
المؤمن
"المؤمن": أن تؤمن بوجود الله عز وجل يعني أنك لم تفعل شيئاً، لأن الشيطان نفسه ماذا قال حينما خاطب الله عز وجل؟ قال: (ربِّ) وفي آية أخرى قال: (فبعزتك) فعبارة الشيطان تدل على إيمانه بالله، ومع ذلك فهو رأس الكفر كله، فأن تؤمن بوجود الله فقط دون أن تتعرف إلى وحدانيته، إلى ربوبيته، إلى أُلوهيته، إلى أسمائه الحسنى، إلى صفاته الفضلى، إلى مناحي عظمته ليس كافياً، أن تؤمن بالله خالقاً وكفى ليس كافياً، فإنَّ ربنا سبحانه وتعالى قال عن المشركين: }وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ{ .
فالمشركون إذا: يعترفون بأن الله خالق الكون ولكنهم يشركون بالله أولا وينكرون البعث ثانيا.
فمن لوازم الإيمان بالله، أن يتعرف الإنسان إلى أسماء الله الحسنى، فأحياناً قد تعرف أن فلاناً جارٌ لك وهذا غير كافٍ بل تحب أن تعرف عنه تفصيلات، كأن تعرف شيئاً عن مستوى علمه، وشيئاً عن أخلاقه، عن أعماله، عن تفوقه، هذا فيما بين الناس، فلا تكون المعرفة صحيحة إلا إذا تضمنت بعض التفاصيل مما يعطيك فكرة واضحة إنه من باب أولى أن يكون الإيمان بالله عز وجل أساسه معرفة أسمائه الحسنى وصفاته الفضلى.
والحقيقة الملموسة، أنَّ الكون كله تجسيدُُ وإظهار لأسماء الله الحسنى، كل أسماء الله تبدو لك من خلال الكون، أما ذات الله عز وجل فلا نستطيع أن ندركها لقول الله عز وجل:
}لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ{ .
أن ترى ذات الله أمر مستحيل، لكنك تستطيع أن تتعرف إلى ذاته من خلال خلقه، فالكون يدل على المكون، والنظام يدل على المنظم، والتسيير يدل على اُلمسِّير، والماء يدل على الغدير، والأقدام تدل على المسير، والبعر يدل على البعير، أَفَسماءٌ ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، ألا تدلان على الحكيم الخبير؟
وبعد، لماذا يجب أن نعرف الله؟ كي نعبده، ولماذا نعبده؟ كي نسعد بقربه في الدنيا والآخرة لأن الله سبحانه وتعالى في الأصل خلقنا ليسعدنا ولا نسعد إلا به ولا نسعد إلا إذا كان عملنا طيباً، ولن يكون عملنا طيباً إلا إذا تعرفنا إلى عظمته حقيقة، لذلك قال ربنا عز وجل في وصف بَعْضِ أهل النار:
}إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ{ .
أي يجب أن تعرف عظمة الله، إن لم تعرف عظمة الله فلا بد من أن تخترق حدوده ولا بد من أن تتجاوز أوامره، أما إذا عرفت عظمة الله عز وجل عبدته.
فالقضية كلها تتلخص في أهمية أن تعرف من هو الله، كي تطيعه وتقبل عليه وترجو ما عنده، وتخاف وعيده، ولن تخاف وعيده ولن ترجو ما عنده ولن تقبل عليه ولن تسعى إليه ولن تستسلم لقضائه ولن ترضى بحكمه إلا إذا عرفته، إذا عرفته رضيت بقضائه ورأيت حكمةً ما بعدها حكمة، ورأيت علماً ورأيت رحمة ولطفاً وعطفاً وعدلاً، فكلما عرفته استسلمت له وأقبلت عليه وخضعت له وائتمرت بأمره وانتهيت عما نهى عنه، أقبلت على عبادته وخدمت عباده، فنحن يجب أن نعرف الله، أما أن يقال فقط: الله خالق الكون، فهذه معرفة بسيطة لا تقدم ولا تؤخر، وهذه المعرفة لا تحجزك عن محارم الله، هذه المعرفة في مجموعها لا تحملك على طاعة الله، فأن تقول: الله خالق الكون ولك مخالفات كثيرة، وأن تقول: الله خالق الكون ولك انحرافات عديدة، وأن تقول: الله خالق الكون ولك طموحات دنيوية مديدة، فهذه مغالطة صريحة، أمّا إذا عرفت من هو الله؟ وهذا هو الهدف من هذا البحث وأن تزداد معرفتنا بالله يوما بعد يوم، لأنه كلما ازدادت هذه المعرفة كلما ازداد الخشوع والطاعة والخوف والإقبال والاستسلام والرضا والانصياع والفداء والتضحية والإخلاص، أي: إن حجم عملك بحجم معرفتك وحجم سعادتك بحجم عملك أي أنَّ الدين كله يمكن أن يلخص بثلاث كلمات: معرفة، طاعة، سعادة، على قدر معرفتك تطيع الله عز وجل وعلى قدر طاعتك تسعد به.
إذاً هذه الأسماء الحسنى لا ينبغي أن نقف عند تعريفاتها الدقيقة فقط بل يجب أن نملك عشرات بل مئات بل ألوف الأدلة النابعة من الكون على هذه الأسماء، لذلك فمن علامة معرفتك بالله عز وجل أن ينطلق لسانك في الحديث عن أسمائه ساعات طويلة، حدَّثنا عن اسم اللطيف أو عن اسم الرحيم أو عن اسم الملك أو عن اسم القدوس أو عن اسم السلام، فالذي أرجوه وأتمناه أن يمارس المسلم بنفسه بحثاً ذاتياً وأن يكون له جولات في هذا الكون ليكتشف من هذا الكون الأدلة الناصعة على أسماء الله والأولى أن نبقى نجول في كل فترة أو في كل حين مع اسم من أسماء الله الحسنى.
وبعد فلننتقل من هذا البحث إلى اسم آخر من أسماء الله الحسنى، وهو المؤمن.
إن أي ملك من الملوك الأرض لا يرضى أن يلقب أحد أفراد رعيته بلقبه وهو من بني البشر يأكل كما نأكل ويشرب كما نشرب وينام كما ننام وله جسم ويعطش ويجوع و يغضب ويثور ويمرض ويموت فلا فرقَ بين الملك وبين أحد رعاياه من حيث التكوين الجسمي. ومع ذلك تأبى عزته ويَأبى كبرياؤه أن يلقب أحد من أفراد رعيته بلقبه، ولكن الله سبحانه وتعالى سمانا بعد أن عرفناه وطبقنا أمره سمانا مؤمنين والمؤمنون جمع مؤمن وسمى نفسه المؤمن وذلك بقوله تعالى:
}هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ{ .
لكن هذا الاسم يحتاج إلى وقفة، الله عز وجل مؤمن، ولكن مؤمن بماذا؟ نحن مؤمنون بالله، ونحن مؤمنون برسول الله صلى الله عليه وسلم، مؤمنون باليوم الآخر، فالله عز وجل مؤمن بماذا؟ قالوا: المؤمن اسم فاعل من فعل أمِنَ يأمن أمناً وأماناً، فعل "أمن" له معنيان:
المعنى الأول التصديق فعندما يقرأ الإمام سورة الفاتحة وعند انتهائه يقول المصلون جميعاً: آمين أي: يا رب نحن نصدق ما قال هذا الإمام ونحن معه، فإما من التصديق وإما من الأمن، فعل "أمن" إما من التصديق وهناك آية تؤكد ذلك قال تعالى:
}قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لِّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ{ .
فقوله تعالى (وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لِّنَا) هذا من التصديق، وإما من المعنى الآخر وهو الأمن قال تعالى:
}الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ{ .
فاسم الله تعالى المؤمن مأخوذ من التصديق أو من الأمن؟ وكيف نفهم هذا الاسم بالمعنى الأول؟
في الحقيقة: إن الإنسان قد يعرف ذاته وقد لا يعرف ذاته، فإذا لم يعرف ذاته وخاض في شيءٍ ولم يكن من مستواه يخسر خسارة كبيرة، نقول له: لو عرفت ما عندك لما دخلت في هذه الورطة، فهذا الذي يقدم على شيء ليس في مستواه ولا يعرف حقيقة ما عنده فهو يجهل حقيقة إمكاناته، ولا يعرف ذاته لكن هناك من يعرف ذاته حق المعرفة فتأتي الأفعال كلها وفق معرفته هذا مثل ضربته لكم لتوضيح الحقائق فمن أول معاني المؤمن أن الله سبحانه وتعالى يعرف ذاته ويعرف أسماءه ويعرف كل ما عنده وهذا المعنى أوَّل.
المعنى الثاني: أن الله سبحانه وتعالى يصدق رسله، بعث النبي محمداً صلى الله عليه وسلم رسولاً، صدقه أي: جعل الناس يصدقونه بالمعجزة، بعث موسى عليه السلام نبياً وصدقه، أي: جعل الناس يصدقونه بالمعجزة، أرسل سيدنا عيسى عليه السلام رسولاً فأعطاه معجزة كي يصدقه الناس بها، إذاً المعنى الثاني الصدق. أي كل شيء وعد الله به المؤمنين يأتي فعله مصداقاً لوعده، وعدك بالحياة الطيبة فإذا عشت الحياة الطيبة فقد َصَدَقك بمعنى أن فعله جاء مصداقاً لوعده، أن يأتي فعل الله عز وجل مصداقاً لوعده يصدق أنبياءه أي: يعطيهم الدلائل ويجعل الناس يصدقونهم يعطي المؤمن دلائل، أنت أيها الأخ الكريم تقرأ القرآن ما الذي يجعلك تتشبث وتتعلق وتتمسك به؟ لأن الأحداث التي تعيشها تأتي كلها مصدقة لهذا القرآن، إذا استقمت في البيع والشراء شعرت براحة ووفر الله لك دخلاً طيباً وساق الناس إليك وإذا كنت أميناً رفع الله اسمك بين الناس، فأي وعدٍ وَعَدَك الله به فإذا أنت نفذت ما أنت مأمور به تأتي الحوادث كلها لتصدق لك هذا الوعد أو لترى أن هذا الوعد صادقاً، فمن معاني المؤمن أنه يجعل أنبياءه مُصَدَّقين يدعمهم بالمعجزات يجعل قرآنه مُصَدَّقاً بمعنى أنك إذا آمنت به وعملت عملاً صالحاً أذاقك الحياة الطيبة، ما الذي جعلك تصدق كلامه؟ هذه الحياة الطيبة، المعيشة الضنك تجعلك تصدق بهذه الآية، إذا اهتديت بهدى الله عز وجل في كل مناحي حياتك ترى أن الحوادث كلها تصدق ما جاء به القرآن الكريم، إذاً الله عز وجل مؤمن أي: يجعل عباده مُصَدِّقين، لأن أفعال الله عز وجل كلها تأتي مصداقاً لوعده ولوعيده، قال: }إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ{ .
لا بد من أن تشعر بأن هناك حالات كثيرة تواجهك فَيُقَيّضُ الله لك إنساناً لا تعرفه يدافع عنك بإلهام من الله عز وجل، وحينما يقول الله عز وجل:
}قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى{ .
تشعر أَنَّكَ مهتدٍ وأن لك رؤية صحيحة وأن لك بصيرة نافذة وأن تفسيرك للحوادث صحيح لأنك اتبعت أمر الله عز وجل فجاءت الحوادث مصداقاً لما قاله الله عز وجل.
وهذا معنى من معاني المؤمن، والحقيقة كما قلت قبل قليل: إن أروع ما في الدين أنه يعطيك تفسيراً للكون والحياة والإنسان، ومهما عشت ومهما تبدلت الظروف ومهما ظهرت معطيات جديدة ومهما ظهرت أحداث جديدة كلها ضمن تأويل الله عز وجل لهذا الكون والحياة والإنسان، فأنت حينما تقرأ القرآن لن تُفَاجَأ بحادث لم يرد معك في القرآن، فلو أَعطيْتَ تفسيراً لظاهرة من الظواهر قد تُفاجَأ بعد حين أن هناك حدثاً أبطل نظريتك، وما أكثر ما جاء العلم بنظريات ثم جاءت الحوادث فأبطلتها، أما إذا قرأت القرآن وهو من عند الله عز وجل لن يأتي حادث يكذب ما قرأت في القرآن، هذه نقطة دقيقة جداً فالقرآن جاء قبل أربعة عشر قرناً والعلم تطورَ تطوراً كبيراً جداً، ومعطيات القرآن صحيحة وثابتة منذ أن خلقت البشرية وإلى ما قبل خمسين عاماً في كفة ومنذ خمسين عاماً إلى الآن حدث تطور علمي رهيب جداً تجده في الكفة الأخرى، ومع كلِّ هذا التطور فليس في العلم حقيقة تخالف هذا القرآن.
معنى ذلك أنك إذا قرأت القرآن تطمئن، الأمور وحوادث الكون والمجرات والأنواء والنبات والحيوان والإنسان كل هذه الحركات تأتي مصدقة لكلام الله عز وجل، فالله مؤمن أي: كلامه يجعلك تصدقه لأن أفعاله تصدق كلامه، وهذا معنى من معاني المؤمن.
وإليك معنى آخر: هو أن الله سبحانه وتعالى يهب الأمن للإنسان، كيف؟ هنا المعنى الدقيق، فلو أن الحديد تارة يكون قاسياً وتارة يكون ليناً فإنك تُنْشِئُ البناء وأنت خائف، لعل هذا الحديد بعد حين يصبح ليناً فيتداعى البناء، لقد جعل الله للحديد خصائص ثابتة دائماً فإذا وضعت هذا الحديد مع الأسمنت وأَشَدْت البناء وسكنت في الطابق التاسع مثلا فإنك تنام مطمئنا، فما الذي جعلك تطمئن؟ ثبات صفات الحديد ولو أن صفات الحديد تبدلت لانهارَ البناء.
فيمكن أن نقول: ثبات خصائص المواد هو الذي يهب الأمن للناس، ثبات حركة الأرض هذا الجامع شُيد منذ سنوات عديدة فلو أن هناك اهتزازا في أثناء الدوران لكانت كل هذه الأبنية قابلة لأن تنقض وتنهار، فالأرض تتحرك بسرعة 30 كيلو مترا بالثانية وهناك سكون رهيب ومن أجل أن تعرف قيمة السكون الحركي يأتي الزلازل أحياناً على مدينة بأكملها ويصبح عاليها سافلها بثوانٍ قليلة، إذاً حركة الأرض مع سكونها واستقرارها جاءت مصداقاً لقوله تعالى: }أَمَّن جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ{ .
أعطاك الأمان، واشتريت بيتاً في الطابق العاشر، وتعرف أنه بيت مستقر، أما لو كان هناك اهتزاز لانعدم الأمن، ثم إنك لو اشتريت بذوراً تنبت نوعاً من النبات، ولا تستقيم الحياة لو لم يكنْ في الأرض ثبات، وقمت بزراعة البطيخ مثلاً وكان الإنتاج بندورة لاختلطت الأمور وفسدت الحياة، فثبات البذور حيث كل بذر له خصائِصُهُ نِعمة ومِنّة وأمان.
هناك شيء آخر غير الثبات، فهناك آلاف الأنواع لكل نبات: هذا النوع إنتاجه مديد، وهذا النوع إنتاجه مبكر، وهذا النوع إنتاجه صناعي، وهذا النوع للنقل، وهذا للاستهلاك، وهذا للمائدة، أما هذا فإنه يقاوم أمراضا معينة .... فحتى البذر نفسه له خصائص والخصائص ثابتة، فما الذي يهبك الأمن وأنت تزرع؟ ثبات الخصائص.
إذاً يمكن أن نقول: إن ثبات خصائص المواد هو الذي يهب الإنسان الأمن، الشمس تشرق دائماً من الشرق فليس في شروقها مفاجآت وليس لها دعاء شروق، يا رب الشمس لم تظهر اليوم أظهرها لنا! طمأنك، الشمس دائماً تشرق ودائماً تغيب والأرض دائماً تدور ويكفي أن تأخذ ورقة من التقويم وأن تقرأ: الفجر الساعة الخامسة وثماني عشرةَ دقيقة والشمس تشرق الساعة السادسة وثلاثين دقيقة، هذه الحقيقة في التقويم منذ متى؟ منذ خمسة وستين عاماً ولمئة سنة قادمة ولألف سنة قادمة ولمئة ألف سنة قادمة إلى أن تنتهي الدنيا، دقة ما بعدها دقة على مستوى الدقائق والثواني.
أرض بأكملها تدور حول الشمس وهناك نجوم تضبط عليها الساعات الشهيرة في العالم "بيغ بن" يقول القائل: ضبطت ساعتي على ساعة "بيغ بن"، فإذا كانت هذه الساعات التي في أيدينا تضبطها على هذه الساعة الشهيرة "بيغ بن"، لكن هذه الساعة الشهيرة كيف تضبطها؟ تضبط على حركة المجرة.
إذاً ثبات الدوران، ثبات السرعة، ثبات الحركة، ثبات الزاوية، هذا يعطي الإنسان النظام الثابت يجعل فيه الأمن، إذاً من الممكن أن نقول: صفات المواد الحديدية ثابتة، شخص اشترى سواراً ذهبياً ودفع ثمنه عشرين ألفاً، بعد فترة تبدل نوع المعدن أصبح معدنا خسيسا، والله هذه مشكلة، لكن الذهب ذهب على الدوام، ومثله في الثبات الحديد حديد والفضة فضة والقصدير قصدير والألمنيوم ألمنيوم، ثبات صفات المعادن هذه تهب الأمن للإنسان وهذه نعمة لا نعرفها نحن لأنها مألوفة، لذلك يقولون: شدة القرب حجاب، لأن هذه النعمة مألوفة جداً كأنها لم تكن مع أنها نعمة عظيمة.
من أسماء الله عز وجل "المؤمن" فهو "المؤمن" إذا قرأت كتابه جاءت الحوادث كلها مصداقاً لكلامه ومؤمن يهب الأمن للإنسان عن طريق ثبات صفات المواد.
ثبات الأنظمة، قانون الحركة ثابتة، التمدد ثابت، قوانين الجسم كذلك ثابتة، فأنت تجد طبيباً في آخر الدنيا يصنع دواءً يستعمل في طرف آخر من أطراف الدنيا هذا الدواء يؤثر في الجسد حيثما كان ما معنى ذلك؟ أي: إن كل أجساد بني آدم من بنية واحدة، فهناك أمن وأمان. مثلا القلب؛ تجد طبيباً ذهب إلى أمريكا درس عن القلب، فلو ذهب إلى إفريقية إلى آسيا إلى أستراليا إلى أوروبة إلى أي مكان في العالم وفتح قلباً وجد شرايينه وأعصابه ومراكزه الكهربائية كلها بدقة تامة، هذا الثبات يكفي أن تُشَرِّح إنساناً واحداً فكل إنسان إذا عالجته تكون بنيته وأعصابه وأوردته وشرايينه وعضلاته وفق هذا الأنموذج ، ومع هذا أيضاً ثباتُ الأنظمةِ وثباتُ خصائصِ المواد، فأحياناً يجعل الله عز وجل للمواد مضادات، فالنار محرقة والماء يُطفئ النار، أي: أعطاك لكل شيء خطرَ ما يقضي على خطره، وهذا يطرد في كل شيء، في الأدوية –مثلا- هناك وباء نباتي فله أدوية بإمكانها أن تقضي على هذا العنكبوت أو على هذا الفطر أو على هذه الحشرة، فالله عز وجل من أسمائه المؤمن لأنه يهب الأمن للإنسان.
الألم سماه العلماء جهاز إنذار مبكر، فالإنسان يتلف سنه جزئياً فيتألم ألماً شديداً فيذهب إلى الطبيب فيصون هذه السن، لو لم يكن هناك عصب يصاب لما أحس الإنسان بالألم، ولما كانت هناك وقاية لهذا السن، إذاً الألم من أجهزة الإنذار المبكر. فكل خطر من أخطار الدنيا جعل الله له وقاية.
إذا استعان الإنسان بالله عز وجل يقيه من زلات المعاصي لقوله تعالى:
}إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ{ .
لذلك قال وهيب بن الورد: "والله لو أن السماء من نحاس والأرض من رصاص واهتممت برزقي لظننت أني مشرك"، والحقيقة لو أردت أن ترى الفرق الجوهري بين حياة المؤمن وحياة غير المؤمن، لوجدت أن الصفة الأساسية المميزة الأمن قال تعالى:
}وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ{ .
تجد قلوبَ أهل الدنيا فارغة، عرضة للمخاوف، عرضة للمقلقات، عرضة للذعر، لتوقع المصيبة، لكن ربنا عز وجل إذا آمنت به ملأ قلبك اطمئنانا، ملأ قلبك استقراراً، ملأ قلبك رضا بقضائه، ملأ قلبك معرفة بكماله، هذا كله من أسماء المؤمن.
وهناك أمر آخر: كيف تأمن عذاب الله في الآخرة؟ لقد أعطاك الكون وأعطاك العقل وأعطاك الفطرة وأعطاك الشهوة وأعطاك الاختيار وأعطاك القوة وهذه كلها مقومات النجاة في الآخرة، تشعر أن الله عز وجل إذا أقبلت عليه تأمن القلق وتأمن المرض وتأمن الضيق وتأمن التعب وتأمن الخوف فالله سبحانه وتعالى مصدر أمنٍ وأمانٍ للبشر، بعض الجهات تُقْلِقك ولكن من شأن اسم الله المؤمن، أنك إذا فوضت أمرك إليه، واتبعت أمره ونهيه فأنت في أمن وسلام فهذا المعنى الذي يليق بالله عز وجل فيما يتعلق بالمؤمن.
عن الأحنف بن قيس أنه قال: قال الخليل بن أحمد: "الناس أربعة: رجل يدري ويدري أنه يدري فذاك عالم فخذوا عنه ورجل يدري وهو لا يدري أنه يدري فذاك ناس فذكروه. ورجل لا يدري وهو يدري أنه يدري فذاك طالب فعلموه ورجل لا يدري وهو لا يدري أنه لا يدري فذاك أحمق فارفضوه".
أنا أختار منهم من يدري ويدري أنه يدري، أنّ اللهَ عز وجل مؤمن.
والمعنى الثاني من التصديق: أي شيء وعدك الله سبحانه وتعالى به في القرآن فزوال الكون أهون على الله من أن تأتي الأحداث مخالفة لما وعدك به، وعدك بالنصر والنصر واقع لا محالة، وعدك أن يدافع عنك، وعدك أن يحفظك، وعدك أن يرزقك، وعدك أن يطمئنك، وعدك بالأمن وعدك بالتمكين وعدك بتمكين دينك وعدك بالاستخلاف وعدك أن يكون معك.
المعنى الثالث: أنه يهب الأمن، وبشكل بسيط نذكر العين فإذا قدت مركبتك في النهار تشعر بأنك مطمئن لأن مدى الرؤية بعيد جدا، أما في الليل فيوجد الانبهار والأضواء فتشعر بقلق. فالقيادة في الليل يرافقها القلق وفيها مفاجآت فالضوء الموجود في المركبة لا يكشف كل شيء ومداه محدود فكلما كانت الرؤية أطول كان الأمن أكثر إذاً فالله سبحانه أعطاك العين كي ترى طريقك، كما أعطاك الأذن فإذا وجدت حركة في الليل فالأذن تكشفها. فالسمع المرهف أحد وسائل الأمان، العين إحدى وسائل الأمان، وكذلك الشم فإذا أصدر الطعام رائحة كريهة فمعنى هذا أن الطعام فاسد فجعل الأنف فوق الفم كي يحصل لك الأمن الغذائي، أعطاك يداً تدفع بها الضر، أعطاك رجلاً تنتقل بها من مكان إلى آخر هذه كلها لتحقق الأمن لك، وهذا معنى آخر من معاني المؤمن.
والحقيقة أننا بعد كل بحث لا بد من أن نسأل أنفسنا هذا السؤال، يا رب أنت المؤمن وأنا ما علاقتي بهذا الاسم؟ أنت المؤمن فكل الحوادث وكل الأفعال جاءت مصداقا لقرآنك شيء مريح لي ويؤكد علاقتي بالله المؤمن وهذا معنى أول.
والشيء الثاني وهبتني الأمن يا رب، وهبتنا الحواس، وهبتنا الأجهزة، ثبات خصائص المواد وثبات الأنظمة كلها وسائل أمان تؤكد سلامة علاقتي بالله المؤمن أيضا.
قال لي طبيب قلب: لو كان قلب إنسان نحو اليمين وقلب إنسان آخر نحو اليسار وقلب بمكان آخر لالتبست الأمور علينا، درس هذا الطبيب القلب بأمريكا، وعرف أن مكانه نحو اليسار، وعند إجراء العملية لأحد المرضى وجد القلب على اليمين هذه واقعة لم يدرسها لأنها شاذة! بينما للبشر كلهم َبِنْيَةٌ واحدة حتى على مستوى الأعصاب الدقيقة جدا وهذا يعطينا قدرا كبيرا من الأمن، وكما قلت قبل قليل عن الأرض: وإن دورتها حول نفسها وحول الشمس ثابت، شروقها وغروبها ثابت، لكن الأمطار لم يجعلها ثابتة بل جعلها متبدلة هذا من أجل ألا ننساه من أجل أن نصلي له من أجل أن نتوب إليه من ذنوبنا، ربنا عز وجل ثبت أشياء وحرك أشياء، ثبت دورة الأرض حول نفسها ودورتها حول الشمس وثبت الشروق والغروب وثبت القمر وثبت الأنظمة والبذور والخصائص والبنى هذه كلها ثبتها وجعل الرزق بيده، فجعل الرزق وسيلة كي تعود إليه وكي تقبل عليه وكي تتوب إليه من ذنبك هذا معنى جليل، جدير فهمه.
أنت مؤمن: فأول شيء يجب عليك أن تفعله أن تأتي أفعالك كلها مصداقا لأقوالك، فلا يليق بك أن يكون لديك ازدواجية، ولا أن يكون عندك شيء داخلي وشيء خارجي، وشيء تعتقده وشيء تقوله بعكسه، فهذا اهتزاز واضطراب في نفسك وسلوكك، وربنا عز وجل يقول:
}وَذَرُوا ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ{ .
ظاهرك الذي يطلع عليه الناس: أنك مستقيم، صلاة، صوم، حج، زكاة، لكن باطنك قد يكون: الحسد، الكبر، الحقد، الضغينة هذه كلها من بواطن الإثم، إذاً أنت مؤمن يجب أن يأتي عملك مصداقا لقولك بالضبط، يجب أن تكون موحداً، ليس لك ظاهر وباطن، وليس لك سريرة وعلانية، ولا موقف معلن وآخر غير معلن، وبكلمة موجزة ليس لدى المؤمن ازدواجية فأنت مؤمن يجب أن تأتي أفعالك كلها مصداقا لأقوالك، إذا أردت أن تكون بالمستوى اللائق الراقي يجب عليك أن تكون أفعالك كلها مصداقا لأقوالك هذا شيء أول.
أما الشيء الثاني فيجب أن يأمنك الناس:
عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "وَاللَّهِ لا يُؤْمِنُ وَاللَّهِ لا يُؤْمِنُ وَاللَّهِ لا يُؤْمِنُ" قِيلَ: وَمَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "الَّذِي لا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ" .
هناك أشخاص مخيفون فإذا تكلمت كلمة مؤذية لمسامعهم مثلاً فلن تنام الليل خوفاً من عاقبتها ولا بد للمؤمن من أن يكون مصدر أمن فلا يأتيك من طرفه ضرر أو أذى أو مكيدة أو غدر أو قنص ... أبداً، فهو مصدر أمان، تنام ناعم البال مطمئن النفس مرتاح الضمير حتى ولو زلت قدمك أمامه ولو تكلمت بكلمة غير لائقة أمامه فلن يتخذ منك موقفاً، وفي الحديث القدسي يقول الله تعالى:
"يؤذيني ابن آدم، يسب الدهر وأنا الدهر بيدي الأمر، أقلب الليل والنهار" .
ومع ذلك تجد الناس يعصونه جهرا وهو يسترهم والعبد ينسى وربي لا ينسى يعصونه جهراً ويسترهم ويرزقهم ويحفظهم وهذا شأن الله مع عباده، وأنت أيها القارئ الكريم مؤمن فأول صفة من صفاتك أنه ينبغي أن يأتي فعلك مصداقاً لقولك وأن تلغي من حياتك الازدواجية: الظاهر والباطن، العلانية والسريرة، أن تكون في جلوتك كخلوتك، أجل هذا هو المعنى الثاني: أن يأمن جانبك الناس كلهم.
فمثلاً زَوَّجْتَ ابنتك لمؤمنٍ فلا تخاف أن يجيع ابنتك ولا تخاف أن يظلمها ولا تخاف أن يفضحها ولا تخاف أن يضربها، المؤمن لا يأتي من جانبه إلا كل خير، إنْ شاركتَ مؤمناً فأنت مرتاح مطمئن، لا تخاف أن يتلاعب بالحسابات، ويزور لنفسه حسابا خاصا يعقد صفقة من وراء ظهرك لا تخاف، أصلحت جهازاً عند مؤمن فلا تخاف أن يبدل هذه القطعة بقطعة أخرى وأنت لا تدري، يأخذ القطعة الجيدة ويعطيك قطعة رديئة، يخدعك ويغشك، إن المؤمن مأمون الجانب في صنعته، في حديثه، في عمله، في مهنته، في حرفته، في زواجه، في شراكته، هكذا المؤمن يكون مأمون الجانب.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ وَالْمُؤْمِنُ مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ عَلَى دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ" .
لا تخش أن ينكر عليك المبلغ، إذا ائتمنته عليه، أو أقرضته إياه، ولا يخطر لك هذا في بال أبداً، لا تخشى أن ينكر عليك مالك أو يخفر ذمته نحو ولو لم يكن معك إيصال، فذمته أمينة مصونة إذ يخاف الله عز وجل، إذاً أنت كمؤمن تؤمن بقوله تعالى:
}هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ{ .
فالله مصدر أمان للعباد في أفعاله وفيما أعد لهم في الآخرة، قال تعالى:
}لاَ يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُم مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ{ .
فأنت مؤمن إذا ذكرت لك جهنم على مسمعك، أو وصفت لك فإنك تتقيها بالتفكر وبالعمل الصالح، وبطاعة الله عز وجل، وفي الإقبال عليه خدمة للخلق وبالبذل والتضحية والإخبات والخوف والرجاء مما يجعلك في منجاة من عذابها إن شاء الله.
وكذلك المؤمن مأمون الجانب، جارك يطمئن لك، من يعاملك يطمئن لك فتنصحه لا تكذب عليه ولا تغشه، أتعطيه الحاجة وقد انتهى مفعولها وزورت التاريخ؟ لا، أنت مأمون، الأنبياء مأمونون على رسالة السماء، والمؤمن مأمون على ما ائتمن به، ابنتك أمانة عندك، زوجتك أمانة، أولادك أمانة، وهكذا، لكن الشيء الذي أتمناه عليك عزيزي القارئ أن تبادر فتدعو الناس إلى الله عز وجل بحيث يأمنوا عذابه يوم القيامة، ولتعلم أن هذه صنعة الأنبياء، وهذا أعظم أمن، فأعظم عمل ترجو ثوابه عند الله تعالى أن تحول بين الناس وبين عذاب جهنم بأن تعرفهم بالله عز وجل فإذا عرفوا الله واستقاموا على أمره وعملوا الصالحات كان نهجك نهج الأنبياء وكنت المؤمن حقا وهذه هي صنعة الأنبياء كما نوهت من قبل فتكون سببا لنجاة الناس من النار واعلم أنهم إذا استقام إيمانهم واستقامت أمور آخرتهم على ما ذكرنا استقام لهم أمر دنياهم وسعيهم فيها.
إن الله عز وجل هو المؤمن وسمى عباده الطائعين مؤمنين وهذا شرف لهم وفي ذلك فليتنافس المتنافسون وحسبك قوله تعالى (قد أفلح المؤمنون).
هو ملك الملوك ومع ذلك سمح لك أن تسمي نفسك مؤمناً وهو المؤمن مؤمن بذاته أولاً ثانياً تأتي أفعاله كلها مصدقة لأقواله، فأنت إذا قرأت القرآن لا تخشى المفاجآت ولا تخشى أن تأتي الأحداث خلاف القرآن فتنفضحَ أمام الناس لا، إنك لا تخشى إذا اعتقدت بما قاله الله عز وجل أن تأتي حقيقة علمية في المستقبل تكشف لك خطأ هذه الآية. أعوذ بالله هذا شيء مستحيل لأن الله عز وجل مؤمن أفعاله تأتي مصداقاً لأقواله.
المعنى الثالث: يهبك الأمن: إنْ في حواسك وإن في أجهزتك وإن في أعضائك، إن في طعامك وشرابك حتى في الهواء ثبات، وهو شيء ثمين موفور إن في ثبات خصائص المواد إن في ثبات طريقة النبات إن في بنية الأشياء إن في عملها بل وفي كل شيء، وقال سبحانه:
}إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ{ .
وبعد فأنت لأنك مؤمن لا بد من أن تأتي أفعالك مصدقة لأقوالك ويجب أن يأمن الناس جانبك، أي أنت مأمون فلا مفاجآت من قبلك ولا غدر ولا إيقاع ولا خيانة.
نسمع كل يوم آلاف القصص عن غدر الناس بعضهم لبعض، كما نسمع مئات القصص عن خيانة الشركاء لشركائهم، وعن خيانة الأزواج لزوجاتهم أو بالعكس، وعن أفعال يندى لها الجبين، وعن مقالب وغدر وإيقاع الأذى فليس هذا من أخلاق المؤمن لأن المؤمن جانبه مأمون.
عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "وَاللَّهِ لا يُؤْمِنُ وَاللَّهِ لا يُؤْمِنُ وَاللَّهِ لا يُؤْمِنُ" قِيلَ: وَمَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "الَّذِي لا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ" .
وبعد، فلا بد من سؤال وجيه يطرح نفسه: كيف نوفق بين اسم المؤمن وأن الله سبحانه وتعالى يقذف الخوف في قلوب العباد، هو مصدر أمن للخلق وفي الوقت نفسه قد يملأ قلوبهم خوفا؟!
}فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ{
}فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ{ .
وجواب ذلك دقيق جدا، فالإنسان إذا أمن اطمأن للدنيا ونسي الله عز وجل وركن إليها، فأعجبه ماله وأعجبته قوته أعجبته مكانته وأعجبه عيشه، وشعر أن الدنيا مديدة وأنه في مركز قوي، وبذا فقد أمن دنياه، واطمأن لها، وعاش في غفلة عن آخرته، فما علاجه؟ أن يقذف الله في قلبه الخوف، فإذا خاف هذا العبد التجأ إلى الله عز وجل ونجا من غفلته، فهو يخيفك كي يؤمنك ويفقرك كي يغنيك ويمنعك كي يعطيك ويضرك كي ينفعك ويُذِلك كي يعزك.
وبعد، ففي الفقرة السابقة إشارة إلى أسماء الله المزدوجة، ولقد قال العلماء فيما يتعلق بأسماء الله عز وجل المزدوجة: لا ينبغي إلا أن تذكر مثنى مثنى، فمثلا قالوا: ابتلاك ببعض صحتك، وأسقمك ليرحمك بعافيته، قال أبو الطيب:
لعل عتبك محمود عواقبه وربما صحت الأجسام بالعلل
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: يَا ابْنَ آدَمَ مَرِضْتُ فَلَمْ تَعُدْنِي، قَالَ: يَا رَبِّ كَيْفَ أَعُودُكَ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ، قَالَ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ عَبْدِي فُلانًا مَرِضَ فَلَمْ تَعُدْهُ، أَمَا عَلِمْتَ أَنَّكَ لَوْ عُدْتَهُ لَوَجَدْتَنِي عِنْدَهُ...." .
فإن أخذ بعض صحتك فذلك ليعوضك عما أخذ منك بشيء من رحمته، تزور المريض المؤمن فتجد نفسه صافيةً جداً ووجهه متألقاً إنه قريب من الله عز وجل، أسقمه قليلا وأعطاه الرحمة بديلا، فيأخذ ليعطي ويبتلي ليجزي يضر لينفع ويذل ليعز ويخفض ليرفع ويمنع ليعطي ويخيف ليطمئن، فإذا ابتعد الإنسان عنه ربه، وشرد عن شرعه امتلأ قلبه خوفا وهذا الخوف هو الدافع هو الذي يدفعه إلى العودة إلى رحاب الشرع ومحجة الإيمان.
إذاً أريد منك أيها القارئ الكريم أن تجمع بعض الآيات الكونية عن خلق الإنسان وعن خلق الحيوان وعن خلق النبات مما يبعث الطمأنينة في القلب، بعد إدراك ما فيها من إشارة إلى قدرة الله عز وجل بحيث توقظ فيك مواطن الاعتبار والاتعاظ فتزداد إيمانا "بالمؤمن".
وأنا أرشد القارئ الكريم إلى أن هذه الأسماء الحسنى ما هي إلا تعاريف وهي بذلك موضوعٌ صغير جدا. وأما كأدلة عليها من الكون فهي موضوع كبير جداً، موضوع له آفاق واسعة لا تنتهي لأن الكون كله يؤكد أسماؤه الحسنى.
وإذ أختم هذه المطالعة لهذا الاسم "المؤمن" فإليك هذه الخلاصة: الله مؤمن، يعرف ذاته، وأفعاله تأتي مصدقة لأقواله، فأنت إذا آمنت بالله، وقرأت كتابه لن تفاجأ بحوادث مخالفة لما في كتابه، الشيء الثابت يهبك الأمن من خلال خلقه، ومن خلال أفعاله فأنت مؤمن ينبغي أن تكون على صفتين أولاً: أن تكون أفعالك مصدقة لأقوالك وثانياً: أن يأمن الناس جانبك وإذا رأيت نقيض الأمن وهو الخوف فهو يخيفك كي يؤمنك يأخذ منك ليعطيك يخفضك ليرفعك يذلك ليعزك وهكذا فكل أمرك عنده عاقبته إلى خير