيباً وقال الله إني معكم لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضاً حسناً} . هذا عهد الله ...
قوله تعالى: { أوفِ بعهدكم } أي أعطكم ما عهدت به إليكم وافياً . وهو الجزاء على أعمالهم . المذكور في قوله تعالى: {لأكفرن عنكم سيئاتكم ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار} ؛ فلو وفوا بعهد الله لوفى الله بعهدهم..
وقوله تعالى: { أُوفِ } جواب الطلب في قوله تعالى: { أوفوا بعهدي }؛ ولهذا جاءت مجزومة بحذف حرف العلة..
قوله تعالى: { وإياي فارهبون } أي لا ترهبوا إلا إياي؛ و "الرهبة" شدة الخوف..
الفوائد:
.1من فوائد الآية: أن الله تعالى يوجه الخطاب للمخاطب إما لكونه أوعى من غيره؛ وإما لكونه أولى أن يمتثل؛ وهنا وجّهه لبني إسرائيل؛ لأنهم أولى أن يمتثلوا؛ لأن عندهم من العلم برسالة النبي صلى الله عليه وسلم، وأنها حق ما ليس عند غيرهم..
.2 ومنها: أن تذكير العبد بنعمة الله عليه أدعى لقبوله الحق، وأقوم للحجة عليه؛ لقوله تعالى: { اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم }؛ فهل هذا من وسائل الدعوة إلى الله؛ بمعنى أننا إذا أردنا أن ندعو شخصاً نذكره بالنعم؟
فالجواب: نعم، نذكره بالنعم؛ لأن هذا أدعى لقبول الحق، وأدعى لكونه يحب الله عزّ وجلّ؛ ومحبة الله تحمل العبد على أن يقوم بطاعته..
.3 ومن فوائد الآية: عظيم منة الله تعالى في إنعامه على هؤلاء؛ لقوله تعالى: { التي أنعمت عليكم }..
.4 ومنها: أن من وفى لله بعهده وفى الله له؛ لقوله تعالى: { وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم }؛ بل إن الله أكرم من عبده، حيث يجزيه الحسنة بعشر أمثالها؛ وفي الحديث القدسي: "إِذَا تَقَرَّبَ الْعَبْدُ إِلَيَّ شِبْراً تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعاً؛ وَإِذَا تَقَرَّبَ مِنِّي ذِرَاعاً تَقَرَّبْتُ مِنْهُ بَاعاً؛ وَإِذَا أَتَانِي مَشْياً أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً"(83) ..
.5 ومن فوائد الآية: أن من نكث بعهد الله فإنه يعاقب بحرمانه ما رتب الله تعالى على الوفاء بالعهد؛ وذلك؛ لأن المنطوق في الآية أن من وفى لله وفى الله له؛ فيكون المفهوم أن من لم يفِ فإنه يعاقب، ولا يعطى ما وُعِد به؛ وهذا مقتضى عدل الله عزّ وجلّ..
.6 ومنها: وجوب الوفاء بالنذر؛ لأن الناذر معاهد لله، كما قال تعالى: {ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين} ..
.7 ومنها: وجوب إخلاص الرهبة لله عزّ وجلّ؛ لقوله تعالى وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) (البقرة: الآية40).
.8 ومنها: أن الرهبة عبادة؛ لأن الله تعالى أمر بها، وأمر بإخلاصها..
فإن قال قائل: هل ينافي التوحيد أن يخاف الإنسان من سبُع، أو من عدو؟
فالجواب: لا ينافي هذا التوحيد؛ ولهذا وقع من الرسل: إبراهيم . عليه الصلاة والسلام . لما جاءه الضيوف، ولم يأكلوا أوجس منهم خيفة؛ وموسى . عليه الصلاة والسلام . لما ألقى السحرة حبالهم، وعصيهم أوجس في نفسه خيفة؛ ولأن الخوف الطبيعي مما تقتضيه الطبيعة؛ ولو قلنا لإنسان: "إنك إذا خفت من أحد سوى الله خوفاً طبيعياً لكنت مشركاً"، لكان هذا من تكليف ما لا يطاق؛ لأن خوف الإنسان مما يخاف منه خوفٌ طبيعي غريزي لا يمكنه دفعه؛ كل إنسان يخاف مما يُخشى منه الضرر..
فإن قال قائل: لو منعه الخوف من واجب عليه هل يُنهى عنه، أو لا؟
فالجواب: نعم، يُنهى عنه؛ لأن الواجب عليه يستطيع أن يقوم به؛ إلا إذا جاء الشرع بالعفو عنه في هذه الحال فلا حرج عليه في هذا الخوف؛ قال الله تعالى: {إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين} ؛ لكن إذا كان في الشرع رخصة لك أن تخالف ما أمر الله به في هذه الحال فلا بأس؛ ولهذا لو كان إنسان يريد أن يصلي صلاة الفريضة، وحوله جدار قصير، ويخشى إن قام أن يتبين للعدو؛ فله أن يصلي قاعداً؛ وهذا لأن الله تعالى عفا عنه: قال الله تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم} ؛ ولو كان العدو أكثر من مثلَي المسلمين فلا يلزمهم أن يصابروهم، ويجوز أن يفروا..
القـرآن
)وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ) (البقرة:41).
التفسير:
.{ 41 } قوله تعالى: { وآمنوا } معطوف على قوله تعالى: ( اذكروا ) } بما أنزلت }: هو القرآن أنزله الله سبحانه وتعالى على محمد صلى الله عليه وسلم { مصدقاً لما معكم } أي مصدقاً لما ذُكر في التوراة، والإنجيل من أوصاف محمد صلى الله عليه وسلم ومن أوصاف القرآن الذي يأتي صلى الله عليه وسلم به؛ وكذلك أيضاً هو مصدق لما معهم: شاهد للتوراة، والإنجيل بالصدق؛ فصار تصديق القرآن لما معهم من وجهين؛ الوجه الأول: أنه وقع مطابقاً لما أخبرت التوراة، والإنجيل به؛ والوجه الثاني: أنه قد شهد لهما بالصدق؛ فالقرآن يدل دلالة واضحة على أن الله أنزل التوراة، وأنزل الإنجيل . وهذه شهادة لهما بأنهما صدق .؛ وكذلك التوراة، والإنجيل قد ذُكر فيهما من أوصاف القرآن، ومن أوصاف محمد صلى الله عليه وسلم حتى صاروا يعرفونه كما يعرفون أبناءهم؛ فإذا وقع الأمر كما ذُكر فيهما صار ذلك تصديقاً لهما؛ ولهذا لو حدثتك بحديث، فقلت أنت: "صدقتَ"، ثم وقع ما حدثتك به مشهوداً تشاهده بعينك؛ صار الوقوع هذا تصديقاً أيضاً..
قوله تعالى: { ولا تكونوا أول كافر به } يعني لا يليق بكم وأنتم تعلمون أنه حق أن تكونوا أول كافر به؛ ولا يعني ذلك كونوا ثاني كافر؛ والضمير في قوله تعالى: { تكونوا } ضمير جمع، و{ كافر } مفرد، فكيف يصح أن تخبر بالمفرد عن الجماعة؟
والجواب: قال المفسرون: إن تقدير الكلام: أول فريق كافر به؛ لأن الخطاب لبني إسرائيل عموماً . وهم جماعة ...
قوله تعالى: { ولا تشتروا } أي لا تأخذوا؛ { بآياتي ثمناً قليلاً } أي الجاه، والرئاسة، وما أشبه ذلك؛ لأن بني إسرائيل إنما كفروا يريدون الدنيا؛ ولو أنهم اتبعوا محمداً صلى الله عليه وسلم لكانوا في القمة، ولأوتوا أجرهم مرتين؛ لكن حسداً، وابتغاء بقاء الجاه، والشرف، وأنهم هم أهل كتاب حسدوا النبي صلى الله عليه وسلم (، فلم يؤمنوا به..
قوله تعالى: { وإياي فاتقون } أي لا تتقوا إلا إياي؛ و "التقوى" اتخاذ وقاية من عذاب الله عزّ وجلّ بفعل أوامره، واجتناب نواهيه؛ ففي الآية الأولى: { وإياي فارهبون } أمر بالتزام الشريعة، وألا يخالفوها عصياناً؛ وفي هذه الآية: { وإياي فاتقون } أمر بالتزام الشريعة، وألا يخالفوها لا في الأمر، ولا في النهي..
الفوائد:
.1 من فوائد الآية: أنه يجب على بني إسرائيل أن يؤمنوا بالقرآن الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم؛ لقوله تعالى: ( وآمنوا بما أنزلت مصدقاً لما معكم ).
.2 ومنها: أن الكافر مخاطب بالإسلام؛ وهذا مجمع عليه، لكن هل يخاطب بفروع الإسلام؟
الجواب: فيه تفصيل؛ إن أردت بالمخاطبة أنه مأمور أن يفعلها فلا؛ لأنه لا بد أن يُسلم أولاً، ثم يفعلها ثانياً؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل: "فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله؛ فإن هم أطاعوا لذلك فأخبرهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة"(84) ..
إذاً هم لا يخاطبون بالفعل . يعني لا يقال: افعلوا .؛ فلا نقول للكافر: تعال صلِّ؛ بل نأمره أولاً بالإسلام؛ وإن أردت بالمخاطبة أنهم يعاقبون عليها إذا ماتوا على الكفر فهذا صحيح؛ ولهذا يقال للمجرمين: {ما سلككم في سقر * قالوا لم نك من المصلين * ولم نك نطعم المسكين * وكنا نخوض مع الخائضين * وكنا نكذب بيوم الدين * حتى أتانا اليقين} يعني هذا دأبهم حتى ماتوا؛ ووجه الدلالة من الآية أنه لولا أنهم كانوا مخاطبين بالفروع لكان قولهم: {لم نك من المصلين * ولم نك نطعم المسكين} عبثاً لا فائدة منه، ولا تأثير له..
.3 ومن فوائد الآية: أن من اشترى بآيات الله ثمناً قليلاً ففيه شبه من اليهود؛ فالذين يقرؤون العلم الشرعي من أجل الدنيا يكون فيهم شبه باليهود؛ لأن اليهود هم الذين يشترون بآيات الله ثمناً قليلاً؛ وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: "من تعلم علماً مما يبتغى به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاً من الدنيا لم يجد عَرْفَ الجنة يوم القيامة"(85) يعنى ريحها؛ وحينئذ يشكل على كثير من الطلبة من يدخل الجامعات لنيل الشهادة: هل يكون ممن اشترى بآيات الله ثمناً قليلاً؟
والجواب: أن ذلك حسب النية؛ إذا كان الإنسان لا يريد الشهادة إلا أن يتوظف ويعيش، فهذا اشترى بآيات الله ثمناً قليلاً؛ وأما إذا كان يريد أن يصل إلى المرتبة التي ينالها بالشهادة من أجل أن يتبوأ مكاناً ينفع به المسلمين فهذا لم يشتر بآيات الله ثمناً قليلاً؛ لأن المفاهيم الآن تغيرت، وصار الإنسان يوزن بما معه من بطاقة الشهادة..
.4 ومن فوائد الآية: أن جميع ما في الدنيا قليل، ويشهد لهذا قوله تعالى: {قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلا} ..
.5 ومنها: أن شرائع الله من آياته لما تضمنته من العدل، والإصلاح . بخلاف ما يسنُّه البشر من الأنظمة والقوانين فإنه ناقص:.
أولاً: لنقص علم البشر، وعدم إحاطتهم بما يُصلح الخلق..
ثانياً: لخفاء المصالح عليهم: فقد يظن ما ليس بمصلحة مصلحة؛ وبالعكس..
ثالثاً: أننا لو قدرنا أن هذا الرجل الذي سن النظام، أو القانون من أذكى الناس، وأعلم الناس بأحوال الناس فإن علمه هذا محدود في زمانه، وفي مكانه؛ أما في زمانه فظاهر؛ لأن الأمور تتغير: قد يكون المصلحة للبشر في هذا الزمن كذا، وكذا؛ وفي زمن آخر خلافه؛ وفي المكان أيضاً قد يكون هذا التشريع الذي سنه البشر مناسباً لأحوال هؤلاء الأمة في مكانهم؛ ولكن في أمة أخرى لا يصلح؛ ولهذا ضل كثير من المسلمين مع الأسف الشديد في أخذ القوانين الغربية، أو الشرقية، وتطبيقها على مجتمع إسلامي؛ لأن الواجب تحكيم الكتاب، والسنة؛ والعجب أن بعض الناس . نسأل الله العافية . تجدهم قد مشوا على قوانين شرعت من عشرات السنين، أو مئاتها، وأهلها الذين شرعوها قد عدلوا عنها، فصار هؤلاء كالذين يمشمشون العظام بعد أن ترمى في الزبالة؛ وهذا شيء واضح: هناك قوانين شرعت لقوم كفار، ثم تغيرت الحال، فغيروها، ثم جاء بعض المسلمين إلى هذه القوانين القشور الملفوظة، وصاروا يتمشمشونها..
.6 . ومن فوائد الآية: وجوب تقوى الله عزّ وجلّ، وإفراده بالتقوى؛ لقوله تعالى: { وإياي فاتقون }..
فإن قال قائل: أليس الله يأمرنا أن نتقي أشياء أخرى، كقوله تعالى: {واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله} ، وقوله تعالى: {واتقوا النار التي أعدت للكافرين} ، وقوله تعالى: {واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة} ؟
فالجواب: بلى، ولكن اتقاء هذه الأمور من تقوى الله عزّ وجلّ . فلا منافاة ...
القـرآن
)وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (البقرة:42).
التفسير:
.{ 42 } قوله تعالى: { ولا تلبسوا الحق بالباطل } أي لا تمزجوا بينهما حتى يشتبه الحق بالباطل؛ فهم كانوا يأتون بشبهات تُشَبِّه على الناس؛ فيقولون مثلاً: محمد حق، لكنه رسول الأميين لا جميع الناس..
قوله تعالى: { وتكتموا الحق }: هنا الواو تحتمل أنها عاطفة، وتحتمل أنها واو المعية؛ والمعنى على الأول: لا تلبسوا الحق بالباطل ولا تكتموا الحق؛ فتكون الجملتان منفرداً بعضهما عن بعض؛ ويحتمل أن تكون الواو للمعية، فيكون النهي عن الجمع بينهما؛ والمعنى: ولا تلبسوا الحق بالباطل مع كتمان الحق؛ لكن على هذا التقدير يبقى إشكال: وهو أن قوله تعالى: { لا تلبسوا الحق بالباطل } يقتضي أنهم يذكرون الحق، والباطل؛ فيقال: نعم، هم وإن ذكروا الحق والباطل فقد كتموا الحق في الحقيقة؛ لأنهم لبسوه بالباطل، فيبقى خفياً..
قوله تعالى: { وأنتم تعلمون }: الجملة في موضع نصب على الحال . أي والحال أنكم تعلمون صنيعكم ...
الفوائد:
.1 من فوائد الآية: وجوب بيان الحق، وتمييزه عن الباطل؛ فيقال: هذا حق، وهذا باطل؛ لقوله تعالى:
{ ولا تلبسوا الحق بالباطل }؛ ومن لبْس الحق بالباطل: أولئك القوم الذين يوردون الشبهات إما على القرآن، أو على أحكام القرآن، ثم يزيلون الإشكال . مع أن إيراد الشبه إذا لم تكن قريبة لا ينبغي . ولو أزيلت هذه الشبهة؛ فإن الشيطان إذا أوقع الشبهة في القلب فقد تستقر فيه . وإن ذكِر ما يزيلها ...
.2 ومن فوائد الآية: أنه ليس هناك إلا حق، وباطل؛ وإذا تأملت القرآن والسنة وجدت الأمر كذلك؛ قال تعالى: {ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل} ، وقال تعالى: {وإنا أو إياكم لعلى هدًى أو في ضلال مبين} ، وقال تعالى: {فماذا بعد الحق إلا الضلال} ، وقال تعالى: { فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر } ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم "القرآن حجة لك أو عليك"(86) ..
فإن قال قائل: أليس هناك مرتبة بين الواجب، والمحرم؛ وبين المكروه، والمندوب . وهو المباح .؟ قلنا: بلى، لا شك في هذا؛ لكن المباح نفسه لا بد أن يكون وسيلة إلى شيء؛ فإن لم يكن وسيلة إلى شيء صار من قسم الباطل كما جاء في الحديث: "كل لهو يلهو به ابن آدم فهو باطل إلا لعبه في رمحه، ومع أهله، وفي فرسه"(87) ؛ وهذه الأشياء الثلاثة إنما استثنيت؛ لأنها مصلحة . كلها تعود إلى مصلحة ...
.3 ومن فوائد الآية: تحريم كتمان الحق؛ لقوله تعالى: { وتكتموا }؛ ولكن هل يقال: إن الكتمان لا يكون إلا بعد طلب؟
الجواب: نعم، لكن الطلب نوعان: طلب بلسان المقال؛ وطلب بلسان الحال؛ فإذا جاءك شخص يقول: ما تقول في كذا، وكذا: فهذا طلب بلسان المقال؛ وإذا رأيت الناس قد انغمسوا في محرم: فبيانه مطلوب بلسان الحال؛ وعلى هذا فيجب على الإنسان أن يبين المنكر، ولا ينتظر حتى يُسأل؛ وإذا سئل ولم يُجب لكونه لا يعلم فلا إثم عليه؛ بل هذا هو الواجب؛ لقوله تعالى: {ولا تقف ما ليس لك به علم} . هذه واحدة ..
ثانياً: إذا رأى من المصلحة ألا يبين فلا بأس أن يكتم كما جاء في حديث علي بن أبي طالب: "حدثوا الناس بما يعرفون؛ أتحبون أن يكذب الله ورسوله؟!"(88) ؛ وقال ابن مسعود: "إنك لن تحدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة"(89) ؛ فإذا رأيت من المصلحة ألا تبين فلا تبين ولا لوم عليك..
ثالثاً: إذا كان قصد السائل الامتحان، أو قصده تتبع الرخص، أو ضرب أقوال العلماء بعضها ببعض . وأنت تعلم هذا .: فلك أن تمتنع؛ الامتحان أن يأتي إليك، وتعرف أن الرجل يعرف المسألة، لكن سألك لأجل أن يمتحنك: هل أنت تعرفها، أو لا؛ أو يريد أن يأخذ منك كلاماً ليشي به إلى أحد، وينقله إلى أحد: فلك أن تمتنع؛ كذلك إذا علمت أن الرجل يتتبع الرخص ، فيأتي يسألك يقول: سألت فلاناً، وقال: هذا حرام . وأنت تعرف أن المسؤول رجل عالم ليس جاهلاً: فحينئذٍ لك أن تمتنع عن إفتائه؛ أما إذا كان المسؤول رجلاً تعرف أنه ليس عنده علم . إما من عامة الناس، أو من طلبة العلم الذين لم يبلغوا أن يكونوا من أهل الفتوى: فحينئذ يجب عليك أن تفتيه؛ لأنه لا حرمة لفتوى من أفتاه؛ أما لو قال لك: أنا سألت فلاناً، ولكني كنت أطلبك، ولم أجدك، وللضرورة سألت فلاناً؛ لكن لما جاء الله بك الآن أفتني: فحينئذ يجب عليك أن تفتيه؛ لأن حال هذا الرجل كأنه يقول: أنا لا أطمئن إلا لفتواك؛ وخلاصة القول أنه لا يجب عليك الإفتاء إلا إذا كان المستفتي مسترشداً؛ لأن كتمان الحق لا يتحقق إلا بعد الطلب بلسان الحال، أو بلسان المقال..
القرآن
)وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ) (البقرة:43).
التفسير:
.{ 43 } قوله تعالى: { وأقيموا الصلاة } أي ائتوا بها مستقيمة بشروطها، وأركانها، وواجباتها، ومكملاتها؛ وهذا كما أمر الله تعالى به بني إسرائيل أمر به هذه الأمة؛ و{ الصلاة } هنا تشمل الفريضة، والنافلة..
قوله تعالى: { وآتوا الزكاة } أي أعطوا الزكاة؛ و "آت" التي بمعنى "أعطِ" تنصب مفعولين؛ المفعول الأول هنا الزكاة؛ والمفعول الثاني محذوف؛ والتقدير: أهلَها؛ و{ الزكاة } هي المال المدفوع امتثالاً لأمر الله إلى أهله من أموال مخصوصة معروفة؛ وسمي بذل المال زكاة؛ لأنه يزكي النفس، ويطهرها، كما قال الله تعالى: {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها} ..
قوله تعالى: { واركعوا مع الراكعين } أي صلوا مع المصلين؛ وإنما قلنا ذلك؛ لأنه لا يُتعبد لله بركوع مجرد.
الفوائد:
.1 من فوائد الآية: أن الصلاة واجبة على الأمم السابقة، وأن فيها ركوعاً كما أن في الصلاة التي في شريعتنا ركوعاً؛ وقد دلّ على ذلك أيضاً قول الله تعالى لمريم: {يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين} ؛ فعلى الأمم السابقة صلاة فيها ركوع، وسجود..
.2 ومنها: أن الأمم السابقة عليهم زكاة؛ لأنه لابد من الامتحان بالزكاة؛ فإن من الناس من يكون بخيلاً . بذل الدرهم عليه أشد من شيء كثير .؛ فيُمتحَن العباد بإيتاء الزكاة، وبذلِ شيء من أموالهم حتى يُعلم بذلك حقيقة إيمانهم؛ ولهذا سميت الزكاة صدقة؛ لأنها تدل على صدق إيمان صاحبها..
.3 ومنها: الإجمال في موضع، وتبيينه في موضع آخر؛ لقوله تعالى: (وآتوا الزكاة) ولم يبين مقدار الواجب، ولا من يدفع إليه، ولا الأموال التي فيها الزكاة؛ لكن هذه الأشياء مبينة في موضع آخر؛ إذ لا يتم الامتثال إلا ببيانها..
.4 ومنها: جواز التعبير عن الكل بالبعض إذا كان هذا البعض من مباني الكل التي لا يتم إلا بها؛ لقوله تعالى: ( واركعوا مع الراكعين).
.5 ومنها: وجوب صلاة الجماعة؛ لقوله تعالى: { واركعوا مع الراكعين }؛ هكذا استدل بها بعض العلماء؛ ولكن في هذا الاستدلال شيء؛ لأنه لا يلزم من المعية المصاحبة في الفعل؛ ولهذا قيل لمريم: {اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين} : والنساء ليس عليهن جماعة؛ إذاً لا نسلم أن هذه الآية تدل على وجوب صلاة الجماعة؛ ولكن . الحمد لله . وجوب صلاة الجماعة ثابت بأدلة أخرى ظاهرة من الكتاب، والسنة، وأقوال الصحابة رضي الله عنهم..
القـرآن
)أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ) (البقرة:44).
التفسير:
.{ 44 } قوله تعالى: { أتأمرون الناس بالبر... }: الاستفهام هنا للإنكار؛ والمراد إنكار أمر الناس بالبر مع نسيان النفس؛ إذ النفس أولى أن يبدأ بها؛ و "البر" هو الخير؛ قال أهل التفسير: إن الواحد منهم يأمر أقاربه باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، ويقول: إنه حق؛ لكن تمنعه رئاسته، وجاهه أن يؤمن به؛ ومن أمثلة ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم عاد غلاماً من اليهود كان مريضاً، فحضر أجله والنبي صلى الله عليه وسلم عنده؛ فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الرشد، فنظر إلى أبيه كأنه يستشيره، فقال له أبوه: "أطع أبا القاسم" . وأبوه يهودي .، فتشهد الغلام شهادة الحق، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: "الحمد لله الذي أنقذه بي من النار"(90) أي بدعوتي؛ إذاً هؤلاء اليهود من أحبارهم من يأمر الناس بالبر . وهو اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم. ولكنه ينسى نفسه، ولا يؤمن؛ فقال الله تعالى: { وأنتم تتلون الكتاب } أي تقرؤون التوراة؛ والجملة هنا حالية . أي والحال أنكم تتلون الكتاب .؛ فلم تأمروا بالبر إلا عن علم؛ ولكن مع ذلك { تنسون أنفسكم } أي تتركونها، فلا تأمرونها بالبر..
قوله تعالى: { أفلا تعقلون }: الاستفهام هنا للتوبيخ . يعني أفلا يكون لكم عقول تدركون بها خطأكم، وضلالكم .؟! و "العقل" هنا عقل الرشد، وليس عقل الإدراك الذي يناط به التكليف؛ لأن العقل نوعان: عقل هو مناط التكليف . وهو إدراك الأشياء، وفهمها .؛ وهو الذي يتكلم عليه الفقهاء في العبادات، والمعاملات، وغيرها؛ وعقل الرشد . وهو أن يحسن الإنسان التصرف .؛ وسمي إحسان التصرف عقلاً؛ لأن الإنسان عَقَل تصرفه فيما ينفعه..
الفوائد:
.1 من فوائد الآية: توبيخ هؤلاء الذين يأمرون بالبر، وينسون أنفسهم؛ لأن ذلك منافٍ للعقل؛ وقد ورد الوعيد الشديد على من كان هذا دأبه؛ فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم "أنه يؤتى بالرجل فيلقى في النار فتندلق أقتابه" . و"الأقتاب" هي الأمعاء . "فيدور كما يدور الحمار برحاه، فيجتمع إليه أهل النار، فيقولون: يا فلان، أليس كنت تأمرنا بالمعروف، وتنهانا عن المنكر، فيقول: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه"(91) ؛ فهو من أشد الناس عذاباً . والعياذ بالله ...
فإن قال قائل: بناءً على أنه مخالف للعقل، وبناءً على شدة عقوبته أنقول لمن لا يفعل ما أَمَر به، ومن لا يترك ما نهى عنه: "لا تأمر، ولا تنهَ"؟
فالجواب: نقول: لا، بل مُرْ، وافعل ما تأمر به؛ لأنه لو ترك الأمر مع تركه فِعلَه ارتكب جنايتين: الأولى: ترك الأمر بالمعروف؛ والثانية: عدم قيامه بما أمر به؛ وكذلك لو أنه ارتكب ما ينهى عنه، ولم يَنْهَ عنه فقد ارتكب مفسدتين: الأولى: ترك النهي عن المنكر؛ والثانية: ارتكابه للمنكر..
ثم نقول: أينا الذي لم يسلم من المنكر! لو قلنا: لا ينهى عن المنكر إلا من لم يأت منكراً لم يَنهَ أحد عن منكر؛ ولو قلنا: لا يأمر أحد بمعروف إلا من أتى المعروف لم يأمر أحد بمعروف؛ ولهذا نقول: مُرْ بالمعروف، وجاهد نفسك على فعله، وانْهَ عن المنكر، وجاهد نفسك على تركه..
.2 ومن فوائد الآية: توبيخ العالم المخالف لما يأمر به، أو لما ينهى عنه؛ وأن العالم إذا خالف فهو أسوأ حالاً من الجاهل؛ لقوله تعالى: { وأنتم تتلون الكتاب }؛ وهذا أمر فُطر الناس عليه . أن العالم إذا خالف صار أشد لوماً من الجاهل .؛ حتى العامة تجدهم إذا فعل العالم منكراً قالوا: كيف تفعل هذا وأنت رجل عالم؟! أو إذا ترك واجباً قالوا: كيف تترك هذا وأنت عالم؟!.
.3 ومن فوائد الآية: توبيخ بني إسرائيل، وأنهم أمة جهلة حمقى ذوو غيٍّ؛ لقوله تعالى: { أفلا تعقلون }..
.4 ومنها: أن من أمر بمعروف، ولم يفعله؛ أو نهى عن منكر وفعله من هذه الأمة، ففيه شبه باليهود؛ لأن هذا دأبهم . والعياذ بالله ...
القـرآن
)وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ) (البقرة:45).
التفسير:
.{ 45 } قوله تعالى: { واستعينوا بالصبر والصلاة } أي استعينوا على أموركم بالصبر، والصلاة؛ و "الاستعانة" هي طلب العون؛ و "الاستعانة بالصبر" أن يصبر الإنسان على ما أصابه من البلاء، أو حُمِّل إياه من الشريعة؛ و{ الصلاة } هي العبادة المعروفة؛ وتعم الفرض، والنفل..
قوله تعالى: { وإنها }: قيل: إن الضمير يعود على { الصلاة }؛ لأنها أقرب مذكور؛ والقاعدة في اللغة العربية أن الضمير يعود إلى أقرب مذكور ما لم يمنع منه مانع؛ وقيل إن الضمير يعود على الاستعانة المفهومة من قوله تعالى: { واستعينوا }؛ لأن الفعل { استعينوا } يدل على زمن، ومصدر؛ فيجوز أن يعود الضمير على المصدر المفهوم من الفعل، كما في قوله تعالى: {اعدلوا هو أقرب للتقوى} ، أي العدل المفهوم من قوله تعالى: { اعدلوا } أقرب للتقوى؛ لكن المعنى الأول أوضح..
قوله تعالى: { لكبيرة } أي لشاقة { إلا على الخاشعين } أي الذليلين لأمر الله..
الفوائد:
.1من فوائد الآية: إرشاد الله - تبارك وتعالى - عباده إلى الاستعانة بهذين الأمرين: الصبر، والصلاة..
.2 ومنها: جواز الاستعانة بغير الله؛ لكن فيما يثبت أن به العون؛ فمثلاً إذا استعنت إنساناً يحمل معك المتاع إلى البيت كان جائزاً؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم "وتعين الرجل في دابته، فتحمله عليها، أو ترفع له عليها متاعه صدقة(92)" ..
أما الاستعانة بما لا عون فيه فهي سفه في العقل، وضلال في الدين، وقد تكون شركاً: كأن يستعين بميت، أو بغائب لا يستطيع أن يعينه لبعده عنه، وعدم تمكنه من الوصول إليه..
.3 ومن فوائد الآية: فضيلة الصبر، وأن به العون على مكابدة الأمور؛ قال أهل العلم: والصبر ثلاثة أنواع؛ وأخذوا هذا التقسيم من الاستقراء؛ الأول: الصبر على طاعة الله؛ والثاني: الصبر عن معصية الله؛ والثالث: الصبر على أقدار الله ؛ فالصبر على الطاعة هو أشقها، وأفضلها؛ لأن الصبر على الطاعة يتضمن فعلاً وكفاً اختيارياً: فعل الطاعة؛ وكفّ النفس عن التهاون بها، وعدم إقامته؛ فهو إيجادي إيجابي؛ والصبر عن المعصية ليس فيه إلا كف فقط؛ لكنه أحياناً يكون شديداً على النفس؛ ولهذا جعل النبي صلى الله عليه وسلم الشاب الذي دعته امرأة ذات منصب، وجمال، فقال: "إني أخاف الله"(93) في رتبة الإمام العادل من حيث إن الله يظله في ظله يوم لا ظل إلا ظله . وإن كان الإمام العادل أفضل .؛ لأن قوة الداعي في الشباب، وكون المرأة ذات منصب وجمال، وانتفاء المانع فيما إذا كان خالياً بها يوجب الوقوع في المحذور؛ لكن قال: "إني أخاف الله"؛ ربما يكون هذا الصبر أشق من كثير من الطاعات؛ لكن نحن لا نتكلم عن العوارض التي تعرض لبعض الناس؛ إنما نتكلم عن الشيء من حيث هو؛ فالصبر على الطاعة أفضل من الصبر عن المعصية؛ والصبر عن المعصية أفضل من الصبر على أقدار الله؛ لأنه لا اختيار للإنسان في دفع أقدار الله؛ لكن مع ذلك قد يجد الإنسان فيه مشقة عظيمة؛ ولكننا نتكلم ليس عن صبر معين في شخص معين؛ قد يكون بعض الناس يفقد حبيبه، أو ابنه، أو زوجته، أو ما أشبه ذلك، ويكون هذا أشق عليه من كثير من الطاعات من حيث الانفعال النفسي؛ والصبر على أقدار الله ليس من المكلف فيه عمل؛ لأن ما وقع لابد أن يقع . صبرت، أم لم تصبر .: هل إذا جزعت، وندمت، واشتد حزنك يرتفع المقدور؟!.
الجواب: لا؛ إذاً كما قال بعض السلف: إما أن تصبر صبر الكرام؛ وإما أن تسلو سُلوّ البهائم..
.4 ومن فوائد الآية: الحث على الصبر بأن يحبس الإنسان نفسه، ويُحمِّلها المشقة حتى يحصل المطلوب؛ وهذا مجرب . أن الإنسان إذا صبر أدرك مناله؛ وإذا ملّ كسل، وفاته خير كثير .؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "احرص على ما ينفعك، واستعن بالله، ولا تعجز"(94) ؛ وكثير من الناس يرى أن بداءته بهذا العمل مفيدة له، فيبدأ، ثم لا يحصل له مقصوده بسرعة، فيعجز، ويكِلّ، ويترك؛ إذاً ضاع عليه وقته الأول، وربما يكون زمناً كثيراً؛ ولا يأمن أنه إذا عدل عن الأول، ثم شرع في ثانٍ أن يصيبه مثل ما أصابه أولاً، ويتركه؛ ثم تمضي عليه حياته بلا فائدة؛ لكن إذا صبر مع كونه يعرف أنه ليس بينه وبين مراده إلا امتداد الأيام فقط، وليس هناك موجب لقطعه؛ فليصبر: لنفرض أن إنساناً من طلبة العلم همّ أن يحفظ: "بلوغ المرام"، وشرع فيه، واستمر حتى حفظ نصفه؛ لكن لحقه الملل، فعجز، وترك: فالمدة التي مضت خسارة عليه إلا ما يبقى في ذاكرته مما حفظ فقط؛ لكن لو استمر، وأكمل حصل المقصود؛ وعلى هذا فقس..
.5 ومن فوائد الآية: فضيلة الصلاة، حيث إنها مما يستعان بها على الأمور، وشؤون الحياة؛ لقوله تعالى: {والصلاة }؛ ونحن نعلم علم اليقين أن هذا خبر صدق لا مرية فيه؛ وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا حزبه أمر صلى(95) ؛ ويؤيد ذلك اشتغاله لله فـي العريش يوم بدر بالصلاة، ومناشدة ربه بالنصر(96).
فإن قال قائل: كيف تكون الصلاة عوناً للإنسان؟
فالجواب: تكون عوناً إذا أتى بها على وجه كامل . وهي التي يكون فيها حضور القلب، والقيام بما يجب فيها أما صلاة غالب الناس اليوم فهي صلاة جوارح لا صلاة قلب؛ ولهذا تجد الإنسان من حين أن يكبِّر ينفتح عليه أبواب واسعة عظيمة من الهواجيس التي لا فائدة منها؛ ولذلك من حين أن يسلِّم تنجلي عنه، وتذهب؛ لكن الصلاة الحقيقية التي يشعر الإنسان فيها أنه قائم بين يدي الله، وأنها روضة فيها من كل ثمرات العبادة لا بد أن يَسلوَ بها عن كل همّ؛ لأنه اتصل بالله عزّ وجلّ الذي هو محبوبه، وأحب شيء إليه؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم "جعلت قرة عيني في الصلاة"(97) ؛ أما الإنسان الذي يصلي ليتسلى بها، لكن قلبه مشغول بغيرها فهذا لا تكون الصلاة عوناً له؛ لأنها صلاة ناقصة؛ فيفوت من آثارها بقدر ما نقص فيها، كما قال الله تعالى: {اتل ما أوحي إليك من الكتاب وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر} ؛ وكثير من الناس يدخل في الصلاة، ويخرج منها لا يجد أن قلبه تغير من حيث الفحشاء والمنكر . هو على ما هو عليه .؛ لا لانَ قلبه لذكر، ولا تحول إلى محبة العبادة..
.6 ومن فوائد الآية: أنه إذا طالت أحزانك فعليك بالصبر، والصلاة..
.7 ومنها: أن الأعمال الصالحة شاقة على غير الخاشعين . ولا سيما الصلاة ...
.8 ومنها: أن تحقيق العبادة لله سبحانه وتعالى بالخشوع له مما يسهل العبادة على العبد؛ فكل من كان لله أخشع كان لله أطوع؛ لأن الخشوع خشوع القلب؛ والإخبات إلى الله تعالى، والإنابة إليه تدعو إلى طاعته..
القـرآن
)الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) (البقرة:46).
التفسير:
.{ 46 } قوله تعالى: { الذين يظنون } أي يتيقنون؛ و "الظن" يستعمل في اللغة العربية بمعنى اليقين، وله أمثلة كثيرة؛ منها قول الله . تبارك وتعالى .: {حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه} ، وقوله تعالى: {ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها ولم يجدوا عنها مصرفاً} ..
قوله تعالى: { أنهم ملاقو ربهم } أي أنهم سيلاقون الله عزّ وجلّ؛ وذلك يوم القيامة..
قوله تعالى: {وأنهم إليه راجعون} أي في جميع أمورهم، كما قال تعالى: {وإليه يرجع الأمر كله} ، وقال تعالى: {وإلى الله ترجع الأمور} (البقرة: 210).
الفوائد:
.1 من فوائد الآية: إثبات ملاقاة الله عزّ وجلّ؛ لأن الله مدح الذين يتيقنون بهذا اللقاء..
.2 ومنها: إثبات رؤية الله عزّ وجلّ، كما ذهب إليه كثير من العلماء؛ لأن اللقاء لا يكون إلا مع المقابلة، وهذا يعني ثبوت الرؤية؛ فإن استقام الاستدلال بهذه الآية على رؤية الله فهذا مطلوب؛ وإن لم يستقم الاستدلال فَثَمّ أدلة أخرى كثيرة تدل على ثبوت رؤية الله عزّ وجلّ يوم القيامة..
.3 ومنها: أن هؤلاء المؤمنين يوقنون أنهم راجعون إلى الله في جميع أمورهم؛ وهذا يستلزم أموراً:.
أولاً: الخوف من الله؛ لأنك ما دمت تعلم أنك راجع إلى الله، فسوف تخاف منه..
ثانياً: مراقبة الله عزّ وجلّ . المراقبة في الجوارح .؛ والخوف في القلب؛ يعني أنهم إذا علموا أنهم سيرجعون إلى الله، فسوف يخشونه في السرّ، والعلانية..
ثالثاً: الحياء منه؛ فلا يفقدك حيث أمرك، ولا يجدك حيث نهاك..
القـرآن
)يَا بَنِي إِسْرائيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ) (البقرة:47).
التفسير:
.{ 47 } قوله تعالى: { يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي } أي بألسنتكم، وقلوبكم؛ والمراد بـ "النعمة" . وإن كانت مفردة . جميع النعم، كما قال الله تعالى: {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها} (إبراهيم: 34) .
قوله تعالى: { التي أنعمت عليكم }: وهي نعم كثيرة؛ منها ما ذكَّرَهم بها نبيهم موسى . عليه الصلاة والسلام .، حيث قال: {اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكاً وآتاكم ما لم يؤت أحداً من العالمين} : وهي نعم عظيمة دينية، ودنيوية؛ فالدينية في قوله: {إذ جعل فيكم أنبياء} ؛ والدنيوية في قوله: {وجعلكم ملوكاً} ؛ و {آتاكم ما لم يؤت أحداً من العالمين} : من النعمتين..
قوله تعالى: { وفضلتكم على العالمين } أي جعلتكم أفضل من غيركم؛ والمراد عالَم زمانهم؛ وأصل "عالمين" كل من سوى الله، كما قال تعالى: {الحمد لله رب العالمين} ؛ فليس ثم إلا رب، ومربوب؛ العالَم: مربوب؛ والله: رب؛ فالعالَم من سوى الله؛ وسمي عالماً؛ لأنه عَلَم على خالقه؛ فإن العالم من آيات الله سبحانه وتعالى الدالة على كمال علمه، وقدرته، وسلطانه، وحكمته، وغير ذلك من معاني ربوبيته..
الفوائد:
.1 من فوائد الآية: أنه يجب على بني إسرائيل أن يذكروا نعمة الله عليهم، فيقوموا بشكرها؛ ومن شكرها أن يتبعوا محمداً صلى الله عليه وسلم
.2 ومنها: إظهار أن هذه النعمة لم تأت بكسبهم، ولا بكدِّهم، ولا بإرث عن آبائهم؛ وإنما هي بنعمة الله عليهم؛ لقوله تعالى: ( أنعمت عليكم ).
.3 ومنها: أن بني إسرائيل أفضل العالم في زمانهم؛ لقوله تعالى: { وأني فضلتكم على العالمين }؛ لأنهم في ذلك الوقت هم أهل الإيمان؛ ولذلك كُتب لهم النصر على أعدائهم العمالقة، فقيل لهم: {ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم} ؛ و "الأرض المقدسة" هي فلسطين؛ وإنما كتب الله أرض فلسطين لبني إسرائيل في عهد موسى؛ لأنهم هم عباد الله الصالحون؛ والله سبحانه وتعالى يقول: {ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون} ، وقال موسى لقومه: {إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده} ، ثم قال: {والعاقبة للمتقين} ؛ إذاً المتقون هم الوارثون للأرض؛ لكن بني إسرائيل اليوم لا يستحقون هذه الأرض المقدسة؛ لأنهم ليسوا من عباد الله الصالحين؛ أما في وقت موسى فكانوا أولى بها من أهلها؛ وكانت مكتوبة لهم، وكانوا أحق بها؛ لكن لما جاء الإسلام الذي بُعث به النبي صلى الله عليه وسلم صار أحق الناس بهذه الأرض المسلمون . لا العرب .؛ ففلسطين ليس العرب بوصفهم عرباً هم أهلها؛ بل إن أهلها المسلمون بوصفهم مسلمين . لا غير وبوصفهم عباداً لله عزّ وجلّ صالحين؛ ولذلك لن ينجح العرب فيما أعتقد . والعلم عند الله . في استرداد أرض فلسطين باسم العروبة أبداً؛ ولا يمكن أن يستردوها إلا باسم الإسلام على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه، كما قال تعالى: {إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين} ؛ ومهما حاول العرب، ومهما ملؤوا الدنيا من الأقوال والاحتجاجات، فإنهم لن يفلحوا أبداً حتى ينادوا بإخراج اليهود منها باسم دين الإسلام . بعد أن يطبقوه في أنفسهم .؛ فإن هم فعلوا ذلك فسوف يتحقق لهم ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم "لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُقَاتِلَ الْمُسْلِمُونَ الْيَهُودَ، فَيَقْتُلُهُمُ الْمُسْلِمُونَ حَتَّى يَخْتَبِئَ الْيَهُودِيُّ مِنْ وَرَاءِ الْحَجَرِ، وَالشَّجَرِ، فَيَقُولُ الْحَجَرُ، أَوِ الشَّجَرُ: يَا مُسْلِمُ، يَا عَبْدَ اللَّهِ، هَذَا يَهُودِيٌّ خَلْفِي، فَتَعَالَ فَاقْتُلْهُ"(98) ؛ فالشجر، والحجر يدل المسلمين على اليهود يقول: "يا عبد الله" . باسم العبودية لله .، ويقول: "يا مسلم" . باسم الإسلام .؛ والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "يقاتل المسلمون اليهود" ، ولم يقل: "العرب"..
ولهذا أقول: إننا لن نقضي على اليهود باسم العروبة أبداً؛ لن نقضي عليهم إلا باسم الإسلام؛ ومن شاء فليقرأ قوله تعالى: {ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون} : فجعل الميراث لعباده الصالحين؛ وما عُلِّق بوصف فإنه يوجد بوجوده، وينتفي بانتفائه؛ فإذا كنا عبادَ الله الصالحين ورثناها بكل يسر وسهولة، وبدون هذه المشقات، والمتاعب، والمصاعب، والكلامِ الطويل العريض الذي لا ينتهي أبداً!! نستحلها بنصر الله عزّ وجلّ، وبكتابة الله لنا ذلك . وما أيسره على الله .! ونحن نعلم أن المسلمين ما ملكوا فلسطين في عهد الإسلام الزاهر إلا بإسلامهم؛ ولا استولوا على المدائن عاصمة الفرس، ولا على عاصمة الروم، ولا على عاصمة القبط إلا بالإسلام؛ ولذلك ليت شبابنا يعون وعياً صحيحاً بأنه لا يمكن الانتصار المطلق إلا بالإسلام الحقيقي . لا إسلام الهوية بالبطاقة الشخصية .! ولعل بعضنا سمع قصة سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه حينما كسرت الفُرس الجسور على نهر دجلة، وأغرقت السفن لئلا يعبر المسلمون إليهم؛ فسخَّر الله لهم البحر؛ فصاروا يمشون على ظهر الماء بخيلهم، ورجلهم، وإبلهم؛ يمشون على الماء كما يمشون على الأرض لا يغطي الماء خفاف الإبل؛ وإذا تعب فرس أحدهم قيض الله له صخرة تربو حتى يستريح عليها؛ وهذا من آيات الله . ولا شك .؛ والله تعالى على كل شيء قدير؛ فالذي فلق البحر لموسى . عليه الصلاة والسلام . ولقومه، وصار يبساً في لحظة، ومشوا عليه آمنين؛ قادر على ما هو أعظم من ذلك..
فالحاصل أن بني إسرائيل لا شك أفضل العالمين حينما كانوا عباد الله الصالحين؛ أما حين ضربت عليهم الذلة، واللعنة، والصَّغار فإنهم ليسوا أفضل العالمين؛ بل منهم القردة، والخنازير؛ وهم أذل عباد الله لقوله تعالى: {ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس وباؤوا بغضب من الله} ، وقوله تعالى: {لا يقاتلونكم جميعاً إلا في قرى محصنة أو من وراء جدر بأسهم بينهم شديد تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى ذلك بأنهم قوم لا يعقلون} ..
ويدل لذلك . أي أن المراد بقوله تعالى .: { فضلتكم على العالمين } أي في وقتكم، أو فيمن سبقكم: قوله تعالى في هذه الأمة أمة محمد صلى الله عليه وسلم: {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ولو آمن أهل الكتاب لكان خيراً لهم} ؛ فقوله تعالى: {كنتم خير أمة أخرجت للناس} صريح في تفضيلهم على الناس؛ ولهذا قال تعالى: { ولو آمن أهل الكتاب لكان خيراً لهم }؛ وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أننا نوفي سبعين أمة نحن أكرمها، وأفضلها عند الله عزّ وجل(99) . وهذا أمر لا شك فيه .، ولله الحمد..
.4 ومن فوائد الآية: أن الله تعالى إذا فضل أحداً بعلم، أو مال، أو جاه فإن ذلك من النعم العظيمة؛ لقوله تعالى: { وأني فضلتكم على العالمين }: خصها بالذكر لأهميتها..
.5 ومنها: تفاضل الناس، وأن الناس درجات؛ وهذا أمر معلوم . حتى الرسل يفضل بعضهم بعضاً .، كما قال تعالى: {تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض} ، وقال تعالى: {ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض} ..
القـرآن
)وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) (البقرة:48).
التفسير:
.{ 48 } قوله تعالى: { واتقوا يوماً } أي اتخذوا وقاية من هذا اليوم بالاستعداد له بطاعة الله..
قوله تعالى: { لا تجزي نفس عن نفس شيئاً } أي لا تغني؛ و{ نفس } نكرة في سياق النفي، فيكون عاماً؛ فلا تجزي، ولا تغني نفس عن نفس أبداً . حتى الرسول صلى الله عليه وسلم لا يغني شيئاً عن أبيه، ولا أمه .؛ وقد نادى صلى الله عليه وسلم عشيرته الأقربين؛ فجعل ينادي كل واحد باسمه، ويقول: "يا صفية عمة رسول الله، لا أغني عنك من الله شيئاً؛ يا فاطمة بنت رسول الله، لا أغني عنك شيئاً..."(100) . مع أن العادة أن الإنسان يدافع عن حريمه، وعن نسائه .؛ لكن في يوم القيامة ليست هناك مدافعة؛ بل قال الله تعالى: {فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون} : تزول الأنساب، وينسى الإنسان كل شيء، ولا يسأل أين ولدي، ولا أين ذهب أبي، ولا أين ذهب أخي، ولا أين ذهبت أمي: {لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه} ..
قوله تعالى: { ولا يقبل منها شفاعة } أي لا يقبل من نفس عن نفس شفاعة؛ و "الشفاعة" هي التوسط للغير بجلب منفعة، أو دفع مضرة؛ فشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لأهل الجنة أن يدخلوا الجنة(101) : من جلب المنفعة؛ وشفاعته فيمن استحق النار ألا يدخلها(102) ، وفيمن دخلها أن يخرج منها(103) : من دفع المضرة؛ فيومَ القيامة لا تجزي نفس عن نفس شيئاً، ولا يقبل من نفس عن نفس شفاعة أبداً..
قوله تعالى: { ولا يؤخذ منها } أي من النفس؛ { عدل } أي بديل يعدل به عن الجزاء؛ و "العدل" بمعنى المعادِل المكافئ؛ ففي الدنيا قد تجب العقوبة على شخص، ويفتدي نفسه ببدل؛ لكن في الآخرة لا يمكن..
قوله تعالى: { ولا هم ينصرون } أي لا أحد ينصرهم . أي يمنعهم من عذاب الله .؛ لأن الذي يخفف العذاب واحد من هذه الأمور الثلاثة: إما شفاعة؛ وإما معادلة؛ وإما نصر..
الفوائد:
.1 من فوائد الآية: التحذير من يوم القيامة؛ وهذا يقع في القرآن كثيراً؛ لقوله تعالى: { واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله }، وقوله تعالى: {يوماً يجعل الولدان شيباً} ..
.2 ومنها: أنه في يوم القيامة لا تجزي نفس عن نفس شيئاً . بخلاف الدنيا .: فإنه قد يجزي أحد عن أحد؛ لكن يوم القيامة: لا..
.3 ومنها: أن الشفاعة لا تنفع يوم القيامة؛ والمراد لا تنفع من لا يستحق أن يشفع له؛ وأما من يستحق فقد دلت النصوص المتواترة على ثبوت الشفاعة . وهي معروفة في مظانها من كتب الحديث، والعقائد ...
.4 ومنها: أن يوم القيامة ليس فيه فداء؛ لا يمكن أن يقدم الإنسان فداءً يعدل به؛ لقوله تعالى: ( ولا عدل)
.5 ومنها: أنه لا أحد يُنصر يوم القيامة إذا كان من العصاة؛ ولهذا قال الله تعالى: {ما لكم لا تناصرون * بل هم اليوم مستسلمون} ؛ فلا أحد ينصر أحداً يوم القيامة . لا الآلهة، ولا الأسياد، ولا الأشراف، ولا غيرهم ...
J
التفسير:
.{ 39 } قوله تعالى: { الذين كفروا } مبتدأ؛ وجملة: { أولئك أصحاب النار } خبر المبتدأ؛ وجملة: { هم فيها خالدون } في موضع نصب على الحال . يعني حال كونهم خالدين . ويجوز أن تكون استئنافية لبيان مآلهم..
قوله تعالى: { الذين كفروا } أي بالأمر؛ { وكذبوا } أي بالخبر؛ فعندهم جحود، واستكبار؛ وهذان هما الأساسان للكفر؛ لأن الكفر يدور على شيئين: إما استكبار؛ وإما جحود؛ فكفر إبليس: كفر استكبار؛ لأنه مقر بالله، لكنه استكبر؛ وكفر فرعون، وقومه: كفر جحود؛ لقوله تعالى: { وجحدوا بها }: فهم في ألسنتهم مكذبون، لكنهم في نفوسهم مصدقون؛ لقوله تعالى: { واستيقنتها أنفسهم } ..
فقوله تعالى: { والذين كفروا } أي كفروا بالله، فاستكبروا عن طاعته، ولم ينقادوا لها؛ { وكذبوا بآياتنا }أي بالآيات الشرعية؛ وإن انضاف إلى ذلك الآيات الكونية زاد الأمر شدة؛ لكن المهم الآيات الشرعية؛ لأن من المكذبين الكافرين من آمنوا بالآيات الكونية دون الشرعية؛ فمثلاً كفار قريش مؤمنون بالآيات الكونية مقرون بأن الله خالق السموات، والأرض، وأنه المحيي، وأنه المميت، وأنه المدبر لجميع الأمور؛ لكنهم كافرون بالآيات الشرعية..
قوله تعالى: { أولئك } أي المذكورون؛ وأشار إليهم بإشارة البعيد لانحطاط رتبتهم لا ترفيعاً لهم، وتعلية لهم؛ { أصحاب النار } أي الملازمون لها؛ ولهذا لا تأتي "أصحاب النار" إلا في الكفار؛ لا تأتي في المؤمنين أبداً؛ لأن المراد الذين هم مصاحبون لها؛ والمصاحب لابد أن يلازم من صاحبه؛ { هم فيها خالدون } أي ماكثون؛ والمراد بذلك المكث، الدائم الأبدي؛ ودليل ذلك ثلاث آيات في كتاب الله؛ آية في النساء، وآية في الأحزاب، وآية في الجن؛ أما آية النساء فقوله تعالى: {إن الذين كفروا وظلموا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقاً * إلا طريق جهنم خالدين فيها أبداً} ؛ وأما آية الأحزاب فقوله تعالى: {إن الله لعن الكافرين وأعد لهم سعيراً * خالدين فيها أبداً} ؛ وأما آية الجن فقوله تعالى: {ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبداً} ..
الفوائد:
.1 من فوائد الآية: أن الذين جمعوا بين هذين الوصفين . الكفر، والتكذيب . هم أصحاب النار مخلدون فيها أبداً . كما سبق؛ فإن اتصفوا بأحدهما فقد دل الدليل على أن المكذب خالد في النار؛ وأما الكافر فمن كان كفره مخرجاً عن الملة فهو خالد في النار؛ ومن كان كفره لا يخرج من الملة فإنه غير مخلد في النار..
.2 ومنها: أن الله تعالى قد بين الحق بالآيات التي تقطع الحجة، وتبين المحجة..
.3 ومنها: انحطاط رتبة من اتصفوا بهذين الوصفين . الكفر، والتكذيب..
.4 ومنها: إثبات النار؛ وقد ثبت بالدليل القطعي أنها موجودة الآن، كما في قوله تعالى: { واتقوا النار التي أعدت للكافرين } (آل عمران: 131).
القـرآن
)يَا بَنِي إِسْرائيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) (البقرة:40).
التفسير:
.{ 40 } قوله تعالى: { يا بني إسرائيل } أي يا أولاد إسرائيل؛ والأصل في "بني" أن تكون للذكور، لكن إذا كانت لقبيلة، أو لأمة شملت الذكور، والإناث، كقوله تعالى: { يا بني آدم }، وقوله تعالى: { يا بني إسرائيل }؛ و{ إسرائيل } لقب يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل؛ ومعناه . على ما قيل . عبد الله؛ وبنوه هم اليهود، والنصارى، ورسلهم؛ لكن النداء في هذه الآية لليهود والنصارى الموجودين في عهد النبي صلى الله عليه وسلم؛ ووجه الله تعالى النداء لبني إسرائيل؛ لأن السورة مدنية؛ وكان من بني إسرائيل ثلاث قبائل من اليهود في المدينة وهم: بنو قينقاع، وبنو النضير، وبنو قريظة؛ سكنوا المدينة ترقباً للنبي صلى الله عليه وسلم الذي علموا أنه سيكون مهاجره المدينة ليؤمنوا به، ويتبعوه؛ لكن لما جاءهم ما عرفوا كفروا به..
قوله تعالى: { اذكروا نعمتي } أي اذكروها بقلوبكم، واذكروها بألسنتكم، واذكروها بجوارحكم؛ وذلك؛ لأن الشكر يكون في الأمور الثلاثة: في القلب، واللسان، والجوارح..
وقوله تعالى: { نعمتي } مفرد مضاف، فيعم جميع النعم الدينية، والدنيوية؛ وقد أنعم الله تعالى على بني إسرائيل بنعم كثيرة..
قوله تعالى: { التي أنعمت عليكم }: أشار بهذه الجملة إلى أن هذه النعم فضل محض من الله عزّ وجلّ..
قوله تعالى: { وأوفوا بعهدي } أي ائتوا به وافياً؛ وعهده سبحانه وتعالى أنه عهد إليهم أن يقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، ويؤمنوا برسله، كما قال تعالى: {ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيباً وقال الله إني معكم لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضاً حسناً} . هذا عهد الله ...
قوله تعالى: { أوفِ بعهدكم } أي أعطكم ما عهدت به إليكم وافياً . وهو الجزاء على أعمالهم . المذكور في قوله تعالى: {لأكفرن عنكم سيئاتكم ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار} ؛ فلو وفوا بعهد الله لوفى الله بعهدهم..
وقوله تعالى: { أُوفِ } جواب الطلب في قوله تعالى: { أوفوا بعهدي }؛ ولهذا جاءت مجزومة بحذف حرف العلة..
قوله تعالى: { وإياي فارهبون } أي لا ترهبوا إلا إياي؛ و "الرهبة" شدة الخوف..
الفوائد:
.1من فوائد الآية: أن الله تعالى يوجه الخطاب للمخاطب إما لكونه أوعى من غيره؛ وإما لكونه أولى أن يمتثل؛ وهنا وجّهه لبني إسرائيل؛ لأنهم أولى أن يمتثلوا؛ لأن عندهم من العلم برسالة النبي صلى الله عليه وسلم، وأنها حق ما ليس عند غيرهم..
.2 ومنها: أن تذكير العبد بنعمة الله عليه أدعى لقبوله الحق، وأقوم للحجة عليه؛ لقوله تعالى: { اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم }؛ فهل هذا من وسائل الدعوة إلى الله؛ بمعنى أننا إذا أردنا أن ندعو شخصاً نذكره بالنعم؟
فالجواب: نعم، نذكره بالنعم؛ لأن هذا أدعى لقبول الحق، وأدعى لكونه يحب الله عزّ وجلّ؛ ومحبة الله تحمل العبد على أن يقوم بطاعته..
.3 ومن فوائد الآية: عظيم منة الله تعالى في إنعامه على هؤلاء؛ لقوله تعالى: { التي أنعمت عليكم }..
.4 ومنها: أن من وفى لله بعهده وفى الله له؛ لقوله تعالى: { وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم }؛ بل إن الله أكرم من عبده، حيث يجزيه الحسنة بعشر أمثالها؛ وفي الحديث القدسي: "إِذَا تَقَرَّبَ الْعَبْدُ إِلَيَّ شِبْراً تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعاً؛ وَإِذَا تَقَرَّبَ مِنِّي ذِرَاعاً تَقَرَّبْتُ مِنْهُ بَاعاً؛ وَإِذَا أَتَانِي مَشْياً أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً"(83) ..
.5 ومن فوائد الآية: أن من نكث بعهد الله فإنه يعاقب بحرمانه ما رتب الله تعالى على الوفاء بالعهد؛ وذلك؛ لأن المنطوق في الآية أن من وفى لله وفى الله له؛ فيكون المفهوم أن من لم يفِ فإنه يعاقب، ولا يعطى ما وُعِد به؛ وهذا مقتضى عدل الله عزّ وجلّ..
.6 ومنها: وجوب الوفاء بالنذر؛ لأن الناذر معاهد لله، كما قال تعالى: {ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين} ..
.7 ومنها: وجوب إخلاص الرهبة لله عزّ وجلّ؛ لقوله تعالى وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) (البقرة: الآية40).
.8 ومنها: أن الرهبة عبادة؛ لأن الله تعالى أمر بها، وأمر بإخلاصها..
فإن قال قائل: هل ينافي التوحيد أن يخاف الإنسان من سبُع، أو من عدو؟
فالجواب: لا ينافي هذا التوحيد؛ ولهذا وقع من الرسل: إبراهيم . عليه الصلاة والسلام . لما جاءه الضيوف، ولم يأكلوا أوجس منهم خيفة؛ وموسى . عليه الصلاة والسلام . لما ألقى السحرة حبالهم، وعصيهم أوجس في نفسه خيفة؛ ولأن الخوف الطبيعي مما تقتضيه الطبيعة؛ ولو قلنا لإنسان: "إنك إذا خفت من أحد سوى الله خوفاً طبيعياً لكنت مشركاً"، لكان هذا من تكليف ما لا يطاق؛ لأن خوف الإنسان مما يخاف منه خوفٌ طبيعي غريزي لا يمكنه دفعه؛ كل إنسان يخاف مما يُخشى منه الضرر..
فإن قال قائل: لو منعه الخوف من واجب عليه هل يُنهى عنه، أو لا؟
فالجواب: نعم، يُنهى عنه؛ لأن الواجب عليه يستطيع أن يقوم به؛ إلا إذا جاء الشرع بالعفو عنه في هذه الحال فلا حرج عليه في هذا الخوف؛ قال الله تعالى: {إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين} ؛ لكن إذا كان في الشرع رخصة لك أن تخالف ما أمر الله به في هذه الحال فلا بأس؛ ولهذا لو كان إنسان يريد أن يصلي صلاة الفريضة، وحوله جدار قصير، ويخشى إن قام أن يتبين للعدو؛ فله أن يصلي قاعداً؛ وهذا لأن الله تعالى عفا عنه: قال الله تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم} ؛ ولو كان العدو أكثر من مثلَي المسلمين فلا يلزمهم أن يصابروهم، ويجوز أن يفروا..
القـرآن
)وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ) (البقرة:41).
التفسير:
.{ 41 } قوله تعالى: { وآمنوا } معطوف على قوله تعالى: ( اذكروا ) } بما أنزلت }: هو القرآن أنزله الله سبحانه وتعالى على محمد صلى الله عليه وسلم { مصدقاً لما معكم } أي مصدقاً لما ذُكر في التوراة، والإنجيل من أوصاف محمد صلى الله عليه وسلم ومن أوصاف القرآن الذي يأتي صلى الله عليه وسلم به؛ وكذلك أيضاً هو مصدق لما معهم: شاهد للتوراة، والإنجيل بالصدق؛ فصار تصديق القرآن لما معهم من وجهين؛ الوجه الأول: أنه وقع مطابقاً لما أخبرت التوراة، والإنجيل به؛ والوجه الثاني: أنه قد شهد لهما بالصدق؛ فالقرآن يدل دلالة واضحة على أن الله أنزل التوراة، وأنزل الإنجيل . وهذه شهادة لهما بأنهما صدق .؛ وكذلك التوراة، والإنجيل قد ذُكر فيهما من أوصاف القرآن، ومن أوصاف محمد صلى الله عليه وسلم حتى صاروا يعرفونه كما يعرفون أبناءهم؛ فإذا وقع الأمر كما ذُكر فيهما صار ذلك تصديقاً لهما؛ ولهذا لو حدثتك بحديث، فقلت أنت: "صدقتَ"، ثم وقع ما حدثتك به مشهوداً تشاهده بعينك؛ صار الوقوع هذا تصديقاً أيضاً..
قوله تعالى: { ولا تكونوا أول كافر به } يعني لا يليق بكم وأنتم تعلمون أنه حق أن تكونوا أول كافر به؛ ولا يعني ذلك كونوا ثاني كافر؛ والضمير في قوله تعالى: { تكونوا } ضمير جمع، و{ كافر } مفرد، فكيف يصح أن تخبر بالمفرد عن الجماعة؟
والجواب: قال المفسرون: إن تقدير الكلام: أول فريق كافر به؛ لأن الخطاب لبني إسرائيل عموماً . وهم جماعة ...
قوله تعالى: { ولا تشتروا } أي لا تأخذوا؛ { بآياتي ثمناً قليلاً } أي الجاه، والرئاسة، وما أشبه ذلك؛ لأن بني إسرائيل إنما كفروا يريدون الدنيا؛ ولو أنهم اتبعوا محمداً صلى الله عليه وسلم لكانوا في القمة، ولأوتوا أجرهم مرتين؛ لكن حسداً، وابتغاء بقاء الجاه، والشرف، وأنهم هم أهل كتاب حسدوا النبي صلى الله عليه وسلم (، فلم يؤمنوا به..
قوله تعالى: { وإياي فاتقون } أي لا تتقوا إلا إياي؛ و "التقوى" اتخاذ وقاية من عذاب الله عزّ وجلّ بفعل أوامره، واجتناب نواهيه؛ ففي الآية الأولى: { وإياي فارهبون } أمر بالتزام الشريعة، وألا يخالفوها عصياناً؛ وفي هذه الآية: { وإياي فاتقون } أمر بالتزام الشريعة، وألا يخالفوها لا في الأمر، ولا في النهي..
الفوائد:
.1 من فوائد الآية: أنه يجب على بني إسرائيل أن يؤمنوا بالقرآن الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم؛ لقوله تعالى: ( وآمنوا بما أنزلت مصدقاً لما معكم ).
.2 ومنها: أن الكافر مخاطب بالإسلام؛ وهذا مجمع عليه، لكن هل يخاطب بفروع الإسلام؟
الجواب: فيه تفصيل؛ إن أردت بالمخاطبة أنه مأمور أن يفعلها فلا؛ لأنه لا بد أن يُسلم أولاً، ثم يفعلها ثانياً؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل: "فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله؛ فإن هم أطاعوا لذلك فأخبرهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة"(84) ..
إذاً هم لا يخاطبون بالفعل . يعني لا يقال: افعلوا .؛ فلا نقول للكافر: تعال صلِّ؛ بل نأمره أولاً بالإسلام؛ وإن أردت بالمخاطبة أنهم يعاقبون عليها إذا ماتوا على الكفر فهذا صحيح؛ ولهذا يقال للمجرمين: {ما سلككم في سقر * قالوا لم نك من المصلين * ولم نك نطعم المسكين * وكنا نخوض مع الخائضين * وكنا نكذب بيوم الدين * حتى أتانا اليقين} يعني هذا دأبهم حتى ماتوا؛ ووجه الدلالة من الآية أنه لولا أنهم كانوا مخاطبين بالفروع لكان قولهم: {لم نك من المصلين * ولم نك نطعم المسكين} عبثاً لا فائدة منه، ولا تأثير له..
.3 ومن فوائد الآية: أن من اشترى بآيات الله ثمناً قليلاً ففيه شبه من اليهود؛ فالذين يقرؤون العلم الشرعي من أجل الدنيا يكون فيهم شبه باليهود؛ لأن اليهود هم الذين يشترون بآيات الله ثمناً قليلاً؛ وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: "من تعلم علماً مما يبتغى به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاً من الدنيا لم يجد عَرْفَ الجنة يوم القيامة"(85) يعنى ريحها؛ وحينئذ يشكل على كثير من الطلبة من يدخل الجامعات لنيل الشهادة: هل يكون ممن اشترى بآيات الله ثمناً قليلاً؟
والجواب: أن ذلك حسب النية؛ إذا كان الإنسان لا يريد الشهادة إلا أن يتوظف ويعيش، فهذا اشترى بآيات الله ثمناً قليلاً؛ وأما إذا كان يريد أن يصل إلى المرتبة التي ينالها بالشهادة من أجل أن يتبوأ مكاناً ينفع به المسلمين فهذا لم يشتر بآيات الله ثمناً قليلاً؛ لأن المفاهيم الآن تغيرت، وصار الإنسان يوزن بما معه من بطاقة الشهادة..
.4 ومن فوائد الآية: أن جميع ما في الدنيا قليل، ويشهد لهذا قوله تعالى: {قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلا} ..
.5 ومنها: أن شرائع الله من آياته لما تضمنته من العدل، والإصلاح . بخلاف ما يسنُّه البشر من الأنظمة والقوانين فإنه ناقص:.
أولاً: لنقص علم البشر، وعدم إحاطتهم بما يُصلح الخلق..
ثانياً: لخفاء المصالح عليهم: فقد يظن ما ليس بمصلحة مصلحة؛ وبالعكس..
ثالثاً: أننا لو قدرنا أن هذا الرجل الذي سن النظام، أو القانون من أذكى الناس، وأعلم الناس بأحوال الناس فإن علمه هذا محدود في زمانه، وفي مكانه؛ أما في زمانه فظاهر؛ لأن الأمور تتغير: قد يكون المصلحة للبشر في هذا الزمن كذا، وكذا؛ وفي زمن آخر خلافه؛ وفي المكان أيضاً قد يكون هذا التشريع الذي سنه البشر مناسباً لأحوال هؤلاء الأمة في مكانهم؛ ولكن في أمة أخرى لا يصلح؛ ولهذا ضل كثير من المسلمين مع الأسف الشديد في أخذ القوانين الغربية، أو الشرقية، وتطبيقها على مجتمع إسلامي؛ لأن الواجب تحكيم الكتاب، والسنة؛ والعجب أن بعض الناس . نسأل الله العافية . تجدهم قد مشوا على قوانين شرعت من عشرات السنين، أو مئاتها، وأهلها الذين شرعوها قد عدلوا عنها، فصار هؤلاء كالذين يمشمشون العظام بعد أن ترمى في الزبالة؛ وهذا شيء واضح: هناك قوانين شرعت لقوم كفار، ثم تغيرت الحال، فغيروها، ثم جاء بعض المسلمين إلى هذه القوانين القشور الملفوظة، وصاروا يتمشمشونها..
.6 . ومن فوائد الآية: وجوب تقوى الله عزّ وجلّ، وإفراده بالتقوى؛ لقوله تعالى: { وإياي فاتقون }..
فإن قال قائل: أليس الله يأمرنا أن نتقي أشياء أخرى، كقوله تعالى: {واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله} ، وقوله تعالى: {واتقوا النار التي أعدت للكافرين} ، وقوله تعالى: {واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة} ؟
فالجواب: بلى، ولكن اتقاء هذه الأمور من تقوى الله عزّ وجلّ . فلا منافاة ...
القـرآن
)وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (البقرة:42).
التفسير:
.{ 42 } قوله تعالى: { ولا تلبسوا الحق بالباطل } أي لا تمزجوا بينهما حتى يشتبه الحق بالباطل؛ فهم كانوا يأتون بشبهات تُشَبِّه على الناس؛ فيقولون مثلاً: محمد حق، لكنه رسول الأميين لا جميع الناس..
قوله تعالى: { وتكتموا الحق }: هنا الواو تحتمل أنها عاطفة، وتحتمل أنها واو المعية؛ والمعنى على الأول: لا تلبسوا الحق بالباطل ولا تكتموا الحق؛ فتكون الجملتان منفرداً بعضهما عن بعض؛ ويحتمل أن تكون الواو للمعية، فيكون النهي عن الجمع بينهما؛ والمعنى: ولا تلبسوا الحق بالباطل مع كتمان الحق؛ لكن على هذا التقدير يبقى إشكال: وهو أن قوله تعالى: { لا تلبسوا الحق بالباطل } يقتضي أنهم يذكرون الحق، والباطل؛ فيقال: نعم، هم وإن ذكروا الحق والباطل فقد كتموا الحق في الحقيقة؛ لأنهم لبسوه بالباطل، فيبقى خفياً..
قوله تعالى: { وأنتم تعلمون }: الجملة في موضع نصب على الحال . أي والحال أنكم تعلمون صنيعكم ...
الفوائد:
.1 من فوائد الآية: وجوب بيان الحق، وتمييزه عن الباطل؛ فيقال: هذا حق، وهذا باطل؛ لقوله تعالى:
{ ولا تلبسوا الحق بالباطل }؛ ومن لبْس الحق بالباطل: أولئك القوم الذين يوردون الشبهات إما على القرآن، أو على أحكام القرآن، ثم يزيلون الإشكال . مع أن إيراد الشبه إذا لم تكن قريبة لا ينبغي . ولو أزيلت هذه الشبهة؛ فإن الشيطان إذا أوقع الشبهة في القلب فقد تستقر فيه . وإن ذكِر ما يزيلها ...
.2 ومن فوائد الآية: أنه ليس هناك إلا حق، وباطل؛ وإذا تأملت القرآن والسنة وجدت الأمر كذلك؛ قال تعالى: {ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل} ، وقال تعالى: {وإنا أو إياكم لعلى هدًى أو في ضلال مبين} ، وقال تعالى: {فماذا بعد الحق إلا الضلال} ، وقال تعالى: { فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر } ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم "القرآن حجة لك أو عليك"(86) ..
فإن قال قائل: أليس هناك مرتبة بين الواجب، والمحرم؛ وبين المكروه، والمندوب . وهو المباح .؟ قلنا: بلى، لا شك في هذا؛ لكن المباح نفسه لا بد أن يكون وسيلة إلى شيء؛ فإن لم يكن وسيلة إلى شيء صار من قسم الباطل كما جاء في الحديث: "كل لهو يلهو به ابن آدم فهو باطل إلا لعبه في رمحه، ومع أهله، وفي فرسه"(87) ؛ وهذه الأشياء الثلاثة إنما استثنيت؛ لأنها مصلحة . كلها تعود إلى مصلحة ...
.3 ومن فوائد الآية: تحريم كتمان الحق؛ لقوله تعالى: { وتكتموا }؛ ولكن هل يقال: إن الكتمان لا يكون إلا بعد طلب؟
الجواب: نعم، لكن الطلب نوعان: طلب بلسان المقال؛ وطلب بلسان الحال؛ فإذا جاءك شخص يقول: ما تقول في كذا، وكذا: فهذا طلب بلسان المقال؛ وإذا رأيت الناس قد انغمسوا في محرم: فبيانه مطلوب بلسان الحال؛ وعلى هذا فيجب على الإنسان أن يبين المنكر، ولا ينتظر حتى يُسأل؛ وإذا سئل ولم يُجب لكونه لا يعلم فلا إثم عليه؛ بل هذا هو الواجب؛ لقوله تعالى: {ولا تقف ما ليس لك به علم} . هذه واحدة ..
ثانياً: إذا رأى من المصلحة ألا يبين فلا بأس أن يكتم كما جاء في حديث علي بن أبي طالب: "حدثوا الناس بما يعرفون؛ أتحبون أن يكذب الله ورسوله؟!"(88) ؛ وقال ابن مسعود: "إنك لن تحدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة"(89) ؛ فإذا رأيت من المصلحة ألا تبين فلا تبين ولا لوم عليك..
ثالثاً: إذا كان قصد السائل الامتحان، أو قصده تتبع الرخص، أو ضرب أقوال العلماء بعضها ببعض . وأنت تعلم هذا .: فلك أن تمتنع؛ الامتحان أن يأتي إليك، وتعرف أن الرجل يعرف المسألة، لكن سألك لأجل أن يمتحنك: هل أنت تعرفها، أو لا؛ أو يريد أن يأخذ منك كلاماً ليشي به إلى أحد، وينقله إلى أحد: فلك أن تمتنع؛ كذلك إذا علمت أن الرجل يتتبع الرخص ، فيأتي يسألك يقول: سألت فلاناً، وقال: هذا حرام . وأنت تعرف أن المسؤول رجل عالم ليس جاهلاً: فحينئذٍ لك أن تمتنع عن إفتائه؛ أما إذا كان المسؤول رجلاً تعرف أنه ليس عنده علم . إما من عامة الناس، أو من طلبة العلم الذين لم يبلغوا أن يكونوا من أهل الفتوى: فحينئذ يجب عليك أن تفتيه؛ لأنه لا حرمة لفتوى من أفتاه؛ أما لو قال لك: أنا سألت فلاناً، ولكني كنت أطلبك، ولم أجدك، وللضرورة سألت فلاناً؛ لكن لما جاء الله بك الآن أفتني: فحينئذ يجب عليك أن تفتيه؛ لأن حال هذا الرجل كأنه يقول: أنا لا أطمئن إلا لفتواك؛ وخلاصة القول أنه لا يجب عليك الإفتاء إلا إذا كان المستفتي مسترشداً؛ لأن كتمان الحق لا يتحقق إلا بعد الطلب بلسان الحال، أو بلسان المقال..
القرآن
)وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ) (البقرة:43).
التفسير:
.{ 43 } قوله تعالى: { وأقيموا الصلاة } أي ائتوا بها مستقيمة بشروطها، وأركانها، وواجباتها، ومكملاتها؛ وهذا كما أمر الله تعالى به بني إسرائيل أمر به هذه الأمة؛ و{ الصلاة } هنا تشمل الفريضة، والنافلة..
قوله تعالى: { وآتوا الزكاة } أي أعطوا الزكاة؛ و "آت" التي بمعنى "أعطِ" تنصب مفعولين؛ المفعول الأول هنا الزكاة؛ والمفعول الثاني محذوف؛ والتقدير: أهلَها؛ و{ الزكاة } هي المال المدفوع امتثالاً لأمر الله إلى أهله من أموال مخصوصة معروفة؛ وسمي بذل المال زكاة؛ لأنه يزكي النفس، ويطهرها، كما قال الله تعالى: {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها} ..
قوله تعالى: { واركعوا مع الراكعين } أي صلوا مع المصلين؛ وإنما قلنا ذلك؛ لأنه لا يُتعبد لله بركوع مجرد.
الفوائد:
.1 من فوائد الآية: أن الصلاة واجبة على الأمم السابقة، وأن فيها ركوعاً كما أن في الصلاة التي في شريعتنا ركوعاً؛ وقد دلّ على ذلك أيضاً قول الله تعالى لمريم: {يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين} ؛ فعلى الأمم السابقة صلاة فيها ركوع، وسجود..
.2 ومنها: أن الأمم السابقة عليهم زكاة؛ لأنه لابد من الامتحان بالزكاة؛ فإن من الناس من يكون بخيلاً . بذل الدرهم عليه أشد من شيء كثير .؛ فيُمتحَن العباد بإيتاء الزكاة، وبذلِ شيء من أموالهم حتى يُعلم بذلك حقيقة إيمانهم؛ ولهذا سميت الزكاة صدقة؛ لأنها تدل على صدق إيمان صاحبها..
.3 ومنها: الإجمال في موضع، وتبيينه في موضع آخر؛ لقوله تعالى: (وآتوا الزكاة) ولم يبين مقدار الواجب، ولا من يدفع إليه، ولا الأموال التي فيها الزكاة؛ لكن هذه الأشياء مبينة في موضع آخر؛ إذ لا يتم الامتثال إلا ببيانها..
.4 ومنها: جواز التعبير عن الكل بالبعض إذا كان هذا البعض من مباني الكل التي لا يتم إلا بها؛ لقوله تعالى: ( واركعوا مع الراكعين).
.5 ومنها: وجوب صلاة الجماعة؛ لقوله تعالى: { واركعوا مع الراكعين }؛ هكذا استدل بها بعض العلماء؛ ولكن في هذا الاستدلال شيء؛ لأنه لا يلزم من المعية المصاحبة في الفعل؛ ولهذا قيل لمريم: {اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين} : والنساء ليس عليهن جماعة؛ إذاً لا نسلم أن هذه الآية تدل على وجوب صلاة الجماعة؛ ولكن . الحمد لله . وجوب صلاة الجماعة ثابت بأدلة أخرى ظاهرة من الكتاب، والسنة، وأقوال الصحابة رضي الله عنهم..
القـرآن
)أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ) (البقرة:44).
التفسير:
.{ 44 } قوله تعالى: { أتأمرون الناس بالبر... }: الاستفهام هنا للإنكار؛ والمراد إنكار أمر الناس بالبر مع نسيان النفس؛ إذ النفس أولى أن يبدأ بها؛ و "البر" هو الخير؛ قال أهل التفسير: إن الواحد منهم يأمر أقاربه باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، ويقول: إنه حق؛ لكن تمنعه رئاسته، وجاهه أن يؤمن به؛ ومن أمثلة ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم عاد غلاماً من اليهود كان مريضاً، فحضر أجله والنبي صلى الله عليه وسلم عنده؛ فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الرشد، فنظر إلى أبيه كأنه يستشيره، فقال له أبوه: "أطع أبا القاسم" . وأبوه يهودي .، فتشهد الغلام شهادة الحق، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: "الحمد لله الذي أنقذه بي من النار"(90) أي بدعوتي؛ إذاً هؤلاء اليهود من أحبارهم من يأمر الناس بالبر . وهو اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم. ولكنه ينسى نفسه، ولا يؤمن؛ فقال الله تعالى: { وأنتم تتلون الكتاب } أي تقرؤون التوراة؛ والجملة هنا حالية . أي والحال أنكم تتلون الكتاب .؛ فلم تأمروا بالبر إلا عن علم؛ ولكن مع ذلك { تنسون أنفسكم } أي تتركونها، فلا تأمرونها بالبر..
قوله تعالى: { أفلا تعقلون }: الاستفهام هنا للتوبيخ . يعني أفلا يكون لكم عقول تدركون بها خطأكم، وضلالكم .؟! و "العقل" هنا عقل الرشد، وليس عقل الإدراك الذي يناط به التكليف؛ لأن العقل نوعان: عقل هو مناط التكليف . وهو إدراك الأشياء، وفهمها .؛ وهو الذي يتكلم عليه الفقهاء في العبادات، والمعاملات، وغيرها؛ وعقل الرشد . وهو أن يحسن الإنسان التصرف .؛ وسمي إحسان التصرف عقلاً؛ لأن الإنسان عَقَل تصرفه فيما ينفعه..
الفوائد:
.1 من فوائد الآية: توبيخ هؤلاء الذين يأمرون بالبر، وينسون أنفسهم؛ لأن ذلك منافٍ للعقل؛ وقد ورد الوعيد الشديد على من كان هذا دأبه؛ فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم "أنه يؤتى بالرجل فيلقى في النار فتندلق أقتابه" . و"الأقتاب" هي الأمعاء . "فيدور كما يدور الحمار برحاه، فيجتمع إليه أهل النار، فيقولون: يا فلان، أليس كنت تأمرنا بالمعروف، وتنهانا عن المنكر، فيقول: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه"(91) ؛ فهو من أشد الناس عذاباً . والعياذ بالله ...
فإن قال قائل: بناءً على أنه مخالف للعقل، وبناءً على شدة عقوبته أنقول لمن لا يفعل ما أَمَر به، ومن لا يترك ما نهى عنه: "لا تأمر، ولا تنهَ"؟
فالجواب: نقول: لا، بل مُرْ، وافعل ما تأمر به؛ لأنه لو ترك الأمر مع تركه فِعلَه ارتكب جنايتين: الأولى: ترك الأمر بالمعروف؛ والثانية: عدم قيامه بما أمر به؛ وكذلك لو أنه ارتكب ما ينهى عنه، ولم يَنْهَ عنه فقد ارتكب مفسدتين: الأولى: ترك النهي عن المنكر؛ والثانية: ارتكابه للمنكر..
ثم نقول: أينا الذي لم يسلم من المنكر! لو قلنا: لا ينهى عن المنكر إلا من لم يأت منكراً لم يَنهَ أحد عن منكر؛ ولو قلنا: لا يأمر أحد بمعروف إلا من أتى المعروف لم يأمر أحد بمعروف؛ ولهذا نقول: مُرْ بالمعروف، وجاهد نفسك على فعله، وانْهَ عن المنكر، وجاهد نفسك على تركه..
.2 ومن فوائد الآية: توبيخ العالم المخالف لما يأمر به، أو لما ينهى عنه؛ وأن العالم إذا خالف فهو أسوأ حالاً من الجاهل؛ لقوله تعالى: { وأنتم تتلون الكتاب }؛ وهذا أمر فُطر الناس عليه . أن العالم إذا خالف صار أشد لوماً من الجاهل .؛ حتى العامة تجدهم إذا فعل العالم منكراً قالوا: كيف تفعل هذا وأنت رجل عالم؟! أو إذا ترك واجباً قالوا: كيف تترك هذا وأنت عالم؟!.
.3 ومن فوائد الآية: توبيخ بني إسرائيل، وأنهم أمة جهلة حمقى ذوو غيٍّ؛ لقوله تعالى: { أفلا تعقلون }..
.4 ومنها: أن من أمر بمعروف، ولم يفعله؛ أو نهى عن منكر وفعله من هذه الأمة، ففيه شبه باليهود؛ لأن هذا دأبهم . والعياذ بالله ...
القـرآن
)وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ) (البقرة:45).
التفسير:
.{ 45 } قوله تعالى: { واستعينوا بالصبر والصلاة } أي استعينوا على أموركم بالصبر، والصلاة؛ و "الاستعانة" هي طلب العون؛ و "الاستعانة بالصبر" أن يصبر الإنسان على ما أصابه من البلاء، أو حُمِّل إياه من الشريعة؛ و{ الصلاة } هي العبادة المعروفة؛ وتعم الفرض، والنفل..
قوله تعالى: { وإنها }: قيل: إن الضمير يعود على { الصلاة }؛ لأنها أقرب مذكور؛ والقاعدة في اللغة العربية أن الضمير يعود إلى أقرب مذكور ما لم يمنع منه مانع؛ وقيل إن الضمير يعود على الاستعانة المفهومة من قوله تعالى: { واستعينوا }؛ لأن الفعل { استعينوا } يدل على زمن، ومصدر؛ فيجوز أن يعود الضمير على المصدر المفهوم من الفعل، كما في قوله تعالى: {اعدلوا هو أقرب للتقوى} ، أي العدل المفهوم من قوله تعالى: { اعدلوا } أقرب للتقوى؛ لكن المعنى الأول أوضح..
قوله تعالى: { لكبيرة } أي لشاقة { إلا على الخاشعين } أي الذليلين لأمر الله..
الفوائد:
.1من فوائد الآية: إرشاد الله - تبارك وتعالى - عباده إلى الاستعانة بهذين الأمرين: الصبر، والصلاة..
.2 ومنها: جواز الاستعانة بغير الله؛ لكن فيما يثبت أن به العون؛ فمثلاً إذا استعنت إنساناً يحمل معك المتاع إلى البيت كان جائزاً؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم "وتعين الرجل في دابته، فتحمله عليها، أو ترفع له عليها متاعه صدقة(92)" ..
أما الاستعانة بما لا عون فيه فهي سفه في العقل، وضلال في الدين، وقد تكون شركاً: كأن يستعين بميت، أو بغائب لا يستطيع أن يعينه لبعده عنه، وعدم تمكنه من الوصول إليه..
.3 ومن فوائد الآية: فضيلة الصبر، وأن به العون على مكابدة الأمور؛ قال أهل العلم: والصبر ثلاثة أنواع؛ وأخذوا هذا التقسيم من الاستقراء؛ الأول: الصبر على طاعة الله؛ والثاني: الصبر عن معصية الله؛ والثالث: الصبر على أقدار الله ؛ فالصبر على الطاعة هو أشقها، وأفضلها؛ لأن الصبر على الطاعة يتضمن فعلاً وكفاً اختيارياً: فعل الطاعة؛ وكفّ النفس عن التهاون بها، وعدم إقامته؛ فهو إيجادي إيجابي؛ والصبر عن المعصية ليس فيه إلا كف فقط؛ لكنه أحياناً يكون شديداً على النفس؛ ولهذا جعل النبي صلى الله عليه وسلم الشاب الذي دعته امرأة ذات منصب، وجمال، فقال: "إني أخاف الله"(93) في رتبة الإمام العادل من حيث إن الله يظله في ظله يوم لا ظل إلا ظله . وإن كان الإمام العادل أفضل .؛ لأن قوة الداعي في الشباب، وكون المرأة ذات منصب وجمال، وانتفاء المانع فيما إذا كان خالياً بها يوجب الوقوع في المحذور؛ لكن قال: "إني أخاف الله"؛ ربما يكون هذا الصبر أشق من كثير من الطاعات؛ لكن نحن لا نتكلم عن العوارض التي تعرض لبعض الناس؛ إنما نتكلم عن الشيء من حيث هو؛ فالصبر على الطاعة أفضل من الصبر عن المعصية؛ والصبر عن المعصية أفضل من الصبر على أقدار الله؛ لأنه لا اختيار للإنسان في دفع أقدار الله؛ لكن مع ذلك قد يجد الإنسان فيه مشقة عظيمة؛ ولكننا نتكلم ليس عن صبر معين في شخص معين؛ قد يكون بعض الناس يفقد حبيبه، أو ابنه، أو زوجته، أو ما أشبه ذلك، ويكون هذا أشق عليه من كثير من الطاعات من حيث الانفعال النفسي؛ والصبر على أقدار الله ليس من المكلف فيه عمل؛ لأن ما وقع لابد أن يقع . صبرت، أم لم تصبر .: هل إذا جزعت، وندمت، واشتد حزنك يرتفع المقدور؟!.
الجواب: لا؛ إذاً كما قال بعض السلف: إما أن تصبر صبر الكرام؛ وإما أن تسلو سُلوّ البهائم..
.4 ومن فوائد الآية: الحث على الصبر بأن يحبس الإنسان نفسه، ويُحمِّلها المشقة حتى يحصل المطلوب؛ وهذا مجرب . أن الإنسان إذا صبر أدرك مناله؛ وإذا ملّ كسل، وفاته خير كثير .؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "احرص على ما ينفعك، واستعن بالله، ولا تعجز"(94) ؛ وكثير من الناس يرى أن بداءته بهذا العمل مفيدة له، فيبدأ، ثم لا يحصل له مقصوده بسرعة، فيعجز، ويكِلّ، ويترك؛ إذاً ضاع عليه وقته الأول، وربما يكون زمناً كثيراً؛ ولا يأمن أنه إذا عدل عن الأول، ثم شرع في ثانٍ أن يصيبه مثل ما أصابه أولاً، ويتركه؛ ثم تمضي عليه حياته بلا فائدة؛ لكن إذا صبر مع كونه يعرف أنه ليس بينه وبين مراده إلا امتداد الأيام فقط، وليس هناك موجب لقطعه؛ فليصبر: لنفرض أن إنساناً من طلبة العلم همّ أن يحفظ: "بلوغ المرام"، وشرع فيه، واستمر حتى حفظ نصفه؛ لكن لحقه الملل، فعجز، وترك: فالمدة التي مضت خسارة عليه إلا ما يبقى في ذاكرته مما حفظ فقط؛ لكن لو استمر، وأكمل حصل المقصود؛ وعلى هذا فقس..
.5 ومن فوائد الآية: فضيلة الصلاة، حيث إنها مما يستعان بها على الأمور، وشؤون الحياة؛ لقوله تعالى: {والصلاة }؛ ونحن نعلم علم اليقين أن هذا خبر صدق لا مرية فيه؛ وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا حزبه أمر صلى(95) ؛ ويؤيد ذلك اشتغاله لله فـي العريش يوم بدر بالصلاة، ومناشدة ربه بالنصر(96).
فإن قال قائل: كيف تكون الصلاة عوناً للإنسان؟
فالجواب: تكون عوناً إذا أتى بها على وجه كامل . وهي التي يكون فيها حضور القلب، والقيام بما يجب فيها أما صلاة غالب الناس اليوم فهي صلاة جوارح لا صلاة قلب؛ ولهذا تجد الإنسان من حين أن يكبِّر ينفتح عليه أبواب واسعة عظيمة من الهواجيس التي لا فائدة منها؛ ولذلك من حين أن يسلِّم تنجلي عنه، وتذهب؛ لكن الصلاة الحقيقية التي يشعر الإنسان فيها أنه قائم بين يدي الله، وأنها روضة فيها من كل ثمرات العبادة لا بد أن يَسلوَ بها عن كل همّ؛ لأنه اتصل بالله عزّ وجلّ الذي هو محبوبه، وأحب شيء إليه؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم "جعلت قرة عيني في الصلاة"(97) ؛ أما الإنسان الذي يصلي ليتسلى بها، لكن قلبه مشغول بغيرها فهذا لا تكون الصلاة عوناً له؛ لأنها صلاة ناقصة؛ فيفوت من آثارها بقدر ما نقص فيها، كما قال الله تعالى: {اتل ما أوحي إليك من الكتاب وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر} ؛ وكثير من الناس يدخل في الصلاة، ويخرج منها لا يجد أن قلبه تغير من حيث الفحشاء والمنكر . هو على ما هو عليه .؛ لا لانَ قلبه لذكر، ولا تحول إلى محبة العبادة..
.6 ومن فوائد الآية: أنه إذا طالت أحزانك فعليك بالصبر، والصلاة..
.7 ومنها: أن الأعمال الصالحة شاقة على غير الخاشعين . ولا سيما الصلاة ...
.8 ومنها: أن تحقيق العبادة لله سبحانه وتعالى بالخشوع له مما يسهل العبادة على العبد؛ فكل من كان لله أخشع كان لله أطوع؛ لأن الخشوع خشوع القلب؛ والإخبات إلى الله تعالى، والإنابة إليه تدعو إلى طاعته..
القـرآن
)الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) (البقرة:46).
التفسير:
.{ 46 } قوله تعالى: { الذين يظنون } أي يتيقنون؛ و "الظن" يستعمل في اللغة العربية بمعنى اليقين، وله أمثلة كثيرة؛ منها قول الله . تبارك وتعالى .: {حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه} ، وقوله تعالى: {ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها ولم يجدوا عنها مصرفاً} ..
قوله تعالى: { أنهم ملاقو ربهم } أي أنهم سيلاقون الله عزّ وجلّ؛ وذلك يوم القيامة..
قوله تعالى: {وأنهم إليه راجعون} أي في جميع أمورهم، كما قال تعالى: {وإليه يرجع الأمر كله} ، وقال تعالى: {وإلى الله ترجع الأمور} (البقرة: 210).
الفوائد:
.1 من فوائد الآية: إثبات ملاقاة الله عزّ وجلّ؛ لأن الله مدح الذين يتيقنون بهذا اللقاء..
.2 ومنها: إثبات رؤية الله عزّ وجلّ، كما ذهب إليه كثير من العلماء؛ لأن اللقاء لا يكون إلا مع المقابلة، وهذا يعني ثبوت الرؤية؛ فإن استقام الاستدلال بهذه الآية على رؤية الله فهذا مطلوب؛ وإن لم يستقم الاستدلال فَثَمّ أدلة أخرى كثيرة تدل على ثبوت رؤية الله عزّ وجلّ يوم القيامة..
.3 ومنها: أن هؤلاء المؤمنين يوقنون أنهم راجعون إلى الله في جميع أمورهم؛ وهذا يستلزم أموراً:.
أولاً: الخوف من الله؛ لأنك ما دمت تعلم أنك راجع إلى الله، فسوف تخاف منه..
ثانياً: مراقبة الله عزّ وجلّ . المراقبة في الجوارح .؛ والخوف في القلب؛ يعني أنهم إذا علموا أنهم سيرجعون إلى الله، فسوف يخشونه في السرّ، والعلانية..
ثالثاً: الحياء منه؛ فلا يفقدك حيث أمرك، ولا يجدك حيث نهاك..
القـرآن
)يَا بَنِي إِسْرائيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ) (البقرة:47).
التفسير:
.{ 47 } قوله تعالى: { يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي } أي بألسنتكم، وقلوبكم؛ والمراد بـ "النعمة" . وإن كانت مفردة . جميع النعم، كما قال الله تعالى: {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها} (إبراهيم: 34) .
قوله تعالى: { التي أنعمت عليكم }: وهي نعم كثيرة؛ منها ما ذكَّرَهم بها نبيهم موسى . عليه الصلاة والسلام .، حيث قال: {اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكاً وآتاكم ما لم يؤت أحداً من العالمين} : وهي نعم عظيمة دينية، ودنيوية؛ فالدينية في قوله: {إذ جعل فيكم أنبياء} ؛ والدنيوية في قوله: {وجعلكم ملوكاً} ؛ و {آتاكم ما لم يؤت أحداً من العالمين} : من النعمتين..
قوله تعالى: { وفضلتكم على العالمين } أي جعلتكم أفضل من غيركم؛ والمراد عالَم زمانهم؛ وأصل "عالمين" كل من سوى الله، كما قال تعالى: {الحمد لله رب العالمين} ؛ فليس ثم إلا رب، ومربوب؛ العالَم: مربوب؛ والله: رب؛ فالعالَم من سوى الله؛ وسمي عالماً؛ لأنه عَلَم على خالقه؛ فإن العالم من آيات الله سبحانه وتعالى الدالة على كمال علمه، وقدرته، وسلطانه، وحكمته، وغير ذلك من معاني ربوبيته..
الفوائد:
.1 من فوائد الآية: أنه يجب على بني إسرائيل أن يذكروا نعمة الله عليهم، فيقوموا بشكرها؛ ومن شكرها أن يتبعوا محمداً صلى الله عليه وسلم
.2 ومنها: إظهار أن هذه النعمة لم تأت بكسبهم، ولا بكدِّهم، ولا بإرث عن آبائهم؛ وإنما هي بنعمة الله عليهم؛ لقوله تعالى: ( أنعمت عليكم ).
.3 ومنها: أن بني إسرائيل أفضل العالم في زمانهم؛ لقوله تعالى: { وأني فضلتكم على العالمين }؛ لأنهم في ذلك الوقت هم أهل الإيمان؛ ولذلك كُتب لهم النصر على أعدائهم العمالقة، فقيل لهم: {ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم} ؛ و "الأرض المقدسة" هي فلسطين؛ وإنما كتب الله أرض فلسطين لبني إسرائيل في عهد موسى؛ لأنهم هم عباد الله الصالحون؛ والله سبحانه وتعالى يقول: {ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون} ، وقال موسى لقومه: {إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده} ، ثم قال: {والعاقبة للمتقين} ؛ إذاً المتقون هم الوارثون للأرض؛ لكن بني إسرائيل اليوم لا يستحقون هذه الأرض المقدسة؛ لأنهم ليسوا من عباد الله الصالحين؛ أما في وقت موسى فكانوا أولى بها من أهلها؛ وكانت مكتوبة لهم، وكانوا أحق بها؛ لكن لما جاء الإسلام الذي بُعث به النبي صلى الله عليه وسلم صار أحق الناس بهذه الأرض المسلمون . لا العرب .؛ ففلسطين ليس العرب بوصفهم عرباً هم أهلها؛ بل إن أهلها المسلمون بوصفهم مسلمين . لا غير وبوصفهم عباداً لله عزّ وجلّ صالحين؛ ولذلك لن ينجح العرب فيما أعتقد . والعلم عند الله . في استرداد أرض فلسطين باسم العروبة أبداً؛ ولا يمكن أن يستردوها إلا باسم الإسلام على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه، كما قال تعالى: {إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين} ؛ ومهما حاول العرب، ومهما ملؤوا الدنيا من الأقوال والاحتجاجات، فإنهم لن يفلحوا أبداً حتى ينادوا بإخراج اليهود منها باسم دين الإسلام . بعد أن يطبقوه في أنفسهم .؛ فإن هم فعلوا ذلك فسوف يتحقق لهم ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم "لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُقَاتِلَ الْمُسْلِمُونَ الْيَهُودَ، فَيَقْتُلُهُمُ الْمُسْلِمُونَ حَتَّى يَخْتَبِئَ الْيَهُودِيُّ مِنْ وَرَاءِ الْحَجَرِ، وَالشَّجَرِ، فَيَقُولُ الْحَجَرُ، أَوِ الشَّجَرُ: يَا مُسْلِمُ، يَا عَبْدَ اللَّهِ، هَذَا يَهُودِيٌّ خَلْفِي، فَتَعَالَ فَاقْتُلْهُ"(98) ؛ فالشجر، والحجر يدل المسلمين على اليهود يقول: "يا عبد الله" . باسم العبودية لله .، ويقول: "يا مسلم" . باسم الإسلام .؛ والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "يقاتل المسلمون اليهود" ، ولم يقل: "العرب"..
ولهذا أقول: إننا لن نقضي على اليهود باسم العروبة أبداً؛ لن نقضي عليهم إلا باسم الإسلام؛ ومن شاء فليقرأ قوله تعالى: {ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون} : فجعل الميراث لعباده الصالحين؛ وما عُلِّق بوصف فإنه يوجد بوجوده، وينتفي بانتفائه؛ فإذا كنا عبادَ الله الصالحين ورثناها بكل يسر وسهولة، وبدون هذه المشقات، والمتاعب، والمصاعب، والكلامِ الطويل العريض الذي لا ينتهي أبداً!! نستحلها بنصر الله عزّ وجلّ، وبكتابة الله لنا ذلك . وما أيسره على الله .! ونحن نعلم أن المسلمين ما ملكوا فلسطين في عهد الإسلام الزاهر إلا بإسلامهم؛ ولا استولوا على المدائن عاصمة الفرس، ولا على عاصمة الروم، ولا على عاصمة القبط إلا بالإسلام؛ ولذلك ليت شبابنا يعون وعياً صحيحاً بأنه لا يمكن الانتصار المطلق إلا بالإسلام الحقيقي . لا إسلام الهوية بالبطاقة الشخصية .! ولعل بعضنا سمع قصة سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه حينما كسرت الفُرس الجسور على نهر دجلة، وأغرقت السفن لئلا يعبر المسلمون إليهم؛ فسخَّر الله لهم البحر؛ فصاروا يمشون على ظهر الماء بخيلهم، ورجلهم، وإبلهم؛ يمشون على الماء كما يمشون على الأرض لا يغطي الماء خفاف الإبل؛ وإذا تعب فرس أحدهم قيض الله له صخرة تربو حتى يستريح عليها؛ وهذا من آيات الله . ولا شك .؛ والله تعالى على كل شيء قدير؛ فالذي فلق البحر لموسى . عليه الصلاة والسلام . ولقومه، وصار يبساً في لحظة، ومشوا عليه آمنين؛ قادر على ما هو أعظم من ذلك..
فالحاصل أن بني إسرائيل لا شك أفضل العالمين حينما كانوا عباد الله الصالحين؛ أما حين ضربت عليهم الذلة، واللعنة، والصَّغار فإنهم ليسوا أفضل العالمين؛ بل منهم القردة، والخنازير؛ وهم أذل عباد الله لقوله تعالى: {ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس وباؤوا بغضب من الله} ، وقوله تعالى: {لا يقاتلونكم جميعاً إلا في قرى محصنة أو من وراء جدر بأسهم بينهم شديد تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى ذلك بأنهم قوم لا يعقلون} ..
ويدل لذلك . أي أن المراد بقوله تعالى .: { فضلتكم على العالمين } أي في وقتكم، أو فيمن سبقكم: قوله تعالى في هذه الأمة أمة محمد صلى الله عليه وسلم: {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ولو آمن أهل الكتاب لكان خيراً لهم} ؛ فقوله تعالى: {كنتم خير أمة أخرجت للناس} صريح في تفضيلهم على الناس؛ ولهذا قال تعالى: { ولو آمن أهل الكتاب لكان خيراً لهم }؛ وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أننا نوفي سبعين أمة نحن أكرمها، وأفضلها عند الله عزّ وجل(99) . وهذا أمر لا شك فيه .، ولله الحمد..
.4 ومن فوائد الآية: أن الله تعالى إذا فضل أحداً بعلم، أو مال، أو جاه فإن ذلك من النعم العظيمة؛ لقوله تعالى: { وأني فضلتكم على العالمين }: خصها بالذكر لأهميتها..
.5 ومنها: تفاضل الناس، وأن الناس درجات؛ وهذا أمر معلوم . حتى الرسل يفضل بعضهم بعضاً .، كما قال تعالى: {تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض} ، وقال تعالى: {ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض} ..
القـرآن
)وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) (البقرة:48).
التفسير:
.{ 48 } قوله تعالى: { واتقوا يوماً } أي اتخذوا وقاية من هذا اليوم بالاستعداد له بطاعة الله..
قوله تعالى: { لا تجزي نفس عن نفس شيئاً } أي لا تغني؛ و{ نفس } نكرة في سياق النفي، فيكون عاماً؛ فلا تجزي، ولا تغني نفس عن نفس أبداً . حتى الرسول صلى الله عليه وسلم لا يغني شيئاً عن أبيه، ولا أمه .؛ وقد نادى صلى الله عليه وسلم عشيرته الأقربين؛ فجعل ينادي كل واحد باسمه، ويقول: "يا صفية عمة رسول الله، لا أغني عنك من الله شيئاً؛ يا فاطمة بنت رسول الله، لا أغني عنك شيئاً..."(100) . مع أن العادة أن الإنسان يدافع عن حريمه، وعن نسائه .؛ لكن في يوم القيامة ليست هناك مدافعة؛ بل قال الله تعالى: {فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون} : تزول الأنساب، وينسى الإنسان كل شيء، ولا يسأل أين ولدي، ولا أين ذهب أبي، ولا أين ذهب أخي، ولا أين ذهبت أمي: {لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه} ..
قوله تعالى: { ولا يقبل منها شفاعة } أي لا يقبل من نفس عن نفس شفاعة؛ و "الشفاعة" هي التوسط للغير بجلب منفعة، أو دفع مضرة؛ فشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لأهل الجنة أن يدخلوا الجنة(101) : من جلب المنفعة؛ وشفاعته فيمن استحق النار ألا يدخلها(102) ، وفيمن دخلها أن يخرج منها(103) : من دفع المضرة؛ فيومَ القيامة لا تجزي نفس عن نفس شيئاً، ولا يقبل من نفس عن نفس شفاعة أبداً..
قوله تعالى: { ولا يؤخذ منها } أي من النفس؛ { عدل } أي بديل يعدل به عن الجزاء؛ و "العدل" بمعنى المعادِل المكافئ؛ ففي الدنيا قد تجب العقوبة على شخص، ويفتدي نفسه ببدل؛ لكن في الآخرة لا يمكن..
قوله تعالى: { ولا هم ينصرون } أي لا أحد ينصرهم . أي يمنعهم من عذاب الله .؛ لأن الذي يخفف العذاب واحد من هذه الأمور الثلاثة: إما شفاعة؛ وإما معادلة؛ وإما نصر..
الفوائد:
.1 من فوائد الآية: التحذير من يوم القيامة؛ وهذا يقع في القرآن كثيراً؛ لقوله تعالى: { واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله }، وقوله تعالى: {يوماً يجعل الولدان شيباً} ..
.2 ومنها: أنه في يوم القيامة لا تجزي نفس عن نفس شيئاً . بخلاف الدنيا .: فإنه قد يجزي أحد عن أحد؛ لكن يوم القيامة: لا..
.3 ومنها: أن الشفاعة لا تنفع يوم القيامة؛ والمراد لا تنفع من لا يستحق أن يشفع له؛ وأما من يستحق فقد دلت النصوص المتواترة على ثبوت الشفاعة . وهي معروفة في مظانها من كتب الحديث، والعقائد ...
.4 ومنها: أن يوم القيامة ليس فيه فداء؛ لا يمكن أن يقدم الإنسان فداءً يعدل به؛ لقوله تعالى: ( ولا عدل)
.5 ومنها: أنه لا أحد يُنصر يوم القيامة إذا كان من العصاة؛ ولهذا قال الله تعالى: {ما لكم لا تناصرون * بل هم اليوم مستسلمون} ؛ فلا أحد ينصر أحداً يوم القيامة . لا الآلهة، ولا الأسياد، ولا الأشراف، ولا غيرهم ...
J
الصفحة الأخيرة
الأولى: أن نقول : إن الله على كل شئ قدير ؛ فالذي جعلها خبيثة بالموت بعد أن كانت طيبة حال الحياة قدر على أن يجعلها عند الضرورة طيبة ، مثل ما كانت الحمير طيبة تؤكل حال حلها ، ثم أصبحت بعد تحريمها خبيثة ا .
الحال الثانية : انها ما زالت على كونها خبيثة ؛ لكنه عند الضرورة إليها يباح هذا الخبيث للضرورة ؛ وتكون الضرورة واقية من مضرتها ؛ وهذا الحال أقرب ؛لأنه لو كان عند الضرورة يزول خبثها لكانت طيبة تحل للمضطر ، وغيره ....
86. ( اشتروا الضلالة بالهدى ) : الباء هنا للعوض ؛ ويقول الفقهاء : إن ما دخلت عليه الباء هو الثمن ؛ سواء كان بنقد ، أم عينا ؛ وقال آخرون : الثمن هو النقد مطلقا ؛ والصحيح الأول .
87. ( إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما ، واستغفر الله إن الله كان غفورا رحيما ) استدل بعض العلماء بهذه الآية على أن الذنوب تحول بين الإنسان وبين العلم ، ثم قال تعالى : ( واستغفر الله ) فدل هذا على أن الاستغفار من أسباب فتح العلم - وهو ظاهر -
88. ( آتى المال ) ( المال ) كل عين مباحة النفع سواء كان هذا المال نقدا ، أو ثيابا ، أو طعاما ، أو أي شئ .
89. سميت زكاة لأنها تنمي الخلق ، وتنمي المال ، وتنمي الثواب
90. الإيمان باليوم الآخر يستلزم الاستعداد له بالعمل الصالح ؛ فالذي يقول : إنه مؤمن باليوم الآخر ، ولكن لا يستعد له فدعواه ناقصة .
91. ( منكر ونكير ) قال الألباني في الحديث الوارد في صحيح الترمذي : إنه حسن ، وفي السلسلة الصحيحة : إسناده جيد . ( من المحشي )
92. صحف موسى اختلف العلماء أهي التوراة أو غيرها .
93. ورد في حديث صححه ابن حبان أن عدة الرسل ثلاثمائة وبضعة عشر رسولا ؛ وأن عدة الانبياء مائة وأربعة وعشرون ألفا ( فيه حاشية على هذا الكلام )
94. لما سمع أبو طلحة هذه الآية ( لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون ) تصدق ببستانه ، لا لأنه بستانه فقط ، ولكن لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يأتي إليه ، ويشرب فيه من ماء طيب ، وكان قريبا المسجد .
95. من الفوائد أن إعطاء ذوي القربى أولى من إعطاء اليتامى والمساكين ، لأن الله بدأ بهم ، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم تقديم صلة الرحم على العتق .
96. ( والموفون بعهدهم ) العهد عهدان : عهد مع الله عز وجل ؛ وعهد مع الخلق . فالعهد الذي مع الله بينه بقوله : ( وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم ) ، وقوله تعالى : ( ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا وقال الله إني معكم لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضا حسنا لأكفرن عنكم سيئاتكم ....) الآية ، فالعهد الذي عهد الله به إلينا أن نؤمن به ربا ، فنرضى بشريعته ؛ بل بأحكامه الكونية ، والشرعية .
أما العهد الذي بيننا وبين الناس فأنواعه كثيرة جدا غير محصورة ؛ منها العقود مثل عقد البيع ، وعقد النكاح ؛ لأنك إذا عقدت مع إنسان التزمت بما يقتضيه ذلك العقد ؛ إذا فكل عقد فهو عهد ؛ ومن العهود بين الخلق ؛ ما يجري بين المسلمين وبين الكفار .
97. أعلى أنواع الصبر : الصبر على طاعة الله ؛ لأن فيها تحملا ، ونوعا من التعب بفعل الطاعة ؛ ثم الصبر عن المعصية ؛ لأن فيه تحملا ، وكفا عن المعصية ؛ والكف أهون من الفعل ؛ ثم الصبر على أقدار الله المؤلمة ، لأنه على شئ لا اختيار للعبد فيه .
98. إذا كان الكافر يقاتلنا بنفسه بأن يكون هذا الرجل المعين مقاتلا ، أو يقاتلنا حكما ، مثل أن يكون من دولة تقاتل المسلمين فإنه لا يجوز بره ، ولا إعطاؤه المال ؛ لأنه مستعد حكما للقتال .
99. ( كتب عليكم القصاص في القتلى ) ( القصاص ) يشمل إزهاق النفس ، وما دونها ؛ قال الله تعالى في سورة المائدة : ( والجروح قصاص )
100. ( فمن عفي له من أخيه شئ فاتباع بمعروف ) : على العافي اتباع بالمعروف عند قبض الدية ، بحيث لا يتبع عفوه منا ، ولا أذى .
101. ( وأداء إليه بإحسان ) : أي يكون الأداء بإحسان وافيا بدون مماطلة .
102. ذكر ابن عباس رضي الله عنهما أن بني إسرائيل فرض عليهم القصاص فرضا.
103. العفو المندوب إليه ما كان فيه إصلاح ؛ لقوله تعالى : ( فمن عفا وأصلح فأجره على الله ) مثل أن يكون القاتل معروفا بالصلاح ؛ ولكن بدرت منه هذه البادرة النادرة ؛ ونعلم ، أو يغلب على ظننا أنا إذا عفونا استقام ، وصلحت حاله ، فالعفو أفضل لا سيما إذا كان له ذرية ضعفاء ونحو ذلك ، وإذا علمنا أن القاتل معروف بالشر ، والفساد ، وإن عفونا عنه لا يزيده إلا فسادا ، وإفسادا فترك العفو عنه أولى ؛ بل قد يجب ترك العفو عنه .
104. ( كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية ) ؛ إنما لم يؤنث الفعل لكون نائب الفاعل مؤنثا تأنيثا مجازيا ؛ وللفصل بينه وبين عامله .
105. أكثر العلماء على أن هذا الحكم الذي دلت عليه الآية منسوخ ؛ ولكن الراجح أنه ليس بمنسوخ ؛ لإمكان التخصيص ؛ فيقال : إن قوله تعالى : ( للوالدين والأقربين ) مخصوص بما إذا كانوا غير وارثين .
106. من الفوائد أن الوصية الواجبة إنما تكون فيمن خلف مالا كثيرا ؛ لقوله تعالى : ( إن ترك خيرا ) ؛ فأما من ترك مالا قليلا فالأفضل أن لا يوصي .
107. قال الشافعي وغيره من السلف : ناظروا القدرية بالعلم ؛ فإن أقروا به خصموا ؛ وإن أنكروه كفروا ؛ فإما إذا قالوا : إن الله لا يعلم فكفرهم واضح لتكذيبهم القرآن ؛ وإما إذا قالوا : إنه يعلم لكن لا يقدرها ، ولا يخلقها ، قيل لهم : هل وقعت على وفق معلومه ، أو على خلاف معلومه ؟ سيقولون : على وفق معلومه ؛ وإذا كان على وفق معلومه لزم أن تكون مرادة له ؛ وإلا لما وقعت .
108. من الفوائد : أن من خاف جورا أو معصية من موص فإنه يصلح ؛ وهذا يشمل ما إذا كان قبل موت الموصي ، أو بعده ؛ مثاله قبل موت الموصي : أن يستشهد الموصي ، او يستكتب شخصا لوصيته ، فيجد فيها جورا ، أو معصية ، فيصلح ذلك ؛ ومثاله بعد موته : أن يطلع على وصية له تتضمن ما ذكر فتصلح ؛ مثال ذلك أن يوصي لوارث ، فيطلع على ذلك بعد موته ، فتصلح الوصية إما باستحلال الوارث الرشيد ، وإما بإلغائها إذا لم يمكن .
109. من فوائد الآية : أنه قد يعبر بنفي الإثم ، أو نفي الجناح دفعا عن توهمه ؛ وعليه فلا ينافي المشروعية ، كما في قوله تعالى : ( إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ) .
110. ( كما كتب على الذين من قبلكم ) من الأمم السابقة يعم اليهود ، والنصارى ، ومن قبلهم ؛ كلهم كتب عليهم الصيام ؛ ولكنه لا يلزم أن يكون كصيامنا في الوقت والمدة وهذا التشبيه فيه فائدتان : الأولى : التسلية لهذه الأمة حتى لا يقال : كلفنا بهذا العمل الشاق دون غيرنا ، الثانية : استكمال هذه الامة للفضائل التي سبقت إليها الأمم السابقة .
111. من العجائب في زمننا هذا أن من الناس من يصبر على الصيام ، ويعظمه ؛ ولكن لا يصبر على الصلاة .
112. الحكمة في التعبير بقوله : (أو على سفر) - والله أعلم - أن المسافر قد يقيم في بلد أثناء سفره عدة أيام ، ويباح له الفطر ؛ لأنه على سفر .
113. ( وعلى الذين يطيقونه ) أي يستطيعونه ، وقال بعض أهل العلم : ( يطيقونه ) أي يطوّقونه ؛ أي يتكلفونه ، ويبلغ الطاقة منهم حتى يصبح شاقا عليهم ؛ لكن ما ثبت في الصحيحين من حديث سلمة بن الأكوع يدل على ضعفه : ( أنه أول ما كتب الصيام كان الإنسان مخير أن يصوم ؛ أو يفطر ويفتدي ...) ؛ وكذلك ظاهر الآية يدل على ضعفه ؛ لان قوله بآخرها : ( وأن تصوموا خير لكم ) يدل على أنهم يستطيعون الصيام .
114. ( فمن تطوع خيرا ) منصوب على أنه مفعول مطلق ؛ والتقدير : فمن تطوع تطوعا خيرا .
115. ( شهر رمضان ) الشهر هو مدة ما بين الهلالين ؛ وسمي بذلك لاشتهاره ؛ ولهذا اختلف العلماء هل الهلال ما هلّ في الأفق - وإن لم ير - أم الهلال ما رئي واشتهر ؛ والصواب الثاني ، وأن مجرد طلوعه في الأفق لا يترتب عليه حكم شرعي حتى يرى ، ويتبين ، ويشهد إلا أن يكون هناك مانع من غيم ، أو نحوه .
116. ( أنزل فيه القرآن ) الصحيح أن ( أل ) هنا للجنس وليست للعموم ؛ وأن معنى : ( أنزل فيه القرآن ) أي ابتدئ فيه إنزاله ، كقوله تعالى : ( إنا أنزلناه في ليلة مباركة ) .
117. من الفوائد أن الله تعالى أنزل القرآن في هذا الشهر ؛ وقد سبق في التفسير هل هو ابتداء إنزاله ؛ أو أنه نزل كاملا ؛ والظاهر أن المراد ابتداء إنزاله ؛ لان الله يتكلم بالقرآن حين إنزاله ؛ وقد أنزله الله جل وعلا مفرقا ؛ فيلزم من ذلك أن لا يكون القرآن كله نزل في هذا الشهر .
118. ( فلستجيبوا لي ) عداها باللام ؛ لأنه ضمن معنى الانقياد - أي فلينقادوا لي ؛ وإلا لكانت ( أجاب ) تتعدى بنفسها .
119. وكل أناس سوف تدخل بينهم دويهية تصفر منها الأنامل
120. ( لعلهم يرشدون ) ؛ ( لعل ) للتعليل ؛ وكلما جاءت ( لعل ) في كتاب الله فإنها للتعليل ؛ إذ أن الترجي لا يكون إلا فيمن احتاج .
121. من الفوائد : أن الصيام مظنة إجابة الدعاء ؛ لان الله سبحانه وتعالى ذكر هذه الآية في أثناء آيات الصيام .
122. من الفوائد أن الله تعالى يجيب دعوة الداع إذا دعاه ؛ ولا يلزم من ذلك أن يجيب مسألته ؛ لأنه تعالى قد يؤخر إجابته المسألة ليزداد الداعي تضرعا ، أو يدخر له يوم القيامة ؛ أو يدفع عنه من السوء ما هو أعظم فائدة للداعي .
123. ( علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم ) : أي تاب عليكم بنسخ الحكم الأول الذي فيه مشقة ؛ والنسخ إلى الأسهل توبة كما في قوله تعالى في سورة المزمل : ( علم أن لن تحصوه فتاب عليكم ) ؛ إلا أن يراد بقوله تعالى : ( تاب عليكم وعفا عنكم ) ما حصل من اختيانهم أنفسهم .
124. ( تلك ) ؛ ( تي ) اسم إشارة ؛ واللام للبعد ، والكاف حرب خطاب .
125. ( حدود الله ) ؛ اعلم أن حدود الله نوعان :
حدود تمنع من كان خارجها من الدخول فيها ؛ وهذه هي المحرمات ؛ ويقال فيها : ( فلا تقربوها )
-حدود تمنع من كان فيها من الخروج منها ؛ وهذه هي الواجبات ؛ ويقال فيها : ( فلا تعتدوها )
126. ( وكلوا واشربوا حتي يتبين ) أخذ بعض اهل العلم من هذا استحباب السحور ، وتأخيره ؛ وهذا الاستنباط له غور ؛ لأنه يقول : إنما أبيح الأكل والشرب ليلة الصيام رفقا بالمكلف ؛ وكلما تأخر إلى قرب طلوع الفجر كان أرفق به ؛ فما دام نسخ التحريم من أجل الرفق بالمكلف فإنه يقتضي أن يكون عند طلوع الفجر أفضل منه قبل ذلك ؛ لأنه أرفق ؛ وهذا استنباط جيد تعضده الأحاديث .
127. بركة السحور :
أولا : لكونه معينا على طاعة الله .
ثانيا : لأنه امتثال لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ثالثا : لأنه اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم .
رابعا : لأنه يغني عن عدة أكلات ، وشرابات في النهار .
خامسا : لأنه فصل بين صيامنا وصيام أهل الكتاب .
128. من الفوائد جواز الأكل ، والشرب ، والجماع مع الشك في طلوع الفجر ؛ لقوله تعالى : ( حتى يتبين ) ؛ فإن تبين أن أكله ، وشربه ، وجماعه ، كان بعد طلوع الفجر فلا شئ عليه .
129. من الفوائد : بيان خطأ بعض جهال المؤذنين الذين يؤذنون قبل الفجر احتياطا - على زعمهم - ؛ لأن الله تعالى أباح الأكل والشرب ، والجماع ،حتى يتبين الفجر ؛ وهو أ يضا مخالف للاحتياط ؛ لانه يستلزم أن يمتنع الناس مما أحل الله لهم من الأكل ، والشرب ، والجماع ،وأن يقدم الناس صلاة الفجر قبل طلوع الفجر ؛ وأيضا فإنه يفتح بابا للمتهاون ، ثم اعلم أن الأحتياط الحقيقي إنما هو في اتباع ما جاء في الكتاب ،والسنة - لا في التزام التضييق والتشديد - .
130. ( وتدلوا بها إلى الحكام ) أي تتوصلوا بها إلى الحكام لتجعلوا الحكام وسيلة لأكلها بأن تجحد الحق عليك وليس به بينة ؛ ثم تخاصمه عند القاضي ، فيقول القاضي للمدعي عليك : هات بينة ؛ وإذا لم يكن للمدعي بينة توجهت عليك اليمين ؛ فإذا حلفت برئت ؛ فهنا توصلت إلى جحد مال غيرك بالمحاكمة ؛ هذا أحد القولين في الآية ؛ والقول الثاني : أن المعنى : توصلوها إليهم بالرشوة ليحكموا لكم ؛ وكلا القولين صحيح .
131. ( يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس ) جمع ميقات - من الوقت - ؛ أي يوقتون بها أعمالهم التي تحتاج إلى توقيت بالأشهر .
132. ( وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ) ( البر ) هو الخير الكثير .
133. ( وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا ) أي في المقاتلة ؛ والاعتداء في المقاتلة يشمل الاعتداء في حق الله مثل أن نقاتلهم في وقت لا يحل القتال فيه ، وأما في حق المقاتَلين فمثل أن نمثل بهم .
134. الأمر بقتال الكفار مقيد بغايتين ؛ غاية عدمية ( حتى لا تكون فتنة ) والفتنة الشرك ،والصد عن سبيل الله ، والغاية الثانية إيجابية : ( ويكون الدين لله ) بمعنى : أن يكون الدين غالبا ظاهرا لا يعلو إلا الإسلام فقط .
135. ( ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ) : تشمل الهلاك الحسي أن يعرض نفسه للمخاطر ، والهلاك المعنوي مثل أن يدع الجهاد .
136. ( وأحسنوا إن الله يحب المحسنين ) ... لو لم يكن من فضل الإحسان إلا هذا لكان كافيا للمؤمن أن يقوم بالإحسان .
137. ( ففدية ) أي فعليه فدية يفدي بها نفسه من العذاب .
138. ( من صيام أو صدقة أو نسك ) الصدقة إطعام ستة مساكين لكن مسكين نصف صاع .
139. ( وسبعة إذا رجعتم ) أي إذا رجعتم من الحج بإكمال نسكه ، أو إذا رجعتم إلى أهليكم .
140. ( لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام ) ؛ ( أهله ) قيل المراد به نفسه ؛ وقيل سكنه الذي يسكن إليه من زوجة ، وأب ،وأم ، وأولاد، وما أشبه ذلك ؛ فيكون المعنى : لمن لم يكن سكنه حاضري المسجد الحرام ؛وهذا أصح .
141. الأقرب أن معنى ( حاضري المسجد الحرام ) هو أهل الحرم - يعني : من كانوا داخل حدود الحرم - .
142. هل لحاضر المسجد الحرام التمتع ؟
الجواب :نعم ؛ لأن حاضر المسجد الحرام قد تدخل عليه أشهر الحج وهو خارج مكة ، ثم يرجع إلى أهله في مكة في أشهر الحج ، فيحرم بعمرة يتمتع بها إلى الحج .
143. مما يدل لعدم التهاون بالتوكيل في الرمي أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأذن لسودة بنت زمعة في أن توكل ، وكذلك لو كان جائزا لأذن للرعاة أن يوكلوا .
144. أطلق الله الإحصار ولم يقيده ( فإن أحصرتم ) فالفعل بني للمفعول فلم يذكر الفاعل .
145. من الفوائد أن من تعذر أو تعسر عليه الهدي من المحصرين فلا شئ عليه ، وليس بصحيح قياسه على هدي التمتع .
146. من الفوائد أنه لا يحرم حلق شعر غير الرأس ، ولا تلحق الأظافر به ( ثم بسط الشيخ القول في ذلك )
147. أن محل الإطعام او النسك في مكان فعل المحظور ؛ لأن الفورية تقتضي ذلك ؛ أما الصيام فالظاهر ما قاله العلماء من كونه في كل مكان ؛ لكن الفورية فيه أفضل .
148. من لم يجد الهدي أو ثمنه فإنه يصوم ثلاثة أيام في الحج : أولها من حين الإحرام بالعمرة ؛ وآخرها آخر أيام التشريق ؛ لكن لا يصوم يوم العيد .
149. يجوز التتابع والتفريق بين الأيام الثلاثة ، والأيام السبعة ؛ لأن الله سبحانه وتعالى أطلق ، ولم يشترط التتابع ؛ ولو كان التتابع واجبا لذكره الله .
150. تنبيه : كثير من الناس كلما رأوا مخالفة من شخص في الإحرام قالوا : ( عليك دم ) ؛ لو قال : حككت رأسي فسقطت منه شعرة بدون اختيار ولا قصد قالوا عليك دم ؛ وهذا غلط :
أولا : لانه خلاف ما أمر الله به ؛ والله أوجب واحدة من ثلاث : صيام أو صدقة أو نسك فإلزامهم بواحدة معينة فيها تضييق عليهم .
ثانيا : إن الدم في أوقات النحر غالبه يضيع هدرا لا ينتفع به .
ثالثا : أن فيه إخفاء لحكم الله عز وجل ؛ لان الناس إذا كانوا لا يفدون إلا بالدم ، كأنه ليس فيه فدية إلا هذا ؛ وليس فيه إطعام ، أو صيام .
151. ( فمن فرض فيهن الحج ) يرجع الضمير إلى بعضهن ؛ لانه لا يمكن أن يفرض الحج بعد طلوع الفجر يوم النحر .
152. ( ولا جدال في الحج ) يشمل الجدال فيه ، وفي أحكامه ، والمنازعات بين الناس في معاملاتهم .
153. الجدال إذا كان لإثبات الحق ، أو لإبطال الباطل فإنه واجب .
154. ( وتزودوا ) أي اتخذوا زادا لغذاء أجسامكم ، وغذاء قلوبكم - وهذا أفضل النوعين -.
155. من فوائد الآية أن أشهر الحج ثلاثة لقوله تعالى أشهر ؛ وهي جمع قلة ؛ والأصل في الجمع أن يكون ثلاثة فأكثر ؛ هذا المعروف في اللغة العربية ؛ ولا يطلق الجمع على اثنين ، أو اثنين وبعض الثالث إلا بقرينة ؛ وهنا لا قرينة تدل على ذلك ؛لأنهم إن جعلوا أعمال الحج في الشهرين وعشرة الأيام يرد عليه أن الحج لا يبدأ فعلا إلا في اليوم الثامن من ذي الحج وينتهي في الثالث عشر ؛ وليس في العاشر ؛ فلذلك كان القول الراجح أنه ثلاثة أشهر كاملة ؛ وهو مذهب مالك ؛ وفائدته أنه لا يجوز تأخير أعمال الحج إلى ما بعد شهر ذي الحجة إلا لعذر .
156. ظاهر الآية الكريمة أنه إذا أحرم بالحج قبل أشهره لا ينعقد ، وهو مذهب الشافعي ، والظاهر أيضا أنه لا ينعقد ، ولا ينقلب عمرة .
157. الكفار قد يكونون عقلاء عقول إدراك لكنهم ليسوا عقلاء عقل رشد .
158. التعبير بـ( أفضتم ) يصور لك هذا المشهد كأن الناس أودية تندفع .
159. سمي عرفات لعدة مناسبات:
قيل : لأن الناس يعترفون هناك بذنوبهم .
وقيل : لأن الناس يتعارفون بينهم .
قيل :لأن جبريل لما علم آدم المناسك ، ووصل إلى هذا قال : عرفت .
قيل : لأن آدم لما أهبط إلى الأرض هو وزوجته تعارفا في هذا المكان
قيل لأنها مرتفعة على غيرها . وعندي - والله أعلم - أن هذا القول أقرب ، وكذلك الأول .
160. من الحكم للوقوف في عرفة أن يجمع الحاج في نسكه بين الحل والحرم .
161. ( واذكروه كما هداكم ) الكاف للتعليل أي اذكروه لهدايتكم ، ويحتمل أن تكون الكاف للتشبيه أي اذكروه على الصفة التي هداكم إليها
162. ( وإن كنتم من قبله لمن الضالين ) ؛ ( إن ) مخففة من الثقيلة ؛ فهي للتوكيد بدليل وجود اللام الفارقة ؛ والتقدير : وإنكم كنتم من قبله لمن الضالين ؛ واسم ( إن ) ضمير الشأن محذوف ؛ وهو مناسب للسياق ؛ وبعض النحويين يقدر ضمير الشأن دائما بضمير مفرد مذكر غائب فيكون التقدير : وإنه - أي الشأن - والصواب القول الأول .
163. من الفوائد أنه ينبغي للإنسان في حال بيعه ، وشرائه أن يكون مترقبا لفضل الله لا معتمدا على قوته ، وكسبه ؛ لقوله تعالى : ( أن تبتغوا فضلا من ربكم )
164. ( مناسككم ) : ( النسك ) بمعنى العبادة ؛ ولكن كثر استعماله في الحج وفي الذبح .
165. ( وما له في الآخرة من خلاق ) ( من خلاق ) مبتدأ ؛ وخبره الجار والمجرور .
166. ( ربنا آتنا في الدنيا حسنة ) حسنة الدنيا كل ما يستحسنه الإنسان منها ، مثل الصحة وسعة الرزق ، وكثرة البنين .....
167. ( أولئك لهم نصيب مما كسبوا ) : قال بعض العلماء إن الإشارة تعود إلى مورد التقسيم كله ، ويكون كل له نصيب مما كسب ؛ كقوله تعالى : ( ولكل درجات مما عملوا ) ؛ وقال آخرون : بل الإشارة تعود إلى التقسيم الثاني ؛ لقوله تعالى ( من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها ) ، وأرى أن الثاني أظهر .
168. ( والله سريع الحساب ) السرعة هنا قد تكون سرعة الزمن ؛ بمعنى أن حساب الله قريب ؛ وقد يكون المراد سرعة محاسبة الله للخلق ؛ والثاني أبلغ .
169. (واذكروا الله في أيام معدودات ) الذكر هنا يشمل كل ما يتقرب به إلى الله عز وجل من قول أو فعل ؛ فيشمل التكبير ، والنحر ، ورمي الجمار ؛ بل والصلاة المفروضة ، والتطوع .
170. ( لمن اتقى ) : الظاهر أنها قيد للأمرين جميعا للتعجل والتأخر ، بحيث يحمل الإنسان تقوى الله عز وجل على التعجل أو التأخر
171. ( ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ) ؛ ( من ) هنا للتبعيض ؛ وهي بمعنى بعض الناس ؛ ولهذا أعربها بعض النحويين على أنها مبتدأ .
172. ما من إنسان في الغالب أعطي الجدل إلا حرم بركة العلم ؛ لأن غالب من أوتي الجدل يريد بذلك نصرة قوله فقط .
173. ( أخذته العزة بالإثم ) أي حملته على الإثم
8