رياح الهنا @ryah_alhna
محررة فضية
تدبرات فى إسم الله ( العزيز ) الحلقة السادسة
العزيز
سنبقى في الصفحات التالية مع اسم "العزيز"، وهذا الاسم كثيرا ما يرد في نهاية الآيات وهو العزيز الحكيم، وقد كنت بيّنت لكم من قبله أن الإيمان بالله "بوجوده" لا يكفي، بل يجب أن تؤمن بوجوده، وأن تؤمن كذلك بوحدانيته، وحدانيته في ذاته وفي صفاته وفي أفعاله، وأن تؤمن أيضا بكماله ومن الإيمان بكماله يمكنك أن تتعرف إلى أسمائه الحسنى وصفاته الفضلى.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا مِئَةً إِلا وَاحِدًا مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ" .
ومعنى إحصائها: أنك إذا عرفتها وعرفت مضامينها، عرفت ما ينبغي أن تفهمه منها، وما تدل عليه، عرفت ما ينبغي أن يكون موقفك منها لتتعامل معها، وأخيرا عرفت أبعادها، وموضوع بحثنا في الصفحات التالية اسم العزيز.
ورد هذا الاسم في آيات كثيرة من هذه الآيات، قال الله تعالى على لسان سيدنا عيسى عليه السلام:
}إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ{ .
لو أن الإنسان نسي كيف يتم الآية وقال: إن تغفر لهم فإنك أنت الغفور الرحيم، فهل تتناسب هذه الخاتمة للآية مع صدرها؟!..
إن الآية ختمت على النحو التالي: (وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم)، لأن الإنسان مهما علا شأنه، إذا أراد أن يغفر لأحد زلته ربما حوسب، ربما سئل لماذا عفوت عن فلان؟ لماذا لم تكلفه؟ لماذا تساهلت معه؟ لكن الله سبحانه وتعالى إذا غفر فهو العزيز الذي عز فغفر، ولا يسأل عما فعل (إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم).
هذه الآية الأولى في دراستنا، والآية الأخرى هي:
}وَلَهُ الْكِبْرِيَاء فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ{ .
والآية الثالثة:
}يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ{ .
وهذه آية رابعة:
}سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ{ .
وإليك آية خامسة حينما قال الشيطان:
}قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ{ .
اسم العزيز ورد في آيات كثيرة جدا، اخترت لكم من بين الآيات الكثيرة هذه الآيات.
وبعد فما معنى هذا الاسم من حيث اللغة؟
المعنى الأول: العزيز: الذي لا مثيل له، ولا مشابه له، ولا نظير له، مِن فِعلِ عز يعز، تقول: عز الطعام أي أصبح قليلا وأصبح نادرا، عز هذا الاختصاص؛ اختصاص عزيز: أي نادر، خبرة عزيزة أي نادرة، معنى عز يعز أي ندر وجوده أو لا مثيل له ولا مشابه له ولا نظير، اسم العزيز بهذا المعنى من أسماء التنزيه، الأسماء مصنفة: فهناك اسم تنزيهي وهناك اسم ذات وهناك أسماء صفات وهناك أسماء أفعال.
بشكل أوسع: العزيز الذي لا مثيل له ولا ند له ولا نظير له، إذا كان الشيء نادرا قليل الوجود ليس متوافرا مع إمكان توافره نسميه عزيزا، فكيف بالذي يستحيل على العقل أن يصدق أن له نظيرا، إذاً، الله سبحانه وتعالى لا مثيل له ولا ند له ولا مشابه له إذاً هو عزيز وهذا المعنى الأول.
المعنى الثاني: العزيز هو الغالب الذي لا يُغلب، الإنسان إذا غُلِبَ فليس عزيزا يصبح ذليلا وقد يبالغ المنتصر في إذلاله، قد يجري بعض التصرفات ليبالغ في إذلاله، فالغالب الذي لا يُغلب يسمى عزيزا، والعرب تقول في أمثلتها: من عز بز، أي مَنْ عز: مَنْ انتصر أخذ ما راق له ومن غلب سلب (وعزني في الخطاب) ، أي: غلبني في الخطاب، (إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة فقال اكفلنيها وعزّني في الخطاب) ، أي غلبني. فالقاهر الذي انتصر وقد يغلب يسمى عزيزا فكيف بالقاهر الذي لا يمكن أن يغلب، من باب أولى فالله سبحانه عزيز بالمعنى الثاني: أي القاهر الذي لا يغلب والدليل: }وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ{ .
وكأن الله تعالى يقول لك: أنت تريد وأنا أريد فإذا سلَّمْتَ لي فيما أريد كفيتك ما تريد، وإن لم تسلم لي في ما أريد أتعبتك فيما تريد ثم لا يكون إلا ما أريد، قال تعالى: (والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون) لو علم الناس أن الله غالب على أمره لأطاعوه ولاتكلوا عليه ولأقبلوا عليه ولتركوا سواه.
المعنى الثالث: العزيز هو القوي الشديد، من عز يعز ندر يندر، عز يعز غلب يغلب، عز يعز قوي يقوى، والآية الكريمة:
}إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُم مُّرْسَلُونَ{
يقولون لك: التعزيز، أي بعد أن تلقي الدرس تعززه بالتدريبات، مرحلة التعزيز أي ترسيخ المعلومات، وتمكينها هذا المعنى الثالث.
المعنى الأول: العزيز الذي لا مثيل له ولا ند له ولا مشابه له هذا من أسماء التنزيه.
المعنى الثاني الغالب الذي لا يغلب هذا من أسماء الصفات.
والمعنى الثالث: القوي الشديد هذا من أسماء الصفات أيضا، فالقادر الذي قد يضعف يسمى عند الناس عزيزا، فكيف بالقادر الذي يستحيل أن يضعف فهذا من باب أولى، إذاً الله سبحانه وتعالى عزيز بهذا المعنى الثالث.
وهناك معنى رابع وهو دقيق جدا، وربما كان المؤمنون في أمس الحاجة لفهم هذا المعنى.
المعنى الرابع: العزيز بمعنى الُمِعز، كأن تقول: الأليم بمعنى المؤلم، فأنت تقول مثلا: جرح أليم أي: جرح مؤلم، من معاني وزن فعيل أن يكون بمعنى اسم الفاعل مُفْعِل. فالعزيز بمعنى المُعِز وهو من صفات الأفعال.
إذا لدينا أربعة معان لاسم العزيز، الأول: من أسماء التنزيه والثاني والثالث: من أسماء الصفات وأما الرابع: من أسماء الأفعال، هو الذي يعز:
}قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ{ .
آخر ملوك الأندلس أبو عبد الله محمد الصغير عندما غادر الأندلس سنة 897 بكى، فقالت له أمه عائشة:
ابكِ مثل النساء ملكاً مضاعاً لم تحافظ عليه مثل الرجال
فما قيمة الإنسان إذا تخلى الله عنه؟ قال تعالى:
}أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ{ .
جزء كبير جدا من حياتك متعلق بكرامتك، فإذا كنت مع العزيز أعزك الله:
اجعل لربك كل عزك يستقر ويثبت
فإذا اعتززت بمن يموت فإن عزك ميت
هذه هي المعاني اللغوية لكلمة عزيز أو لاسم الله: العزيز، لكن هناك تعريف أدق وأجمل: العزيز الذي يقل وجوده وتشتد الحاجة إليه ويصعب الوصول إليه في وقت واحد، قد يقل وجود شيء ما ولكن لا تشتد الحاجة إليه، فهناك معدن نادر جدا ومع أنه نادر وقليل وجوده لكن لسنا بحاجة ماسة إليه، عندئذ لا يسمى هذا المعدن عزيزا، العزيز يجب أن تتوافر فيه صفات ثلاث: أن يقل وجود مثله، وأن تشتد الحاجة إليه، وأن يصعب الوصول إليه، قد تشتد الحاجة إلى شيء ولكنه غير نادر كالهواء، كلنا في أمس الحاجة إليه ولكنه موجود، قد تشتد الحاجة إلى الماء والماء موجود ووجوده في بعض البلاد كثير غزير.
إذًا لا بد أن يكون العزيز شيئا يقل وجوده وتشتد الحاجة إليه ويصعب الوصول إليه، إذاً شيء عزيز كأن يقال: عزيز المنال لا يدرك ولا ينال، هذه الصفات للشيء الذي يقل وجوده وتشتد الحاجة إليه ويصعب الوصول إليه، هذه الصفات لها صفات نقصان ولها صفات كمال، كلما كثر وجوده قلت عزته، وكلما قلت الحاجة إليه قلت عزته، وكلما سهل الوصول إليه قلت عزته، والآن كلما قل وجوده إلى أن يصبح واحدا، هذه صفة كمال في العزيز يقل وجوده ويندر وجوده حتى يصبح واحدا وتشتد الحاجة إليه فهذه أعلى صفة، ولا تكون إلا الله سبحانه.
شخص ما أحيانا قد يحتاج إليه بعض الناس، بل قد يحتاج إليه أكثر الناس، فكلما كثر الذين يحتاجون إليه أصبح عزيزا، فإذا احتاج إليه كل الناس فهذا شيء نادر، لا يوجد إنسان يحتاج إليه جميع الناس، قد تجد ملكاً وتجد إنساناً يعيش في أطراف مملكته يعمل راعياً، مع أنه أحد رعايا هذا الملك لكنه ليس بحاجة إليه، يأكل ويشرب في خيمته من نتاج هذا الغنم الذي يملكه.
كلما اشتدت الحاجة إلى الشيء أصبح عزيزا، كمال هذه الصفة شيء دقيق جدا أن يحتاج إليه كل شيء في كل شيء، أنا قد أحتاج إلى الطبيب عند المرض، ولكن لا أحتاج إليه عند النوم أنا أحتاج إلى سرير عند النوم، قد أحتاج إلى هذا المدرس إذا كان ابني ضعيفاً في مادة الرياضيات فأنا بحاجة إليه، أما أن يحتاج إليه كل شيء، وليس كل الناس فقط، لا بل الناس والحيوان والنبات والجماد والذرات والمجرات، أي يحتاج إليه كل شيء في كل شيء.
دققوا: كل شيء في كل شيء. إذاً الله سبحانه وتعالى عزيز لأن قيام الشيء به، قيام المادة هذه مادة فيها نواة وفيها كهارب وفيها دوران لولا أن الله سبحانه وتعالى تجلى عليها لتوقفت، كن فيكون زل فيزول:
}اللّهُ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ{ .
أي: أن قوام كل شيء به سبحانه، وهو مصدر حياة كل شيء.
إذا الله سبحانه وتعالى لا نقول: تشتد الحاجة إليه، بل نقول: يحتاج إليه كل شيء في كل شيء، الشبكية مئة وثلاثون مليون مستقبل للضوء ما بين مخروط وعصية تشكل عشر طبقات، العصب البصري تسعمئة ألف عصب، ما هذه المادة التي تتغير ماهيتها إذا جاءها الضوء؟ إذا تغيرت ماهيتها تولد عن هذا التغير تيار كهربائي ينقل الصورة إلى الدماغ، أنت محتاج إلى الله عز وجل في عينك وفي أذنك وفي لسانك وفي دماغك وفي شرايينك، وأيُّ شيءٍ لم يتجل اللَّه سبحانه وتعالى عليه يُصبح لا شيء، فأنت قائم بالله، عظامك عضلاتك المخططة والملساء أعصابك وأجهزتك كلها تعمل بالله، فلو أن الله سبحانه وتعالى حجب عنها تجلياته لأصبح الإنسان جثة هامدة، إذا يحتاجه كل شيء في كل شيء.
أول صفة: الذي يقل وجود مثله أما كمال هذه الصفة أن يصبح واحدا، فتشتد الحاجة إليه، كمال هذه الصفة يحتاجه كل شيء في كل شيء، يصعب الوصول إليه فلا يمكن أن تحيط به ولا الأنبياء فلا يعرف الله إلا الله، أن تصل إليه اتصال عبودية فهذا ممكن فاستقم على أمره واعمل الصالحات تصل إليه وهذا هو الوصول وهذا هو الاتصال.
شاب خطب ابنة عالم اسمها وصال، فهذا العالم قال له: مهر هذه الفتاة أن تحضر هذه الدروس التي ألقيها في مجلسي، فحضرها فاستغرق فيها فنسي الفتاة، فأرسلت له كتابا: يا فلان نسيتنا، فقال: يا وصال كنت سبب الاتصال فلا تكوني سبب الانفصال.
يمكن أن تصل إليه، أن تصل كعبد فعليك أن تستقيم على أمره وأن تفعل الصالحات أن تذكره كثيرا وأن تخدم عباده كثيرا فممكن أن تصل، أما أن تصل إليه وصول إحاطة وإدراك كامل فهذا مستحيل حتى للأنبياء فلا يعرف الله إلا الله.
فإذا سألت نفسك: ما معنى العزيز؟ فإنَّ معنى العزيز: هو الفرد الذي يحتاجه كل شيء في كل شيء ويستحيل الوصول إليه، وصول إحاطة وإدراك أما وصول عبودية فممكن.
قال بعضهم: العزيز من ضلت العقول في بحار عظمته وحارت الألباب دون إدراك نعمته وكلت الألسن عن وصف كمالاته ووصف جماله. والنبي عليه الصلاة والسلام لخص هذه الكلمات:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: فَقَدْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةً مِنَ الْفِرَاشِ فَالْتَمَسْتُهُ فَوَقَعَتْ يَدِي عَلَى بَطْنِ قَدَمَيْهِ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ وَهُمَا مَنْصُوبَتَانِ وَهُوَ يَقُولُ: "اللَّهُمَّ إني أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ وَبِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ لا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ" .
والله إن الحق الثابت أنه من عرف الله زهد فيما سواه، إذا عرفت الله لا يمكن أن تتضعضع لمخلوق، وعندها لا ترى مع عزة الله عزيزا، ولا ترى مع قدرة الله قديرا، ولا ترى مع حكمة الله حكيما..
قال ابن رجب وفي بعض الآثار يقول الله تعالى: "ابن آدم اطلبني تجدنـي فإذا وجدتني وجدت كل شيء، وإن فتك فاتك كل شيء وأنا أحب إليك من كل شـيء".
فلو شاهدت عيناك من حسننا الذي رأوه لما وليت عنا لغيرنـا
ولو سمعت أذناك حسن خطابنا خلعت ثياب العجب عنك وجئتنا
ولو ذقت من طعم المحبــة ذرة عذرت الذي أضحى قتيلا بحبنـا
ولو نَسمَتْ من قربنا لك نسمــة لَمِتَّ غريبا واشتياقا بقربنا
الله عزيز هذا الذي يتوهم بسذاجة أنه بركعتين وليرتين يدخل الجنة إنسان ساذج غبي، ومن خطب الحسناء لم يغله المهر.
وفي حديث بكير بن فيروز قال: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ خَافَ أَدْلَجَ وَمَنْ أَدْلَجَ بَلَغَ الْمَنْزِلَ أَلا إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ غَالِيَةٌ أَلا إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ الْجَنَّةُ". .
قال تعالى:
}لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ{ .
وقتك الثمين، زبدة وقتك، قوتك يجب أن تصرفها كلها في سبيل الله، مالك الذي جمعته بكدك وعرق جبينك يجب أن تنفقه في سبيل الله، ألا إن سلعة الله غالية، الله عزيز بالمعنى الطبيعي الفطري الله عزيز.
الآن من هو العزيز من العباد في ضوء هذا التعريف؟ الأنبياء أعزة لماذا؟ لأن الخلق كلهم بحاجة إليهم وإلى علمهم، النبي صلى الله عليه وسلم عزيز لأن ربنا عز وجل أودع فيه سره أودع فيه علمه أودع فيه النبوة، هو طريق إلى الله وهو باب الله، فالأنبياء أعزة لأن الله جعلهم أبواب رحمته وأبواب فضله وأبواب إحسانه وأبواب أنواره، لهذا إرضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم هو عين إرضاء الله، ولهذا قرن الله اسم نبيه صلى الله عليه وسلم مع اسمه فالنبي عزيز لأن الناس جميعا في أمس الحاجة إليه في أمر دينهم ودنياهم.
الملك عزيز: إذا كان ملك بيده مقدرات الأمور كلها، بيده كل شيء، فالناس جميعا يقصدونه كبيرهم وصغيرهم، جليلهم وحقيرهم، فكلما اشتدت الحاجة إليك فأنت عزيز، ألا إن المؤمن إذا اشتدت الحاجة إليه يكون عزيزا لكنه يكون متواضعا، وأما غير المؤمن فإذا اشتدت الحاجة إليه يكون متكبرا.
سُئل الإمام الحسن البصري وقد سما مقامه بين الناس: بِمَ نِلت هذا المقام؟ وقبل الإجابة أهمس في أذن القارئ الكريم بهذه الكلمة من القلب: لا يمكن أن تعرف الله وأن تطيعه، ثم تكون ذليلا لأحد أبداً، لأن الله عز وجل يقول:
}وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ{ .
أتكون مع العزيز وتذل بعد ذلك -لا- لن يكون هذا أبداً، ألا تقرأ في الدعاء يوميا في قنوت الوتر: إنه لا يذل من واليت ولا يعز من عاديت؟
لن تجد مؤمنا تَعَرَّفَ إلى الله عز وجل واستقام على أمره واصطلح معه إلا أراه الله معاملة خاصة وأشعره من خلالها أنه غال عليه وأنه يحبه قال تعالى:
}وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ{ .
أحيانا كثيرة تدعوه فيستجيب لك، تدعوه فيصرف عنك السوء، تدعوه فيلقي حبك في قلوب الخلق، تدعوه فيلين قلوب أعدائك، تدعوه فيلبيك، تسأله فيعطيك، تقسم عليه فيبرك.
فلما سئل الحسن البصري بما نلت هذا العز؟ قال: بشيئين، باستغنائي عن دنيا الناس وحاجتهم إلى علمي.
لا تكون عزيزا إذا كنت طماعاً، حينما تطمع تصبح ذليلا، لمجرد أن تطمع فيما عند الناس تصبح ذليلا.
لذلك إذا طمعت فيما عند الناس كرهوك، ورب العزة إذا طمعت فيما عنده أحبك.
لا تسألن بني آدم حاجة وسل الذي أبوابه لا تحجب
الله يغضب إن تركت سؤاله وبني آدم حين يسأل يغضب
الإنسان إن سألته حاجة غضب منك، ورب العزة إن لم تسأله غضب منك، لذلك فالنبي عليه الصلاة والسلام قال:
"لا يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يُذِلَّ نَفْسَهُ" قَالُوا وَكَيْفَ يُذِلُّ نَفْسَهُ؟ قَالَ: "يَتَعَرَّضُ مِنَ الْبَلاءِ لِمَا لا يُطِيقُ" .
وروي عنه:
"ابتغوا الحوائج بعزة الأنفس، فإن الأمور تجري بالمقادير" ، "ارفع رأسك يا أخي لقد مَوَّتَّ علينا ديننا" ورأى عمر رجلا طأطأ رقبته في الصلاة فقال يا صاحب الرقبة ارفع رقبتك ليس الخشوع في الرقاب إنما الخشوع في القلوب.
دخل أبو حنيفة في قضية على الخليفة أبي جعفر المنصور، فَأَعجبه أن يأتيه هذا العالم الجليل الفقيه الكبير، قال: يا أبا حنيفة لو تغشيتنا دائما، نحن في استقبالك نعتز بك وأهلا بك، قال: ولِمَ أتغشاكم يا أمير المؤمنين وليس لي عندكم شيء أخافكم عليه وهل يتغشاكم إلا من خافكم على شيء، ليس لي عندكم حاجة آتيكم من أجلها.
كلما قطعت طمعك من الناس أعزك الله، وكلما مرغت جبهتك في السجود لله أعزك الله.
قال مطرف وابن نافع وغيرهما لما قدم هارون المدينة وجه إلى مالك وقال له: قل له احمل لي الكتاب الذي صنفته حتى أسمعه منك، فوجد من ذلك مالك واغتم، وقال للبرمكي أقرئه السلام وقل له: العلم يزار ولا يزور، وإن العلم يؤتى، فرجع البرمكي إلى هارون فأخبره بذلك فغضب وأشار عامة أصحاب مالك أن يأتي هارون وقال البرمكي للرشيد يبلغ أهل العراق أنك وجهت إلى مالك فخالفك! اعزم عليه حتى يأتيك فإذا بمالك قد دخل فسلم وليس معه كتاب، فقال له هارون في ذلك، فقال مالك: يا أمير المؤمنين! إن الله تعالى بعث إلينا محمدا صلى الله عليه وسلم وأمر بطاعته واتباع سنته وأن نرعاه حيا وميتا وقد جعلك في هذا الموضع لعلمك فلا تكن أول من ضيع العلم فيضيعك الله، لقد رأيت من ليس هو في حسبك ولا نسبك من الموالي وغيرهم يعز هذا العلم ويجله ويوقر حملته فأنت أحرى أن تجل علم ابن عمك ولم يزل يعدد عليه حتى بكى.
ثم قال له حدثني الزهري وذكر حديث زيد بن ثابت، كنت أكتب بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله) وابن أم مكتوم عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! قد أنزل الله تعالى في فضل الجهاد ما أنزل وأنا رجل ضرير فهل لي من رخصة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أدري. قال زيد وقلمي رطب لم يجف حتى غشي النبي صلى الله عليه وسلم الوحي ووقع فخذه على فخذي فكادت تندق من ثقل الوحي ثم خلا عنه فقال اكتب يا زيد (غير أولي الضرر)، فقال: يا أمير المؤمنين هذا حرف واحد بعث فيه جبريل والملائكة مسيرة خمسين ألف عام حتى أنزل على نبيه أفلا ينبغي لي أن أجله وأعزه؟ قال، فقال هارون قم بنا إلى منزلك فأتى هارون منزل مالك فدخل مالك واغتسل ولبس ثيابا جددا وتطيب ووضع مجامير فيها عود وجلس فقال هات، فقال هارون: تقرأ علي؟ ما قرأت على أحد منذ زمان، قال فأخرج عني الناس حتى أقرأه عليك. فقال مالك: إن العلم إذا منع من العامة لأجل الخاصة لم تنتفع به الخاصة.
قال فكان هارون قد استند إلى جنب مالك، فلما بدأ يقرأ له قال: يا أمير المؤمنين! من تواضع لله رفعه الله. وفي رواية أبي مصعب: من إجلال الله إجلال ذوي الشيبة المسلم. فقام فقعد بين يديه فحدثه، فلما فرغ عاد إلى مكانه. قال مالك: لما كان بعد مدة قال لي الرشيد: تواضعنا لعلمك فانتفعنا به، وقال هارون لمالك إن رأيت أن تأتي ولديك فتحدثهم يعني ابني هارون. قال فما رد عليه مالك شيئا حتى خلا من عنده، فتول إليه فقال أنشدك الله يا أمير المؤمنين أن لا تكون أول من أجرى على يديك ذل العلم. قال: وما ذاك؟ قال أدركت أهل العلم يؤتون ولا يأتون. فقال له أصبت بل يأتوك.
وخرج مالك؟ فقال هارون: هذا الذي تلومونني فيه ما رأيت رجلا أعقل منه، قلت له آنفا فلم يرد على شيء كراهية أن يخرج منه شيء في ذلك الجمع فلما خلوت خرج لي عما في نفسي
العالم عزيز يجب أن تزهد فيما عند الناس، يجب أن تكون بعيدا عن دنياهم.
شخص سأل: كيف الطريق إلى الله؟ قال: لو عرفته لعرفت الطريق إليه، كلمة بليغة.
إذا عرفت الله تعرف بالفطرة ماذا يرضيه، وكيف تقبل عليه، وكيف تستقيم على أمره، وكيف تضحي من أجله، وكيف تؤثره على كل شيء، سأل: كيف الطريق إليه؟ فأجابه: لو عرفته لعرفت الطريق إليه، فقال له: لم أفهم كلامك، كيف أعبد من لا أعرفه، فقال: كيف تعصي من تعرفه، قال الحسن بن أحمد الصفار: سئل الشبلي وأنا حاضر أي شيء أعجب؟ قال قلب عرف ربه ثم عصاه:
تعصي الإله وأنت تظهر حبه هذا لعمري في المقال بديع
لو كان حبك صادقا لأطعته إن المحب لمن يحب يطـيع
سئل شخص: متى عرفت الله؟ قال: والله ما عصيته منذ عرفته.
مرة ثانية أهمس في أذنك أيها القارئ العزيز، والله الذي لا إله إلا هو لو تعلمت علم الثقلين بنية أن تكون ذا شأن في المجتمع وعصيت الله فيما بينك وبينه، فأنت لا تعرفه، لا تعرفه، لا تعرفه.
من لم يكن له ورع يصده عن معصية الله إذا خلا، لم يعبأ الله بشيء من عمله أبدا، لا تنظر إلى صغر الذنب ولكن انظر مَنْ اجترأت عليه، فلمجرد أن تعصي الله عز وجل يجب أن تعلم علم اليقين أنك لا تعرفه كمال المعرفة.
العلماء ثلاثة كما قال سهل التستري رحمه الله:
عالم بأمر الله تعالى لا بأيام الله وهم المفتون في الحلال والحرام وهذا العلم لا يورث الخشية.
وعالم بالله تعالى لا بأمر الله ولا بأيام الله وهم عموم المؤمنين.
وعالم بالله تعالى وبأمر الله تعالى وبأيام الله تعالى وهم الصديقون والخشية والخشوع إنما تغلب عليهم وأراد بأيام الله أنواع عقوباته الغامضة ونعمة الباطنة التي أفاضها على القرون السالفة واللاحقة فمن أحاط علمه بذلك عظم خوفه وظهر خشوعه.
لو تخيلنا إنساناً يحمل أعلى شهادة شرعية، وله مئة مؤلف وهو ذو منصب ديني خطير، ودخلت عليه امرأة وتأمل فيها وملأ عينيه منها، وعنده مستخدم على الباب، لا يقرأ ولا يكتب لكنه قرأ قوله تعالى: }قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ{ .
فغض هذا المستخدم بصره عنها فهو عند الله عالم، والأول الذي ملأ عينيه من الحرام جاهل.
عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: كَفَى بِالْمَرْءِ عِلْمًا أَنْ يَخْشَى اللَّهَ وَكَفَى بِالْمَرْءِ جَهْلا أَنْ يُعْجَبَ بِعِلْمِهِ. .
دع هذه الكلمة حية في ذهنك دائما: لمجرد أن تعصيه فأنت لا تعرفه.
قيل: ما الأدب الذي يجب أن يتحلى به المؤمن حيال هذا الاسم؟ الله عزيز ما موقف المؤمن حيال هذا الاسم؟
قال: المؤمن إذا عرف العزيز ينبغي ألا يعتقد أن لمخلوق إجلالاً، نعم هو الإنسان أديب جدا مع الناس، لكنه لا يمكن أن يعتقد لمخلوق إجلالاً، أي يجب أن يحقر الأقدار إزاء قدره، وأن يمحو الأذكار سوى ذكره، قرأ فرقد السبخي في التوراة: "من جالس غنيا فتضعضع له ذهب ثلثا دينه".
لماذا؟ قال: لأن الإيمان ما وقر في القلب وأقر به اللسان وصدقه العمل، فإذا أجللت غنياً لغناه، أجللته وانحنيت له وأثنيت عليه بما ليس فيه فقد أذهبت ثلثي دينك، والإيمان ثلاثة أشياء: ما وقر في القلب، وأقر به اللسان، وصدقه العمل، فإذا كان العمل الظاهري تعظيم لإنسان لا يعرف الله وبدورك عظمته لأنه غني، فالنتيجة إذاً ذهب ثلثا دينك.
"واعلم أن شرف المؤمن صلاته بالليل، وعزه استغناؤه عن الناس" .
عند المؤمن عزة لو وزعت على أهل بلدة لكفتهم، قال تعالى: (ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين) المؤمن يرى أنه عبد لله حقا، وأن الله لن يضيعه، ولن يسلمه، ولن يتخلى عنه، أفلا يكون مع كل هذا عزيزا؟
عندنا قاعدة ثابتة: أنه إذا عَظَّمَ القلبُ الربَّ صَغُرَ الخلق في عينه، فإذا كان الله ليس عظيما في عينه كبر الخلق في عينه. هذا امتحان، فلان مثلا يقولها بملء فمه: سيفعل ويترك، وعنده قدرة على كذا وكذا وكذا. إن كنت مثله فأنت لا تعرف الله إذاً، ما دمت تُجِله كل هذا الإجلال فإنك لا تعرف الله، لأن الله عز وجل لو جَمّد قطرة من دمه في أحد شرايين مخه لأصبح مشلولا، ولو أن الله عز وجل جمد بعض الدم في شرايين قلبه لمات بسكتة قلبية، وقضى من فوره، والإنسان كلما ارتقى إيمانه التفت إلى الله أكثر وأكثر، قال تعالى:
}فَنَذَرُ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ{ .
إذا عرفت أنه المُعِزّ، فلو اجتمع الناس جميعا على أن يرفعوك درجة لا يستطيعون، أما إذا رفعك الله عز وجل درجة أو أكثر لا يستطيع أهل الأرض أن يضعوك، ومعلوم: إذا عرفت أنه المعز لم تطلب العز إلا بطاعته.
قال بعضهم: لو اجتمع الخلق على أن يثبتوا لأحد عزاً فوق ما يثبته اليسير من طاعته لما قدروا، لا تُعَزّ إلا بطاعة الله، أَعِزَّ أمر الله يعزك الله، قال العلماء: لو اجتمع الخلق على أن يثبتوا لأحد ذلاً أكثر من اليسير من المعصية لم يقدروا، هناك عامل واحد يرفعك ويخفضك هو الطاعة والمعصية، كلما أطعته ازددت عزا وكلما هان أمر الله عليك هنت عليه، ويجب أن يفهم المسلم أن حال المسلمين اليوم: هان الله عليهم فهانوا على الله.
قد يقع الإنسان في خطأ كبير. يظن أن هؤلاء الذين يحسبون بالملايين في العالم الإسلامي يظنهم مسلمين. والمسلم له صفات، فإذا أحسن بهم الظن وهم تاركو الصلاة ويكذبون ويأخذون ما ليس لهم عدواناً، وظلما، وقد يفعلون المعاصي كبيرها وصغيرها، فقد انزلق فيما هم انزلقوا فيه، هان أمر الله عليهم فهانوا على الله، هاتان الكلمتان تلخصان كل أحوال المسلمين.
أما على المستوى الفردي، فإذا استقمت على أمر الله وإذا اعتمدت عليه، وتوكلت عليه، فالله سبحانه وتعالى يعاملك معاملة خاصة، أما إذا عصاه مجموع الأمة فالله سبحانه وتعالى لا بد من أن يؤدبهم، لأنه إذا عصاه من يعرفه سلط عليه من لا يعرفه.
رجل ذهب لأداء فريضة الحج، كان ذا شأن كبير رافقه عشرات الخدم والحشم، فكان هؤلاء الخدم في أثناء الطواف يبعدون الناس عنه تعظيما له، حج وطاف وسعى وانتهى حجه وعاد إلى بلده، راوي هذه الواقعة عمرو بن شيبة قال: وبعد حين وعند جسر في بغداد رأيت رجلا يشبه هذا الذي رأيته يطوف، لكن رأيته في حالة زريه قميئة يمد يده للناس، يا ترى أهذا فلان؟ أهو هو؟ ليس هو، دخل الشك في قلبه، فتقدم منه فقال: مالك تنظر إليّ، قال: كأنك تشبه فلاناً، قال: أنا هو، فقلت له: ما الذي جعلك في هذه الحال؟ قال: إني تكبرت في موضع يتواضع الناس فيه، فكان هذا جزائي، فالطواف حول الكعبة ليس فيه كبر، أنا فلان أنا علان أنا حجمي المالي كذا لا كبر في هذا الموقف، في هذا الموقف أنت عبد لله عز وجل ولو كنت ملكا، قال: ترفعت في موضع يتواضع فيه الناس فوضعني الله حيث يترفع الناس فيه.
كلما أحاط الإنسان نفسه بهالة من الكبر والاستعلاء هان وحطه الله جزاء وفاقاً، صفتان لا تقربهما: الكبر والظلم، إن الله سبحانه وتعالى يغفر عشرات الذنوب بسهولة، إلا ذنبين يبطش بصاحبهما: الكبر والظلم، إلا اثنتين فلا تقربهما أبدا: الشرك بالله أي: الكبر والإضرار بالناس أي: الظلم
وبعد فنحن الآن تطالعنا مشكلة، وهي ليست مشكلة صراحة. ولكنْ هكذا سميتها: كيف يقول الله عز وجل:
}مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ{
أي العزة كلها له. هو العزيز، ونقرأُ آيةً أخرى: (ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون)، يبدو أن هناك تناقضا بين الآيتين. هكذا يبدو، والجواب: إذا ابتغيت العزة بالإقبال على الله والاعتزاز به فأنت عزيز، لكن حينما قال الله عز وجل: (فلله العزة جميعاً) أي: مهما أردت العزة بغير الله فأنت ذليل، إذا أردت العزة وأن تكون عزيزا عن غير طريق طاعة الله، عن غير طريق الاستقامة على أمره، عن غير طريق إعزاز أمر الله، فأنت ذليل.
ويروى أن امرأة العزيز قالت ليوسف عليه السلام بعد أن ملك خزائن الأرض وقعدت له على رابية الطريق في يوم موكبه، وكان يركب في زهاء اثني عشر ألفا من عظماء مملكته، سبحان من جعل الملوك عبيدا بالمعصية، وجعل العبيد ملوكا بطاعتهم له، إن الحرص والشهوة صيرا الملوك عبيدا وذلك جزاء المفسدين، وإن الصبر والتقوى صيرا العبيد ملوكا فقال يوسف كما أخبر الله تعالى عنه: (إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين).
وقد نسمع ونقرأ عن إنسان كان في أعلى درجات العز فلما بنى عزه على معصية الله جعله الله في أسفل السافلين.
وهناك شيء آخر فسيدنا يوسف عندما قال:
}قَالَ مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ{ .
جعله الله عزيز مصر فانظر واعتبر.
والله سمعت حكاية، لولا أن صاحبها حي يرزق، لما استطعت أن أصدقها: شاب حديث السن عنده دكان صغيرة في حي من أحياء دمشق وهي حكاية قديمة جدا، يبدو أن فتاة ساقطة تحرشت به، وأغرته فأغلق محله وتبعها، وكان هذا الشاب لسبب معين قد حج في سن مبكرة، وبينما هو في طريق متابعته إياها تذكر حجته فقال: لا والله لا أفسد هذه الحجة، فركب الحافلة وعاد أدراجه إلى البيت. أَيْ: خشي الله وأطاعه، وفي اليوم التالي جاءه أحد وجهاء الحي من جيرانه فقال له: يا فلان هل أنت متزوج؟ فأجابه: لا والله يا سيدي، قال له: عندي فتاة مناسبة ابعث أهلك ليروها، فقال: ظننت أن في ابنته دمامة، لأنه هو الذي عرضها عليه، قال: فبعثت بأهلي ليخطبوها فرأوها في أحسن حال فوافقت، وما هي إلا أشهر حتى جعلني شريكه في عمله التجاري وأغلقت المحل السابق وبعته، طبعا العم توفي لكن الرجل لا يزال حيا يرزق، وغدا من كبار التجار.
}مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ
العزيز
سنبقى في الصفحات التالية مع اسم "العزيز"، وهذا الاسم كثيرا ما يرد في نهاية الآيات وهو العزيز الحكيم، وقد كنت بيّنت لكم من قبله أن الإيمان بالله "بوجوده" لا يكفي، بل يجب أن تؤمن بوجوده، وأن تؤمن كذلك بوحدانيته، وحدانيته في ذاته وفي صفاته وفي أفعاله، وأن تؤمن أيضا بكماله ومن الإيمان بكماله يمكنك أن تتعرف إلى أسمائه الحسنى وصفاته الفضلى.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا مِئَةً إِلا وَاحِدًا مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ" .
ومعنى إحصائها: أنك إذا عرفتها وعرفت مضامينها، عرفت ما ينبغي أن تفهمه منها، وما تدل عليه، عرفت ما ينبغي أن يكون موقفك منها لتتعامل معها، وأخيرا عرفت أبعادها، وموضوع بحثنا في الصفحات التالية اسم العزيز.
ورد هذا الاسم في آيات كثيرة من هذه الآيات، قال الله تعالى على لسان سيدنا عيسى عليه السلام:
}إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ{ .
لو أن الإنسان نسي كيف يتم الآية وقال: إن تغفر لهم فإنك أنت الغفور الرحيم، فهل تتناسب هذه الخاتمة للآية مع صدرها؟!..
إن الآية ختمت على النحو التالي: (وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم)، لأن الإنسان مهما علا شأنه، إذا أراد أن يغفر لأحد زلته ربما حوسب، ربما سئل لماذا عفوت عن فلان؟ لماذا لم تكلفه؟ لماذا تساهلت معه؟ لكن الله سبحانه وتعالى إذا غفر فهو العزيز الذي عز فغفر، ولا يسأل عما فعل (إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم).
هذه الآية الأولى في دراستنا، والآية الأخرى هي:
}وَلَهُ الْكِبْرِيَاء فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ{ .
والآية الثالثة:
}يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ{ .
وهذه آية رابعة:
}سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ{ .
وإليك آية خامسة حينما قال الشيطان:
}قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ{ .
اسم العزيز ورد في آيات كثيرة جدا، اخترت لكم من بين الآيات الكثيرة هذه الآيات.
وبعد فما معنى هذا الاسم من حيث اللغة؟
المعنى الأول: العزيز: الذي لا مثيل له، ولا مشابه له، ولا نظير له، مِن فِعلِ عز يعز، تقول: عز الطعام أي أصبح قليلا وأصبح نادرا، عز هذا الاختصاص؛ اختصاص عزيز: أي نادر، خبرة عزيزة أي نادرة، معنى عز يعز أي ندر وجوده أو لا مثيل له ولا مشابه له ولا نظير، اسم العزيز بهذا المعنى من أسماء التنزيه، الأسماء مصنفة: فهناك اسم تنزيهي وهناك اسم ذات وهناك أسماء صفات وهناك أسماء أفعال.
بشكل أوسع: العزيز الذي لا مثيل له ولا ند له ولا نظير له، إذا كان الشيء نادرا قليل الوجود ليس متوافرا مع إمكان توافره نسميه عزيزا، فكيف بالذي يستحيل على العقل أن يصدق أن له نظيرا، إذاً، الله سبحانه وتعالى لا مثيل له ولا ند له ولا مشابه له إذاً هو عزيز وهذا المعنى الأول.
المعنى الثاني: العزيز هو الغالب الذي لا يُغلب، الإنسان إذا غُلِبَ فليس عزيزا يصبح ذليلا وقد يبالغ المنتصر في إذلاله، قد يجري بعض التصرفات ليبالغ في إذلاله، فالغالب الذي لا يُغلب يسمى عزيزا، والعرب تقول في أمثلتها: من عز بز، أي مَنْ عز: مَنْ انتصر أخذ ما راق له ومن غلب سلب (وعزني في الخطاب) ، أي: غلبني في الخطاب، (إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة فقال اكفلنيها وعزّني في الخطاب) ، أي غلبني. فالقاهر الذي انتصر وقد يغلب يسمى عزيزا فكيف بالقاهر الذي لا يمكن أن يغلب، من باب أولى فالله سبحانه عزيز بالمعنى الثاني: أي القاهر الذي لا يغلب والدليل: }وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ{ .
وكأن الله تعالى يقول لك: أنت تريد وأنا أريد فإذا سلَّمْتَ لي فيما أريد كفيتك ما تريد، وإن لم تسلم لي في ما أريد أتعبتك فيما تريد ثم لا يكون إلا ما أريد، قال تعالى: (والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون) لو علم الناس أن الله غالب على أمره لأطاعوه ولاتكلوا عليه ولأقبلوا عليه ولتركوا سواه.
المعنى الثالث: العزيز هو القوي الشديد، من عز يعز ندر يندر، عز يعز غلب يغلب، عز يعز قوي يقوى، والآية الكريمة:
}إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُم مُّرْسَلُونَ{
يقولون لك: التعزيز، أي بعد أن تلقي الدرس تعززه بالتدريبات، مرحلة التعزيز أي ترسيخ المعلومات، وتمكينها هذا المعنى الثالث.
المعنى الأول: العزيز الذي لا مثيل له ولا ند له ولا مشابه له هذا من أسماء التنزيه.
المعنى الثاني الغالب الذي لا يغلب هذا من أسماء الصفات.
والمعنى الثالث: القوي الشديد هذا من أسماء الصفات أيضا، فالقادر الذي قد يضعف يسمى عند الناس عزيزا، فكيف بالقادر الذي يستحيل أن يضعف فهذا من باب أولى، إذاً الله سبحانه وتعالى عزيز بهذا المعنى الثالث.
وهناك معنى رابع وهو دقيق جدا، وربما كان المؤمنون في أمس الحاجة لفهم هذا المعنى.
المعنى الرابع: العزيز بمعنى الُمِعز، كأن تقول: الأليم بمعنى المؤلم، فأنت تقول مثلا: جرح أليم أي: جرح مؤلم، من معاني وزن فعيل أن يكون بمعنى اسم الفاعل مُفْعِل. فالعزيز بمعنى المُعِز وهو من صفات الأفعال.
إذا لدينا أربعة معان لاسم العزيز، الأول: من أسماء التنزيه والثاني والثالث: من أسماء الصفات وأما الرابع: من أسماء الأفعال، هو الذي يعز:
}قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ{ .
آخر ملوك الأندلس أبو عبد الله محمد الصغير عندما غادر الأندلس سنة 897 بكى، فقالت له أمه عائشة:
ابكِ مثل النساء ملكاً مضاعاً لم تحافظ عليه مثل الرجال
فما قيمة الإنسان إذا تخلى الله عنه؟ قال تعالى:
}أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ{ .
جزء كبير جدا من حياتك متعلق بكرامتك، فإذا كنت مع العزيز أعزك الله:
اجعل لربك كل عزك يستقر ويثبت
فإذا اعتززت بمن يموت فإن عزك ميت
هذه هي المعاني اللغوية لكلمة عزيز أو لاسم الله: العزيز، لكن هناك تعريف أدق وأجمل: العزيز الذي يقل وجوده وتشتد الحاجة إليه ويصعب الوصول إليه في وقت واحد، قد يقل وجود شيء ما ولكن لا تشتد الحاجة إليه، فهناك معدن نادر جدا ومع أنه نادر وقليل وجوده لكن لسنا بحاجة ماسة إليه، عندئذ لا يسمى هذا المعدن عزيزا، العزيز يجب أن تتوافر فيه صفات ثلاث: أن يقل وجود مثله، وأن تشتد الحاجة إليه، وأن يصعب الوصول إليه، قد تشتد الحاجة إلى شيء ولكنه غير نادر كالهواء، كلنا في أمس الحاجة إليه ولكنه موجود، قد تشتد الحاجة إلى الماء والماء موجود ووجوده في بعض البلاد كثير غزير.
إذًا لا بد أن يكون العزيز شيئا يقل وجوده وتشتد الحاجة إليه ويصعب الوصول إليه، إذاً شيء عزيز كأن يقال: عزيز المنال لا يدرك ولا ينال، هذه الصفات للشيء الذي يقل وجوده وتشتد الحاجة إليه ويصعب الوصول إليه، هذه الصفات لها صفات نقصان ولها صفات كمال، كلما كثر وجوده قلت عزته، وكلما قلت الحاجة إليه قلت عزته، وكلما سهل الوصول إليه قلت عزته، والآن كلما قل وجوده إلى أن يصبح واحدا، هذه صفة كمال في العزيز يقل وجوده ويندر وجوده حتى يصبح واحدا وتشتد الحاجة إليه فهذه أعلى صفة، ولا تكون إلا الله سبحانه.
شخص ما أحيانا قد يحتاج إليه بعض الناس، بل قد يحتاج إليه أكثر الناس، فكلما كثر الذين يحتاجون إليه أصبح عزيزا، فإذا احتاج إليه كل الناس فهذا شيء نادر، لا يوجد إنسان يحتاج إليه جميع الناس، قد تجد ملكاً وتجد إنساناً يعيش في أطراف مملكته يعمل راعياً، مع أنه أحد رعايا هذا الملك لكنه ليس بحاجة إليه، يأكل ويشرب في خيمته من نتاج هذا الغنم الذي يملكه.
كلما اشتدت الحاجة إلى الشيء أصبح عزيزا، كمال هذه الصفة شيء دقيق جدا أن يحتاج إليه كل شيء في كل شيء، أنا قد أحتاج إلى الطبيب عند المرض، ولكن لا أحتاج إليه عند النوم أنا أحتاج إلى سرير عند النوم، قد أحتاج إلى هذا المدرس إذا كان ابني ضعيفاً في مادة الرياضيات فأنا بحاجة إليه، أما أن يحتاج إليه كل شيء، وليس كل الناس فقط، لا بل الناس والحيوان والنبات والجماد والذرات والمجرات، أي يحتاج إليه كل شيء في كل شيء.
دققوا: كل شيء في كل شيء. إذاً الله سبحانه وتعالى عزيز لأن قيام الشيء به، قيام المادة هذه مادة فيها نواة وفيها كهارب وفيها دوران لولا أن الله سبحانه وتعالى تجلى عليها لتوقفت، كن فيكون زل فيزول:
}اللّهُ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ{ .
أي: أن قوام كل شيء به سبحانه، وهو مصدر حياة كل شيء.
إذا الله سبحانه وتعالى لا نقول: تشتد الحاجة إليه، بل نقول: يحتاج إليه كل شيء في كل شيء، الشبكية مئة وثلاثون مليون مستقبل للضوء ما بين مخروط وعصية تشكل عشر طبقات، العصب البصري تسعمئة ألف عصب، ما هذه المادة التي تتغير ماهيتها إذا جاءها الضوء؟ إذا تغيرت ماهيتها تولد عن هذا التغير تيار كهربائي ينقل الصورة إلى الدماغ، أنت محتاج إلى الله عز وجل في عينك وفي أذنك وفي لسانك وفي دماغك وفي شرايينك، وأيُّ شيءٍ لم يتجل اللَّه سبحانه وتعالى عليه يُصبح لا شيء، فأنت قائم بالله، عظامك عضلاتك المخططة والملساء أعصابك وأجهزتك كلها تعمل بالله، فلو أن الله سبحانه وتعالى حجب عنها تجلياته لأصبح الإنسان جثة هامدة، إذا يحتاجه كل شيء في كل شيء.
أول صفة: الذي يقل وجود مثله أما كمال هذه الصفة أن يصبح واحدا، فتشتد الحاجة إليه، كمال هذه الصفة يحتاجه كل شيء في كل شيء، يصعب الوصول إليه فلا يمكن أن تحيط به ولا الأنبياء فلا يعرف الله إلا الله، أن تصل إليه اتصال عبودية فهذا ممكن فاستقم على أمره واعمل الصالحات تصل إليه وهذا هو الوصول وهذا هو الاتصال.
شاب خطب ابنة عالم اسمها وصال، فهذا العالم قال له: مهر هذه الفتاة أن تحضر هذه الدروس التي ألقيها في مجلسي، فحضرها فاستغرق فيها فنسي الفتاة، فأرسلت له كتابا: يا فلان نسيتنا، فقال: يا وصال كنت سبب الاتصال فلا تكوني سبب الانفصال.
يمكن أن تصل إليه، أن تصل كعبد فعليك أن تستقيم على أمره وأن تفعل الصالحات أن تذكره كثيرا وأن تخدم عباده كثيرا فممكن أن تصل، أما أن تصل إليه وصول إحاطة وإدراك كامل فهذا مستحيل حتى للأنبياء فلا يعرف الله إلا الله.
فإذا سألت نفسك: ما معنى العزيز؟ فإنَّ معنى العزيز: هو الفرد الذي يحتاجه كل شيء في كل شيء ويستحيل الوصول إليه، وصول إحاطة وإدراك أما وصول عبودية فممكن.
قال بعضهم: العزيز من ضلت العقول في بحار عظمته وحارت الألباب دون إدراك نعمته وكلت الألسن عن وصف كمالاته ووصف جماله. والنبي عليه الصلاة والسلام لخص هذه الكلمات:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: فَقَدْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةً مِنَ الْفِرَاشِ فَالْتَمَسْتُهُ فَوَقَعَتْ يَدِي عَلَى بَطْنِ قَدَمَيْهِ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ وَهُمَا مَنْصُوبَتَانِ وَهُوَ يَقُولُ: "اللَّهُمَّ إني أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ وَبِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ لا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ" .
والله إن الحق الثابت أنه من عرف الله زهد فيما سواه، إذا عرفت الله لا يمكن أن تتضعضع لمخلوق، وعندها لا ترى مع عزة الله عزيزا، ولا ترى مع قدرة الله قديرا، ولا ترى مع حكمة الله حكيما..
قال ابن رجب وفي بعض الآثار يقول الله تعالى: "ابن آدم اطلبني تجدنـي فإذا وجدتني وجدت كل شيء، وإن فتك فاتك كل شيء وأنا أحب إليك من كل شـيء".
فلو شاهدت عيناك من حسننا الذي رأوه لما وليت عنا لغيرنـا
ولو سمعت أذناك حسن خطابنا خلعت ثياب العجب عنك وجئتنا
ولو ذقت من طعم المحبــة ذرة عذرت الذي أضحى قتيلا بحبنـا
ولو نَسمَتْ من قربنا لك نسمــة لَمِتَّ غريبا واشتياقا بقربنا
الله عزيز هذا الذي يتوهم بسذاجة أنه بركعتين وليرتين يدخل الجنة إنسان ساذج غبي، ومن خطب الحسناء لم يغله المهر.
وفي حديث بكير بن فيروز قال: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ خَافَ أَدْلَجَ وَمَنْ أَدْلَجَ بَلَغَ الْمَنْزِلَ أَلا إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ غَالِيَةٌ أَلا إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ الْجَنَّةُ". .
قال تعالى:
}لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ{ .
وقتك الثمين، زبدة وقتك، قوتك يجب أن تصرفها كلها في سبيل الله، مالك الذي جمعته بكدك وعرق جبينك يجب أن تنفقه في سبيل الله، ألا إن سلعة الله غالية، الله عزيز بالمعنى الطبيعي الفطري الله عزيز.
الآن من هو العزيز من العباد في ضوء هذا التعريف؟ الأنبياء أعزة لماذا؟ لأن الخلق كلهم بحاجة إليهم وإلى علمهم، النبي صلى الله عليه وسلم عزيز لأن ربنا عز وجل أودع فيه سره أودع فيه علمه أودع فيه النبوة، هو طريق إلى الله وهو باب الله، فالأنبياء أعزة لأن الله جعلهم أبواب رحمته وأبواب فضله وأبواب إحسانه وأبواب أنواره، لهذا إرضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم هو عين إرضاء الله، ولهذا قرن الله اسم نبيه صلى الله عليه وسلم مع اسمه فالنبي عزيز لأن الناس جميعا في أمس الحاجة إليه في أمر دينهم ودنياهم.
الملك عزيز: إذا كان ملك بيده مقدرات الأمور كلها، بيده كل شيء، فالناس جميعا يقصدونه كبيرهم وصغيرهم، جليلهم وحقيرهم، فكلما اشتدت الحاجة إليك فأنت عزيز، ألا إن المؤمن إذا اشتدت الحاجة إليه يكون عزيزا لكنه يكون متواضعا، وأما غير المؤمن فإذا اشتدت الحاجة إليه يكون متكبرا.
سُئل الإمام الحسن البصري وقد سما مقامه بين الناس: بِمَ نِلت هذا المقام؟ وقبل الإجابة أهمس في أذن القارئ الكريم بهذه الكلمة من القلب: لا يمكن أن تعرف الله وأن تطيعه، ثم تكون ذليلا لأحد أبداً، لأن الله عز وجل يقول:
}وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ{ .
أتكون مع العزيز وتذل بعد ذلك -لا- لن يكون هذا أبداً، ألا تقرأ في الدعاء يوميا في قنوت الوتر: إنه لا يذل من واليت ولا يعز من عاديت؟
لن تجد مؤمنا تَعَرَّفَ إلى الله عز وجل واستقام على أمره واصطلح معه إلا أراه الله معاملة خاصة وأشعره من خلالها أنه غال عليه وأنه يحبه قال تعالى:
}وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ{ .
أحيانا كثيرة تدعوه فيستجيب لك، تدعوه فيصرف عنك السوء، تدعوه فيلقي حبك في قلوب الخلق، تدعوه فيلين قلوب أعدائك، تدعوه فيلبيك، تسأله فيعطيك، تقسم عليه فيبرك.
فلما سئل الحسن البصري بما نلت هذا العز؟ قال: بشيئين، باستغنائي عن دنيا الناس وحاجتهم إلى علمي.
لا تكون عزيزا إذا كنت طماعاً، حينما تطمع تصبح ذليلا، لمجرد أن تطمع فيما عند الناس تصبح ذليلا.
لذلك إذا طمعت فيما عند الناس كرهوك، ورب العزة إذا طمعت فيما عنده أحبك.
لا تسألن بني آدم حاجة وسل الذي أبوابه لا تحجب
الله يغضب إن تركت سؤاله وبني آدم حين يسأل يغضب
الإنسان إن سألته حاجة غضب منك، ورب العزة إن لم تسأله غضب منك، لذلك فالنبي عليه الصلاة والسلام قال:
"لا يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يُذِلَّ نَفْسَهُ" قَالُوا وَكَيْفَ يُذِلُّ نَفْسَهُ؟ قَالَ: "يَتَعَرَّضُ مِنَ الْبَلاءِ لِمَا لا يُطِيقُ" .
وروي عنه:
"ابتغوا الحوائج بعزة الأنفس، فإن الأمور تجري بالمقادير" ، "ارفع رأسك يا أخي لقد مَوَّتَّ علينا ديننا" ورأى عمر رجلا طأطأ رقبته في الصلاة فقال يا صاحب الرقبة ارفع رقبتك ليس الخشوع في الرقاب إنما الخشوع في القلوب.
دخل أبو حنيفة في قضية على الخليفة أبي جعفر المنصور، فَأَعجبه أن يأتيه هذا العالم الجليل الفقيه الكبير، قال: يا أبا حنيفة لو تغشيتنا دائما، نحن في استقبالك نعتز بك وأهلا بك، قال: ولِمَ أتغشاكم يا أمير المؤمنين وليس لي عندكم شيء أخافكم عليه وهل يتغشاكم إلا من خافكم على شيء، ليس لي عندكم حاجة آتيكم من أجلها.
كلما قطعت طمعك من الناس أعزك الله، وكلما مرغت جبهتك في السجود لله أعزك الله.
قال مطرف وابن نافع وغيرهما لما قدم هارون المدينة وجه إلى مالك وقال له: قل له احمل لي الكتاب الذي صنفته حتى أسمعه منك، فوجد من ذلك مالك واغتم، وقال للبرمكي أقرئه السلام وقل له: العلم يزار ولا يزور، وإن العلم يؤتى، فرجع البرمكي إلى هارون فأخبره بذلك فغضب وأشار عامة أصحاب مالك أن يأتي هارون وقال البرمكي للرشيد يبلغ أهل العراق أنك وجهت إلى مالك فخالفك! اعزم عليه حتى يأتيك فإذا بمالك قد دخل فسلم وليس معه كتاب، فقال له هارون في ذلك، فقال مالك: يا أمير المؤمنين! إن الله تعالى بعث إلينا محمدا صلى الله عليه وسلم وأمر بطاعته واتباع سنته وأن نرعاه حيا وميتا وقد جعلك في هذا الموضع لعلمك فلا تكن أول من ضيع العلم فيضيعك الله، لقد رأيت من ليس هو في حسبك ولا نسبك من الموالي وغيرهم يعز هذا العلم ويجله ويوقر حملته فأنت أحرى أن تجل علم ابن عمك ولم يزل يعدد عليه حتى بكى.
ثم قال له حدثني الزهري وذكر حديث زيد بن ثابت، كنت أكتب بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله) وابن أم مكتوم عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! قد أنزل الله تعالى في فضل الجهاد ما أنزل وأنا رجل ضرير فهل لي من رخصة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أدري. قال زيد وقلمي رطب لم يجف حتى غشي النبي صلى الله عليه وسلم الوحي ووقع فخذه على فخذي فكادت تندق من ثقل الوحي ثم خلا عنه فقال اكتب يا زيد (غير أولي الضرر)، فقال: يا أمير المؤمنين هذا حرف واحد بعث فيه جبريل والملائكة مسيرة خمسين ألف عام حتى أنزل على نبيه أفلا ينبغي لي أن أجله وأعزه؟ قال، فقال هارون قم بنا إلى منزلك فأتى هارون منزل مالك فدخل مالك واغتسل ولبس ثيابا جددا وتطيب ووضع مجامير فيها عود وجلس فقال هات، فقال هارون: تقرأ علي؟ ما قرأت على أحد منذ زمان، قال فأخرج عني الناس حتى أقرأه عليك. فقال مالك: إن العلم إذا منع من العامة لأجل الخاصة لم تنتفع به الخاصة.
قال فكان هارون قد استند إلى جنب مالك، فلما بدأ يقرأ له قال: يا أمير المؤمنين! من تواضع لله رفعه الله. وفي رواية أبي مصعب: من إجلال الله إجلال ذوي الشيبة المسلم. فقام فقعد بين يديه فحدثه، فلما فرغ عاد إلى مكانه. قال مالك: لما كان بعد مدة قال لي الرشيد: تواضعنا لعلمك فانتفعنا به، وقال هارون لمالك إن رأيت أن تأتي ولديك فتحدثهم يعني ابني هارون. قال فما رد عليه مالك شيئا حتى خلا من عنده، فتول إليه فقال أنشدك الله يا أمير المؤمنين أن لا تكون أول من أجرى على يديك ذل العلم. قال: وما ذاك؟ قال أدركت أهل العلم يؤتون ولا يأتون. فقال له أصبت بل يأتوك.
وخرج مالك؟ فقال هارون: هذا الذي تلومونني فيه ما رأيت رجلا أعقل منه، قلت له آنفا فلم يرد على شيء كراهية أن يخرج منه شيء في ذلك الجمع فلما خلوت خرج لي عما في نفسي
العالم عزيز يجب أن تزهد فيما عند الناس، يجب أن تكون بعيدا عن دنياهم.
شخص سأل: كيف الطريق إلى الله؟ قال: لو عرفته لعرفت الطريق إليه، كلمة بليغة.
إذا عرفت الله تعرف بالفطرة ماذا يرضيه، وكيف تقبل عليه، وكيف تستقيم على أمره، وكيف تضحي من أجله، وكيف تؤثره على كل شيء، سأل: كيف الطريق إليه؟ فأجابه: لو عرفته لعرفت الطريق إليه، فقال له: لم أفهم كلامك، كيف أعبد من لا أعرفه، فقال: كيف تعصي من تعرفه، قال الحسن بن أحمد الصفار: سئل الشبلي وأنا حاضر أي شيء أعجب؟ قال قلب عرف ربه ثم عصاه:
تعصي الإله وأنت تظهر حبه هذا لعمري في المقال بديع
لو كان حبك صادقا لأطعته إن المحب لمن يحب يطـيع
سئل شخص: متى عرفت الله؟ قال: والله ما عصيته منذ عرفته.
مرة ثانية أهمس في أذنك أيها القارئ العزيز، والله الذي لا إله إلا هو لو تعلمت علم الثقلين بنية أن تكون ذا شأن في المجتمع وعصيت الله فيما بينك وبينه، فأنت لا تعرفه، لا تعرفه، لا تعرفه.
من لم يكن له ورع يصده عن معصية الله إذا خلا، لم يعبأ الله بشيء من عمله أبدا، لا تنظر إلى صغر الذنب ولكن انظر مَنْ اجترأت عليه، فلمجرد أن تعصي الله عز وجل يجب أن تعلم علم اليقين أنك لا تعرفه كمال المعرفة.
العلماء ثلاثة كما قال سهل التستري رحمه الله:
عالم بأمر الله تعالى لا بأيام الله وهم المفتون في الحلال والحرام وهذا العلم لا يورث الخشية.
وعالم بالله تعالى لا بأمر الله ولا بأيام الله وهم عموم المؤمنين.
وعالم بالله تعالى وبأمر الله تعالى وبأيام الله تعالى وهم الصديقون والخشية والخشوع إنما تغلب عليهم وأراد بأيام الله أنواع عقوباته الغامضة ونعمة الباطنة التي أفاضها على القرون السالفة واللاحقة فمن أحاط علمه بذلك عظم خوفه وظهر خشوعه.
لو تخيلنا إنساناً يحمل أعلى شهادة شرعية، وله مئة مؤلف وهو ذو منصب ديني خطير، ودخلت عليه امرأة وتأمل فيها وملأ عينيه منها، وعنده مستخدم على الباب، لا يقرأ ولا يكتب لكنه قرأ قوله تعالى: }قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ{ .
فغض هذا المستخدم بصره عنها فهو عند الله عالم، والأول الذي ملأ عينيه من الحرام جاهل.
عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: كَفَى بِالْمَرْءِ عِلْمًا أَنْ يَخْشَى اللَّهَ وَكَفَى بِالْمَرْءِ جَهْلا أَنْ يُعْجَبَ بِعِلْمِهِ. .
دع هذه الكلمة حية في ذهنك دائما: لمجرد أن تعصيه فأنت لا تعرفه.
قيل: ما الأدب الذي يجب أن يتحلى به المؤمن حيال هذا الاسم؟ الله عزيز ما موقف المؤمن حيال هذا الاسم؟
قال: المؤمن إذا عرف العزيز ينبغي ألا يعتقد أن لمخلوق إجلالاً، نعم هو الإنسان أديب جدا مع الناس، لكنه لا يمكن أن يعتقد لمخلوق إجلالاً، أي يجب أن يحقر الأقدار إزاء قدره، وأن يمحو الأذكار سوى ذكره، قرأ فرقد السبخي في التوراة: "من جالس غنيا فتضعضع له ذهب ثلثا دينه".
لماذا؟ قال: لأن الإيمان ما وقر في القلب وأقر به اللسان وصدقه العمل، فإذا أجللت غنياً لغناه، أجللته وانحنيت له وأثنيت عليه بما ليس فيه فقد أذهبت ثلثي دينك، والإيمان ثلاثة أشياء: ما وقر في القلب، وأقر به اللسان، وصدقه العمل، فإذا كان العمل الظاهري تعظيم لإنسان لا يعرف الله وبدورك عظمته لأنه غني، فالنتيجة إذاً ذهب ثلثا دينك.
"واعلم أن شرف المؤمن صلاته بالليل، وعزه استغناؤه عن الناس" .
عند المؤمن عزة لو وزعت على أهل بلدة لكفتهم، قال تعالى: (ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين) المؤمن يرى أنه عبد لله حقا، وأن الله لن يضيعه، ولن يسلمه، ولن يتخلى عنه، أفلا يكون مع كل هذا عزيزا؟
عندنا قاعدة ثابتة: أنه إذا عَظَّمَ القلبُ الربَّ صَغُرَ الخلق في عينه، فإذا كان الله ليس عظيما في عينه كبر الخلق في عينه. هذا امتحان، فلان مثلا يقولها بملء فمه: سيفعل ويترك، وعنده قدرة على كذا وكذا وكذا. إن كنت مثله فأنت لا تعرف الله إذاً، ما دمت تُجِله كل هذا الإجلال فإنك لا تعرف الله، لأن الله عز وجل لو جَمّد قطرة من دمه في أحد شرايين مخه لأصبح مشلولا، ولو أن الله عز وجل جمد بعض الدم في شرايين قلبه لمات بسكتة قلبية، وقضى من فوره، والإنسان كلما ارتقى إيمانه التفت إلى الله أكثر وأكثر، قال تعالى:
}فَنَذَرُ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ{ .
إذا عرفت أنه المُعِزّ، فلو اجتمع الناس جميعا على أن يرفعوك درجة لا يستطيعون، أما إذا رفعك الله عز وجل درجة أو أكثر لا يستطيع أهل الأرض أن يضعوك، ومعلوم: إذا عرفت أنه المعز لم تطلب العز إلا بطاعته.
قال بعضهم: لو اجتمع الخلق على أن يثبتوا لأحد عزاً فوق ما يثبته اليسير من طاعته لما قدروا، لا تُعَزّ إلا بطاعة الله، أَعِزَّ أمر الله يعزك الله، قال العلماء: لو اجتمع الخلق على أن يثبتوا لأحد ذلاً أكثر من اليسير من المعصية لم يقدروا، هناك عامل واحد يرفعك ويخفضك هو الطاعة والمعصية، كلما أطعته ازددت عزا وكلما هان أمر الله عليك هنت عليه، ويجب أن يفهم المسلم أن حال المسلمين اليوم: هان الله عليهم فهانوا على الله.
قد يقع الإنسان في خطأ كبير. يظن أن هؤلاء الذين يحسبون بالملايين في العالم الإسلامي يظنهم مسلمين. والمسلم له صفات، فإذا أحسن بهم الظن وهم تاركو الصلاة ويكذبون ويأخذون ما ليس لهم عدواناً، وظلما، وقد يفعلون المعاصي كبيرها وصغيرها، فقد انزلق فيما هم انزلقوا فيه، هان أمر الله عليهم فهانوا على الله، هاتان الكلمتان تلخصان كل أحوال المسلمين.
أما على المستوى الفردي، فإذا استقمت على أمر الله وإذا اعتمدت عليه، وتوكلت عليه، فالله سبحانه وتعالى يعاملك معاملة خاصة، أما إذا عصاه مجموع الأمة فالله سبحانه وتعالى لا بد من أن يؤدبهم، لأنه إذا عصاه من يعرفه سلط عليه من لا يعرفه.
رجل ذهب لأداء فريضة الحج، كان ذا شأن كبير رافقه عشرات الخدم والحشم، فكان هؤلاء الخدم في أثناء الطواف يبعدون الناس عنه تعظيما له، حج وطاف وسعى وانتهى حجه وعاد إلى بلده، راوي هذه الواقعة عمرو بن شيبة قال: وبعد حين وعند جسر في بغداد رأيت رجلا يشبه هذا الذي رأيته يطوف، لكن رأيته في حالة زريه قميئة يمد يده للناس، يا ترى أهذا فلان؟ أهو هو؟ ليس هو، دخل الشك في قلبه، فتقدم منه فقال: مالك تنظر إليّ، قال: كأنك تشبه فلاناً، قال: أنا هو، فقلت له: ما الذي جعلك في هذه الحال؟ قال: إني تكبرت في موضع يتواضع الناس فيه، فكان هذا جزائي، فالطواف حول الكعبة ليس فيه كبر، أنا فلان أنا علان أنا حجمي المالي كذا لا كبر في هذا الموقف، في هذا الموقف أنت عبد لله عز وجل ولو كنت ملكا، قال: ترفعت في موضع يتواضع فيه الناس فوضعني الله حيث يترفع الناس فيه.
كلما أحاط الإنسان نفسه بهالة من الكبر والاستعلاء هان وحطه الله جزاء وفاقاً، صفتان لا تقربهما: الكبر والظلم، إن الله سبحانه وتعالى يغفر عشرات الذنوب بسهولة، إلا ذنبين يبطش بصاحبهما: الكبر والظلم، إلا اثنتين فلا تقربهما أبدا: الشرك بالله أي: الكبر والإضرار بالناس أي: الظلم
وبعد فنحن الآن تطالعنا مشكلة، وهي ليست مشكلة صراحة. ولكنْ هكذا سميتها: كيف يقول الله عز وجل:
}مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ{
أي العزة كلها له. هو العزيز، ونقرأُ آيةً أخرى: (ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون)، يبدو أن هناك تناقضا بين الآيتين. هكذا يبدو، والجواب: إذا ابتغيت العزة بالإقبال على الله والاعتزاز به فأنت عزيز، لكن حينما قال الله عز وجل: (فلله العزة جميعاً) أي: مهما أردت العزة بغير الله فأنت ذليل، إذا أردت العزة وأن تكون عزيزا عن غير طريق طاعة الله، عن غير طريق الاستقامة على أمره، عن غير طريق إعزاز أمر الله، فأنت ذليل.
ويروى أن امرأة العزيز قالت ليوسف عليه السلام بعد أن ملك خزائن الأرض وقعدت له على رابية الطريق في يوم موكبه، وكان يركب في زهاء اثني عشر ألفا من عظماء مملكته، سبحان من جعل الملوك عبيدا بالمعصية، وجعل العبيد ملوكا بطاعتهم له، إن الحرص والشهوة صيرا الملوك عبيدا وذلك جزاء المفسدين، وإن الصبر والتقوى صيرا العبيد ملوكا فقال يوسف كما أخبر الله تعالى عنه: (إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين).
وقد نسمع ونقرأ عن إنسان كان في أعلى درجات العز فلما بنى عزه على معصية الله جعله الله في أسفل السافلين.
وهناك شيء آخر فسيدنا يوسف عندما قال:
}قَالَ مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ{ .
جعله الله عزيز مصر فانظر واعتبر.
والله سمعت حكاية، لولا أن صاحبها حي يرزق، لما استطعت أن أصدقها: شاب حديث السن عنده دكان صغيرة في حي من أحياء دمشق وهي حكاية قديمة جدا، يبدو أن فتاة ساقطة تحرشت به، وأغرته فأغلق محله وتبعها، وكان هذا الشاب لسبب معين قد حج في سن مبكرة، وبينما هو في طريق متابعته إياها تذكر حجته فقال: لا والله لا أفسد هذه الحجة، فركب الحافلة وعاد أدراجه إلى البيت. أَيْ: خشي الله وأطاعه، وفي اليوم التالي جاءه أحد وجهاء الحي من جيرانه فقال له: يا فلان هل أنت متزوج؟ فأجابه: لا والله يا سيدي، قال له: عندي فتاة مناسبة ابعث أهلك ليروها، فقال: ظننت أن في ابنته دمامة، لأنه هو الذي عرضها عليه، قال: فبعثت بأهلي ليخطبوها فرأوها في أحسن حال فوافقت، وما هي إلا أشهر حتى جعلني شريكه في عمله التجاري وأغلقت المحل السابق وبعته، طبعا العم توفي لكن الرجل لا يزال حيا يرزق، وغدا من كبار التجار.
}مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ
11
2K
يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.
⚘⚘ اعذرونى على تأخرى عليكم
بسبب انتهاء الإنترنت على شريحتى الشهر الفائت
احبكم فى الله ❤
بسبب انتهاء الإنترنت على شريحتى الشهر الفائت
احبكم فى الله ❤
اختي رياح الهنا جزاك الله خيرا وبارك الله في عملك .. كنت اتمنى ان ترتبي الموضوع بفواصل مثلا وتباعدي بين الفقرات وتلوني كل فقرة بلون مغاير كي تشجعي الجميع على القراءة .. الكلمات المتراصة الكثيرة تتعب العين في القراءة ..
الله يرضى عنك ❤
الله يرضى عنك ❤
الجيل الجديد . :اختي رياح الهنا جزاك الله خيرا وبارك الله في عملك .. كنت اتمنى ان ترتبي الموضوع بفواصل مثلا وتباعدي بين الفقرات وتلوني كل فقرة بلون مغاير كي تشجعي الجميع على القراءة .. الكلمات المتراصة الكثيرة تتعب العين في القراءة .. الله يرضى عنك ❤اختي رياح الهنا جزاك الله خيرا وبارك الله في عملك .. كنت اتمنى ان ترتبي الموضوع بفواصل مثلا...
ان شاء احاول اعمل ذلك ..
لكن للأسف وقتى ضيق جدا ولا افتح النت الا فى وقت معين فقط ..
سامحنى مشغولة جدا ..
لكن للأسف وقتى ضيق جدا ولا افتح النت الا فى وقت معين فقط ..
سامحنى مشغولة جدا ..
الصفحة الأخيرة
قد يقع الإنسان في خطأ كبير. يظن أن هؤلاء الذين يحسبون بالملايين في العالم الإسلامي يظنهم مسلمين. والمسلم له صفات، فإذا أحسن بهم الظن وهم تاركو الصلاة ويكذبون ويأخذون ما ليس لهم عدواناً، وظلما، وقد يفعلون المعاصي كبيرها وصغيرها، فقد انزلق فيما هم انزلقوا فيه، هان أمر الله عليهم فهانوا على الله، هاتان الكلمتان تلخصان كل أحوال المسلمين.
أما على المستوى الفردي، فإذا استقمت على أمر الله وإذا اعتمدت عليه، وتوكلت عليه، فالله سبحانه وتعالى يعاملك معاملة خاصة، أما إذا عصاه مجموع الأمة فالله سبحانه وتعالى لا بد من أن يؤدبهم، لأنه إذا عصاه من يعرفه سلط عليه من لا يعرفه.
رجل ذهب لأداء فريضة الحج، كان ذا شأن كبير رافقه عشرات الخدم والحشم، فكان هؤلاء الخدم في أثناء الطواف يبعدون الناس عنه تعظيما له، حج وطاف وسعى وانتهى حجه وعاد إلى بلده، راوي هذه الواقعة عمرو بن شيبة قال: وبعد حين وعند جسر في بغداد رأيت رجلا يشبه هذا الذي رأيته يطوف، لكن رأيته في حالة زريه قميئة يمد يده للناس، يا ترى أهذا فلان؟ أهو هو؟ ليس هو، دخل الشك في قلبه، فتقدم منه فقال: مالك تنظر إليّ، قال: كأنك تشبه فلاناً، قال: أنا هو، فقلت له: ما الذي جعلك في هذه الحال؟ قال: إني تكبرت في موضع يتواضع الناس فيه، فكان هذا جزائي، فالطواف حول الكعبة ليس فيه كبر، أنا فلان أنا علان أنا حجمي المالي كذا لا كبر في هذا الموقف، في هذا الموقف أنت عبد لله عز وجل ولو كنت ملكا، قال: ترفعت في موضع يتواضع فيه الناس فوضعني الله حيث يترفع الناس فيه.
كلما أحاط الإنسان نفسه بهالة من الكبر والاستعلاء هان وحطه الله جزاء وفاقاً، صفتان لا تقربهما: الكبر والظلم، إن الله سبحانه وتعالى يغفر عشرات الذنوب بسهولة، إلا ذنبين يبطش بصاحبهما: الكبر والظلم، إلا اثنتين فلا تقربهما أبدا: الشرك بالله أي: الكبر والإضرار بالناس أي: الظلم
وبعد فنحن الآن تطالعنا مشكلة، وهي ليست مشكلة صراحة. ولكنْ هكذا سميتها: كيف يقول الله عز وجل:
}مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ{
أي العزة كلها له. هو العزيز، ونقرأُ آيةً أخرى: (ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون)، يبدو أن هناك تناقضا بين الآيتين. هكذا يبدو، والجواب: إذا ابتغيت العزة بالإقبال على الله والاعتزاز به فأنت عزيز، لكن حينما قال الله عز وجل: (فلله العزة جميعاً) أي: مهما أردت العزة بغير الله فأنت ذليل، إذا أردت العزة وأن تكون عزيزا عن غير طريق طاعة الله، عن غير طريق الاستقامة على أمره، عن غير طريق إعزاز أمر الله، فأنت ذليل.
ويروى أن امرأة العزيز قالت ليوسف عليه السلام بعد أن ملك خزائن الأرض وقعدت له على رابية الطريق في يوم موكبه، وكان يركب في زهاء اثني عشر ألفا من عظماء مملكته، سبحان من جعل الملوك عبيدا بالمعصية، وجعل العبيد ملوكا بطاعتهم له، إن الحرص والشهوة صيرا الملوك عبيدا وذلك جزاء المفسدين، وإن الصبر والتقوى صيرا العبيد ملوكا فقال يوسف كما أخبر الله تعالى عنه: (إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين).
وقد نسمع ونقرأ عن إنسان كان في أعلى درجات العز فلما بنى عزه على معصية الله جعله الله في أسفل السافلين.
وهناك شيء آخر فسيدنا يوسف عندما قال:
}قَالَ مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ{ .
جعله الله عزيز مصر فانظر واعتبر.
والله سمعت حكاية، لولا أن صاحبها حي يرزق، لما استطعت أن أصدقها: شاب حديث السن عنده دكان صغيرة في حي من أحياء دمشق وهي حكاية قديمة جدا، يبدو أن فتاة ساقطة تحرشت به، وأغرته فأغلق محله وتبعها، وكان هذا الشاب لسبب معين قد حج في سن مبكرة، وبينما هو في طريق متابعته إياها تذكر حجته فقال: لا والله لا أفسد هذه الحجة، فركب الحافلة وعاد أدراجه إلى البيت. أَيْ: خشي الله وأطاعه، وفي اليوم التالي جاءه أحد وجهاء الحي من جيرانه فقال له: يا فلان هل أنت متزوج؟ فأجابه: لا والله يا سيدي، قال له: عندي فتاة مناسبة ابعث أهلك ليروها، فقال: ظننت أن في ابنته دمامة، لأنه هو الذي عرضها عليه، قال: فبعثت بأهلي ليخطبوها فرأوها في أحسن حال فوافقت، وما هي إلا أشهر حتى جعلني شريكه في عمله التجاري وأغلقت المحل السابق وبعته، طبعا العم توفي لكن الرجل لا يزال حيا يرزق، وغدا من كبار التجار.
}مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ{ .
ما ترك عبد شيئا لله إلا عوضه الله خيرا منه في دينه ودنياه، أي شيء تدعه في سبيل الله فلا بد من أن يعوضك الله خيرا منه في دينك ودنياك، أتحب أن تكون عزيزا؟ أتحب أن تكون مكرما؟ أتحب أن تكون محترما؟ أتحب أن تكون مبجَّلا؟ بالغ في طاعة الله، كلما أطعته رفعك وكلما خالفت أمره وضعك، فإذا هان أمره عليك هنت عليه وإذا عظَّمت شعائره أعزك.
فالذي ذهب إلى المدينة وزار النبي عليه الصلاة والسلام يعلم ماذا أعني بهذا الكلام، ما من مخلوق على وجه الأرض أعزه الله عز وجل كرسول الله صلى الله عليه وسلم، لو أن إنساناً في حرم النبي عليه الصلاة والسلام ودخل الملك لما رآه ملكا، في الحرم النبوي لو دخل الملوك مجتمعين لا ترى أنهم ملوك في حضرة النبي عليه الصلاة والسلام، كان عليه الصلاة والسلام إذا دخل عليه العبد وأصابته رعدة يقول:
"هون عليك، فإني لست بملك، إنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد" .
أناس يأتونه من أطراف الدنيا فإذا اقتربوا من مقامه يبكون وقد مضى على وفاته ألف وأربعمئة عام ويزيد، ما هذا السر؟ هل في الأرض كلها مخلوق أعزه الله كرسول الله صلى الله عليه وسلم؟ خذ صحابته أمثله حية، سيدنا الصديق ماذا كان يفعل؟ له جيران فقراء، وكان يحلب لهم الشياه، فلما صار خليفة للمسلمين حزن أهلُ هذا البيت لأن منصبه الرفيع يمنعه أن يحلب لهم الشياه، في اليوم الذي تلا تسلمه منصب الخلافة طرق الباب، قالت الأم لابنتها: يا بنيتي افتحي الباب، ثم قالت: يا أمي إن بالباب حالب الشاة جاء اليوم أيضا ليحلب الشاه، ما هذا التواضع؟ وما من صحابي أعزه الله وذكر في القرآن كسيدنا الصديق.
ملخص البحث، قانون، علاقة طردية. كلما زدته طاعة وتعظيما زادك عزا، وكلما تساهلت بأمره وقلت: لا تدقق، إن الله غفور رحيم، والدين يسر، وقلت لصاحبك: أنت متشدد ومتشنج كثيرا، افعل ما تشاء، ولا بأس عليك، فكلما تساهلت في طاعته خفضك الله عز وجل وحط من شأنك، وبلغت الهوان.
إن هؤلاء الذين علموا الناس، الأئمة الكبار كالإمام الشافعي وأبي حنيفة ومن قبلهما الصحابة الكرام، فاسم كل واحد منهم على كل لسان، بذكرهم تتعطر المجالس عظموا الله فخلّد ذكراهم.
سيدنا موسى عليه السلام غدا في أوج عزه وفرعون يهون ويغرق. يقول الله عز وجل:
}وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِـهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ{ .
وصدق الله العظيم.
}وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ{ .
سيدنا إبراهيم عليه السلام أرادوا به كيدا فقلنا:
}قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلَاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ{ .
هذا هو العز. عِزُ الله لإبراهيم وموسى ويوسف كما علمت.
النبي عليه الصلاة والسلام، ما من مخلوق أعزه الله كرسول الله، وسيدنا الصديق، وسيدنا عمر مر بخولة بنت ثعلبة في أيام خلافته.. قف يا عمر فوقف لها وأصغى لها وأطالت الوقوف وأغلظت القول وقالت: هيه يا عمر عهدتك وأنت تسمى عميرا وأنت بسوق عكاظ.. فلم تذهب الأيام حتى سميت عمر ثم لم تذهب الأيام حتى سميت أمير المؤمنين فاتق الله في الرعية... فقال لها الجارود: قد أكثرت أيتها المرأة على أمير المؤمنين، فقال عمر: دعها أفلا يسمعها ابن الخطاب وقد سمع الله مجادلتها للرسول صلى الله عليه وسلم من فوق سبع سماوات!؟.
كان وقّافا عند كتاب الله فرفعه الله سبحانه.
وكذلك سيدنا عثمان، سيدنا علي، وبالمقابل أبو جهل ما نهايته؟ ما سُمْعَته؟ ما قيمته؟ وأبو لهب كذلك، هؤلاء صناديد الكفار أين هم؟ أما عكرمة بن أبي جهل فحينما تاب إلى الله تاب الله عليه وأصبح سيدنا عكرمة مع أنه له جاهلية وكان قد أهدر دمه وله موقفه المعادي لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
لا أريد أن أطيل، فما من مخلوق على وجه الأرض إلا ويحب وجوده ويحب سلامة وجوده ويحب كمال وجوده ويحب استمرار وجوده، وجزء كبير جدا من وجودك أن تكون مكرما أن تكون عزيزاً، أن تكون مرهوبا، أن تكون سليما من كل هُون، وما من شيء يسبب لك الهوان كالمعصية أبدا.
فالعفيف عزيز، وحينما يطمع الإنسان بأعراض الناس وينظر إلى نسائهم نظرات ريبة يصبح ذليلاً، الإيمان عفة عن المطامع عفة عن المحارم.
الإيمان عفة، عفة عما في أيدي الناس وعفة عن أعراضهم، لهذا غض البصر من لوازم المؤمن، المؤمن محصن من أن يتبع شهوته، وكلما غض بصره زاده الله عزا وكلما غض بصره زاده سعادة بأهله، ولا يمكن أن تكون إلا بطاعة الله، يعيشان حياة ثرة غنية موفقة لأنها أطاعت ربها فيه وأطاع ربه فيها.
فمطلب العزة مطلب عام، ما من مخلوق إلا ويتمنى أن يكون عزيزا، والعزة ثمنها الطاعة وهذا الكلام موجه إلى الشباب، اصبر على الحرام يأتك الحلال، لا تفكر ولا تسمح لخاطرك أن تَرد عليه معصية وسوف توفق في عملك وتوفق في زواجك، سوف يجعل الله لك مخرجا، وسوف ترزق من حيث لا تحتسب، وسوف يرفع الله لك شأنك.
بعض الناس يموت فيسير في جنازته شخص أو شخصان هواناً لشأنه لمعصيته، ويموت عالِمٌ فيسير في جنازته مليون، أعزه الله، لماذا أعزه؟ لأنه أَعِزَّ أمر الله، أعز أمر الله يُعزَّك الله.
هذه حقائق ثابتة أيها القارئ الكريم، فكل من يبتغي العزة بغير الله أدركه الهوان، فلو أن الإنسان اتخذ الله ولياً لنجح وأفلح:
}وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ{ .
إذا ركنت لإنسان منحرف، رأيته قويا، ورأيت عنده الدنيا، ورأيت أنك إذا أَطعته جاءك خير كثير، إذا ركنت إليه ونسيت الله عز وجل فلن يأتيك الذل إلا من طرفه، لن يأتيك الضيم إلا منه تأديبا لك.
أحيانا يعتز الإنسان بقريب له، له شأنه يُفاجأ بعد حين أن هذا القريب يتخلى عنه، يدخل عليه فيتجاهله، يعرض عليه قضية ليساعده بها فيقول: لا أستطيع، أنا لا أخالف القوانين أبدا، هذا جزاء الذي ركن إليه. "اطلبوا الحوائج بعزة الأنفس فإن الأمور تجري بالمقادير".
}مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ{ .
وبعد فالوقائع والحوادث التي يمكن أن تروى في موضوع العزة والذلة أكثر من أن تحصى، وما من واحد من الناس إلا من خلال معارفه وأقربائه ومحيطه وبيئته يعرف آلاف الحكايات، هذا الشاب الذي استقام على أمر الله رفعه الله في الدنيا قبل الآخرة، فقد أشاح بوجهه عن الحرام فزوجه الله حلالا طيبا:
}وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ{ .
قيل: "جنة في الدنيا وجنة في الآخرة، والدنيا قبل الآخرة".
}وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ{ .
وحسن جدا أن أختم البحث بهذا الأثر أسوقه في هذه العجالة حول اسم: العزيز، "من ابتغى أمراً بمعصية كان أبعد مما رجا وأقرب مما اتقى". فأي شيء أردت أن تناله من خلال معصية يجب أن تعلم علم اليقين أن هذا الشيء ند عنك ونأى، وأي شيء إذا أردت أن تناله عن طريق الطاعة فاعلم علم اليقين أنه اقترب منك ودنا "من ابتغى أمرا بمعصية كان أبعد مما رجا وأقرب مما اتقى"، أي: في التجارة لا تكذب تربح، تربح وتكون عند الله صادقا، وإذا كنت محاميا لا تكذب وسيأتيك دخل وفير وتكون عند الله صادقا، كما تكون عند الناس مخلصا قال صلى الله عليه وسلم:
"البيعان بالخيار ما لم يتفرقا فإن صدق البيعان وبينا بورك لها في بيعهما.
وإن كتما وكذبا فعسى أن يربحا ربحا ويمحق بركة بيعهما" . فهذا الذي يعصي الله لينال دنيا فانية، جاهل أحمق، لا يعرف الله عز وجل، فأضاع الآخرة الباقية..
لأن الله عز وجل وعده حق (فماذا بعد الحق إلا الضلال) فلتعلم إذا وعد الله به المؤمن أن يحفظه، ومما وعد به المؤمن أن يدافع عنه، ومما وعد به المؤمن أن يرزقه، مما وعد به المؤمن أن يعزه والدليل (ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون).
انظر لو قال الله: العزة للمؤمنين لكان من الممكن أن يُفهم: ولغير المؤمنين قد تكون عزة أما عندما قال: لله العزة، وجاء الاسم المجرور مقدماً على العزة فأفاد القصر والحصر، العزة وحدها إذاً لله فإذا أردتها فكن مع الله.
كن مع الله تر الله معك واترك الكل وحاذر طمعـك
وإذا أعطاك من يمنعــه ثم من يعطي إذا ما منعــك؟!