تُرى كَم يبلُغ مُلكِك؟!!

ملتقى الإيمان

بسم الله الرحمن الرحيم
أخواتي الفاضلات:
إن الإنسان مهما بلغ مُلكه من متاع الدنيا، فهل يملك قُوَّته؟هل يملك عافيته؟ هل يملُك سمعه أو بصره؟ هل يمالُك ارتفاع هامته؟ أو نمو خلاياه،أو أعصابه.؟!!!
وكيف السبيل إلى مُلك ذلك إذن؟؟!!!

إذا أردتِ معرفة التفاصيل،فإني أدعوكِ لقراءة السطور التالية للشيخ الدكتور " محمد راتب النابلسي" إمام وخطيب مسجد النابلسي بدمشق،والمُحاضر بجامعة دمشق ...وهي متاحة ايضاً على موقعه:www.nabulsi.com


بسم الله الرحمن الرحيم
=================

الحمد لله رب العالمين،والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا عِلم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علِّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علما ، وأرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة المؤمنون : الاسم اليوم مالك الملك ،وهو من أسماء الله تعالى الحسنى ، بدليل قوله تعالى :
الأعراف: الآية 180
إذا قلت:يا مالك الملك بك أستجير ؛ فهذا دعاء صحيح .
و في القرآن الكريم ورد اسم الملِك ، والمالك ، والمَليك ، ومالك الملك والملَكوت ، حصرا ، أما اسم الملك ففي ، قوله تعالى :
سورة الحشر : الآية 23
وفي قوله تعالى
سورة الناس : الآية 1 ـ 2
وأما اسم المالك ففي الفاتحة الشريفة :
سورة الفاتحة : الآية 2 ـ 4
وأما المليك ففي قوله تعالى :
سورة القمر : الآية 54 ـ 55
وأما مالك الملك فقد ورد هذا الاسم مرة واحدة في قوله تعالى :
سورة آل عمران: الآية 26
وأما الملكوت ففي قوله تعالى :
يس: الآية83
أيها الإخوة الكرام : قبل أن نمضي في الحديث عن هذا الاسم الجليل ؛ أريد أن أقف قليلا عند خطورة هذا الموضوع . فالله سبحانه وتعالى لا تُدركه الأبصار ، وقد أمرنا أن نؤمن به ، وأن نعبده ، وأن نتوجه إليه ، وأن نحبه . فربنا عز وجل تيسيرا لنا كي نعبده ؛ ذكر أسماءه الحسنى في كتابه الكريم ، وجعل الكون كله دالا عليه ، وجعل الكون كله مظهرا لأسمائه الحسنى وصفاته العظمى . فأنت حينما تبحث في أسماء الله الحسنى ، تتعرف إلى الله . وكلما ازددت معرفة بأسمائه الحسنى ، ازددت معرفة به. فالشيء المادي بإمكانك إدراكه باللمس ، وأن تعرف وزنه ، وطوله ، وارتفاعه ، وعرضه ، وحجمه ، ولونه ، وخصائصه ؛ لكن إذا أردت أن تتعرف إلى الله عز وجل ، في الحياة الدنيا يستحيل أن تدركه بحواسك ؛ لا بد من أن تدركه بعقلك . قد تقول أن هذا الكون يدل على خالق عظيم ، ومسيِّر حكيم ، ومُربٍّ رحيم . ولكن التفاصيل ؛ ما صفاته ؟ وما هي أسماؤه ؟ هو رحمن رحيم ، ملك ، هو الله الذي لا إله إلا هو الملك، القدوس ، السلام ، المؤمن ، المهيمن ، العزيز ، الجبار ، المتكبر . فحينما تجول في هذا الموضوع ، فأنت في الحقيقة تجول في أخطر موضوع على الإطلاق لأن الله سبحانه وتعالى هو كل شيء ؛ هو الأول والآخر ، والظاهر والباطن .،يقول سبحانه في الحديث القدسي:" ابن آدم اطلبني ؛ تجدني ، فإذا وجدتني ، وجدت كل شيء "
. يا رب ماذا فقد من وجدك ؟ وماذا وجد من فقدك ؟ وإذا كان الله معك فمن عليك ؟ وإذا كان عليك فمن معك ؟ .
أيها الإخوة الكرام : باب الأسماء الحسنى من أخطر الموضوعات في الدين ، لأنك من خلالها تتعرف إلى أسمائه وصفاته سبحانه وتعالى . الحقيقة أن الإنسان لايحب جهةً ما لاسمها ؛ ولكن يحبها لصفاتها . فكلما تعرفت إلى أسمائه الحسنى ، وصفاته العليا ، كانت عبادتك أصح ، وكانت خشيتك أكبر، وكان إقبالك أشد .
يقول عليه الصلاة والسلام فيما روي عن أبي هريرة لله تسعة وتسعون اسما من حفظها دخل الجنة وإن الله وِتر يحب الوِتر(وممكن أن نقول : وَتر يحب الوَتر) وفي رواية ابن أبي عمر :"من أحصاها"
صحيح مسلم ، فما معنى من أحصاها ؟ الله عز وجل قال:
مريم :الآية94
الإحصاء شيء والعد أو التعداد شيء آخر ، تقول : كم طالبا في الصف ؟ إذا ذكرت عددهم ، كان هذا تعدادا . أما إن ذكرت أعمارهم ، مستوياتهم ، ورجاحتهم ، أخلاقهم ، طموحاتهم ، اجتهادهم ، أوصافهم ، كان ذلك إحصاء ، فالعد كمي ، أما الإحصاء فهو نوعي.فالله أراد منا الإحصاء لا التعداد لأسماءه ، بل أراد منا أن نُحصيها ومن أحصاها دخل الجنة ، هناك معنى ضمني ؛ وهو من أحصاها أي : من تعرَّف إليها فأقبل على الله واستقام على أمره ، سعد في الدنيا ، وفي الآخرة أُكرم بالجنة . فالنبي صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى؛ إذ أنه في الحديث الصحيح يؤكد لنا أنك إذا أحصيت أسماء الله الحسنى ، دخلت الجنة .
لكن بالمناسبة نقول : ليس كل الأسماء الحسنى وردت في الحديث الشريف ، لعل النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الأسماء الحسنى التي نحن في أمس الحاجة إلى معرفتها ؛ فهناك أسماء حسنى كثيرة وردت في كتاب الله ولم ترد في هذا الحديث ، والأسماء الحسنى التي وردت في هذا الحديث عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن لله تعالى تسعة وتسعين اسما مائة غير واحد من أحصاها دخل الجنة هو الله الذي لا إله إلا هو الرحمن الرحيم الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر الخالق البارئ المصور الغفار القهار الوهاب الرزاق الفتاح العليم القابض الباسط الخافض الرافع المعز المذل السميع البصير الحكم العدل اللطيف الخبير الحليم العظيم الغفور الشكور العلي الكبير الحفيظ المقيت الحسيب الجليل الكريم الرقيب المجيب الواسع الحكيم الودود المجيد الباعث الشهيد الحق الوكيل القوي المتين الولي الحميد المحصي المبدئ المعيد المحيي المميت الحي القيوم الواجد الماجد الواحد الصمد القادر المقتدر المقدم المؤخر الأول الآخر الظاهر الباطن الوالي المتعالي البر التواب المنتقم العفو الرءوف مالك الملك ذو الجلال والإكرام المقسط الجامع الغني المغني المانع الضار النافع النور الهادي البديع الباقي الوارث الرشيد الصبور" رواه الترمذي

أيها الإخوة : اسمحوا لي أن أروي لكم هذا الدعاء النبوي ، يروي عبد الله ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما قال عبد قط إذا أصابه هم وحزن :" اللهم إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك ، ناصيتي بيدك ماض في حكمك ، عَدْل فِيَّ قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك ، سميت به نفسك ، أو أنزلته في كتابك ، أو علمته أحدا من خلقك ، أو استأثرت به في علم الغيب عندك ، أن تجعل القرآن ربيع قلبي ، ونور صدري ، وجلاء حزني ، وذهاب همي ، إلا أذهب الله عز وجل همه ، وأبدله مكان حزنه فرحا . قالوا : يا رسول الله، ينبغي لنا أن نتعلم هؤلاء الكلمات ؟ قال : أجل ينبغي لمن سمعهن أن يتعلمهن ".رواه أحمد
نتيجة الدعاء به: إلا أذهب الله حزنه ، وأبدله مكانه فرحا هذا الدعاء ؛ لا بد أن يحفظه المؤمن ، حتى إذا أصابه مكروه أو هم أو حزن دعا به ، والنبي صلى الله عليه وسلم صادق مصدوق .
قال تعالى:
آل عمران: الآية 26
المُلك هو الكون . والكون ما سوى الله ؛ فالله واجب الوجود ، و الكون ممكن الوجود ، ما سوى الله هو المُلك . لكن السؤال:" لماذا جاءت كلمة المُلك بصيغة المُفرد؟ " ، مع أن هناك سماوات ، ومجرات ، وكازرات ، ومذنبات ، وثقوب سوداء ، ومسافات بينية شاسعة ، والأرض فيها أودية ، وجبال وصحراء وسهول وطيور وحيوانات وإنس وجن
خَلْق كثير لا يعلمهم إلا الله أسماك - نباتات -عوالم - في البحار وحدها أكثر من مليون نوع سمك . كل هذا الكون سماه الله مُلكا بلفظ المفرد فما حكمة ذلك ؟ هناك حكمة كبيرة جدا ؛ وهو أن الكون كله متناسق مع بعضه بعضا ، كل جزء فيه يعمل للمجموع ، لأن الله سبحانه وتعالى صممه لذلك؛ فالحيوان للإنسان ، والنبات للحيوان ، والتراب للنبات ، والماء للتراب ، وحجم الأرض يتناسب مع طاقة الإنسان وسرعتها حول نفسها تتناسب مع امكاناته وهكذا... أهم كلمة في هذا الكون أنه وحدة متكاملة ، والله سبحانه وتعالى مالك الملك وأمره نافذ فيه . يوم القيامة يقول الله عز وجل :
الشورى :الآية 53
قد يسأل سائل بيد من كانت ثم آلت إليه ؟ الحقيقة : هي إليه في الأول والآخر ؛ ولكن أهل الدنيا والمشركين و الكفار ، والفجار ، والمنافقين ، وضعاف الإيمان ، يرون في الأرض آلهة كثيرة ؛ مراكز قوى ، وأشخاصا أقوياء ، يأمرون فيُطاعون ، ويدمرون ... يرفعون ... يخفضون ... أما المؤمن فلا يرى إلا الله في الدنيا ، يرى:
سورة الفتح : الآية 10
يرى :
سورة الحديد الآية : 3
يرى أنه
سورة فاطر : الآية 2
يرى أنه :
سورة الأعراف : الآية 54
يرى
سورة الزمر : الآية 62
يرى :
سورة هود : الآية 123
فهذه رؤية المؤمن ، لا يرى مع الله أحدا ، وهذا هو التوحيد ، وما تعلَّمَت العبيد أفضل من التوحيد ، لكن العصاة والمشركين والكفار يرون أشخاصا أقوياء أرادتهم نافذة ، أما الحقيقة هو أنه لا ينفُذ في كون الله إلا إرادة الله . ما شاء الله كان ، ومالم يشأ لم يكن .
سورة الرعد : الآية 41
سورة الكهف
فالمؤمن الصادق لا يرى مع الله أحدا ، يرى صورا ودُمى تتحرك في الخفاء ، لكن الله هو كل شيء ، قال تعالى :
سورة الحديد : الآية 3
لذلك:
سورة الشورى : الآية 53
حتى الكفار يوم القيامة يرون أن الأمور كلها بيد الله . أما المؤمنون فهم وحدهم الذين يرون هذه الحقيقة في الدنيا ، الكفار تغيب عنهم هذه الحقيقة فيرون الأمور بيد زيد أو عبيد ، تذكرون : أن التابعي الجليل الحسن البصري كان عند والي البصرة للخليفة يزيد بن معاوية ، فجاءه البريد يحمل توجيها ؛ إن نفَّذه ، أغضب الله سبحانه وتعالى ، وإن لم ينفِّذه ، أغضب الخليفة وربما أزاحه من مكانه . فوقع في حيرة شديدة فسأل الحسن البصري ، فقال الحسن البصري : إن الله يمنعك من يزيد ، ولكن يزيد لا يمنعك من الله . بمعنى أنه إذا غضب أهل الأرض جميعا عليك والله راض عنك ، فلن يستطيعوا أن يفعلوا لك شيئا .
" واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك "
فملخص الملخص : ما شاءَ كان ومالم يشأ لم يكن . معنى مالك الملك ؛ فهذا الكون العظيم تحكمه إرادة واحدة نافذة فيه هي إرادة الله. قال تعالى :
سورة يونس: الآية 24
أتاها أمرُنا - لا أمرهم - يقول مثلا : الدولة الفلانية عندها قنابل نووية كافية لتدمير الأرض خمس مرات الآن هي في الحضيض ، في الوحول ، هي الآن مفتتة ، كل أنواع السقوط في هذه الدولة ، قال تعالى :
سورة يونس : الآية 24
فهذا المُلك العظيم ؛ فيه إرادة واحدة نافذة ؛ هي إرادة الله . بربك إذا أيقنت هذا اليقين هل تتوجه لغير الله ؟! هل تخشى غير الله ؟! هل ترجو غير الله ؟ هل تطمح إلى غير الله ؟ هذا هو التوحيد ؛ طُرُقه كلها تؤدي إلى الله عز وجل .
يقول الإمام الغزالي : مالك الملك ؛ هو الذي تنفذ مشيئته في مملكته كيف يشاء وكما يشاء ؛ إيجادا وإعداما ، إبقاء وإفناء ، والمُلك هنا ؛ بمعنى المملكة ، والمالك ؛ بمعنى القادر التام القدرة . والموجودات كلها مملكة واحدة ؛ لأنها متناسقة مرتبط بعضها ببعض فإنها تعني أن حجم الأرض متناسب مع الإنسان. أحيانا لو وجدت قفلا في بيت ، ووجدت مفتاحا في آخر ؛ هذا المفتاح فتح ذاك القفل ، تقول : كلاهما من مصنع واحد ، طالما فيهما انسجام .
أحيانا يشتري أحدنا قطعة لسيارته ، تأتي هذه القطعة في مكانها الصحيح بالميليمترات .معنى ذلك ؛ أن المحل واحد . والذي صمم واحد والذي أعطى القياسات واحد . فهي وإن كانت كثيرة من وجه ؛ إلا أنها وحدة واحدة ، الكون كله يعمل بالتنسيق ، فالانسجام دليل وحدة الخالق .
هناك معنى واسع ، وهناك معنى واحد ؛ خمسة آلاف مليون إنسان كل واحد يحمل قزحية عين تختلف عن الأخرى ؛ من أجل ذلك صممت أقفال لا تفتح إلا على قزحية العين . لأن إنسانا واحدا في الأرض لا يمكن أن يشبهك في قزحية عينك ،معنى ذلك أن الله واسع. كما أن لكل إنسان رائحة جلد لا يمكن أن يشركه فيها أحد من الخلق وأساس الكلب البوليسي رائحة الجسم ، ونبرة الصوت كذلك لا يمكن أن تتشابه في الأرض نبرتان . تعرف الشخص من نبرات صوته ، فأصبح لدينا قزحية العين ، ورائحة الجلد ، ونبرة الصوت ، بصمتين ، وبلازما الدم ، كذلك اكتشفوا الآن مليارين ونصف وحدة نسيجية . يعني أن هناك واحد فقط في الأرض وحدته النسيجية تشبه وحدتك ، وبصمة اليد هذه الأنملة بمعنى أنه لو وجد مئة نقطة بين جزيرة ، وخليج ، ورأس ، ونتوء ، وفرع ، وغصن ، هناك مئة صفة لبصمة اليد . ولو تشابهت سبع صفات في بصمتين لكانت لإنسان واحد بصمة اليد توقيع . فهذه الاختلافات كلها تعني أن الله واسع . بالمقابل تجد أن شركة أدوية تصنع دواء في بلد ما كندا مثلا؛ فإذا استعمل شخص من استراليا نفعه هذا الدواء ؛ ما معنى هذا ؟ هذا يدل أن الخلق واحد في البِنَى الأساسية ، وفي الخصائص ، إذن هناك وحدة في الخلق . تجد طبيبا درس الجراحة ببلد ما ؛أمريكا مثلا يقول في اختصاصه أن العصب الفلاني على بعد 2سم من مكان كذا ... بالتفاصيل الدقيقة ثم يقيم عملية جراحية بالخليج لإنسان في عروق وأعصاب كما درسها هذا الطبيب في أمريكا ، من هنا قال بعض العارفين : والله يا رب لو تشابهت ورقتا زيتون ، لما سمِّيت الواسع . وأقرب من هذا وجوه البشر ؛ فكل واحد منا له شكل وطريقة في العيش فهذا يدل على سعة الخلق وحينما تكون الأجهزة واحدة ؛ القلب واحد ، والرئتان ، المعدة ، الأمعاء ، الشرايين ، الأوردة ، الأعصاب ، العظام ، خصائص العظام ؛ زمن التحامها ، الطبيب مثلا من مصر ودرس في روسيا ، والمريض في أفريقيا . معنى ذلك أنه يوجد قواعد عامة في الجسم .
فالله عز وجل واحد واسع ، أما لو قلت لمهندس ما : صمِّم لنا بناء يمكن أن يرسم مخططا وآخر وآخر ثم يقف . ومثل ذلك هندسة السيارات يصممون شكلا بيضويا ثم شكل زوايا حادة ثم يعودون للشكل البيضوي . أي أن طاقة الإبداع محدودة عند البشر . أما في صنع الله ؛ إذا رأيت أنواع أوراق الأشجار في الأرض تجد أموراً لا تُصَدَّق ؛ أوراق إبَرية ، وأوراق دائرية ، وأوراق مسننة ، وأوراق مفلطحة ، أوراق خضراء مع لون آخر ، وأوراق واسعة ، وأوراق صغيرة ، وأوراق كبيرة ، وتلك تحمل الألوان الجذابة ؛ فلو دققت في أنواع الأوراق ، لأخذك العجب العجاب .
أيها الإخوة :إن الله عز وجل مالك الملك ؛ أي تنفُذ مشيئته في ملكه كما قاله الإمام الغزالي . وقيل مالك الملك ؛ هو المتصرف في ملكه كيف يشاء ، ولا راد َّلحُكمه ، ولا معقِّب لأمره . والوجود كله من جميع مراتبه ، مملكة واحدة لمالك واحد وهو الله تبارك وتعالى .
لو لاحظت البشر في كيفية ملكهم تجد أصنافا شتى ، فإذا قلنا : فلان يملك هذا البيت وقد أَجَّرهُ فهو يملك عين البيت ولا يملك منفعته ،لأن المستأجر يملك المنفعةبهذا البيت،بينما لا يملك البيت نفسه ، فإذا كنت مالك المنفعة و العين يعني البيت ؛ فإنك لا تملك المصير ؛ حيث أنه لو صدر قانون استملاك ، يضيع البيت من يدك!!! . فهناك مُلك عين ، وملك منفعة ، وملك مصير . أما إذا قلنا : الله مالك الملك ؛ فهو مالك الوجود خلقا ، وتصرفا ، ومصيرا ، أحيانا مثلا : بلد يبيع لبلد آخر طائرات . كان المصنع يملك للطائرات ؛ فلما باعها تملَّكها شاريها . وأصبحت هذه الطائرات بأمر شاريها . لكن الله عز وجل يقول :
سورة الزمر : الآية62
كلمة مالك المُلك تعني : ما شاء كان ، وما لم يشأ لم يكن ، كل شيء وقع أراده الله ، وكل شيء أراده الله وقع . هذا هو معنى مالك الملك .
قال تعالى :
سورة آل عمران : الآية 26
إذا أعطى الله عز وجل المُلك لإنسان ، فإنه يعطيه الهيبة ؛ فكلهم يخافونه ؛ فإذا أراد أن ينزع منه الملك ، ألغى هيبته ؛ فكلهم يجترىء عليه !!!. أحد القواد العظام في العهد العباسي بلغت شهرته الآفاق حتى صارت الأمهات يخوِّفن أولادهن به ، فلما دخل على هارون الرشيد ، رآه صغير الجسم ، قصير القامة نحيلا ، فقال له : أنت فلان ؟ ! فقال له : "حبذا لو رأيتني وقد أسبغ اللهُ عليَّ الهيبة ، أما الآن فقد نزعها" فالإنسان إذا نزع الله منه الهيبة صار شخصا تافها ، قال تعال n:
سورة آل عمران : الآية 26
أروع ما في الآية ؛ أنه لو قال الله عز وجل :
سورة آل عمران : الآية 26
صار هناك تناسُب . لكن تؤتي الملك من تشاء ؛ وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء ، وتذل من تشاء ؛ بيدك الخير ،و الخير فقط إذن :الإعزاز خير والإذلال خير ، فمعنى الآية دقيق فالإعطاء خير والمنع خير ، والإيتاء خير والسلب خير ؛ فكل هذا خير . ربما أعطاك فمنعك ، وربما منعك فأعطاك . لذلك سنرى أنه يوجد أسماء لله متقابلة ؛ المعطي المانع ، القابض الباسط ، النافع الضار ، الرافع الخافض ، المعز المذل .
قال العلماء : هذه الأسماء بالذات لا يجوز أن تذكر وحدها ، فيجب أن تقول الضار النافع ، المعز المُذِل، المعطي المانع ، القابض الباسط ، مَثنْى مَثْنى ، لماذا هذا الاقتران ؟ لأن الله يضر لينفع ، ويُذل ليعز ، ويمنع ليعطي ، ويقبض ليبسط ، وأوضح مثال على ذلك : أن تجد الأب يقسو على ابنه في الصغر ، كي يصنع منه رجلا في المستقبل كل هذه الشدة من الأب هي لصالح الابن . كل هذه الشدة صنعت منه إنسانا متفوقا فهذه الأسماء المتقابلة ؛ لا يجوز أن نذكر واحدا منها من دون ذكر ما يقابله
يقول أحد المفسرين : مالك الملك ؛ هو الملك الحقيقي . لذلك ورد في الحديث القدسي " أنا ملك الملوك و مالك الملوك ، قلوب الملوك بيدي فإن العباد أطاعوني ، حولت قلوب ملوكهم عليهم بالرحمة والرأفة . وإن العباد عصوني ، حولتها عليهم بالسخطة والنِّقمة ؛ فلا تشغلوا أنفسكم بسب الملوك وادعوا لهم بالصلاح فإن صلاحهم بصلاحكم " .
يقول أحد المفسرين : مالك الملك ؛ هو الملك الحقيقي ، المتصرف بما شاء وكيف شاء ؛ إيجادا وإعداما ، إحياء وإماتة ، تعذيبا ورحمة ، من غير مشارك ولا ممانع . وقد ذُكر اسم مالك الملك مرة واحدة في القرآن الكريم في الآية الآنفة الذكر .
من أدب المؤمن مع هذا الاسم أن يُكثر العبد من ذكره، وبذلك يغنيه الله عن الناس .
لكن هناك وقفة قليلة . وهي :هل أنت تملك سمعك ؟ هل تملك بصرك ؟ هل تملك قُوَّتك ؟ هل تملك أعصابك ؟ هل تملك سيولة الدم ؟ هل تملك استقامتك ؟ هل تملك نمو خلاياك ؟ فأنت إذا أصابتك جلطة دموية ، أودَت بحياتك إلى الهلاك . فهذا ليس إلا تجمد نقطة في الدم ، وكذلك نمو الخلايا العشوائي ، إذن أنت لا تملك شيئا من جسمك ، وإنما يعطيك الله صحة طيبة كي تستمتع بها ، فهو الذي سمح لك بالاستمتاع بها ولكنه هو المالك لها . رُوي لنا أن شخصا ذهب إلى فرنسا وحاز أعلى الاختصاصات ، وتوظف في مناصب جيدة ، حتى حاز على درجة مساعد وزير . بعدها أصيب بذهاب بصره مما أدى إلى إخراجه من عمله ، فزاره أحد الأصدقاء فقال له : أتمنى أن أُرمى في الطرقات ، وأن يرجع إلي بصري !!!". فكلمة مالك الملك تعني ؛ أنك لا تملك شيئا ، لأنك لو أُصبت بخلل بسيط في القلب ، أودى هذا بحياتك ؛ فأنت لا تملك شيئا من جسدك ، و لا نَفْسك ..
أعرف شخصا معرفة جيدة وهو من الأفراد المرموقين في البلد ، أنه خرج مرة من بيته فنسي في الرجعة أين يسكن ! حتى تذكر بيت ابنه فدله ابنه على بيته . فسبحان الله!!!
و هناك بعض الحالات كالموت المفاجئ يموت الإنسان بلا أي سبب!!! و مهما كان يمتلك من متاع الدنيا،فلا يمكن للعبد أن يكون مالكا مُطلقا لأنه لا يملك نفسه أو روحه أو عُمره!!!
. يروي الرازي عن سفيان بن عُيينة هذه القصة قال : بينما أنا أطوف بالبيت إذ رأيت رجلا وقع في قلبي وحسبتُه أنه من عباد الله المخلَصين ـأي أخلَص لله فأخلصه الله من الشوائب - فدنوتُ منه فقلت : هل تقول لي شيئا ينفعني الله به ؟ فلم يرد علي ومشى في طوافه ، ولما فرغ صلى خلف المقام ركعتين ثم دخل الحجر فجلس ، فدنوت منه فقلت : هل تقول لي شيئا ينفعني الله به ؟ قال : هل تدرون ماذا قال ربكم ؟ قال : لا ، فقال : لقد قال : أنا الحي الذي لا أموت ، هلموا أطيعوني أجعلكم أحياء لا تموتون " فالإنسان إذا أطاع الله يكون موته تحفة وعرسا و موته انتقال من الدنيا التي هو سعيد بها بمعرفة الله إلى جنة الله في الآخرة ، لذلك من الأدعية اللطيفة : اللهم اجعل نعمك متصلة بين الدنيا والآخرة . فالخط البياني للمؤمن في صعود ، وموته نقطة على هذا الخط . أنا الملك الذي لا أزول هلموا أطيعوني ، أجعلكم ملوكا لا تزولون .
لو أنك أعرضت عن الدين و عن الآخرة وعن منهج الله ؛ فمهما كسبت من المال ومن المناصب ، فكل هذا نهايته قبيحة وتجعلك في قلق . نعم هناك صعود ، لكن يوجد سقوط بعد الصعود ، والموت هو السقوط . لكن المؤمن في صعود ليس بعده سقوط هذا الشعور لا يوصف ـ وهوالطمأنينة نحو المستقبل ـ ، فهو يمشي في طريق سالك إلى جنة الله ، يمشي على طريق ينتهي بك إلى الجنة . أما أهل الدنيا، فالطريق عريض ، ولكنه ينتهي إلى حفرة سحيقة ، وفيها وحوش كاسرة وقلق دائم لذلك فالمبالغة بالنعيم ، و المبالغة بالانغماس باللذات؛ عملية تعويض لما يصيبه من قلق و خوف . لذلك يبالغ بالرفاه و الاعتناء بمظاهر الحياة و كأنه سيعيش مئات السنين . يوجد قلق و خوف أساسه بالشعور أن يعد هذا الصعود هناك سقوط . أما المؤمن فهو مرتاح من هذا القلق لأن حياته صعود بلا سقوط ، و نمو بلا تراجع ، و سعادة بلا شقاء ، و حياة بلا موت لقوله تعالى :
آل عمران: الآية 169

أنا الملك الذي لا أزول ؛ هلمُّوا أطيعوني ، أجعلكم ملوكا لا تزولون .
أنا الملك الذي إذا أردت شيئا قلت له : كن فيكون ؛ هلموا أطيعوني ، أجعلكم إذا أردتم شيئا أن تقولوا له : كن فيكون ، أي أصبحتم مستجابي الدعاء . إن أطعت الملك ، كنت في معية الملك . وإن أطعت الغني ، كنت مع الغني . وإن أطعت القوي ، كنت مع القوي . لذلك قالوا :

إذا أردت أن تكون أغنى الناس ، فكن بما في يدي الله أوثق منك بما في يديك .

وإذا أردت أن تكون أكرم الناس ، فاتَّقِ الله .

وإذا أردت أن تكون أقوى الناس ، فتوكل على الله

. فأنت قويٌ بالله ، وغني بالله ، وكريم بالله ، وعزيز بالله ، أما من دون أن تكون مع الله ؛ فَعِزٌ بعده ذُل ، وغنى بعده فقر ، وحياة بعدها موت ، و سعادة بعدها شقاء .
والحمد لله رب العالمين
0
573

يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.

تسجيل دخول

خليك أول من تشارك برأيها   💁🏻‍♀️