تدبرات فى إسم الله ( المتكبر ) الحلقة الثامنة

ملتقى الإيمان






المتكبر
نواصل رحلتنا في الأسماء الحسنى... أخي القارئ الكريم لا بد للمؤمن من أن يعرف الله، ومعرفة أسمائه الحسنى وصفاته الفضلى جزء من معرفته، إنه موجود وإنه واحد وإنه كامل، وإني أكرر فأقول: لا بد من معرفة أسمائه الحسنى وصفاته الفضلى لقول النبي عليه الصلاة والسلام: "إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا مِئَةً إِلا وَاحِدًا مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ" .
ولكن الحقيقة أن الله سبحانه وتعالى لا يعرفه إلا الله، هذه حقيقة يجب أن تكون واضحة لنا، لا يعرف الله إلا الله، ونحن إذا أردنا أن نعرفه فشأننا كمن يأخذ مخيطا ويغمسه في مياه البحر ثم لينزعه فلينظر بم يرجع؟ هذا تشبيه ورد في الحديث الشريف قال عليه الصلاة والسلام: "ما أخذت الدنيا من الآخرة إلا كما أخذ المخيط غمس في البحر من مائه" .
فإذا كانت معرفة الله سبحانه وتعالى بحراً فمعرفة الإنسان لله عز وجل لا تزيد على أن يحمل المخيط فيغمسه في مياه البحر، ولكن كما قال الإمام علي رضي الله عنه: "أخذ القليل خير من ترك الكثير".
وبعد: فهل بالإمكان أن نضرب بعض الأمثلة كي نتعرف إلى الله عز وجل؟ أيجوز أن نضرب أمثلة منتزعة من حياتنا من أجل توضيح بعض الحقائق؟
أجل، يجوز ولله المثل الأعلى، سآتيكم بالدليل، الدليل هو أن الله سبحانه وتعالى أراد أن يعرفنا بذاته فضرب المثل فقال:
}ضَرَبَ لَكُم مَّثَلاً مِنْ أَنفُسِكُمْ هَل لَّكُم مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن شُرَكَاء فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَاء تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ{ .
ربنا سبحانه وتعالى من أجل أن يعرفنا بأنه لا إله إلا الله ولا شريك له ولا أحد يشركه في حكمه ضرب هذا المثل، إذاً يمكن أن أضرب بعض الأمثال لمعرفة أسماء الله الحسنى، والسبب أن الاسم الذي نحن بصدده الآن هو المتكبر، وكلمة المتكبر إذا أطلقت على إنسان تنفر النفس منه، ولكن المتكبر هو الله سبحانه وتعالى.
إنسان بحاجة ماسة إلى مئة ألف ليرة ليجري بها عملية جراحية تحدد مصيره بالحياة، قال الأطباء: لا بد من إجراء هذه العملية ولا بد من هذا المبلغ، وهو لا يملكه، توجه إلى رجل من أقربائه فقال: أمعك هذا المبلغ؟ قال: نعم معي هذا المبلغ وهو كاذب، وتوجه إلى إنسان آخر من أقربائه وسأله السؤال نفسه قال: أمعك هذا المبلغ؟ قال: نعم معي وهو صادق، فالذي قال: نعم معي هذا المبلغ ولا يملكه فهذا الرجل يكون ناقصاً، ويدعي ما ليس عنده، والثاني لو أنه قال لقريبه: لا ليس معي شيء وتواضع يعد ناقصاً، بل يجب أن يقول: معي هذا المبلغ وخذه.
فالتكبر في الله كمال، وفي العبد نقص، لأن الله خالق الأكوان بيده ملكوت كل شيء، كن فيكون، وإليه يرجع الأمر كله، لا نهاية لعظمته، لا نهاية لكماله، لا نهاية لعلمه، لا نهاية لقوته، فإذا تكبر الله سبحانه وتعالى لأنه علم أنه عظيم، وهذا ينقلنا إلى اسم آخر من أسماء الله الحسنى وهو اسم المؤمن يعرف نفسه، إذا كنت تحمل أعلى شهادة في اللغة العربية وجلس إلى جانبك إنسان يحمل الإعدادية، وقرأ نصا على سمعك، فإذا في قراءته أغلاط كثيرة، وأنت مهما كنت متواضعا ألا تعرف أنك في اختصاصك متفوق، وتحمل الدرجة العلمية، وأن هذه القراءة كلها أغلاط؟ بلى تعرف هذا وذاك، ومعرفتك حقيقة مسلم بها.
إذا بادئ ذي بدء إذا قال الجبان: أنا شجاع، فهذه صفة نقص في حقه، وإذا قال البخيل: أنا كريم، فهذا الكلام نقص في حقه، وإذا قال الجاهل: أنا عالم، فهذا نقص في حقه، أما إذا قال العالم: أنا عالم وسأجيبك عن سؤالك رحمة بك فهذا كمال، وإذا قال الشجاع: أنا شجاع، وسأدافع عنك فهذا كمال، وإذا قال الكريم: أنا كريم، وخذ هذا المال فهذا كمال.
فعندما نقول: إن الله متكبر فهو اسم من أسماء الكمال، وعندما تقول: فلان متكبر فالتكبر صفة نقص في الإنسان، هذه الحقيقة الأولى.
المتكبر هو الذي يرى الكل صغيراً بالنسبة لذاته، ولا يرى العظمة والكبرياء إلا لنفسه، فينظر إلى غيره نظر الملوك إلى العبيد.
الله خالق السموات والأرض، بيده ملكوت كل شيء، إليه يرجع الأمر كله، إذا أراد شيئاً فإنما يقول له: كن فيكون، فإذا كان الله متكبراً فهو يعرِّف ذاته، وهذا يتصل باسم آخر من أسمائه الحسنى، ألا وهو المؤمن.
ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: الْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي وَالْعَظَمَةُ إِزَارِي فَمَنْ نَازَعَنِي وَاحِدًا مِنْهُمَا قَذَفْتُهُ فِي النَّارِ" .
وفي رواية أخرى: قصمته .
بعض العلماء يقول: "المتكبر من الكبرياء وذو الكبرياء هو الملك". قال تعالى:
}قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاء فِي الأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ{ .
فالمتكبر هو الملك الذي لا يزول سلطانه، والعظيم الذي لا يجري في ملكه إلا ما يريد، وهو الله الواحد القهار، هذا معنى من معاني المتكبر.
معنى آخر المتكبر من الكبير والعظيم لقوله تعالى:
}فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّيناً وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا هَـذَا بَشَراً إِنْ هَـذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ{ .
ومعنى أكبرنه أي: عظمنه، ومعنى قطعن أيديهن كما قال العلماء: جرحن أصابعهن.
الله متكبر أي: كبير ليس لكبريائه نهاية، وهو عظيم ليس لعظمته غاية، هذا المعنى الثاني من معاني المتكبر.
والمعنى الثالث: المتكبر هو الذي تكبر عن ظلم العباد، والمتكبر هو الذي انفرد بالكبرياء والملكوت، وتوحد بالعظمة والجبروت، والمتكبر هو الذي بيده الإحسان ومنه الغفران، والمتكبر الذي ليس لملكه زوال ولا لعظمته انتقال.
وبعد فمن معاني المتكبر، العظيم ذو الكبرياء، وأصل التكبر الامتناع وعدم الانقياد، الله سبحانه وتعالى طليق الإرادة، والمتكبر هو الذي تكبر عن كل نقص، وترفع عن كل نقص وتنزه عن كل ما لا يليق به المتعالي عن صفات خلقه أيضا.
إذا... لا بد من أن نعرف الله لأننا إذا عرفناه أطعناه فقال تعالى:
}إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ{ .
لا يصح عملنا إلا إذا عرفناه، ولا نسعد في الدنيا والآخرة إلا إذا صح عملنا، ثلاث فقرات لا بد من أن نعرفه، فإذا عرفناه أطعناه، وإذا أطعناه سعدنا بقربه في الدنيا والآخرة.
إذا... المتكبر المتعالي عن صفات خلقه كامل في ذاته، كامل في صفاته، كامل في أفعاله. النبي عليه الصلاة والسلام يقول:
"وَإِنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَيَّ أَنْ تَوَاضَعُوا حَتَّى لا يَفْخَرَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ وَلا يَبْغِي أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ" .
ورد في الآثر القدسي:
"أحب ثلاثا وحبي لثلاث أشد، أحب الطائعين وحبي للشاب الطائع أشد، وأحب المتواضعين وحبي للغني المتواضع أشد، وأحب الكرماء وحبي للفقير الكريم أشد وأبغض ثلاث وبغضي لثلاث أشد، أبغض العصاة وبغضي للشيخ العاصي أشد، وأبغض المتكبرين وبغضي للفقير المتكبر أشد، وأبغض البخلاء وبغضي للغني البخيل أشد".
وهل تصدق أيها القارئ الكريم أن النبي عليه الصلاة والسلام يقول:
"لا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ".
لماذا؟ قال: لأن الكبر يتناقض مع العبودية لله عز وجل، أنت عبد وهو رب، فإذا نازعته رداءه وإزاره قصمك كما ورد في الحديث الشريف الذي مر ذكره.
في الحديث الآخر يقول عليه الصلاة والسلام:
"مَنْ تَوَاضَعَ لِلَّهِ دَرَجَةً رَفَعَهُ اللَّهُ دَرَجَةً حَتَّى يَجْعَلَهُ فِي عِلِّيِّينَ وَمَنْ تَكَبَّرَ عَلَى اللَّهِ دَرَجَةً وَضَعَهُ اللَّهُ دَرَجَةً حَتَّى يَجْعَلَهُ فِي أَسْفَلِ السَّافِلِينَ" .
النبي عليه الصلاة والسلام حينما دخل مكة دخلها مطأطئ الرأس حتى كادت عمامته تلامس عنق بعيره تواضعا لله عز وجل.
قال عبد الله بن أبي بكر –كما يروي ابن إسحق-: "وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليضع رأسه تواضعا لله حين رأى ما أكرمه الله به من فتح، حتى إن عثنونه ليكاد يمس واسطة الرحل".
ودخل عليه مرة رجل فأخذته رعدة فقال:
"هون عليك فإني لست بملك إنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد".
تكبره وكبرياؤه ورفعته وعلاه ومجده وثناؤه وعلوه وبهاؤه كل ذلك إخبار عن استحقاقه لنعوت الجلال وتنزهه عن النقائص والآفات.
قال أحد العارفين بالله في المناجاة: يا رب بماذا أتقرب إليك، فوقع في قلبه أن يا عبدي تقرب إلي بما ليس في، فقال: يا رب وما الذي ليس فيك، قال: الذل والافتقار وهو من أقرب الأبواب إلى الله عز وجل ومن أنجحها أن تأتيه طائعاً.
أطع أمرنا نرفع لأجلك حجبنا فإنا منحنا بالرضا من أحبنـا
ولذ بحمانا واحتم بجنابنا لنحميك مما فيه أشرار خلقنا
وعن ذكرنا لا يشغلنك شاغل وأخلص لنا تلقى المسرة والهنا
وسلم إلينا الأمر في كل ما يكون فما القرب والإبعاد إلا بأمرنـا
كن مع الله تر الله معك واترك الكل وحاذر طمعـــك
ثم ضع نفسك بالذل لـه قبل أن النفس قهرا تضـعك
كيفما شاء فكن في يده لك إن فرق أو إن جمعك
في الورى إن شاء خفضا ذقته وإذا شاء عليهم رفعك
وإذا ضرك لا نافع من دونه والضر لا إن نفعك
وإذا أعطاك من يمنعه ثم من يعطي إذا ما منعك
ليس يوقيك أذاه أحد وإن استنصرت فيه شيعك
إنما أنت له عبد فكن جاعلا في القرب منه ولعك
فز بوصل إن تراه واصلا واقبل القطع إذا ما قطعك
كلما نابك أمر ثق به واحترز للغير تشكو وجعك
لا تؤمل من سواه أملا إنما يسقيك من قد زرعك
ليت لو تشعر ماذا كنت من قبل ما مولى الموالي اخترعك
كنت لا شيء وأصبحت به خير شيء بشرا قد طبعك
تابعا كن دائما أنت ولا تتمنى أنه لو تبعك
ودع التدبير في الأمر له واصنع المعروف مع من صنعك
واحتفظ حرمة من يبصر إن رمت فعلا أو تنادي سمعك
مطرف بن عبد الله قال: لأن أبيت نائما وأصبح نادماً أحب إلي من أن أبيت قائماً وأصبح معجباً، وفي الحديث الذي رواه البزار بسند جيد عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو لم تذنبوا لخشيت عليكم ما هو أكبر منه العجب".
طبعا لا يعرف اسم المتكبر إلا من جال فكره في الكون، يقول بعض العلماء: "إن في الكون من المجرات ما يزيد على مليون مليون مجرة، وفي كل مجرة ما يزيد عن مليون مليون نجم، وإن بين الأرض والقمر ثانية ضوئية واحدة، والضوء يقطع في الثانية ثلاثمئة ألف كيلو متر، وبين الأرض والشمس ثماني دقائق، وبين الأرض وأقرب نجم ملتهب أربع سنوات ضوئية"، فإذا أردنا أن نقطع هذه المسافة بسيارة لاحتجنا إلى ما يقرب من خمسين مليون عام، ذلك إذا ركب الإنسان مركبة واتجه نحو أقرب نجم ملتهب في الكون من الأرض، يحتاج إلى ما يقارب خمسين مليون عام، فما قولكم بنجم القطب الذي يبعد عنا أربعة آلاف سنة ضوئية؟ تضرب بألف، أي: خمسين مليون ضرب ألف أي: خمسين ألف مليون عام لنجم القطب، أربعة آلاف سنة ضوئية، فما قولكم بالمجرة المسلسلة تلك المجرة الصغيرة التي تبعد عنا مليوني سنة ضوئية، فما قولكم بأحدث مجرة اكتشفت تبعد عنا عشرين مليار سنة ضوئية؟ قال تعالى:
}فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ، وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ{ .
يقول الإنسان: أنا، من أنت؟ تأمل في هذه المسافات، هذه المجرة كانت في هذا المكان قبل عشرين مليار سنة ضوئية وهي الآن لا يعلم مكانها إلا الله.
ذكرت من قبل في دراسة بعض الأسماء الحسنى: أن بين الأرض والشمس مئة وستة وخمسين مليون كيلو متر، وأن الشمس تكبر الأرض بمليون وثلاثمئة ألف مرة، وأن في برج العقرب نجماً صغيراً أحمر اللون متألقاً اسمه قلب العقرب يتسع للشمس والأرض مع المسافة بينهما، إذا الله المتكبر، فخلقه مظهر لكبريائه.
لقد ذكرت وأكرر أن الكون مظهر لأسماء الله الحسنى وصفاته الفضلى، لا تدركه الأبصار، ولكن الكون بين أيدينا وهو يجسد ويظهر عظمة الله عز وجل قال تعالى:
}سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ{ .
من منا يصدق أن في اللقاء الزوجي الواحد يوجد ثلاثمئة مليون حوين تنطلق من الرجل، وعلى كل حوين ملايين المعلومات المبرمجة، وهذه المورثات لا ترى إلا بالمجهر، خلايا الدماغ مئة وأربعون مليار خلية سمراء اللون لم تعرف وظيفتها بعد، في الشبكية مئة وثلاثون مليون عصية ومخروط من أجل تحقيق الرؤية الدقيقة، في العصب البصري تسعمئة ألف عصب.
من منا يصدق أن الإنسان إذا ذهب إلى شمال الأرض إلى القطب المتجمد الشمالي حيث الحرارة سبعون تحت الصفر بإمكانه أن يرتدي معطفاً يلف به جسمه جيداً ليقيه قسوة البرد هناك، ويستعين بكل ما يقيه البرد، وأن يضع الأشياء التي تقيه البرد، لكن ليس بإمكانه أن يغطي عينيه؟ فإذا لامس الهواء الخارجي ماء العين فلن يتجمد البتة، فمن وضع في ماء العين مادة مضادة للتجمد؟ هو المتكبر لم ينسَ هذه، إذا عاش الإنسان هناك بلا هذه المادة يفقد بصره فورا، هو المتكبر، المنزه عن النقائص فعلا وصفة، تفكر في خلق الله قال تعالى:
}إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ، الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ{ .
من منا يصدق أن في دماغ الإنسان جهازا بالغ التعقيد يحسب تفاضل وصول الصوتين إلى الأذنين، يصل الصوت إلى الأذن اليمنى إذا كان الصوت من جهة اليمين قبل الأذن اليسرى بواحد على ألف وستمئة وخمسة وعشرين جزءاً من الثانية، وهذا الجهاز في الدماغ يحسب هذا التفاضل ويعرف الإنسان عندئذ جهة الصوت، ولولا هذا الجهاز لما عرفت جهة الصوت أبدا، حقا هو المتكبر.
أسماء الله عز وجل نعرفها من خلال الكون، من خلال هذه الآيات الدالة على عظمته، كل منا عنده مستودع للوقود السائل، فسعة المتر المكعب خمسة براميل من منا يصدق أن القلب يضخ في اليوم الواحد ثمانية أمتار مكعبة؟، وأن قلب الإنسان الذي يعيش في عمر متوسط يضخ ما يملأ أكبر ناطحة سحاب في العالم؟!..
أتحسب أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر
من منا يصدق أن في الكبد وظائف تزيد على خمسة آلاف وظيفة؟! وأن الإنسان دون كبد يعيش ثلاث ساعات فقط؟!.. إذا أردت أن أمضي في الحديث عن معجزات الله عز وجل وعن إعجاز الله في خلقه فالأمر لا ينتهي، لكن الله تعالى لخص هذا كله حيث قال:
}وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ{ .
جسمك –عزيزي القارئ- جهاز إيضاح، أعضاء جسمك على اختلافها أعظم وسيلة إيضاح مستمرة، لو أمضيت في حياتك الدنيا كلها تفكر في عظمة خلق الإنسان لما عرفت الله عز وجل حق المعرفة، ولكن الله سبحانه أحالك لتعرف عنه بعض المعرفة إلى ذاتك فقال: (وفي أنفسكم أفلا تبصرون).
هذا الذي يتكبر وهو من بني البشر كم هو ظالم لنفسه؟ الله سبحانه وتعالى تلطف بنا قبل أسابيع حينما جاءت هزة أرضية خفيفة جداً، لو أنها كانت أشد لكانت أخبارنا في الآفاق، مثلا: ثمانون ألف قتيل سبعون ألف جريح تحت الأنقاض، أبنية متهدمة، لكنها كانت خفيفة حسب مقياس ريختر دون خمس درجات، ولو كانت خمس درجات حسب مقياس ريختر لكنا غير موجودين في هذا المجلس، فعلى أي شيء نتكبر، نحن نحيا ونعيش بلطف الله عز وجل، مدن رائعة، مدن جميلة جدا أصبحت أثراً بعد عين في ثوانٍ فعلام الكبر؟
حينما انحبست أمطار السماء، وأصبحت كأس الماء عزيزا، وهُدِّدْنا بكأس الماء أن نفقدها، فهل في الأرض كلها جهة تستطيع أن تتخذ قراراً بإنزال الأمطار؟ لكن الله سبحانه وتعالى تلطف بنا وأكرمنا وأرانا من آياته هو المتكبر من نحن؟ هذه المركبة التي سموها "اشلنجر" المتحدي اسمها فيه سوء أدب مع الله عز وجل، فيها سبعة رواد فضاء معهم رائدة فضاء أيضا لتنجب ولدا في الفضاء، الخطة كانت تقضي أن تحمل هذه المرأة من أحد هؤلاء الرجال، وأن تنجب مولودا في الفضاء، ما هي إلا سبعون ثانية بعد إطلاقها حتى أصبحت كرة من اللهب، علام الكبر؟ من أنت؟ أنت كن فيكون زل فيزول لا شيء، لذلك:
مالي سوى فقري إليك وسيلة فبالافتقار إليك ربي أضرع
مالي سوى قرعي لبابك حيلة فلئن رددت فأي باب أقــرع
أنت في أعلى درجات العبودية مفتقر إلى الله عز وجل، وأنت في أوج قوتك وأوج صحتك وأوج علمك يجب أن تكون مفتقرا إلى الله سبحانه وتعالى، إذا أقدمت على عمل فقل: اللهم إني تبرأت من حولي وقوتي، والتجأت إلى حولك وقوتك، ياذا القوة المتين.
فقد كان صلى الله عليه وسلم إذا غزا قال: "اللهم أنت عضدي وأنت نصيري بك أحول وبك أصول وبك أقاتل" .
من منا يصدق (أذكر هذه الأمثلة لأوقظ بعض الناس من غفلتهم وشرودهم فإنه لا يصح للإنسان أن يتكبر فإذا تكبر فهو أحمق) أن نقطة من الدم لو تجمدت في بعض شرايين المخ في مكان يصاب بالشلل، كان معززاً مكرماً، خفيفاً ظله على الآخرين، وفجأة أصبح جسدا ملقى على السرير، واهنا خائرا، فأقرب الناس إليه يتمنى موته، على ماذا الكبر؟ هذه النقطة لو تجمدت في مكان آخر لفقد الإنسان ذاكرته.
حدثني أخ كريم توفي والده، وقبل وفاته فقد ذاكرته، خرج من معمله وبيته في حي المهاجرين، وبقي يبحث عن بيته نصف ساعة لم يعرف بيته، من أنت بلا ذاكرة؟ إذا فقدت ذاكرتك فأنت ذرة هباء في الهواء.
دخل ابن على أبيه وهو صيدلي قال: من أنت؟ قال: أنا ابنك يا أبت، قال: لا أعرفك، إذا نقطة ما في مكان بالدماغ أفقدته ذاكرته، وإذا وقعت بمكان غيره أصبح لا يبصر، كل ما في الدنيا من جمال توارى واختفى، فلا ألوان، ولا جبال خضراء، ولا بحار زرقاء، ولا طفل الجميل، لقد توارى وراء ظلمة عينيه كل الجمال.
سمعت أن أحد الأدباء كان كفيف البصر، وكان يقضي الصيف في النمسا في أجمل مكان، أنا أقول: والله لو قضى الصيف في الصعيد في غرفة مكيفة فهو كما كان بالنمسا تماما، لأنه لا يرى شيئاً.
فالإنسان إذا غض بصره عن محارم الله، وإذا باتت هذه العين خاشعة لله، فأغلب الظن أن الله سبحانه وتعالى لا يفجعه بها.
أحد علماء دمشق الكبار علّم ثلاثة أجيال، كان إذا رأى أحداً في الطريق يقول له: يا بني كنت أنت تلميذي، وكان أبوك تلميذي وكان جدك تلميذي، بدأ بالتعليم في السنة الثامنة عشرة من عمره وتوفي في الثامنة والتسعين، وكان مستقيم القامة حاد البصر مرهف السمع وأكرمه الله بأن زوجته عاشت مثله، كان يقال له: يا سيدي! ما هذه الصحة؟ يقول: يا بني حفظناها في الصغر فحفظها الله علينا في الكبر، من عاش تقياً عاش قوياً، ألا تحب أن يكون خريف عمرك زاهياً جداً؟ إذا أردت أن تكون كريما على الله فاتقِ الله، إذا أردت أن تكون أقوى الناس فتوكل على الله، إذا أردت أن تكون أغنى الناس فكن بما في يدي الله أوثق منك بما في يديك.
انظر إلى معامل كريات الدم الحمراء في نقي العظام هناك مرض خطير اسمه فقر الدم اللامصنع، هذه الخلايا هذه المعامل في نقي العظام تصنع في كل ثانية مليونين ونصف المليون كرية دم حمراء، أحيانا تتوقف عن العمل بلا سبب وهذا المرض اسمه فقر الدم اللامصنع لماذا الكبر؟ أنت مليون خطر يهددك، ماذا تفعل؟
أعرف إنساناً كان من أولي اليسار وله مكانة مرموقة في البلد فقد بصره فدخل عليه أحد أصدقائه فقال له: والله يا فلان أتمنى ألا أحمل هذه الدكتوراه، وألا أكون في هذا المنصب، وألا أكون في هذه البحبوحة، وأن أقبع على الرصيف أتكفف الناس، وأن يرد الله إلي بصري، هذه نعمة يجب أن نحفظها بطاعة الله عز وجل.
من أين يأتي هذا الورم؟ الإنسان بكامل صحته فجأة تضطرب الخلايا في نموها فتكون القاضية!! هاتان الكليتان أحيانا تتوقفان فجأة عن العمل، مرض اسمه هبوط مفاجئ في وظائف الكليتين، إذن هليخ أن يغسل كليتيه في المستشفى مرتين مل أسبوع، وهذا أمر لا يحتمل... إذاً علام التكبر؟ هل تملك كليتيك؟ هل تملك قلبك؟ هل تملك دسامات القلب؟ هل تملك الشريان التاجي المغذي للقلب؟ هل تملك أن تبقى الأوعية في الدماغ واسعة لا تضيق؟ هل تملك أعصاب الحس ألا تتلف وألا تلتهب؟ هل تملك ألا تتكلس مفاصل الإنسان فيصبح قطعة واحدة؟
هناك أمراض كثيرة جدا فعلام التكبر؟ هل تملك هذا اللسان؟ وأنت نائم يزداد لعابك في فمك فيذهب تنبيه إلى الدماغ بأن كمية اللعاب في الفم قد ازدادت يجب تفريغها، فيأمر الدماغ لسان المزمار فيفتح الطريق إلى المري فيسقط اللعاب في المريء وأنت نائم، كذلك وأنت نائم يقلبك الله ثمانيا وثلاثين مرة وأنت لا تدري ذات اليمين وذات الشمال لكي لا تقع عن السرير هذه نعم الله عز وجل، تأمل فيها فتحب الله عز وجل وتبادر إلى طاعته، لا تنظر إلى صغر الذنب، ولكن انظر على من اجترأت.
فهذا ثقب بوتال في القلب لو لم يغلق ماذا نفعل؟ يحتاج الابن عند ولادته لمبلغ ضخم أجرة عمل جراحيمن أجل إغلاق هذه الفتحة، إنها فتحة بين الأذينين، هكذا قال لي بعض الأطباء، فتأتي جلطة تغلقها، يد مَنْ داخل القلب؟ يد مَنْ جاءت وأغلقت هذه الفتحة المعروفة بـ"ثقب بوتال"؟ لو بقيت مفتوحة لبقي الطفل أزرق اللون، لأن الدم ينتقل من أذين إلى أذين ولا يتصفى عن طريق الرئتين.
الإنسان يأتيه مولود كامل الخلق فيقول: يا رب لك الحمد، أما لو كانت فيه زرقة لاحتاج إلى عمل جراحي يكلف مبلغا كبيرا، فماذا نفعل؟ علام الكبر؟
الله عز وجل قادر أن يجعلك تبيع بيتك ومتجرك من أجل عملية جراحية واحدة، علام الكبر؟
أنا أؤكد على موضوع الكبر فهو في حق الله كمال، وفي حق العبيد نقصان.
أعرف صديقاً لي توفي بمرض اسمه نقص في الصفيحات الدموية، الإنسان من دون صفيحات دموية ينزف دمه كله من ثقب إبرة، يوجد في الدم هرمون للتجلط وهرمون للتميع، ونتيجة توازن هرمون التميع والتجلط يبقى هذا الدم بهذا الشكل المائع السائل، لو زادت نسبة هرمون عن الهرمون الآخر لأصبح الدم وحلاً في الأوعية ولو زاد الثاني لأصبح الدم مائعا، من الذي نظم؟ وأنت نائم ومرتاح، ربنا عز وجل لم يوكل الأمر إليك بل أراحك منه.
فكرت بعملية التنفس، فلو أن الإنسان يكلف بالتنفس، لما استطاع أن ينام فيلغى النوم كليا.
تكلمت مع أخ طبيب فقال لي: هذا مرض يقع أحيانا، بسبب تعطل مركز التنبيه النوبي في البصلة السيسائية، وله دواء الآن راقٍ جدا ومرتفع الثمن كثيرا، يجب أن يأخذ كل ساعة قرصا من هذا الدواء على مدى ساعات الليل، فيضع المنبهات لتوقظه، ويستيقظ بواسطة كل ساعة ليأخذ قرص الدواء، ثم يعود إلى النوم، أهذه حياة؟ إذا عملية التنفس جارية وأنت لا تدري، فنم وارتح، التنفس بيد الله وكذلك القلب والرئتان والحركات، فالحديث عن إعجاز خلق الإنسان يطول، فكلما ازداد الإنسان علماً ازداد تواضعاً، والدليل قول الله عز وجل: (إنما يخشى الله من عباده العلماء) فالعلماء وحدهم ولا أحد سواهم يخشى الله عز وجل، فكن عالماً أو متعلماً أو مستمعاً أو محباً، ولا تكن الخامسة فتهلك.
يقول الإمام الغزالي: "العلم لا يعطيك بعضه إلا إذا أعطيته كلك، فإذا أعطيته بعضك لم يعطك شيئاً"، فما من قيمة اعتمدها الله عز وجل بين خلقه إلا قيمة العلم، هناك مجموعة قيم يتفاضل بها الناس فيما بينهم المال والصحة والوسامة والقوة والذكاء، أما قيمة العلم فقد اعتمدها الله عز وجل في القرآن فجعلها قيمة وحيدة للترجيح بين خلقه فقال:
}أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ{ .
فتبارك الذي قسم العقل بين عباده أشتاتا، إن الرجلين ليستوي عملهما وبرهما وصومها وصلاتهما، ويختلفان في العقل كالذرة جنب أحد، وما قسم الله لعباده نصيباً أوفر من العقل واليقين.
لذلك "ما من يوم ينشق فجره إلا وينادي: يابن آدم أنا فجر جديد وعلى عملك شهيد فتزود مني فإني لا أعود إلى يوم القيامة"
وصالح المري روى عن الحسن أنه وصف الإنسان بأنه بضعة أيام كلما انقضى يوم انقضى بضع منه.
فالمتكبر هو الله وهي صفة كمال فيه، أما التكبر عند الإنسان فهي صفة غباء وجهل ونقص فيه فالحذر، الحذر، ورحم الله امرأ عرف حده فوقف عنده.
0
1K

يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.

تسجيل دخول

خليك أول من تشارك برأيها   💁🏻‍♀️