الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: فإن أنفع شيء للعبد في معاشه ومعاده هو تدبر كتاب ربه .
مفهوم التدبر عند اللغويين يتلخص في هذه الأمور
- النظر إلى آخر الشيء وخلفه
- النظر إلى أول الشيء و آخره ثم إعادة النظر مرة بعد مرة
- النظر في عواقب الأمور
- التفكر في الأمر
- التأمل في أدبار الأمور وعواقبها
مفهوم التدبر عند المفسرين يتلخص في :
إعمال الفكر والنظر والتأمل والتفهم في آي القرآن الكريم للتوصل إلى معانيه ومقاصده والعمل به.
تعريف "تدبر القرآن الكريم" : النظر في آيات القرآن الكريم والتفكر في معانيها بقصد اتعاظ القلب وامتثال الجوارح
والتدبر عملية عقلية ذهنية قد ينشأن عنه التأثر (أمر وجداني) وقد ينشأ عنه العمل والامتثال ( وهو غاية العلم بامتثال الأوامر واجتناب النواهي) وهذا هو المطلوب من قارئ القرآن
هناك معاني مقاربة للتدبر ولكن ليست مترادفه مثل : تفكر , تذكر, نظر, تأمل, اعتبار, استبصار, تفسير, استنباط
لكن يجمع بينهم دخول في معنى التدبر اللغوي أو دخول تلازم واقتضاء فالتدبر يأتي بعد هذه القدرات الذهنية
حكم التدبر :
يجب على كل مسلم ومسلمة تعلم القرآن وتدبره على حسب القدرة , والعمل بما علمه وتدبره , شريطة أن يكون هذا العلم ناشئا عن علم صحيح , وأما ترك التدبر بالكلية فإنه لا يجوز ويأثم صاحبه إضافة إلى أن ترك التدبر كليا يعد من هجر القرآن المحرم , وترك تدبر القرآن أيضا يدخل في باب الذين لا يعلمون الكتاب إلا أماني (أي تلاوة فقط ) فقد ذمهم الله عز وجل بذلك بقوله في سورة البقرة : {ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم إلا يظنون }
ضوابط التدبر:
1-أن التدبر واقع في جميع معاني القرآن الكريم فلا يخاض في كيفية الصفات الإلهية وسائر الغيبيات
حدود التدبر ومجاله :فالتدبر واقع في جميع آيات القرآن محكمه و متشابهه كما قال تعالى : { كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب} سورة ص
وينبغي تدبر الآيات المتشابهات بالإيمان بها والتأثر بمعانيها وما تقتضيه دون الاجتهاد العقلي في الدخول في بيان كيفياتها وهي مما لا يحصل بيانه من جهة العقل , ومتى وقع طلبها من جهته حصل الانحراف والزيغ في شرع الله .
2-التعويل على كتب التفسير السالمة من التأويلات المذمومة والشبهات :
فالواجب على المتدبر أن يعتمد في فهمه للآيات والمعاني على التفاسير السالمة من التأويلات والانحرافات وهي تفاسير السلف الموثوقة ومن سار على نهجهم من التفسير بالمأثور فقلما تجد فيها الخطأ سواء من جهة الدليل أو جهة الاستدلال, وقد مثل لها ابن تيمية بعدة كتب بعضها وصل إلينا وبعضها لم يصل فقال رحمه الله : " مثل تفسير عبد الرزاق , ووكيع , وعبد بن حميد, وعبد الرحمن بن ابراهيم دحيم , ومثل تفسير الامام أحمد , واسحاق بن راهويه , وبقي بن مخلد , وأبي بكر بن المنذر وسفيان بن عيينه , وسنيد . وابن جرير , وبن أبي حاتم , وأبي سعيد الأشج , وأبي عبد الله بن ماجه , وابن مردويه "
ومثلهما أيضا في التفاسير التي جاءت بعد ابن تيمية وسارت على هذا النهج : تفسير ابن كثير الدمشقي , وتفسير السعدي , وتفسير الشنقيطي وغيرها كثير وليس المقصود حصر هذه التفاسير لأن ذكر ذلك يطول .
3-تقييد جميع أمور التدبر بما ورد في الشرع وترك الابتداع :
ويتأكد ذلك في التدبر لعدة أسباب:
1-امتثال لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم : " من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة " وهذا لشؤم البدع وخطورتها على الفرد والمجتمع
2-نصيحة حذيفة بن اليمان ( يا معشر القراء استقيموا قد سبقتم سبقا بعيدا فإن أخذتم يمينا و شمالا لقد ضللتم ضلالا بعيدا)
3-أن الذي جاءنا في كيفية التدبر كاف شاف فلا مجال لأحد أن يتكلف بتدبر يخالف الشرع
4- أن التدبر على ما لا يوافق الشرع يفتح الباب لكثير من الطوائف والفرق للتكلم في دين الله بما ليس منه كالمعتزلة والجهمية والفلاسفة والمعطلة والأشاعرة و غيرها من الفرق ولا تكاد توجد فرقة مخالفة إلا وتكون مارست هذه المنهجية الاستدلالية في نصوص الوحيين بحجة التدبر والفهم ,
فكل وسيلة لابد أن تعرض على الكتاب والسنة وأصولهما المعتبرة , وكل من أحدث شيئا ونسبه إلى الدين ولم يكن له أصل من الدين يرجع إليه فهو ضلالة والدين منه برئ.
4-الاقتصار على الأحاديث والآثار الصحيحة والوقائع الثابتة:
إن القرآن الكريم فيه ما هو بين بنفسه وفيه ما قد بينه المفسرون أي نحتاج للرجوع إلى مصادر نفهم منها معنى الآية وهي كتب التفسير السليمة أو كتب السنة المعروفة ذات الاستدلال الصحيح , فالتفسير بالمأثور الذي يشمل النقل الصحيح السند عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذلك عن الصحابة ورؤوس التابعين
فالذي ورد تفسيره بالنقل مثل : الوقائع وأسباب النزول, وفي الأحاديث , وفي الترجيح وفي النسخ , وفي تعيين المبهم , وفي تبيين المجمل الخ,,
هل التدبر خاص بأهل العلم فقط ؟
فهم القران وتدبره ليس مقصور على طائفة دون طائفة بل كل واحد لابد أن يأخذ حظه من القرآن بحسب ما ييسره الله له وبحسب ما معه من الفهم والعلم والادراك فهو ميسر للفهم فيه عن الله { ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر}
والشيطان حريص على صد الناس عن تدبر القران لعلمه أن الهدى واقع عند التدبر فيلبس عليه ويأتيه بمدخل أن لا يتكلم في القران تورعا وهذا المفهوم خاطيء بل التدبر مطلوب حسب القدرة على التعلم والتفهم وادراك معاني الكتاب والسنة
الشروط الواجب توفرها في المتدبر هي :
من خلال الاية { إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد} سورة ق
- أن يكون المتدبر حي القلب ( حضور وإقبال القلب واستعداده بالإضافة لأعمال القلب الأخرى كالإيمان بالله والإخلاص واليقين والإنابة لله ,,,, وبالمقابل تخليصه وتطهيره من الأقفال والشواغل من غل وحسد ونفاق ورياء ,,,,)
- أن يفعل المتدبر الأسباب المعينة على التدبر ( مثل إلقاء السمع والانصات وسكون الجوارح وغض البصر وحصر العقل والعزم على العمل)
- أن يتجنب المتدبر الأمور التي تصرف عن التدبر ( وهي غالبا تندرج تحت سببين رئيسيين : الشبهات , والشهوات )
فإذا حصل المؤثر : وهو القرآن , والمحل القابل : وهو القلب الحي , ووجد الشرط : وهو الإصغاء , وانتفى المانع : وهو اشتغال القلب وذهوله عن معنى الخطاب وانصرافه عنه إلى شيء آخر حصل الأثر: وهو الانتفاع والتذكر
آداب المتدبر:
- الإخلاص قال تعالى { وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة} سورة البينة
- الحرص على فهم كلام الله عز وجل والامتثال له
- التخلق بالأخلاق الحسنة مقتديا بالذي كان خلقه القران صلى الله عليه وسلم قال تعالى { وإنك لعلى خلق عظيم } سورة القلم
- الصبر والتدرج ابتغاء رضوان الله قال تعالى : { وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا } سورة الإسراء
- مراعاة آداب القراءة كالسواك والطهارة و الاستعاذة ونظافة المكان والترتيل وترديد الآية والقراءة في الليل أكثر واتباع ترتيب المصحف
إن المؤمنين هم الذين ينتفعون حقا بتدبر القرآن ففي الآيات حض على التدبر وتحذير من تركه
الآيات وردت في أربعة مواضع مختلفة هي :
( وفي هذه الآية يدخل المؤمنون صراحة لوجود قراءتين بالتاء "لتدبروا" وتعني نبينا محمد صلى الله عليه وسلم واتباعه والقراءة الأخرى بالياء " ليدبروا" وتعني قوم محمد صلى الله عليه وسلم
وهاتان الآيتان كانتا في سياق الكفار ثم جاءت آيتان في سياق المنافقين هما :
الأحاديث :
كان السلف الصالح يأخذون التدبر للاتعاظ والعمل بالقلب والجوارح
كما أكد ذلك الحسن البصري والخراز والطبري وابن القيم والشنقيطي أشاروا لهذا المعنى في عبارات قيمة في كتب التفسير
ومن دقة البلاغة القرآنية في لفظة التدبر وتمييزها عن المرادفات الاخرى كالنظر والفهم لان هذه الأمور قد يفعلها غير الملتزم بأحكام الاسلام ولكنه لم يفعل ثمرة إنزال القرآن وهو الاتعاظ والعمل
وكانت الطريقة العملية المثلى لتدبر القران هي التدرج في أخذ الآيات وتفرقتها على الوقت لتعلم ما فيها من العلم والعمل فهم يقرؤون لكي يفهموا ويفهمون لكي يعملوا وهذه الطريقة هي أدعى للفهم والاستيعاب
فقد كان الصحابة ومنهم عثمان وعبد الله بن مسعود وأبي بن كعب رضي الله عنهم يأخذون من رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر آيات فلا يأخذون في العشر الأخرى حتى يعلموا ما في هذه من العلم والعمل . قالوا فتعلمنا العلم والعمل
فركني التدبر هما ( الفهم السليم , ثم العمل ) ويبرز منهج السلف الصالح في الجانب العملي أكثر لأنهم كما قال ابن مسعود وابن عمر رضي الله عنهما (وسهل علينا العمل به ) , ( رزقوا العمل بالقرآن) وهذا الأمر المهم الذي تفقده الأمة اليوم
لذلك فأسلوب التربية بالقدوات في عصر الصحابة والتابعين بما يتعلق بالتدبر يعتبر من أهم أساليب التربية الجديرة بالإبراز في المؤسسات التربوية للاحتذاء بهم
الاتعاظ بالأمم السالفة الذين ذمهم الله لعدم تدبرهم وفهمهم { مَثَلُ ٱلَّذِينَ حُمِّلُواْ ٱلتَّوۡرَىٰةَ ثُمَّ لَمۡ ىيَحۡمِلُوهَا كَمَثَلِ ٱلۡحِمَارِ يَحۡمِلُ أَسۡفَارَۢاۚ } سورة الجمعة
استشعار ان العزة والرفعة والكرامة والهداية والسيادة في الدارين هي لحملة القرآن العاملين به "إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواما ويضع به آخرين"
وقد بين ابن تيميه حاجة الأمة لفهم القرآن للأسباب التالية:
أ-الأسباب القلبية
إن العبد إذا عظم ربه وآمن به إيمانا صادقا واستعان به وتوكل عليه واستمع بنية صادقة أعانه الله على فهم كتابه وتدبر آياته وبالتالي يزيد في الإيمان
{ إِنَّمَا ٱلۡمُؤۡمِنُونَ ٱلَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ ٱللَّهُ وَجِلَتۡ قُلُوبُهُمۡ وَإِذَا تُلِيَتۡ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتُهُۥ زَادَتۡهُمۡ إِيمَٰنٗا وَعَلَىٰ رَبِّهِمۡ يَتَوَكَّلُونَ } الأنفال
والدعاء بتيسير التدبر والعمل به ظاهر الأهمية ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : " ما أصاب أحدا قط هم ولا حزن فقال : اللهم إني عبدك وابن عبدك وابن امتك ناصيتي بيدك ماض في حكمك عدل في قضاؤك أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو علمته أحدا من خلقك أو أنزلته في كتابك أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن ربيع قلبي ونور صدري وجلاء حزني وذهاب همي ? إلا أذهب الله همه وحزنه وأبدله مكانه فرحا"
ومن صور الاستعانة : الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم , والمحافظة على قراءة بسم الله الرحمن الرحيم والدعاء بأن يفتح الله عليه من فضله لفهم كتاب ربه وتدبره والعمل به
فهو نزل بواسطة ملك عظيم على رسول عظيم من رب أعظم قال تعالى : { وَلَقَدۡ ءَاتَيۡنَٰكَ سَبۡعٗا مِّنَ ٱلۡمَثَانِي وَٱلۡقُرۡءَانَ ٱلۡعَظِيمَ } الحجر
قال النووي : أجمع المسلمون على وجوب تعظيم القرآن العزيز على الإطلاق وتنزيهه وصيانته
فعلى المؤمن أن يستشعر عظم القرآن وأنه كلام رب العالمين منزل غير مخلوق كلام من ليس كمثله شيء وهو السميع البصير
شرط لقبول العمل والحرص على سلامة النية والتحذير من الرياء والشهرة أو التوصل به إلى غرض من الدنيا قال تعالى : { فَمَن كَانَ يَرۡجُواْ لِقَآءَ رَبِّهِۦ فَلۡيَعۡمَلۡ عَمَلٗا صَٰلِحٗا وَلَا يُشۡرِكۡ بِعِبَادَةِ رَبِّهِۦٓ أَحَدَۢا } الكهف
إن القرآن نور { قَدۡ جَآءَكُم مِّنَ ٱللَّهِ نُورٞ وَكِتَٰبٞ مُّبِينٞ } وفهم هذا النور يحتاج إلى نور الإخلاص ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور
حضوره يجمع قلبه عند قراءة القرآن القلب الواعي المبتعد عن الشواغل الاقبال على القران بقلب حي { لِمَن كَانَ لَهُۥ قَلۡبٌ } وقد جمع الله تعالى في قوله : { أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ ٱلۡقُرۡءَانَ أَمۡ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقۡفَالُهَآ } فعلق فهم القرآن وتدبره على انفتاح القلب وحضوره فتظهر اثاره من وجل القلب وقشعريرة الجلد ودمع العين والعمل الصالح وقد روي عن أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه قال : لو طهرت قلوبنا ما شبعت من كلام الله قال تعالى : { لَّا يَمَسُّهُۥٓ إِلَّا ٱلۡمُطَهَّرُونَ } الواقعة فإن معانيه لا يهتدي بها إلا أصحاب القلوب الطاهرة .
ب-الأسباب العلمية والعملية
الجوارح نعمة من الله وأمانه ووديعة واختبار شاهدة وحجة لنا أو علينا فهي وسيلة ل: التواصل , والادراك , القلب الواعي , والانطلاق نحو المعرفة , الفكر المتدبر , تعلم ما ينفع من دين ودنيا فلابد من شغل اللسان بذكر الله وتلاوة آياته وقول ما يحبه الله ويرضاه ولابد من تفريغ القلب من محبة غير الله فإذا طاب القلب وصلحت الجوارح وطابت الحياة فلابد من الاجتهاد في ربط قلب وجوارح متلقي القران بتوجيهات القران لتظهر ثمرة التدبر عمليا { وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلسَّمۡعَ وَٱلۡأَبۡصَٰرَ وَٱلۡأَفۡ?ِٔدَةَ لَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ } النحل
حتى يكون فيها حضور للقلب وصفاء للذهن فلا يعطى القرآن فضول الأوقات فلا يوجد تدبر لقلب مشغول ولذلك وبخ المنافقين لانشغال قلوبهم بأقفال الشهوات والشبهات التي صدتهم عن التدبر { أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ ٱلۡقُرۡءَانَ أَمۡ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقۡفَالُهَآ } لذلك خصصت بعض الأوقات مثل
أيام : الجمعة, الاثنين, الخميس, عرفه, العشر الأخير من رمضان, والعشر الأولى من ذي الحجة, شهر رمضان
والأوقات: الليل , النصف الأخير من الليل , الفجر , بين المغرب والعشاء , بعد صلاة الصبح , في الصلاة مع تأني وعدم عجلة وبترتيل وتغني .
ينبغي فيها إلقاء السمع والاصغاء والتعلم والتدبر والخشوع وحضور القلب فذلك يؤثر في القلب فعن البراء من عازب يقول : " سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور , فلما بلغ هذه الآية : { أَمۡ خُلِقُواْ مِنۡ غَيۡرِ شَيۡءٍ أَمۡ هُمُ ٱلۡخَٰلِقُونَ ٣٥ أَمۡ خَلَقُواْ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَۚ بَل لَّا يُوقِنُونَ ٣٦ أَمۡ عِندَهُمۡ خَزَآئِنُ رَبِّكَ أَمۡ هُمُ ٱلۡمُصَۜيۡطِرُونَ قال : كاد قلبي أن يطير ))
قيام الليل بتوفيق الله شعار الصالحين وسمات عباد الله المتقين { وَمِنَ ٱلَّيۡلِ فَتَهَجَّدۡ بِهِۦ نَافِلَةٗ لَّكَ عَسَىٰٓ أَن يَبۡعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامٗا مَّحۡمُودٗا } الإسراء
وقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله يحب ثلاثة وذكر منهم : " رجل سافر مع قوم فارتحلوا حتى إذا كان من آخر الليل وقع عليهم الكرى أو النعاس فنزلوا فضربوا برؤوسهم ثم قام فتطهر وصلى رغبة لله عز وجل فيما عنده "
وقد جاء عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه : لقد رأيت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فما أرى اليوم شيئا يشبههم لقد كانوا يصبحون شعثا غبرا صفرا قد باتوا لله سجدا وقياما يتلون كتاب الله يراوحون بين جباههم وأقدامهم .. "
وكانوا يحرصون على أمر أهلهم بالصلاة والقيام فعن عمر رضي الله عنه كان يصلي من الليل ما شاء الله حتى إذا كان آخر الليل أيقظ أهله للصلاة يقول لهم : الصلاة الصلاة ثم يتلو قوله تعالى { وَأۡمُرۡ أَهۡلَكَ بِٱلصَّلَوٰةِ وَٱصۡطَبِرۡ عَلَيۡهَاۖ }
ولأن النساء شقائق الرجال فقد فعلت ذلك أمهات المؤمنين فقامت معه خديجة رضي الله عنها في أول الأمر حين جاء الأمر ب { يَٰٓأَيُّهَا ٱلۡمُزَّمِّلُ } وهذه الصديقة عائشة رضي الله عنها الصوامة القوامة روي عنها أنها قامت في آية واحدة وهي قوله تعالى : { فَمَنَّ ٱللَّهُ عَلَيۡنَا وَوَقَىٰنَا عَذَابَ ٱلسَّمُومِ } ترددها وتتدبرها وتبكي
واختصاص الليل بالقيام كونه أشد مواطأة بين القلب واللسان وأجمع على التلاوة وأجمع للخاطر في أداء القراءة وتفهمها من قيام النهار لأنه وقت انتشار الناس ولغط الأصوات وأوقات المعاش"
والمحور العملي الذي ينبغي لطالب التدبر أن يقتدي به يتمثل في أمور :
طول القراءة في التهجد طول القنوت لكون ذلك محل قراءة القرآن
التدبر في القراءة يسأل عن السؤال ويتعوذ عند التعوذ ويسبح عند التسبيح ويتفكر
الكمال في الأداء يجمع بين القراءة والذكر والدعاء والتفكر
ولابد من مراعاة الإخلاص والمتابعة والمجاهدة
وفي قيام الليل يكون القراءة في الصلاة أفضل منها في غير الصلاة
أبي هريرة مرفوعا " إذا قام أحدكم من الليل فاستعجم القرآن على لسانه فلم يدر ما يقول فليضطجع"
لنظافته وكونه بعيد عن قوارع الطرق والملهيات فالصور والأشياء الظاهرة تؤثر في القلوب , وأفضل الأماكن إلى الله هي المساجد عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله .." فتستحب القراءة في المسجد لكونه جامع للنظافة وشرف البقعة لان القاري يحافظ على منافذ القلب : العين : لا يرى المحرمات والمكروهات , الأذن لا يسمع إلا ما يرضي الله , اللسان : لا يتكلم إلا بالخير والصلاح بالإضافة إلى ما في المكث في المسجد من ثواب فلابد يختار الانسان المكان المناسب سواء في المسجد أو مصلى المنزل أو غرفة مناسبة لتحقيق تدبر أمثل
فالأمة متعبدة لله بتصحيح ألفاظهم لكتاب الله وإقامتهم لحروفه
والقراءة على مكث تعني الترسل والتمهل ولا يتحقق ذلك إلا بالمحافظة على أحكام التجويد المستمدة من قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( خذوا القرآن من أربعة من ابن أم عبد ( ابن مسعود) ومعاذ بن جبل وأبي بن كعب وسالم مولى حذيفة )
فمن يقرأ القرآن مجودا مصححا كما أنزل تلتذ الأسماع بتلاوته وتخشع القلوب عند قراءته ويعين على التدبر بينما التنطع والتشدق والوسوسة في إخراج الحروف ليس من سنته
أما الأداء كما أنزل والعناية بتحسين الألفاظ كل هذا من التحسينات المشروعة لتأثيرها في القلوب ومن ذلك ما يتعلق بالغنه والمدود والتفخيم والترقيق وما إلى ذلك
حكمه مستحب قال تعالى { وَرَتِّلِ ٱلۡقُرۡءَانَ تَرۡتِيلًا } وجاء في سنن أبي داوود مرفوعا : " ليس منا من لم يتغن بالقرآن"
فتكون القراءة مفسرة بينه بيانا بتمهل وترسل على تؤدة وتأني بعضها إثر بعض من غير هذرمة ولا عجلة أو هذ بل مجودة الحروف ومعرفة الوقوف والمد
فعلى من يدرس كتاب الله تشجيع الطلاب على تنمية ملكة الترتيل واجتناب التلحين والتمطيط المتكلف
وأقل الترتيل ترك العجلة في القرآن عن الإبانة وأكمله أن يرتل القراءة ويتوقف فيها مالم يخرجه ذلك إلى التمديد والمط .
أن يسمع القارئ نفسه وأن يزيد على ذلك بحيث يسمع من بقربه
فهو أعو على التركيز والانتباه وفيه استماع الملائكة الموكلة بسماع الذكر وفرار الشياطين وتطهير للمكان وجعله بيئة صالحة طاهرة
وجاء في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة قوله صلى الله عليه وسلم : " ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي حسن الصوت , يتغنى بالقرآن يجهر به"
والضابط العام في الأحوال التي يجهر بها ? ماعدا الصلاة الجهرية ? هو الجهر بالقراءة بحيث يسمع نفسه وأن يزيد على ذلك بحيث يسمع من بقربه , أما إذا خشي الرياء فلا يستحب له أن يسمع من بقربه وعليه يحمل قوله صلى الله عليه وسلم " الجاهر بالقرآن كالجاهر بالصدقة والمسر بالقرآن كالمسر بالصدقة " ومعلوم أن المسر بالصدقة أفضل , والله أعلم
الوقف لغة الحبس , أما معناه عند علماء التجويد هو قطع الصوت عن الكلمة زمنا يتنفس فيه عادة بنية استئناف القراءة لا بنية الإعراض ويكون في رؤوس الآي و أوساطها ولا يأتي في وسط الكلمة ولا فيما اتصل رسما
أما الابتداء فهو ضد الوقف وهو أول كل شيء وفي عرف القراء: الشروع بالقراءة بعد قطع أو وقف ولا يجوز إلا بكلام مستقل في المعنى موف بالمقصود
يستعان بهذا العلم على فهم القرآن والغوص على درره وكنوزه وتتضح به الوقوف التامة والكافية والحسان فتظهر المعاني على أكمل وجه ويقصد منه بيان مواضع الوقف ولا يكون ذلك إلا بالتدبر وقد كان السلف الصالح يعتنون بهذا العلم فقد جاء عن ابن عمر أنه يقول : وتنزل السورة على محمد صلى الله عليه وسلم فنتعلم حلالها وحرامها و ما ينبغي أن يوقف عنده منها "
ولما جاء عصر التدوين تم تدوين هذا العلم ومن ضمن المصنفات : "الوقف والابتداء " لمحمد بن سعدان الضرير المقرى 231هـ
فينبغي لمن قرأ القرآن أن يتفهم ما يقرأ ويشغل قلبه ويتفقد القطع والائتناف ومن يخالف هذا العلم يقع في وقفات قبيحة و ابتداءات قبيحة مثال { وَمِنَ ٱلَّذِينَ قَالُوٓاْ إِنَّا نَصَٰرَىٰٓ أَخَذۡنَا مِيثَٰقَهُمۡ..} فيقف على { قَالُوٓاْ } ويبتدئ ب { إِنَّا نَصَٰرَىٰٓ }
لتحصيل الفقه في القران ينبغي الاكثار منه وقراءته من آكد الأذكار ولابد من الصبر حتى يصل لمرتبة الحب إلى أن يثمر بالأنس به وقد روى عبدالله بن مغفل أنه رأى الرسول
صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة يقرأ وهو على ناقته أو جمله وهي تسير به وهو يقرأ سورة الفتح أو من سورة الفتح قراءة لينة يقرأ وهو يرجع
وعمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا دخل البيت نشر المصحف فقرأ فيه ـ
ـأما كيفية تحزيب الصحابة رضي الله عنه فهو التحزيب المسبع (3 سور ثم 5 ثم 7 ثم 9 ثم 11 ثم 13ثم 65سورة)
وهي مجموعة في عبارة (فمي بشوق) : الفاء من الفاتحة والميم من المائدة والياء من يونس والباء (بني إسرائيل الاسراء ) والشين الشعراء والواو والصافات والقاف للمفصل
التدبر يأتي من فهم المعنى والفهم يأتي من عقل الكلام قال تعالى : { إِنَّآ أَنزَلۡنَٰهُ قُرۡءَٰنًا عَرَبِيّٗا لَّعَلَّكُمۡ تَعۡقِلُونَ } وفي هذا المطلب مسائل تستحق المراعاة :
فهم الآيات بالمأثور عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال تعالى :{ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيۡهِمۡ } وكذلك فعل صلى الله عليه وسلم بما أورده من سنته فجزاه الله عنا أفضل الجزاء بمنه وفضله
ويعتبر البيان النبوي من أهم مصادر التفسير لآيات القرآن الكريم ويأتي بعده كبار الصحابة ومن التابعين وتابع التابعين ومن بعدهم ممن اشتهر بالتفسير.
معرفة أسباب النزول وتصورها أثناء القراءة ولذلك فوائد منها :
أنها طريق قوي لفهم معاني القرآن ومثال ذلك عن عروة بن الزبير أنه سأل عائشة رضي الله عنها : {وَإِنۡ خِفۡتُمۡ أَلَّا تُقۡسِطُواْ فِي ٱلۡيَتَٰمَىٰ فَٱنكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ ٱلنِّسَآءِ } قالت : "هي اليتيمة في حجر وليها فيرغب في جمالها ومالها ويريد أن يتزوجها بأدنى من سنة نسائها فنهوا عن نكاحهن إلا أن يقسطوا لهن في إكمال الصداق وأمروا بنكاح من سواهن من النساء " فسبب النزول هنا بين الصلة في الآية بين الامر بالقسط في اليتامى وبين نكاح ما طاب من النساء ولولا وجود السبب لم تتبين الصلة
أن العلم بها يرفع الإشكال ويحسم النزاع ومثال ذلك : عن عروة بن الزبير قال : قلت لعائشة رضي الله عنها : أرأيت قول الله تبارك وتعالى { إِنَّ ٱلصَّفَا وَٱلۡمَرۡوَةَ مِن شَعَآئِرِ ٱللَّهِۖ
فَمَنۡ حَجَّ ٱلۡبَيۡتَ أَوِ ٱعۡتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيۡهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَاۚ} فلا أرى على أحد شيئا أن لا يطوف بهما ؟ فقالت عائشة : كلا , لو كانت كما تقول كانت : فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما ! إنما أنزلت هذه الآية في الأنصار كانوا يهلون لمناة وكانت مناة حذو قديد وكانوا يتحرجون أن يطوفوا بين الصفا والمروة فلما جاء الإسلام سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فأنزل الله تعالى : { ِإنَّ ٱلصَّفَا وَٱلۡمَرۡوَةَ مِن شَعَآئِرِ ٱللَّهِۖ فَمَنۡ حَجَّ ٱلۡبَيۡتَ أَوِ ٱعۡتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيۡهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَاۚ}
أن معرفة سبب النزول تبين الحكمة الداعية إلى تشريع الحكم ومثال ذلك : عن ابن عباس رضي الله عنه قال في قوله تعالى : {وَلَا تَجۡهَرۡ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتۡ بِهَا وَٱبۡتَغِ
بَيۡنَ ذَٰلِكَ سَبِيلٗا } قال : نزلت ورسول الله صلى الله عليه وسلم مختف بمكة , وكان إذا صلى بأصحابه رفع صوته بالقرآن فإذا سمعه المشركون سبوا القرآن ومن أنزله ومن جاء به فقال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم : { وَلَا تَجۡهَرۡ بِصَلَاتِكَ } أي بقراءتك فيسمع المشركون فيسبوا القرآن { وَلَا تُخَافِتۡ بِهَا} عن أصحابك فلا تسمعهم { وَٱبۡتَغِ
بَيۡنَ ذَٰلِكَ سَبِيلٗا } فإذن هذا النص يبين الحكمة من التشريع وهي كف المشركين عن سب القرآن ومن أنزله ومن جاء به
إدراك المعنى اللغوي للكلمات
للغة العربية أهمية عظمى كونها لغة القرآن والسنة فلا يصح أن يقرأ المسلم القرآن إلا بالعربية وقراءة القرآن ركن من أركان الإسلام لذا فقد كتب عمر إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه : أما بعد فتفقهوا في السنة وتفقهوا في العربية وأعربوا القرآن فإنه عربي .
وقال عبد الله بن عباس كنت لا أدري ما { فَاطِرِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ } حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر فقال أحدهما أنا فطرتها يعني ابتدأتها .
معرفة دلالة الجملة وما يتعلق بها
يعتبر العلم بدلالات الجمل من جهة علم البلاغة وبالأخص علم المعاني مما يحسن للمتدبر المعرفة به وهناك أنموذجان في هذه المسألة ليستفيد منها المتدبر ثم يقيس عليهما :
دلالة الجملة الأسمية والفعلية
فالأسمية تدل على الدوام والثبوت دون تقييد بزمن مثال : { ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ }
والفعلية تدل على التجدد والحدوث لتقييده بالزمن مثال : { عَمَّ يَتَسَآءَلُونَ }
دلالة التقديم والتأخير في الجملة
ومن فوائده بيان الأهم { قُلۡ إِن كَانَ ءَابَآؤُكُمۡ وَأَبۡنَآؤُكُمۡ وَإِخۡوَٰنُكُمۡ وَأَزۡوَٰجُكُمۡ
وَعَشِيرَتُكُمۡ..}
وإفادة الاختصاص أو الحصر مثال { إِيَّاكَ نَعۡبُدُ وَإِيَّاكَ نَسۡتَعِينُ }
والتنبيه على السببية مثال { إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلتَّوَّٰبِينَ وَيُحِبُّ ٱلۡمُتَطَهِّرِينَ } فالتوبة سبب للطهارة
العناية بسياقة الآيات
حيث يؤثر ذلك في تحديد المعنى المراد من الكلمة أو الجملة فهي إما تخصص العام أو تقيد المطلق أو تطلق المقيد أو تعمم الخاص أو ترجح عند اختلاف المفسرين مثال على ذلك :
قال ابن جرير في تفسيره : " قد زعم بعض الزاعمين أن قوله { وَلَقَدۡ عَلِمُواْ لَمَنِ
ٱشۡتَرَىٰهُ مَا لَهُۥ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ مِنۡ خَلَٰقٖۚ } يعني به الشياطين , وأن قوله {لو كَانُواْ يَعۡلَمُونَ } يعني به الناس وذلك قول لجميع أهل التأويل مخالف , وذلك أنهم مجمعون على أن قوله { وَلَقَدۡ عَلِمُواْ لَمَنِ ٱشۡتَرَىٰهُ } معني به اليهود دون الشياطين ثم هو- مع ذلك- خلاف ما دل عليه التنزيل لأن الآيات قبل قوله : { وَلَقَدۡ عَلِمُواْ لَمَنِ ٱشۡتَرَىٰهُ } وبعد قوله { لَوۡ كَانُواْ يَعۡلَمُونَ } جاءت من الله بذم اليهود و توبيخهم على ضلالهم وذما لهم على نبذهم وحي الله وآيات كتابه وراء ظهورهم مع علمهم بخطأ فعلهم فقوله{ وَلَقَدۡ عَلِمُواْ لَمَنِ ٱشۡتَرَىٰهُ مَا لَهُۥ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ مِنۡ خَلَٰقٖۚ } أحد تلك الأخبار عنهم
معرفة مقاصد السور وغاياتها
ماهيته وأهميته : معرفة المعنى العام الذي أنزلت من أجله السورة وهو فن نشأ جمعه متأخرا عن طريق الاستقراء وتتبع طريقة الأئمة في تفسير كتاب الله
ضوابطه وحدوده : أغلب السور لها وحدة موضوعية وكذلك الآيات ولاستخراجها لابد من الاكتفاء بالظاهر وعدم التكلف ولابد من العلم بأقوال السلف في تفسير الآيات أو السور المراد استنباط مناسبتها وعلى معرفة واطلاع بعلوم البلاغة خاصة علم المعاني والبيان
ويمكن معرفة كيفية الاستنباط بثلاث وسائل :
وجود نص لعلماء من أهل التحقيق يدلل على مقصد السورة مثال : نصوا على أن سورة النحل نزلت في النعم
ظهور موضوع السورة من الاسم أو من مقدمة السورة أو بهما معا مثال: سورة القيامة مقصدها الكلام عن يوم القيامة وكذلك يتضح من مطلع مقدمة السورة
الاستقراء والتأمل في آيات السورة بحيث يكون استقراء كلي للسورة مثال سورة الماعون مقصدها : جاءت لتأمر بمكارم الأخلاق الواجبة على المؤمنين وأن من انتقص شيئا منها فقد ترك شيئا من واجبات الدين ومن اتصف بالصفات التي نهت عنها فقد اتصف بصفات الذين يكذبون بيوم الدين
مثال: سورة الإخلاص : هي صفة الرحمن وهي في التوحيد العملي الخبري فعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث رجلا على سرية وكان يقرأ لأصحابه في صلاته فيختم ب{ قُلۡ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ } فلما رجعوا ذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال ( سلوه لأي شيء يصنع ذلك ) فقال لأنها صفة الرحمن وأنا أحب أن أقرأ بها فقال النبي صلى الله عليه وسلم ( أخبروه أن الله يحبه ) وتلحظ أن الأسماء كلها تدور على توحيد الله عز وجل .
استشعار الآيات والمعاني ومعايشتها واقعا في حياته فالقرآن لا يمنح كنوزه إلا لمن يقبل عليه بروح المعرفة المنشئة للعمل { أَمَّنۡ هُوَ قَٰنِتٌ ءَانَآءَ ٱلَّيۡلِ سَاجِدٗا وَقَآئِمٗا يَحۡذَرُ ٱلۡأٓخِرَةَ وَيَرۡجُواْ رَحۡمَةَ رَبِّهِۦۗ قُلۡ هَلۡ يَسۡتَوِي ٱلَّذِينَ يَعۡلَمُونَ وَٱلَّذِينَ لَا يَعۡلَمُونَۗ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ ٱلۡأَلۡبَٰبِ }
وهو صفة العارفين وشعار عباد الله الصالحين قال تعالى { وَيَخِرُّونَ لِلۡأَذۡقَانِ يَبۡكُونَ وَيَزِيدُهُمۡ
خُشُوعٗا } وقد بكى النبي صلى الله عليه وسلم حيث قرأ عله ابن مسعود { فَكَيۡفَ إِذَا جِئۡنَا مِن كُلِّ أُمَّةِۢ ِشَهِيدٖ وَجِئۡنَا بِكَ عَلَىٰ هَٰٓؤُلَآءِ شَهِيدٗا } قال " حسبك الآن " فالتفت إليه فإذا عيناه تذرفان
وكذلك كان الصحابة رضوان الله عليهم كانوا كما قالت أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنما : إذا قرئ عليهم القرآن كما نعتهم الله تدمع أعينهم وتقشعر جلودهم .
إذن البكاء مستحب فهو دليل الخشوع والفهم إذا كان بكاء صادق وليس بكاء النفاق
قال الامام ابن القيم: ولم يكن بكاؤه صلى الله عليه وسلم بشهيق ورفع صوت ولكن كانت تدمع عيناه حتى تهملا ويسمع لصدره أزيز وكان بكاؤه عند سماعه للقرآن بكاء اشتياق ومحبة مصاحب للخوف والخشية
أما التباكي وهو تكلف البكاء فمنه ما هو محمود الذي يستجلب رقة القلب وخشية الله , ومنه ما هو مذموم يستجلب السمعة والرياء والنفاق
وهي من صور الوقوف على المعاني فقدوتنا صلى الله عليه وسلم قرأ ليلة بآية حتى أصبح يكررها { إِن تُعَذِّبۡهُمۡ فَإِنَّهُمۡ عِبَادُكَۖ وَإِن تَغۡفِرۡ لَهُمۡ فَإِنَّكَ أَنتَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ }
وكذلك فعلت عائشة رضي الله عنها عنها حين رددت آية من سورة الطور { فَمَنَّ ٱللَّهُ عَلَيۡنَا وَوَقَىٰنَا عَذَابَ ٱلسَّمُومِ }
وكان جماعة من السلف يتلو الواحد منهم الآية الواحدة ليلة كاملة أو معظم ليه يتدبرها أو يرددها إلى الصباح فالتدبر هو المقصود والترداد من وسائله وتلك النماذج دافع للاقتداء فقراءة آية بتفكر وتفهم خير من قراءة ختمة بغير تدبر وتفهم
من أعظم نعم الله تعالى على عباده نعمة العقل الذي هو آلة التفكير وجاء في القران الكريم الحث على التفكير فقد وردت مادة ( التفكر ) في حوالي تسعة عشر موضعا وختمت سبع آيات بقوله تعالى { يَتَفَكَّرُونَ } وفي مواضع أخرى جاء التوبيخ للذين عطلوا عقولهم وتفكيرهم كما قال تعالى : { أَفَلَمۡ يَسِيرُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَتَكُونَ لَهُمۡ قُلُوبٞ يَعۡقِلُونَ بِهَآ أَوۡ ءَاذَانٞ يَسۡمَعُونَ بِهَاۖ فَإِنَّهَا لَا تَعۡمَى ٱلۡأَبۡصَٰرُ وَلَٰكِن تَعۡمَى ٱلۡقُلُوبُ ٱلَّتِي فِي ٱلصُّدُورِ }
وقد عرف الجرجاني التفكر أنه إعمال القلب في النظر للأدلة { كَذَٰلِكَ
يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمُ ٱلۡأٓيَٰتِ لَعَلَّكُمۡ تَتَفَكَّرُونَ } وهناك مجالان عظيمان للتفكر :
التفكر في آيات الله المشهودة
وهي تختص بالدليل العياني كما قال تعالى {إِنَّ فِي خَلۡقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَٱخۡتِلَٰفِ ٱلَّيۡلِ وَٱلنَّهَارِ لَأٓيَٰتٖ لِّأُوْلِي ٱلۡأَلۡبَٰبِ ١٩٠ ٱلَّذِينَ يَذۡكُرُونَ ٱللَّهَ قِيَٰمٗا وَقُعُودٗا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمۡ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلۡقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ رَبَّنَا مَا خَلَقۡتَ هَٰذَا بَٰطِلٗا سُبۡحَٰنَكَ فَقِنَا عَذَابَ ٱلنَّارِ } وقد ثبت في صحيح ابن حبان وغيره مرفوعا " لقد نزلت علي الليلة آية ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها " ثم تلا هذه الآية
وتعددت أصناف التفكير في هذا الزمن فمن الناس من شغل بالتفكير السقيم بصرفه في الدنيا الزائلة و قلة تفكره في الآخرة وما يترتب عليه من التقوى , ومنهم من عظم العقل وقدمه على النقل فوكلوا اليه فازدادوا حيرة وشكوكا , ومنهم من تبلد تفكيره فلا يعتبرون بما يرون ويسمعون , ومنهم من عطل تفكيره وقلد غيره وأسلم عقله لغيره فلا يرى إلا بأعينهم ولا يفكرون إلا بتفكيرهم , والواجب اشغال النفس بهذه العبادة وتعاهدها فإن التفكير السليم يوصل صاحبه لخير الدنيا والآخرة
c.أسباب تحصيل الخشوع
صفاء القلب فهو محل الخشوع ونزول القرآن قال تعالى :
{ وَإِنَّهُۥ لَتَنزِيلُ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ ١٩٢ نَزَلَ بِهِ ٱلرُّوحُ ٱلۡأَمِينُ ١٩٣ عَلَىٰ قَلۡبِكَ لِتَكُونَ مِنَ ٱلۡمُنذِرِينَ ١٩٤ }
تحقيق العلم , قال تعالى : { إِنَّمَا يَخۡشَى ٱللَّهَ مِنۡ عِبَادِهِ ٱلۡعُلَمَٰٓؤُاْۗ }
معرفة القدوات كما في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين
تحسين الصوت والترتيل
التفكر بالآيات
وهو من أبرز مقاصد التدبر فقد جاء رجل لابن مسعود رضي الله عنه فقا له : أوصني , قال : إذا سمعت الله عز وجل يقول { يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ } فأصغ لها سمعك فإنه خير توصى به أو شر تصرف عنه
وقال تعالى { مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ } الانذار عن الوقوع في المخالفة والبشارة لمن امتثل وأطاع
إن من لازم إيمان المتدبر ومحبته لربه الامتثال لأوامره التي أنزلها في كتابه وإن من لازم علامات العلم النافع العمل بهذه الأوامر التي علمها المرء
وقد كان أبو الدرداء رضي الله عنه يقول : أخوف ما أخاف أن يقال لي يوم القيامة : يا عويمر : أعلمت أم جهلت ؟ فإن قلت : علمت , فيقال : لا تبقى آية آمرة أو زاجرة إلا أخذت بفريضتها : الآمرة هل ائتمرت ؟ والزاجرة هل ازدجرت ؟ وأعوذ بالله من علم لا ينفع ونفس لا تشبع ودعاء لا يسمع .
من أوتي علم القرآن فلم ينتفع وزجرته نواهيه فلم يرتدع وارتكب من المآثم قبيحا ومن الجرائم فضوحا كان القرآن حجة عليه وخصما لديه
فقد أخبرت عائشة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان خلقه القرآن بمعنى أنه كان يعمل به ويأتمر بأوامره وينتهي عن نواهيه ويستقيم على الأخلاق والأعمال التي يحبها الله سبحانه ويرضاها
وإن عدم العمل بالقرآن والوقوف عند حلاله وحرامه يعتبر من ألوان هجره {وَقَالَ ٱلرَّسُولُ يَٰرَبِّ إِنَّ قَوۡمِي ٱتَّخَذُواْ هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانَ مَهۡجُورٗا }
مثال : قال الله تعالى : { ٨٩ ۞إِنَّ ٱللَّهَ يَأۡمُرُ بِٱلۡعَدۡلِ وَٱلۡإِحۡسَٰنِ وَإِيتَآيِٕ ذِي ٱلۡقُرۡبَىٰ وَيَنۡهَىٰ عَنِ ٱلۡفَحۡشَآءِ وَٱلۡمُنكَرِ وَٱلۡبَغۡيِۚ يَعِظُكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَذَكَّرُونَ } فقد جمعت هذه الآية أوامر هي أصول التقوى ونواهي هي أصول المعاصي لذلك فهي أجمع آية في كتاب الله
أ-شرف هذه المنزلة وعلوها
الاستنباط لغة الاستخراج { لَعَلِمَهُ ٱلَّذِينَ يَسۡتَنۢبِطُونَهُۥ مِنۡهُمۡۗ } أي يستخرجونه
ومعناه استخراج ما خفي المراد به من اللفظ
ويكفي في شرفه ان الله مدح اهله في الاية السابقة وأخبر أنهم أهل العلم
والاستنباط قدر زائد على التفسير وتنال به العلل والمعاني والأشباه والنظائر ومقاصد المتكلم وللاستنباط علاقة قوية بالتدبر فالاستنباط فرع من التدبر لانه استخراج ما خفي من النص القرآني بطريق صحيح وهذا نتيجة من نتائج التدبر
ب-شروط الاستنباط:
هناك شروط خاصة بالمستنبط من جهة تكوينه وتأهيله للاستنباط
بأن يكون مجتهد مكثر من العلم قوي الإيمان قوي العلم صبور مخلص لله , غير مبتدع ولا مصر على ذنب , ولا يستند لمفسر يفسر بالظاهر او بالمعقول بل يجب أن تكون له معرفة بالتفسير الصحيح وله علم بالعربية ومعرفة معاني الألفاظ ودلالاتها ولا يكون في قلبه كبر أو هوى أو حب للدنيا ولابد من معرفة الطرق الصحيحة للاستنباط
وشروط خاصة بالمعنى المستنبط
سلامة المعنى المستنبط من معارض شرعي راجح وله حالات كأن يثبت ما يعارض هذا الاستنباط شرعا
صحة ارتباطه بالنص أي يستخرج المعنى بطريق صحيح فيكون بينه وبين لفظ الآية ترابط بأن تدل عليه الآية بأحد وجوه الدلالة أو بقاعدة من قواعد الاستنباط الصحيحة
أن يكون مما للرأي فيه مجال فما استأثر الله بعلم لا سبيل لأحد للوصول إليه
أن يكون مجال إعمال الذهن في الاستنباط من ألفاظ القرآن لا من لفظ التفسير أو الترجمة للقران فهما لا يحلان محل القرآن
1-الاستنباط بالجمع بين آيتين مثال استنباط علي رضي الله عنه من الآيتين : { وَحَمۡلُهُۥ وَفِصَٰلُهُۥ ثَلَٰثُونَ شَهۡرًاۚ} و { وَفِصَٰلُهُۥ فِي عَامَيۡنِ } أن أقصر مدة للحمل هي ستة أشهر
2-الاستنباط بدلالة النص ( مفهوم الموافقة) فدلالة قوله تعالى { فَلَا تَقُل لَّهُمَآ أُفّٖ } يستنبط منه تحريم زجرهما بأي كلمة
3--الاستنباط بإعمال مفهوم المخالفة ( دليل الخطاب) مثال استنباط الامام الشافعي وقوع الرؤية من قوله تعالى { كَلَّآ إِنَّهُمۡ عَن رَّبِّهِمۡ يَوۡمَئِذٖ لَّمَحۡجُوبُونَ }
4-الاستنباط بدلالة الإشارة , وهي دلالة اللفظ على حكم غير مقصود ولا سيق له نص ولكن لازم للحكم الذي سيق لإفادته الكلام مثال : تسمية المهاجرين بالفقراء في قوله تعالى { لِلۡفُقَرَآءِ ٱلۡمُهَٰجِرِينَ ٱلَّذِينَ أُخۡرِجُواْ مِن دِيَٰرِهِمۡ وَأَمۡوَٰلِهِمۡ.} فاستنبط انهم زالت أملاكهم عما خلفوا بمكة لاستيلاء الكفار عليها
أ-أثر تدبر القرآن الكريم على الفرد والمجتمع
أثره الإيماني هو وجل القلب و اعتمال الجوارح قال تعالى : { إِنَّمَا ٱلۡمُؤۡمِنُونَ ٱلَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ ٱللَّهُ وَجِلَتۡ قُلُوبُهُمۡ وَإِذَا تُلِيَتۡ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتُهُۥ زَادَتۡهُمۡ إِيمَٰنٗا وَعَلَىٰ رَبِّهِمۡ يَتَوَكَّلُونَ ٢ ٱلَّذِينَ يُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَمِمَّا رَزَقۡنَٰهُمۡ يُنفِقُونَ ٣ أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ حَقّٗاۚ لَّهُمۡ دَرَجَٰتٌ عِندَ رَبِّهِمۡ وَمَغۡفِرَةٞ وَرِزۡقٞ كَرِيمٞ ٤ } فأصبحوا هم المؤمنون حقا لأنهم جمعوا بين العلم والعمل
أيضا من أثره الإيماني زيادة الإيمان بالله حق الإيمان والإخلاص له ومحبته وخشيته
ومن أثره الإيماني هداية القلب من عند الله قال تعالى : { وَمَن يُؤۡمِنۢ بِٱللَّهِ يَهۡدِ قَلۡبَهُۥ } فيطمئن ويسعد { ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَتَطۡمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكۡرِ ٱللَّهِۗ أَلَا بِذِكۡرِ ٱللَّهِ تَطۡمَئِنُّ ٱلۡقُلُوبُ }
ومن أثره الإيماني أنه يعمق الأخوة والمحبة والرحمة والترابط والأمن والاستقرار فيكون كالجسد الواحد واذا استشعر المجتمع ذلك تمسك به وحافظ عليه وسعى لنشره
إن أثر التدبر النفسي عظيم يصحح الأفكار ويطيب النفوس ويفرق الهموم ويشفي الأمراض قال تعالى { قُلۡ بِفَضۡلِ ٱللَّهِ وَبِرَحۡمَتِهِۦ فَبِذَٰلِكَ فَلۡيَفۡرَحُواْ هُوَ خَيۡرٞ مِّمَّا يَجۡمَعُونَ }
وقد أثبتت الكثير من الدراسات المعاصرة أثر القرآن على الصحة النفسية للفرد والمجتمع وتحصينهما من الأمراض النفسية والاجتماعية
فالقران الكريم جاء في أوصافه أنه مبارك ومن آثار هذه البركة الراحة النفسية للأفراد والمجتمعات
من أهم مقاصد الآيات تهذيب سلوك المتلقي وأخلاقه وتزكية نفسه والرقي بها إلى معالي الأمور ومكارم الأخلاق قال تعالى { إِنَّ هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانَ يَهۡدِي لِلَّتِي هِيَ أَقۡوَمُ وَيُبَشِّرُ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ٱلَّذِينَ يَعۡمَلُونَ ٱلصَّٰلِحَٰتِ أَنَّ لَهُمۡ أَجۡرٗا كَبِيرٗا } وقال تعالى : { وَعِبَادُ ٱلرَّحۡمَٰنِ ٱلَّذِينَ يَمۡشُونَ
عَلَى ٱلۡأَرۡضِ هَوۡنٗا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ ٱلۡجَٰهِلُونَ قَالُواْ سَلَٰمٗا } إلى قوله تعالى { وَٱلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبۡ لَنَا مِنۡ أَزۡوَٰجِنَا وَذُرِّيَّٰتِنَا قُرَّةَ أَعۡيُنٖ وَٱجۡعَلۡنَا
لِلۡمُتَّقِينَ إِمَامًا }
فوصفهم الله تعالى بأحد عشرة خصلة من خصال الخير والأخلاق
وكذلك في سورة لقمان الوصايا التي أوصى بها لقمان لابنه وما فيها من أخلاق ابتداء من اية{ وَلَقَدۡ ءَاتَيۡنَا لُقۡمَٰنَ ٱلۡحِكۡمَةَ أَنِ ٱشۡكُرۡ لِلَّهِۚ }
وكذلك آيات الوصايا العشر التي ذكرت في سورة الأنعام { ۞قُلۡ تَعَالَوۡاْ أَتۡلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمۡ عَلَيۡكُمۡۖ أَلَّا تُشۡرِكُواْ
بِهِۦ شَيۡ?ٔٗاۖ }
ب-أثر تدبر القرآن الكريم على الأمة
الأمن لغة ضد الخوف , و يستعمل في سكون القلب الذي يعني الراحة النفسية والطمأنينة والاستقرار وعدم الخوف
ومعناه عند المفسرين : حالة اطمئنان النفس وراحة البال وانتفاء الخوف من كل ما يخاف منه وهو يجمع جميع الأحوال الصالحة للإنسان من الصحة والرزق ونحو ذلك وجاء في دعوة إبراهيم عليه السلام : { رَبِّ ٱجۡعَلۡ هَٰذَا ٱلۡبَلَدَ ءَامِنٗا }
والقران الكريم يحوي جميع الجوانب التي يتحقق بها الأمن على جميع الأصعدة ومنها:
الأمن والاستقرار في البلاد فقال تعالى عن المسجد الحرام { وَمَن دَخَلَهُۥ كَانَ ءَامِنٗاۗ }
الأمن في المعارك والشدائد والازمات قال تعالى { ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيۡكُم مِّنۢ بَعۡدِ ٱلۡغَمِّ أَمَنَةٗ نُّعَاسٗا يَغۡشَىٰ طَآئِفَةٗ مِّنكُمۡۖ }
الأمن والنجاة من أهوال يوم القيامة قال تعالى : { أَفَمَن
يُلۡقَىٰ فِي ٱلنَّارِ خَيۡرٌ أَم مَّن يَأۡتِيٓ ءَامِنٗا يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۚ }
الأمن لأهل الجنة { ٱدۡخُلُوهَا بِسَلَٰمٍ ءَامِنِينَ } { إِنَّ ٱلۡمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٖ } والمقام الأمين موضع الإقامة, والأمين : الآمن من كل سوء وآفة ومكروه وهو الذي جمع صفات الأمن كلها
تحقيق الإيمان بالله فالمجتمع إذا آمن أمن قال تعالى { ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَلَمۡ يَلۡبِسُوٓاْ إِيمَٰنَهُم بِظُلۡمٍ أُوْلَٰٓئِكَ لَهُمُ ٱلۡأَمۡنُ وَهُم مُّهۡتَدُونَ }
فالذين يحصل لهم الأمن المطلق هم الذين يكونون مستجمعين لهذين الوصفين الإيمان والسلامة من الظلم
التمكين من الاستخلاف في الدنيا قال تعالى { وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمۡ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ لَيَسۡتَخۡلِفَنَّهُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ كَمَا ٱسۡتَخۡلَفَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمۡ دِينَهُمُ ٱلَّذِي ٱرۡتَضَىٰ لَهُمۡ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنۢ بَعۡدِ خَوۡفِهِمۡ أَمۡنٗاۚ }
شكر النعم قال تعالى عن سبأ { سِيرُواْ فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا ءَامِنِينَ ١٨ فَقَالُواْ رَبَّنَا بَٰعِدۡ بَيۡنَ أَسۡفَارِنَا وَظَلَمُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ فَجَعَلۡنَٰهُمۡ أَحَادِيثَ وَمَزَّقۡنَٰهُمۡ كُلَّ مُمَزَّقٍ.. }
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قال تعالى : { فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِۦٓ أَنجَيۡنَا ٱلَّذِينَ يَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلسُّوٓءِ وَأَخَذۡنَا ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابِۢ بَ?ِٔيسِۢ بِمَا كَانُواْ يَفۡسُقُونَ }
جاء القران الكريم لينظم حياة الأفراد بما يحقق لهم عبودية الله عز وجل في الأرض ومهمة الاستخلاف وجاء الاثر الاقتصادي للتدبر والعمل بالقران في عدة آيات وهي قاعدة قررها القرآن في مواضع متفرقة منها قال تعالى { وَلَوۡ أَنَّهُمۡ أَقَامُواْ ٱلتَّوۡرَىٰةَ وَٱلۡإِنجِيلَ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيۡهِم مِّن رَّبِّهِمۡ لَأَكَلُواْ مِن فَوۡقِهِمۡ وَمِن تَحۡتِ أَرۡجُلِهِمۚ} من فيض الرزق ووفرة النتاج بسبب العمل بما أنزل الله , وقال تعالى { وَلَوۡ أَنَّ أَهۡلَ ٱلۡقُرَىٰٓ ءَامَنُواْ وَٱتَّقَوۡاْ لَفَتَحۡنَا عَلَيۡهِم بَرَكَٰتٖ
مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلۡأَرۡضِ وَلَٰكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذۡنَٰهُم بِمَا كَانُواْ يَكۡسِبُونَ } وقوله تعالى { فَقُلۡتُ ٱسۡتَغۡفِرُواْ رَبَّكُمۡ إِنَّهُۥ كَانَ غَفَّارٗا ١٠يُرۡسِلِ ٱلسَّمَآءَ عَلَيۡكُم مِّدۡرَارٗا ١١ وَيُمۡدِدۡكُم بِأَمۡوَٰلٖ وَبَنِينَ وَيَجۡعَل لَّكُمۡ جَنَّٰتٖ وَيَجۡعَل لَّكُمۡ أَنۡهَٰرٗا }
إن المسلمين اليوم وهم يعيشون في هذه الحالة الاقتصادية المأساوية على مستوى الفرد والأمة لهم بحاجة ماسة للرجوع إلى كتاب ربهم والتمسك بمنهاجه
لو تأملنا نصوص القرآن الكريم لوجدنا في مواضع كثيرة وعد للأمة إن هي رجعت لكتاب ربها وأقامت دينها وعد بالتمكين والهيمنة على الأمم بل إن هذا القران الكريم يبشر المؤمنين بأن التمسك به يهديهم لأقوم السبل وأفضلها ومنها الجانب السياسي { إِنَّ هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانَ يَهۡدِي لِلَّتِي هِيَ أَقۡوَمُ وَيُبَشِّرُ
ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ٱلَّذِينَ يَعۡمَلُونَ ٱلصَّٰلِحَٰتِ أَنَّ لَهُمۡ أَجۡرٗا كَبِيرٗا } وجاءت كلمة (يبشر) بالمضارع الدال على التجدد والاستمرار وهذا معناه ان البشرى متجددة لكل جيل ولكل حالة على مر العصور ومن أبرز المشكلات العالمية التي جاء حلها في القرآن هي :
مشكلة ضعف المسلمين في العدد والعدة عن مقاومة الكفار وعلاجها هو صدق التوجه لله وقوة الإيمان والتوكل عليه والانضمام لحزبه الحقيقين
مشكلة تسليط الكفار على المؤمنين بالقتل والجراح والايذاء وقد جاء مثل ذلك في أحد فأنزل الله قوله تعالى { أَوَلَمَّآ أَصَٰبَتۡكُم مُّصِيبَةٞ قَدۡ أَصَبۡتُم مِّثۡلَيۡهَا قُلۡتُمۡ أَنَّىٰ هَٰذَاۖ قُلۡ هُوَ مِنۡ عِندِ أَنفُسِكُمۡۗ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ }فالسبب هو تنازع المسلمين في الأمر وعصيانهم أمر الله عز وجل وإرادة بعضم الدنيا على الآخرة
مشكلة اختلاف القلوب وذلك مستلزم للفشل وذهاب بقوة الدولة قال تعالى { وَلَا تَنَٰزَعُواْ فَتَفۡشَلُواْ وَتَذۡهَبَ رِيحُكُمۡۖ} وسبب هذا الداء هو ضعف العقل حيث ذكر الله تعالى في سورة الحشر ذكر العلة في كون قلوبهم شتى رغم انك تحسبهم جميعا فقال { ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ قَوۡمٞ لَّا يَعۡقِلُونَ } ولا دواء لداء نقص العقل إلا بإنارته بنور الوحي الذي يحيي من كان ميتا ويضئ الطريق للمتمسك به فيرى الحق حقا والباطل باطلا
إن الله عز وجل وعد رسوله صلى الله عليه وسلم بأنه سيجعل أمته خلفاء الأرض أي أئمة الناس والولاة عليهم وبهم تصلح البلاد وتخضع لهم العباد وهو ما يعبر عنه اليوم ( بالنهضة والتمكين) ولكن الله تعالى جعل ذلك مشروطا بتدبر كتابه وإقامة ما فيه من شرائع
وقد فعل تبارك وتعالى ذلك وله الحمد والمنة فإنه لم يمت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى فتح الله عليه مكة وخيبر والبحرين وسائر جزيرة العرب وفتوحات عديدة وقام بالأمر بعده خليفته أبو بكر الصديق رضي الله عنه وكثير من الصحابة بعده
لذا فالأمة عند رجوعها للقران لا ترجو بذلك مجد الدنيا وعزها فقط ولكنها تطيع بذلك ربها ونبيها لتفوز بخيري الدنيا والآخرة وما ذلك العز والمجد على طريق القرآن إلا عاجل البشرى في الدنيا الموصل بإذن الله إلى الفوز بالآخرة والنعيم المقيم .
تفسير ابن كثير
أخرجه ابن جرير في تفسيره والقاسم بن سلام في فضائل القرآن
تفسير الطبري (2/456)
رواه مسلم , كتاب الإيمان , باب دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لأمته وبكائه شفقة عليهم حديث رقم (202)
صحيح البخاري , كتاب الصلاة , باب : المسجد يكون في الطريق من غير ضرر بالناس , حديث رقم (464)
منهج الاستنباط من القرآن الكريم ص 45
ينظر في ذلك دراسة ميدانية على حفاظ وحافظات القرآن الكريم بمعهد الإمام الشاطبي
اضواء البيان بتصرف يسير