تذكير الإنسانية بأصلها الواحد
قرأت هذا الكلام لسيد قطب فى تفسير آية رائعة من سورة النساء ..
وأليكم ما قرأت
قال تعالى:
(يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة , وخلق منها زوجها , وبث منهما رجالا كثيرا ونساء . واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام . إن الله كان عليكم رقيبا). .
إنه الخطاب "للناس" . . بصفتهم هذه , لردهم جميعا إلى ربهم الذي خلقهم . . والذي خلقهم(من نفس واحدة). . (وخلق منها زوجها . وبث منهما رجالا كثيرا ونساء). .
إن هذه الحقائق الفطرية البسيطة لهي حقائق كبيرة جدا , وعميقة جدا , وثقيلة جدا
ولو القى "الناس" أسماعهم وقلوبهم إليها لكانت كفيلة بإحداث تغييرات ضخمة في حياتهم وبنقلهم من الجاهلية - أو من الجاهليات المختلفة - إلى الإيمان والرشد والهدى , وإلى الحضارة الحقيقية اللائقة "بالناس" و "بالنفس" واللائقة بالخلق الذي ربه وخالقه هو الله . .
إن هذه الحقائق تجلو للقلب والعين مجالا فسيحا لتأملات شتى:
1- إنها أبتداء تذكر "الناس" بمصدرهم الذي صدروا عنه ; وتردهم إلى خالقهم الذي أنشأهم في هذه الأرض . . هذه الحقيقة التي ينساها "الناس" فينسون كل شيء ! ولا يستقيم لهم بعدها أمر !
إن الناس جاءوا إلى هذا العالم بعد أن لم يكونوا فيه . . فمن الذي جاء بهم؟ أنهم لم يجيئوا إليه بإرادتهم .
فقد كانوا - قبل أن يجيئوا - عدما لا إرادة له . . لا إرادة له تقرر المجيء أو عدم المجيء .
فإرادة أخرى - إذن - غير إرادتهم , هي التي جاءت بهم إلى هنا .
إرادة أخرى - غير إرادتهم - هي التي قررت أن تخلقهم . إرادة أخرى - غير إرادتهم - هي التي رسمت لهم الطريق , وهي التي اختارت لهم خط الحياة . . إرادة أخرى - غير إرادتهم - هي التي منحتهم وجودهم ومنحتهم خصائص وجودهم , ومنحتهم استعداداتهم ومواهبهم , ومنحتهم القدرة على التعامل مع هذا الكون الذي جيء بهم إليه من حيث لا يشعرون ! وعلى غير استعداد , إلا الاستعداد الذي منحتهم إياه تلك الإرادة التي تفعل ما تريد .
ولو تذكر الناس هذه الحقيقة البديهية التي يغفلون عنها لثابوا إلى الرشد من أول الطريق . .
إن هذه الإرادة التي جاءت بهم إلى هذا العالم , وخطت لهم طريق الحياة فيه , ومنحتهم القدرة على التعامل معه , لهي وحدها التي تملك لهم كل شيء , وهي وحدها التي تعرف عنهم كل شيء , وهي وحدها التي تدبر أمرهم خير تدبير .
وإنها لهي وحدها صاحبة الحق في أن ترسم لهم منبع حياتهم , وأن تشرع لهم أنظمتهم وقوانينهم , وأن تضع لهم قيمهم وموازينهم . وهي وحدها التي يرجعون إليها وإلى منهجها وشريعتها وإلى قيمها وموازينها عند الاختلاف في شأن من هذه الشؤون , فيرجعون إلى النهج الواحد الذي إراده الله رب العالمين .
2- كما أنها توحي بأن هذه البشرية التي صدرت من إرادة واحدة , تتصل في رحم واحدة , وتلتقي في وشيجة واحدة , وتنبثق من أصل واحد , وتنتسب إلى نسب واحد:
(يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة , وخلق منها زوجها , وبث منهما رجالا كثيرا ونساء). .
ولو تذكر الناس هذه الحقيقة , لتضاءلت في حسهم كل الفروق الطارئة , التي نشأت في حياتهم متأخرة , ففرقت بين أبناء "النفس" الواحدة , ومزقت وشائح الرحم الواحدة .
وكلها ملابسات طارئة ما كان يجوز أن تطغى على مودة الرحم وحقها في الرعاية , وصلة النفس وحقها في المودة , وصلة الربوبية وحقها في التقوى .
واستقرار هذه الحقيقة كان كفيلا باستبعاد الصراع العنصري , الذي ذاقت منه البشرية ما ذاقت , وما تزال تتجرع منه حتى اللحظة الحاضرة ; في الجاهلية الحديثة , التي تفرق بين الألوان , وتفرق بين العناصر , وتقيم كيانها على أساس هذه التفرقة , وتذكر النسبة إلى الجنس والقوم , وتنسى النسبة إلى الإنسانية الواحدة والربوبية الواحدة .
واستقرار هذه الحقيقة كان كفيلا كذلك باستبعاد الاستبعاد الطبقي السائد في وثنية الهند والصراع الطبقي , الذي تسيل فيه الدماء أنهارا , في الدول الشيوعية , والذي ما تزال الجاهلية الحديثة تعتبره قاعدة فلسفتها المذهبية , ونقطة انطلاقها إلى تحطيم الطبقات كلها , لتسويد طبقة واحدة , ناسية النفس الواحدة التي انبثق منها الجميع , والربوبية الواحدة التي يرجع إليها الجميع !
3- والحقيقة الأخرى التي تتضمنها الإشارة إلى أنه من النفس الواحدة (خلق منها زوجها). . كانت كفيلة - لو أدركتها البشرية - أن توفر عليها تلك الأخطاء الأليمة , التي تردت فيها , وهي تتصور في المرأة شتى التصورات السخيفة , وتراها منبع الرجس والنجاسة , وأصل الشر والبلاء . . وهي من النفس الأولى فطرة وطبعا , خلقها الله لتكون لها زوجا , وليبث منهما رجالا كثيرا ونساء , فلا فارق في الأصل والفطرة , إنما الفارق في الاستعداد والوظيفة . .
ولقد خبطت البشرية في هذا التيه طويلا . جردت المرأة من كل خصائص الإنسانية وحقوقها . فترة من الزمان . تحت تأثير تصور سخيف لا أصل له . فلما أن أرادت معالجة هذا الخطأ الشنيع اشتطت في الضفة الأخرى , وأطلقت للمرأة العنان , ونسيت أنها إنسان خلقت لإنسان , ونفس خلقت لنفس , وشطر مكمل لشطر , وأنهما ليسا فردين متماثلين , إنما هما زوجان متكاملان .
والمنهج الرباني القويم يرد البشرية إلى هذه الحقيقة البسيطة بعد ذلك الضلال البعيد . .
4- كذلك توحي الآية بأن قاعدة الحياة البشرية هي الأسرة .
فقد شاء الله أن تبدأ هذه النبتة في الأرض بأسرة واحدة . فخلق ابتداء نفسا واحدة , وخلق منها زوجها . فكانت أسرة من زوجين . (وبث منهما رجالا كثيرا ونساء). .
ولو شاء الله لخلق - في أول النشأة - رجالا كثيرا ونساء , وزوجهم , فكانوا أسرا شتى من أول الطريق . لا رحم بينها من مبدأ الأمر .ولا رابطة تربطها إلا صدورها عن إرادة الخالق الواحد . وهي الوشيجة الأولى .
ولكنه - سبحانه - شاء لأمر يعلمه ولحكمة يقصدها , أن يضاعف الوشائج . فيبدأبها من وشيجة الربوبية - وهي أصل وأول الوشائج - ثم يثني بوشيجة الرحم , فتقوم الأسرة الأولى من ذكر وأنثى - هما من نفس واحدة وطبيعة واحدة وفطرة واحدة - ومن هذه الأسرة الأولى يبث رجالا كثيرا ونساء , كلهم يرجعون ابتداء إلى وشيجة الربوبية , ثم يرجعون بعدها إلى وشيجة الأسرة . التي يقوم عليها نظام المجتمع الإنساني . بعد قيامه على أساس العقيدة .
إن نظرة إلى هذا التنوع المنبثق من ذلك التجمع لتشي بالقدرة المبدعة على غير مثال , المدبرة عن علم وحكمة , وتطلق القلب والعين يجولان في ذلك المتحف الحي العجيب , يتمليان ذلك الحشد من النماذج التي لا تنفد , والتي دائما تتجدد , والتي لا يقدر عليها إلا الله , ولا يجرؤ أحد على نسبتها لغير الله .
فالإرادة التي لا حد لما تريد , والتي تفعل ما تريد , هي وحدها التي تملك هذا التنويع الذي لا ينتهي , من ذلك الأصل الواحد الفريد !
والتأمل في "الناس" على هذا النحو كفيل بأن يمنح القلب زادا من الأنس والمتاع , فوق زاد الإيمان والتقوى . . وهو كسب فوق كسب , وارتفاع بعد ارتفاع !
مدام وائل @mdam_oayl
محررة برونزية
يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.
الصفحة الأخيرة