تدبرات مع إسم الله ( الغفار )

ملتقى الإيمان






الغفار
رحلتنا مع أسماء الله الحسنى طويلة فلا بد من أن نقيل، وفي يستاننا دوحة وارفة نقيل تحتها اسم "الغفور" ولقد ورد هذا الاسم في القرآن الكريم في صيغ ثلاث: الصيغة الأولى ورد على صيغة غافر قال تعالى:
}غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ{ .
وورد أيضا على صيغة ثانية وهي الغفور، قال تعالى:
}وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ لَّن يَجِدُوا مِن دُونِهِ مَوْئِلاً{ .
وقال تعالى: }وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ{ .
وقال تعالى:
}نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ{ .
وقال تعالى:
}قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ{ .
إلى آخر الآيات التي ورد فيها هذا الاسم على صيغة غفور.
الصيغة الثالثة وردت غفار على وزن فعال قال تعالى:
}وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى { .
وقال تعالى:
}فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً، يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَاراً، وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً{ .
إذا غافر وغفور وغفار وردت هذه الأسماء كلها في القرآن الكريم، وهذه الأسماء كلها مشتقة من مصدر واحد وهو المغفرة.
قال بعض العلماء: "الإنسان إذا عصى الله عز وجل وصف في القرآن بأنه ظالم وبأنه ظلوم، وبأنه ظلام" قال تعالى:
}ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ{ .
وقال تعالى:
}إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً{ .
وقال تعالى:
}قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ{ .
فالمسرف ظلاَّم على صيغة المبالغة.
فإذا كان العبد ظالما فالله غافر، وإذا كان ظلوما فالله غفور، وإذا كان ظلاما فالله سبحانه وتعالى غفار، بأية صفة أتى بها العبد المعصية فهناك اسم لله عز وجل يقابل هذه المعصية.
النقطة الدقيقة في هذا الاسم أن صفات الإنسان متناهية، معنى متناهية: أن الإنسان إذا فعل ذنبا فذنبه له حجم، وقع في معصية، ومعصيته لها حجم أيضا، فمهما تكن المعاصي والذنوب فإنها متناهية تنتهي عند حد، لكن مغفرة الله عز وجل ليست متناهية لا حدود لها، وغير المتناهي يغلب المتناهي، إذا، لا يقنط من رحمة الله عز وجل إلا الكفور، لا يقنط من رحمة الله عز وجل إلا الجهول، لا يقنط من رحمة الله عز وجل إلا الجحود.
إذا كان ذنبك متناهياً ومغفرة الله عز وجل ليست متناهية، فمن الغباء والحمق والجهل والجحود وقلة العلم أن تيأس من رحمة الله، لذلك، فاليائس كافر، اليائس جاهل، اليائس جاحد.
هناك شيء آخر بالنسبة لهذا الاسم أن الآيات التي وردت في هذا الاسم وردت مرة بصيغة الماضي، قال تعالى:
}قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنْ الْخُلَطَاء لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ، فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ{ .
ووردت أيضا بصيغة الفعل المضارع قال تعالى:
}إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً{ .
}وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ{ .
ووردت بصيغة الأمر، قال تعالى:
}رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ{ .
ووردت بصيغة المصدر قال تعالى:
}آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ{ .
}وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ الْمَثُلاَتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ{ .
أي يغفر لك ما مضى، ويغفر لك الآن، ويغفر لك في المستقبل، وهو ذو مغفرة، بأي زمن كنت هو غفار، لأي ذنب فعلت هو غفار، إن كان الإنسان ظالما فالله غافر، وإن كان ظلوما فالله غفور، وإن كان ظلاما فالله عز وجل غفار وإن فعل الذنب في الماضي غفر الله له، وإن فعله الآن يغفر الله له، وما سيفعل من ذنب في المستقبل فإن الله عز وجل يغفر بعد الانكسار والدعاء، بأي شكل وبأي زمن فإن الله سبحانه وتعالى غفور رحيم.
أسوق هذا الكلام ليعلم الأخ المؤمن أنه لا يقنط من رحمة الله عز وجل إلا اليائس، إلا الجاهل، إلا الجاحد إلا الكافر.
ولكن عزيزي القارئ: إذا توهم أحد أن غافراً اسم فاعل، وأما غفور صيغة مبالغة لاسم الفاعل، وأما غفار صيغة مبالغة المبالغة لاسم الفاعل، (والحقيقة التي أتمنى أن تكون واضحة لدى القراء الكرام هي أن أسماء الله عز وجل لا تتفاوت أبدا) .
إذاً كيف جاء هذا الاسم على هذه الصيغ؟ فالسؤال وجيه.
إذا تناول إنسان الطعام يقال له في اللغة: آكل، إذا جلس إلى الطعام فأكل خمسة أرغفة يقال: له أكول على وزن فعول، يقال له: أكول إذا تناول كمية كبيرة، إذا تناول وجبة خفيفة، ولكن أكل في اليوم خمس مرات يقال له: أكول، إذا صيغة المبالغة ماذا تفيد؟ تفيد النوع وتفيد العدد، الحقيقة الأولى أن أسماء الله عز وجل لا تتفاوت، كلها في مستوى واحد.
الإنسان كان في مستوى وارتقى إلى مستوى أعلى، ثم ارتقى إلى مستوى أعلى، كان ظالماً، ثم فعل ظلماً أشد فأصبح ظلوماً، فعل ظلما أشد وأشد صار ظلاماً، أما هذا المعنى لا يليق بكمال الله عز وجل أبدا، لو أن فلاناً ارتكب سيئة غفرها الله له فهو غافر، فلان الآخر غفر الله له، فلان الثالث غفر الله له، فلان العاشر غفر الله له، والعباد كلهم لو أذنبوا غفر الله لهم، جاءت صيغة غفار لا من حيث النوع، ولكن من حيث العدد، لو قلت: فلان ليس أكولا، إذا نفيت عنه أنه أكول، فهل نفيت عنه أنه يأكل؟ لا، إذا قلت: وما ربك بظلام للعبيد، قد يقول قائل معلوماته محدودة وأفقه ضيق: الله ينفي عن نفسه مبالغة الظلم، ولا ينفي عن نفسه الظلم، فإذا قلت عن إنسان: ليس أكولاً فليس معنى هذا أنه ليس آكلاً، قال العلماء: هذا لا يليق بكمال الله عز وجل لأن صيغة المبالغة بأسماء الله لا تعني الكم، بل تعني العدد، فكل عباده لو أنهم أذنبوا فالله عز وجل غفور، فصيغة فعول تعني المبالغة لا في النوع لكن في العدد، والدليل قوله تعالى:
}مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ{
الظلام في حق الله تعني أنه لا يظلم، فجميع عباده ينعمون بعدالته.
شيء آخر: المغفرة في اشتقاقها اللغوي تعني الستر، المغفر: زرد من الدرع يلبس تحت القلنسوة ولكن ربنا عز وجل كما يتضح للقارئ الكريم ذكر بعض المعاصي، فقال مثلاً عن سيدنا موسى:
}قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ{ .
وقال مخاطبا سيدنا النبي عليه الصلاة والسلام:
}لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً{ .
فلا يستقيم معنى المغفرة –هنا- بمعنى الستر، لكن يستقيم بمعنى الصفح والعفو، والعفو والصفح يلغيان الشيء بمعنى واحد، فالمعنى الأول للمغفرة: الصفح والعفو، أي: عدم إيقاع العقوبة، أي أن الله عز وجل غفور يمكن أن يعفو عنك فلا يوقع عليك العقاب.
المشكلة الأساسية هو أننا إذا قرأنا القرآن قد نقرأ بعضه وننسى بعضه الآخر، قال تعالى:
}قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ{ .
يجب أن لا تقف عند هذا الحد في الآية، بل تتابع ما بعدها قال تعالى:
}وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ{ .
أي: غفور لمن أقبل، غفور لمن تاب، غفور لمن رجع، غفور لمن أناب، غفور لمن أصلح، غفور لمن استغفر، أما أن يقيم الإنسان على معصية، وينوي أن يبقى عليها، ويقول: الله غفور رحيم فإن هذا من السذاجة والجهل وعدم الفهم:
}نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ، وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمَ{ .
أي: إما أن تأتيه طائعا، وإما أن يدفعك إلى أن تأتيه، ربنا عز وجل قال في بعض الآيات: (ثم تاب عليهم ليتوبوا) وفي بعضها }فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه{ ما معنى توبة الرب إذا سبقت توبة العبد؟ وما معنى توبة الرب إذا تأخرت عن توبة العبد؟
قال بعض العلماء: "إذا سبقت توبة الرب توبة العبد أي: إن الله عز وجل ساق له من الشدائد والمحن والمصائب ما دفعه إلى التوبة، فما أكثر التائبين على أثر مصيبة نزلت بهم"، الله عز وجل تاب على العبد قبل أن يتوب، أي: ساق إليه الشدائد والمحن والبلايا بحيث يحمله على التوبة، وإذا قال الله عز وجل:
}ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً، وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَّمْدُوداً، وَبَنِينَ شُهُوداً، وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيداً{ .
فحيثما جاءت كلمة ذرني يعني يا محمد إن لم يستجب فلان لك دعه لي، فأنا أسوق له من الشدائد ما أحمله على التوبة، وهذه آيات دقيقة جدا، فالله عز وجل من رحمته أن يسوق لك إنساناً لطيفاً يقدم لك نصيحة هادئة رقيقة بينك وبينه، يدعمها بالآيات والأحاديث والقصص فأنت إما أن تستجيب وإما ألا تستجيب، فإن لم تستجب فالله سبحانه وتعالى عنده من الوسائل والأساليب والأدوية والطرائق والمضايقات والشدائد ما يدفعك إلى بابه دفعا، فأيهما أرقى لك أن تأتيه طائعا أو أن تأتيه بعد العصا، هذا ما فسره النبي عليه الصلاة السلام:
"عجبت لأقوام يساقون إلى الجنة في السلاسل وهم كارهون" .
عجب ربنا من قوم يقادون إلى الجنة في السلاسل، "كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى، قيل: ومن أبى؟ قال: من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى" .
فأنت أخوف ما يجب أن تخاف منه، أن تدعى إلى الله عز وجل دعوة هادئة لطيفة فيها ستر بينك وبين أخ كريم ينصحك بغض البصر، بتحرير الدخل، بترك الظلم، بترك العدوان، ثم لا تستجيب له فإنك إن لم تستجب فالله سبحانه وتعالى كفيل أن يسوق للإنسان من الشدائد ما يحمله على التوبة، هذا معنى التوبة إذا سبقت توبة الرب توبة العبد (تاب عليهم ليتوبوا)، أما إذا جاءت توبة الرب بعد توبة العبد فهي قبول التوبة }فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ{ أي: يقَبِلَ توبتهم.
إن الإنسان إذا قرأ عن المغفرة فإنه يجد الله واسع المغفرة، فقد صح عن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال فِيمَا رَوَى عَنِ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّهُ قَالَ: "يَا عِبَادِي! إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلا تَظَالَمُوا، يَا عِبَادِي! كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلا مَنْ هَدَيْتُهُ فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ، يَا عِبَادِي! كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلا مَنْ أَطْعَمْتُهُ فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ يَا عِبَادِي! كُلُّكُمْ عَارٍ إِلا مَنْ كَسَوْتُهُ، فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ ... يَا عِبَادِي! لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ، يَا عِبَادِي! إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا، فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلا يَلُومَنَّ إِلا نَفْسَهُ". .
معنى هذا الحديث القدسي أن الإنسان إذا عاد إلى الله طواعية ضَمِنَ حفظ الله له وتأييده وإكرامه، فإذا أبى ولم يستجب عندئذ سيأتيه العذاب من حيث لا يشعر لذلك ربنا عز وجل يقول:
}يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ{ .
}يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ، إِلاَّ تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ{ .
إن لم تأته طائعا دفعك إلى بابه دفعاً.
عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: نزل جبرئيل عليه السلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم في أحسن صورة لم ينزل في مثلها قط ضاحكا مستبشرا فقال: السلام عليك يا محمد قال: وعليك السلام يا جبريل قال: إن الله بعثني إليك بهدية كنوز العرش أكرمك الله بهن قال: وما تلك الهدية يا جبريل فقال جبريل: قل يا من أظهر الجميل! وستر القبيح! يا من لا يؤاخذ بالجريرة! ولا يهتك الستر! يا عظيم العفو! يا حسن التجاوز! يا واسع المغفرة! يا باسط اليدين بالرحمة! يا صاحب كل نجوى! ويا منتهى كل شكوى! يا كريم الصفح! يا عظيم المن! يا مبتدئ النعم قبل استحقاقها! يا ربنا! ويا سيدنا! ويا مولانا! ويا غاية رغبتنا! أسألك يا الله أن لا تشوي خلقي بالنار.
دققوا في هذا الدعاء: يا من أظهر الجميل، وستر القبيح، أي قبيح هذا؟ خواطرك، تأتيك خواطر لا يعلمها إلا الله خاطر قبيح جدا خاطر معصية، قد يأتي في بالك خاطر لا يرضي الله عز وجل، لكن ألا ترى أن الله سبحانه وتعالى جميل الستر كل خواطرك محجوبة عن الخلق، لك أن تفكر بما تشاء ولك أن يخطر على بالك ما تريد وأنت عند الناس في أعلى مكانة، لذلك قال عبد الله بن محمد القحطاني في نونيته:
والله لو علموا قبيح سريرتي لأبى السلام علي من يلقاني
ولأعرضوا عني وملوا صحبتي ولبؤت بعد كرامة بهوان
لكن سترت معايبي ومثالبي وحلمت عن سقطي وعن طغياني
فلك المحامد والمدائح كلها بخواطري وجوارحي ولساني
شريكان، لو اطلع الأول على ما يدور في خلد الثاني لفك معه الشركة، لو اطلع الزوج على ما يدور في بال زوجته لطلقها، ولو اطلعت الزوجة على ما في ذهن زوجها لتركته، لو اطلع الأب على مايدور في بال ابنه عند تفكيره بموت أبيه لكرهه، يقول الابن لأبيه أحيانا: أعطني يدك لتقبيلها وفي باله خاطر آخر، لو اطلع الأب على ما يجول في خاطر ابنه لكرهه وطرده. فالله عز وجل يستر جميل الستر هذا معنى قول النبي عليه الصلاة والسلام حينما دعا ربه قال: يا من أظهر الجميل وستر القبيح.
أي أنت في حصن حصين، فكل خواطرك الداخلية وكل المشاعر وكل الأفكار وكل الطموحات، هذه كلها مستورة، فهذا من معنى المغفرة أي: ستر عن الناس العيوب الفكرية.
وهناك شيء آخر: فالإنسان دون جلد قبيح جداً، ولو رأيت إنساناً على مستوى العضلات فقط لرأيته مخيفا، إنها عضلات متداخل بعضها مع بعض، لو رأيت عضلات الوجه وحدها لوليت من الإنسان فراراً، عشرات العضلات المتداخلة والمستقيمة والمائلة لكن يأتي هذا الجلد فيجعل الوجه جميلاً، فربنا عز وجل ستر العضلات بالجلد، وهناك فتحات بالجسم كلها مستورة وما تراه هو المنظر الأنيق الجميل هذا من معنى: يا من أظهر الجميل وستر القبيح، الوجه الجميل، والسوءة القبيحة.
والمعنى الثالث: أن المؤمن في الجنة يستر الله عنه ذنوبه، فلو أن المؤمن اطلع على جاهليته لاحترق، وهذا شيء فوق طاقة البشر لأنه مع الكمال المطلق، لو أن مؤمناً تاب إلى الله توبة نصوحاً وغفر الله له، فإذا تذكر ما فعل في الجاهلية قضم أنامله على تفريطه، فمن رحمة الله بالمؤمن أنه يستر عنه عيوبه، وهذا ما فسره بعض العلماء في سر فناء الجسد، إن هذه الصور في الذاكرة فإذا فني الجسد بقيت النفس، النفس طاهرة مقبلة مطهرة معطرة مرتبطة بالكمال الإلهي، أحد المؤمنين له جاهلية وتاب، إذا تذكر جاهليته، وكيف كان وفي أي مستوى كان وفي أي منطق وفي أية مخالفات وفي أية معاصٍ يحترق، يحرقه كماله، هذا في الدنيا.
قالوا: لا بد للمؤمن من ذلة أو قلة أو علة، فما الذلة؟ هذه ذلة الجاهلية التي كانت قبل أن يتوب إلى الله عز وجل، لو أن الإنسان إذا تاب من معصيته وشفيت نفسه منها إذا تذكرها فإنها تحرقه أسفا لتفريطة في الدنيا، فمن رحمة الله بالمؤمنين أنه في الجنة يستر الله عنه ذنوبه كلها، أبدا لا يرى شيئاً. ربنا عز وجل في سورة غافر قال:
}غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ{ .
قال بعض المفسرين: "غافر الذنب إكراما، وقابل التوب إنعاما، وشديد العقاب بالكافرين، وذي الطول أي: ذي العطاء الكبير للسابقين والمقربين".
في الآية تجد ثلاثة أسماء من أسماء الله الحسنى للمؤمنين واسما واحد للكافرين، فربنا عز وجل غافر الذنب، وقابل التوب، ذي الطول شديد العقاب، فقال: غافر الذنب لمن ظلم نفسه، وقابل التوب للمقتصد، وذي الطول للسابق، فبعض المؤمنين مقصرون مخالفون، بعضهم مستقيمون، بعضهم متفوقون، فربنا عز وجل للمقصرين غافر الذنب وللمقتصدين قابل التوب وللسابقين ذي الطول، وللكافرين شديد العقاب، لماذا كانت صفة واحدة من صفات الله عز وجل للكافرين لأن الكفر ملة واحدة فماذا بعد الحق إلا الضلال، الكفر واحد، أما الإيمان فمراتب.
عندنا بعض التفسيرات اللطيفة لقوله تعالى: (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم) الله عز وجل لم يقل قل يا عبادي الذين فسقوا، قل يا عبادي الذين زنوا، قل يا عبادي الذين شربوا الخمر، قل يا عبادي الذين قتلوا، بل قال: (يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم) فيها تلطف فيها ستر لحالهم، تذوق الكلمات القرآنية (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم).
الشيء الثاني في الآية كلمة (قل يا عبادي) ففيها لفتة بلاغية جميلة موحية جدا، أي هذا العبد أضافه الله إلى ذاته، تحببا لعباده، تسلية وطمأنة لهم وإكراما منه نسبهم إلى ذاته (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله) فزينتهم بنسبتهم إلى ربهم وقبحهم لا يعقل أن يغلب نسبتهم إلى ربهم، لذلك حينما يقول لك الله عز وجل: (قل يا عبادي) يجب أن تفتخر يجب أن تطير إلى السماء حبا به وإقبالا عليه.
والشيء الآخر الذي يلفت النظر في الآية: (قل يا عبادي الذين أسرفوا) لم يقل: في معصية ربهم لا، بل قال: أسرفوا على أنفسهم أي: هذه المعاصي ما ضروا بها أحداً، بل ضروا بها أنفسهم، وذات الله منزهة عن كل أذى.
"يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا" .
فـ (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم) لا على الله عز وجل، ذات الله منزهة، (لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً) دقق في الآية (إنه هو الغفور الرحيم)، أي: هو الغفور إن أذنبت أو لم تذنب، هو الغفور دون أن تذنب ولو أنك أذنبت فهذه هي صفته الثابتة هذه صفته القديمة والسرمدية والأبدية، قال العلماء: وأما قوله تعالى: }نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ{ .
فقد روي عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقوم وهم يضحكون فقال تضحكون وذكر الجنة والنار بين أظهركم، قال فما رئي أحد منهم ضاحكا حتى مات قال: وفيهم نزلت: (نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم).
لن يكون الإنسان في حالة نفسية سوية إلا إذا جمعت بين الخوف والرجاء، فإذا غلب الخوف فهي حالة مرضية وإذا غلب الرجاء فهي حالة مرضية فلاحظ نفسك ووازن بين الحالتين، يوجد في الدم هرمون التجلط وهرمون التميع إذا غلب هرمون التجلط رأيت الدم كالوحل في الأوردة والشرايين فيموت الإنسان فورا، وإذا غلب هرمون التميع سال الدم كله من ثقب صغير، في كلا الحالين فالإنسان ميت ولا بد من التوازن الدقيق بين التجلط وبين التميع، وبعلاقتك مع الله عز وجل يجب أن يكون هناك توازن دقيق جدا بين الرجاء والخوف، فأكثر الناس يقول: لا تدقق فالله غفور رحيم، وهذا رجاء أبله، لو قرأت القرآن لوجدت أن الله سبحانه وتعالى يقول كثيراً: }ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ{ ، إذا راجعت القرآن الكريم ودققت فالآيات التي وردت بموضوع المغفرة آيات كثيرة:
}وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِن بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ{ .
فالتفاؤل والرجاء دون توبة ودون استقامة تفاؤل أبله أحمق، والخوف إلى درجة الانسحاق واليأس من رحمة الله هذا يأس قاتل، ولن تسعد مع الله عز وجل إلا إذا جمعت بين الخوف والرجاء قال تعالى:
}فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ{ .
(قُلْ مَن يُنَجِّيكُم مِّن ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَّئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَـذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ{ .
قال تعالى: نبئ يا محمد: (نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم).
قبل العباد جاءت شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم، وبعد العباد جاءت رحمة الله تعالى، والعبد بين شفاعة وبين رحمة، هذا من باب التطمين، ويقال: أن أحد الخلفاء دخل عليه ولد ابنه وولد ابنته فقال لهما: أنتما ابنا من؟ فانتسب ابن بنته إلى أبيه وانتسب ابن ابنه إليه، هكذا يروى، وليس هذا الموقف كاملا، ملأ حجر ابن ابنه بالجواهر، وملأ حجر ابن ابنته بالسكاكر، لأنه انتسب إليه، مغزى الخبر أن الإنسان إذا قال: يا رب أنت ربي لا إله إلا أنت يا رب ليس لي أحد سواك، فانتسابك يرفعك عند الله عز وجل وربنا عز وجل أكرمك بهذا النسب فقال: (قل يا عبادي) فالذي يقرأ القرآن يجب أن يتذوق كيف أن الله سبحانه وتعالى نسب العباد إلى ذاته، ومما يزيد الآية روعة ما يوجد فيها أيضا من تكرار للضمائر قال تعالى: (نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم).
في الآية تكرار، بـ أنا ، إني أنا، الياء ضمير متصل، والمتصل بأني هو نفسه أنا، أني أنا، لماذا التكرار؟ للطمأنة، (إني أنا الغفور الرحيم).
بعضهم قال: (غافر الذنب) يمحو هذه السيئة من دفتر أعمالك، وأما الغفور فيمسحها عند الملائكة، وأما الغفار فينسيك هذا الذنب، فإما أن تمحى من دفترك، وإما أن ينساها الملك، وإما أن تنساها أنت، هذا منتهى الكرم، أن تأتي يوم القيامة وليس لك جاهلية، وليس لك ذنب، كمال في كمال، لذلك تسعد في جنة الله التي عرضها السموات والأرض إلى أبد الآبدين.
إذا تاب الإنسان في سن مبكرة هذا رائع جداً، ولكن إذا عرف الله في سن متأخرة فلا مانع، فضل الله كبير، وكأن الله عز وجل يقول للعبد إذا تقدم سنه: "عبدي كبرت سنك، وانحنى ظهرك، وضعف بصرك، وشاب شعرك، فاستحِ مني فأنا أستحِي منك".
روي "أن الله تعالى يحب أبناء السبعين ويستحي من أبناء الثمانين".
وروي أنه "ما من شيء أحب إلى الله من شاب تائب وما من شيء أبغض إلى الله تعالى من شيخ مقيم على معاصيه".
والحكاية التي أرددها كثيراً ولا أنساها، أحد شيوخ الأزهر الكبار رأى خطيب مسجد شاباً فتمنى أن يكون مثله، والرجل عمره آن ذاك خمسة وخمسون عاما، رجل من صعيد مصر أمي لا يقرأ ولا يكتب، لكن لا تنسوا أن مراتب الله العليا لا لمن سبق، ولكن لمن صدق، فساق دابته إلى القاهرة، وسأل عن الأزعر، وهو يقصد الأزهر، فالذي سأله رجل صالح قال له: يا أخي اسمه جامع الأزهر، وليس جامع الأزعر، فتح الله عليك فتوح العارفين، وهذه الحكاية سمعتها من أحد العلماء، ثم قرأتها في كتاب وهي ثابتة، وتكاد لا تصدق، هذا الإنسان الأمي الصعيدي الجاهل الذي تمنى على الله أن يكون عالماً وشيخاً جليلاً، وساق حماره إلى الأزعر!! وصوبه له ذاك البائع، توجه إلى هذا المسجد، وتعلم القراءة والكتابة وحفظ القرآن، وما زال يتقلب في مراتب العلم حتى عاش ستة وتسعين عاماً، ولم يمت إلا وهو شيخ الأزهر، ففي الخامسة والخمسين تاب هذا العبد إلى الله وهو في سن الشيخوخة، فإذا ناجى ربه كان يقول: يا رب لقد أبطأت في المجيء إليك، تأخرت كثيراً .....
وإذا تاب المرء، وذاق طعم التوبة يقول لك: قلبي يتلظى حرقة، كيف أمضيت هذا العمر في معصية الله عز وجل، بعد أن ذاق طعم الطهر، طعم القرب، طعم الإقبال على الله، طعم العمل الصالح، طعم العلم، طعم الشرف يقول: يا ليتني عرفت الله قبل هذه السن، في المناجاة كان يقول: يا رب لقد أبطأت في المجيء إليك، فوقع في قلبه أن يا عبدي لا تقل هكذا، إنما أبطأ في المجيء إلي من مات ولم يتب، ما دام قد بقي يوم واحد فإنك تستطيع التوبة، ما دام القلب ينبض فالأمل كبير، كلما بكرت كان أفضل لكن إنما أبطأ في المجيء إلي من مات ولم يتب.
وبعد، فنحن كوننا عبيدا ما علاقتنا بهذا الاسم؟ الله غفار؟ وأنت أيها الإنسان.... ألا تنسى أخطاء الآخرين؟ ألا تغفرها؟
قال العلماء: حظ المؤمن من اسم الغفار أن يستر من غيره ما يستره الله منه، أدق حق يعنيك من اسم الغفار أن تستر من إخوانك المؤمنين وغير المؤمنين ما ستره الله منك.
أتى عمر -رضي الله عنه- رجل فقال: إن ابنة لي كنت وأدتها في الجاهلية فاستخرجناها قبل أن تموت فأدركت معنى الإسلام فأسلمت ثم أصابها حد من حدود الله فأخذت الشفرة لتذبح نفسها وأدركناها وقد قطعت بعض أدواجها فداويتها حتى برأت، ثم أقبلت بعد توبة حسنة وهي تخطب إلى قوم أفأخبرهم بالذي كان؟ فقال عمر -رضي الله عنه-: أتعمد إلى ما ستره الله فتبديه، والله لئن أخبرت بشأنها أحدا لأجعلنك نكالا لأهل الأمصار، أنكحها نكاح العفيفة المسلمة.
فأنت بوصفك مؤمنا لك أخ صديق زلت قدمه، وقع في معصية، وعلمتها أنت فلا ينبغي أن تذكرها لأحد إذا كنت مؤمناً، وعرفت اسم الغفار، كما أن الله غفر لك وتاب عليك يجب أن تغفر لإخوانك وأن تستر ذنوبهم، وما يعرفه كثير من المسلمين أن: "الذنب شؤم على غير صاحبه، إن عيره ابتلي به، وإن اغتابه أثم، وإن رضي به شاركه".
لك أخ وقع في ذنب إن تكلمت عن ذنبه فقد اغتبته، وإن عيرته ابتليت به، وإن رضيت منه هذا الذنب شاركته في الإثم، إذا أحدنا بلغه أن أخاه أكل مالاً حراماً فيكفي أن يقول: "جيد ما فعل، استطاع أن ييسر معيشته" فهو بهذه الكلمات يأثم معه، فثناؤه على معصيته، واستحسانه لعمله مشاركة في الإثم، واحتقاره بقوله: كيف فعل هذا؟ سوف يبتلى بهذا الذنب لأنه عيره به، وذكر معصيته للناس استغابة له، هذا كله على من لم يفعل الذنب فكيف بالذي فعل الذنب؟
فمن تغافل عن المقابح وذكر المحاسن فهو ذو نصيب عظيم من الفضل، عوّد نفسك أن تكون إيجابيا، عوّد نفسك أن تذكر في الناس النواحي الإيجابية والمحاسن، في تعاملك مع الناس تغافل عن عيوبهم وأبرز محاسنهم، يحبوك ومن الناس من يتغافل عن المحاسن كلها.
"اللهم! إني أعوذ بك من جار سوء إن رأى خيرا كتمه، وإن رأى شراً أذاعه، اللهم إني أعوذ بك من إمام سوء، إن أحسنت لم يقبل، وإن أسأت لم يغفر".
من أقبح تصرفات الإنسان أن يستر الجميل، ويذكر القبيح، وأن يستر المحاسن، ويظهر القبائح، أما المؤمن فإنه يتغافل عن القبائح، ويبرز المحاسن، والعرب تقول: الشرف معوان.
لك ابن تعرفه صادقاً أثنِ على صدقه، من الآباء من يبحث عن الغلط في ابنه ويقول: أنت كذا وأنت كذا، دوماً يزرع اليأس في ابنه، ألا يحمل ابنك أية ميزة،
سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم ماذا ينجي العبد من النار قال:
الإيمان بالله، قلت: يا نبي الله! مع الإيمان عمل؟ قال أن ترضخ مما خولك الله وترضخ مما رزقك الله، قلت: يا نبي الله! فإن كان فقيرا لا يجد ما يرضخ؟ قال: يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر قلت: إن كان لا يستطيع أن يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر قال: فليعن الأخرق، قلت: يا رسول الله! أرأيت إن كان لا يحسن أن يصنع؟ قال: فليعن مظلوما، قلت: يا نبي الله! أرأيت إن كان ضعيفا لا يستطيع أن يعين مظلوما، قال: ما تريد أن تترك لصاحبك من خير؟ ليمسك أذاه عن الناس قلت: يا رسول الله! أرأيت إن فعل هذا يدخله الجنة؟ قال: ما من عبد مؤمن يصيب خصلة من هذه الخصال إلا أخذت بيده حتى تدخله الجنة.
ليس من إنسان كله مساوئ ولا ميزة له، عندك موظف مقصر لكنه أمين ، قل له: أنا مسرور من أمانتك، شخص دخل على النبي عليه الصلاة والسلام، دخل المسجد ليلحق ركعة مع رسول الله فركض، وأحدث ضجة وجلبة وصخباً وضجيجاً، وشوش على الصحابة صلاتهم فالنبي الكريم صلى الله عليه وسلم ماذا فعل؟:
عَنْ أَبِي بَكْرَةَ أَنَّهُ انْتَهَى إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ رَاكِعٌ فَرَكَعَ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَى الصَّفِّ ثم مشى إلى الصف فَذَكَرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "زَادَكَ اللَّهُ حِرْصًا وَلا تَعُدْ".
.
كان أحد أمراء الأندلس شاعرا، قال ذات مرة، وهو في حديقة قصره: "نثر الريح على الماء زرد" ولم يتمكن من إكمال البيت، وراءه جارية قالت له: "يا له درعا منيعا لو جمد" أعجب بذكائها وشاعريتها فتزوجها، ثم أصبح هذا الإنسان ملكاً من ملوك الأندلس، وهو ابن عباد تزوجها، وعاش معها حياة ناعمة، اشتهت مرة حياة الفقر فأرادت أن تسير في الطين فجاء بالمسك والكافور، فجبلهما بماء الورد وقال: هذا طين امش عليه، ثم جاء ابن تاشفين من إفريقية وحارب ملوك الطوائف وقضى عليهم، وأودعهم في السجن، وساءت حاله، وله قصيدة تبكي كل الإنسان، النتيجة قالت هذه الجارية التي أصبحت ملكة وأكرمها إكراما ما بعده إكرام قالت له مرة: ما رأيت منك خيراً قط، فأجابها: ولا يوم الطين؟!
لك زوجة لا تكثر من ملامتها، عندك ابن لا تكثر من ملامته وذمه، ألا يحمل أية ميزة؟ لقد حطمته، هذه الزوجة ألا تحمل أية ميزة أليست شريفة؟ إذا ذهبت إلى عملك ألست مطمئنا لعفتها وشرفها، فالإنسان المؤمن لا يغفل عن ميزات الناس، النبي الكريم رأى صهره مع الأسرى، أتى ليقاتل رسول الله يوم بدر، فهو صهره زوج ابنته، لم ينسَ أنه صهر ممتاز فقال: "والله ما ذممناه صهرا". وأمر بفك أسره.
أرقى شيء في صفات الإنسان أن يكون منصفاً، حولك زوجة، أولاد، إخوان، أصحاب، وجيران، وأتباع، وموظفون، أنت تعلم ميزاتهم صراحة، وتعرفها حق المعرفة اذكرها لهم من حين لآخر، يحبونك جميعا، عندئذٍ يتقبلون منك أية ملاحظة وأي نقد، قال له صلى الله عليه وسلم: "زادك الله حرصا ولا تعد".
أنت كونك مؤمنا يجب أن تظهر الجميل، وأن تستر القبيح، أما تصيّد الأخطاء وتصيُّد العيوب فليس هذا من أخلاق المؤمنين، بل هذا من أخلاق أهل الدنيا.
يروى أن سيدنا عيسى عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام مر بجيفة كلب ولا أعتقد أن في الأرض أبشع لا في المنظر ولا في الرائحة من الجيفة، فقال الحواريون: ما أنتن ريحها! فقال عليه الصلاة والسلام: بل قولوا: ما أشد بياض أسنانها! ألم أقل لكم أحسنوا المحضر! لعل مغزى هذا الخبر: لن تكون أباً ناجحاً، ولا معلماً ناجحاً، ولا داعيا ناجحاً، ولا تاجراً ناجحاً، ولا مدير معمل ناجحاً، ولا مدير مستشفى ناجحاً، إلا إذا عرفت ميزات الذين حولك، ذكرتها وقدرتها، وبعدئذ وجه لهم ما شئت من النصائح فيقبلونها منك، أما إذا غفلت عن ميزاتهم، وتتبعت أخطاءهم فهذا مما يبعدهم عنك وينفرهم منك.
على كلٍ هذا ما استطعت بيانه حول هذا الاسم من أسماء الله الحسنى، وأسأل الله التوفيق دائما، وكما يعلم القارئ الكريم: لا يعرف الله إلا الله، وقد ذكرنا بعض الآيات والأحاديث التي وردت حول اسم الغفار، ويجب أن يدفعنا اسم الغفار جميعا إلى طلب المغفرة من الله عز وجل على الدوام.
اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عنا، ولقد كان هذا الدعاء من أحب الأدعية إلى النبي عليه الصلاة والسلام فلنكثر منه الحين بعد الحين.
0
2K

يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.

تسجيل دخول

خليك أول من تشارك برأيها   💁🏻‍♀️